عالجنا فى مقال سابق ثلاثة أمثلة من الدبلوماسية الحرجة التى تعمل فى بيئة دولية معقدة وكانت الدبلوماسية التركية واحدة منها وفى هذا المقال نعرض بتفصيل أكبر لجانب واحد من جوانب الدبلوماسية التركية وهى أن تركيا تسير على حبل مشدود بين روسيا والولايات المتحدة فأن مالت إلى أحدهما خسرت الآخر ويحتمل أن تخسر الأثنين معا فى ظروف معينة. المعلوم أن الصراع محموم بين روسيا والولايات المتحدة ذلك أن روسيا تريد أن تستعيد أمجاد الامبراطورية السوفيتية ولكن بغير الطابع السوفيتى على أساس أن الاتحاد الروسى لا يريد أن يهيمن على الجمهوريات السوفيتية السابقة ولكنه قطعا لا يريد أيضا أن تستخدم هذه الجمهوريات من جانب الولايات المتحدة شوكة فى ظهره ولعل الرئيس بوتن والنظام الذى وضعه فى الدستور الروسى هو التركيبة المثالية لمثل هذه الحالة بصرف النظر عن سهام النقد الغربية التى توجه إلى النظام السياسى الروسى وتصنفه على أنه نظام دكتاتورى مثل النظام السوفيتى ولكن مع اختلاف الأدوات.
من ناحية أخرى فأن الولايات المتحدة كلما تراجعت على المسرح الدولى كلما تمسكت بالعداء لروسيا وكانت الصيغة التقليدية التى وضعتها واشنطن للتعامل مع موسكو عندما تمكنت واشنطن من تفكيك الاتحاد السوفيتى فى نهاية تسعينات القرن الماضى هى ضرورة تفكيك الاتحاد الروسى أيضا بحيث لا يكون هناك مكان لروسيا على الخرائط الأقليمية ولكن الولايات المتحدة تشتت اهتمامها وتراجعت طاقة المواجهة لديها بسبب أزمة نظامها السياسى فى الداخل فلم تعد فيما يبدو زعيمة العالم الحر وتباعدت أوروبا عنها وفتحت الباب لاستقلال بعض دولها مثل ألمانيا وفرنسا عن الاتحاد الأوروبى أسوة بما حدث مع بريطانيا وركزت واشنطن على صعود القوة الصينية بهدوء وثبات بحيث أصبحت الصين كابوسا أكبر من روسيا للولايات المتحدة.
فى هذا المشهد تسير الدبلوماسية التركية بحذر شديد ومثال ذلك أن تركيا أصرت على أن تتزود قواتها المسلحة بصواريخ روسيه جديدة هى SS 400 وكانت تركيا قد تقدمت بطلب إلى واشنطن لتزويدها بطائرات حديثة أف 35 وحذرتها واشنطن من التعامل العسكرى مع روسيا ولكن تركيا أصرت على استيراد الصواريخ الروسية فأوقفت واشنطن صفقة الطائرات الأمريكية لها. ولتصوير المأـزق الذى تعانيه الدبلوماسية التركية يجب أن نشير إلى المتناقضات والمواقف والحوادث بين تركيا وكل من روسيا والولايات المتحدة.
أولاً: بالنسبة للعلاقات الروسية التركية. المعلوم أن تركيا تدعم المسلحين الإسلاميين فى سوريا ضد روسيا وأن روسيا عندما تقوم بالاغارة على مناطقهم ومعسكراتهم فأنها بذلك تواجه تركيا بشكل غير مباشر ولكن الدولتين حريصتان على عدم الصدام العسكرى المباشر على الأراضى السورية. من ناحية أخرى تدرك روسيا جيدا المأزق الذى توجد فيه تركيا كما تدرك أن واشنطن والاتحاد الأوروبى هما من شجع تركيا على إسقاط الطائرة الحربية الروسية بحجة أنها دخلت الأجواء التركية وكافة الأدلة تؤكد أن هذه الطائرة ضربت فوق الأراضى السورية ومع ذلك ظهر ذكاء بوتن فى تقبل اعتذار تركيا ورغبتها فى تجاوز هذا الموقف.
من ناحية ثالثة فأن تركيا تدعم الإسلاميين الذين جاءت روسيا خصيصا لمواجهتهم فى الأراضى السورية بدلا من مواجهتهم داخل الأراضى الروسية والتناقض حاد بين الدولتين ذلك أن النظام التركى الحالى ينتمى إلى منهج الإخوان المسلمين وهم من جلب المجاهدين فى أفغانستان لمحاربة الاحتلال السوفيتى لها ثم أنتقلوا إلى الشيشان لفصلها عن روسيا وبصرف النظر عن أحقية أهل الشيشان فى الاستقلال فأن السعودية وتركيا وباكستان ساندت الانفصال تماما كما ساندت تركيا قضية الايجور المسلمين فى روسيا مع فارق واحد وهو أن الايجور ينحدرون من أصول تركية فى العصور الوسطى.
ثانياً: بالنسبة للعلاقات التركية الأمريكية هناك تناقض حاد بين تركيا والولايات المتحدة خاصة فى بعض المواقف التي سنوردها فيمابعد، وأن كانت تركيا والولايات المتحدة تتفقان على معاداة الحكومة السورية لاسباب مختلفة خاصة بكل منهما .
1- الورقة الكردية تؤيد واشنطن الأكراد فى الدول الأربعة تركيا وسوريا والعراق وإيران وإلى جانبها إسرائيل وبعض الدول العربية . والمشكلة الكردية بالنسبة لتركيا بالغة الحساسية لأن نسبة الأكراد فى تركيا تصل إلى حوالى خمس عدد السكان كما أن مناطقهم فى شرق الاناضول هى مناطق الزراعة الرئيسية فى سهول دجلة والفرات وهى منطقة متصلة بأكراد شمال العراق وأكراد غرب إيران وشمال سوريا وهذه المنطقة الحساسة للاقتصاد والأمن والسياسة التركية سبق لاردوغان أن قدم تسوية للمشكلة فى بداية حكمه وهى تقديم الحكم الذاتى للاكراد مقابل دمجهم فى الحياة السياسية الديمقراطية وبالفعل شكلوا حزبا كرديا ضمن عددا من المقاعد فى البرلمان وقطع الصلة بحزب العمال الكردى المسلح كما باعد بينه وبين قضية عبدالله أوجالان بكل تعقيداتها ولكن أردوغان لم يتمكن من الصمود لهذه التسوية وانقلب عليهم وفتح جرحا غائرا لتركيا تلعق فيه واشنطن وإسرائيل وغيرهما وسبب مشاكل كبيرة بين تركيا وهذه الدول.
2- إسرائيل التى تعتبرها واشنطن حارسة لمصالحها فى المنطقة وحدث الاحتكاك بين المشروع الإسرائيلى والمشروع التركى فى فلسطين والبحر المتوسط وأنضمت واشنطن إلى إسرائيل فى هذه المواجهات وربما فهمت تركيا مؤخرا أبعاد الخطر فى الملف الإسرائيلى فأكتفى أردوغان الآن بالمساندة النظرية لقضية القدس دون أن يجرؤ مرة أخرى على العمل علي نصرة الفلسطينيين أو المقاومة أو كسر حصار غزة بعد حادث مايو 2010 الذى قامت إسرائيل فيه بمواجهة السفينة التركية لكسر الحصار المعروفة بمافى مرمرة.
ولا شك أن تركيا تدرك أن الصراع بين المشروعات التركية والإسرائيلية والايرانية سببه الاساسى دفع مصر بعيدا عن دورها فى المنطقة العربية لصالح إسرائيل والولايات المتحدة وهذا هو السبب الاساسى الذى يدفع أردوغان إلى التقارب من مصر وازالة مواطن الخلل فى العلاقات معها.
أما الخلاف التركى الروسى فهو مؤقت ولكن الخلاف الأمريكى الإسرائيلى التركى فهو دائم يقابله حرص تركيا على الاطار العسكرى والتحالفى مع واشنطن فى حلف الناتو وإن كانت واشنطن تؤيد موقف فرنسا فى عدم قبول تركيا عضوا فى الاتحاد الأوروبى .
وباختسار يمكن القول أن توازن المصالح والمخاطر تدفع تركيا إلى الحذر والسير على حبل مشدود حتى تكسب فى نفس الوقت كلا من روسيا والولايات المتحدة وألا تكون ضحية الصراع بينهما والأطراف الثلاثة أشبه بشخصيات مسرحية الأخوة كارامازوف.
عبد الله الأشعل
كاتب ودبلوماسي مصري