إعلان

تابعنا على فيسبوك

حوار مع العقيد خارج خيمته "ما أقسى البشر عندما يطغون جماعيا"

أحد, 24/01/2021 - 11:19

 "ما أقسى البشر عندما يطغون جماعياً...."
من قصة الفرار الى جهنم
للكاتب معمر القذافي
——————-
 
"ما أقسى البشر عندما يطغون جماعياً" لطالما حضرتني هذه العبارة التي لم تفارق مخيلتي منذ ان كنت طفلاً اتصفح مجلة (المُستقبل) التي نشرت في أحد إعدادها قصة "الفرار الى جهنم" للكاتب معمر القذافي!...
أيضاً ومع صحراويتي والبيئة التي نشأت فيها لم يسبق لإقدامي ان وطأت "قارة جهنم" رغم قربها من مدينة سرت! تماما مثلما لم أحظى بشرف معرفة "العقيد" او الجلوس معه او زيارة خيمته او التصوير لجانبه او الحديث اليه، اللهم الا في مناسبات محدودة، كنت في أحداها مصافحاً ماراً مرور الكرام ضمن الجموع.. وفِي أخرى كانت بمناسبة نقاشاً حول فكرة الجامعة الطلابية وكان ذلك بجامعة قاريونس عندما كنت طالباً بكلية القانون.
اذكر أنه في اليوم الثاني لذلك اللقاء، نشرت مقالاً في صحيفة "قاريونس" عنونته "القائد يفر الى جهنم''، فرفضت إدارة الرقابة على المطبوعات بمطابع ‏الثورة العربية هذا العنوان وتدخل رئيس هيئة التحرير أنداك بتعديله الى "القائد والفرار الى جهنم" دون المساس بجوهر المقال.
المهم اعود لقسوة الجموع وهي تأتي كطوفان جارف او كعاصفة صحراوية هوجاء تلفح الوجوه، ويا لها من صحراء جرداء تلك التي تعصف بالعقول...عقول جرداء لم يستوعبها "العقيد" وهو يتجاوز، بفكره الواقع بسنين ضوئية.
جنح بي الخيال بعيدا لأجد نفسي في حوارٍ افتراضيٍ مع "العقيد" وبعيداً عن خيمته، لأسأله في بادئ الامر عن سبب ولادته قبل عصره! فيرد على مبتسماً ساخراً:
"وما رأيك انت"؟ ...
قلت له يا سيدي إنكم تعلمون انه قد انتهى عصر النبوءات وانقطع التخاطب بين السماء والأرض منذ أربعة عشرة قرناً او يزيد، ولَم يعد امام الانسانية الا ان تنجب العظام الذين يغيرون وتيرة التاريخ...
قاطعني قائلاً ولماذا لم يأت الأنبياء في عصر المادة المقيت! وعصر التكنولوجيا فائقة الذكاء؟ صمت برهة...فخشيت مقاطعته...ثم نظر الي فاربكني، فقلت له على الفور، ان العظماء لابد ان يأتوا قبل زمنهم حتى تقف الأجيال اللاحقة على حقيقة ما كانوا عليه، لإنه لا كرامة لنبي في قومه...
نظر الي ثانية فصمتُ، وتلعثمتُ وقلت له، وانا احاول ان اشيح بصري عنه، بعد عقد من الثورة بدأ البوح بخيبة الأمل، فإلى هذا كان الفرار الى جهنم!
سألني فيما لو كنت اعرف "جهنم" ولَم ينتظر إجابتي! واستطرد قائلاً:
نعم هي ''جهنم'' التي كنت ألجأ اليها حين أتوجس من الجموع ومن "الكلاب المسعورة" التي كانت تلاحقني! نظر الي بنظرته المهيبة مجددا ثم قال، إنك لن تتخيل كم أحب حرية الجموع، وانطلاقها بلا سيد، وقد كسرت أصفادها وزغردت وغنت بعد التأوه والعناء.. ولكنك لن تستوعب كم أخشاها وأتوجس منها"...
بادرته بسؤال لا يخلو من الغباء: فقلت له وكيف تتوجسون من الجموع وأنتم القائل:
 
"انا لا اخاف من العواصف وهي تجتاح المدى...
ولا من ''الطيياير'' التي ترمي دماراً اسودا"
 
قال لي اسمع يا أبني...فرحت بعبارة "يا أبني" وازدادت ثقتي بنفسي في اطالة امد الحوار، ولاحظ فرحتي بجرعة الثقة.. فكرر عبارة يا أبني: قد كان كل حلمي هو تحرير الجموع وكنت موقناً بتحقيق هذا الحلم وكنت أتوجس مما فعلته وتفعله الجموع بأبطالها العظام ... فبماذا أطمع أنا البدوي الفقير التائه في مدينة عصرية مجنونة ... أهلها ينهشونني كلما وجدوني"
ثم أضاف قد قلت ذات مرة: أحب الجموع وأخشاها، كما أحب أبي وأخشاه.
سألته بنوع من الحذر.. وهل تستحق جهنم الفرار اليها؟ الم تكن ''الجماهيرية'' يوتوبيا واقعية غيرت كل مناحي الحياة.. حتى بالنسبة لإشباع الحاجات المادية والمعنوية.. فلما كانت ''جهنم'' خيارا؟
قال العقيد: ''انا أحب جهنم.. وهي ليست تلك وصفها لكم الدجالون، أصفها لكم أنا الذي سلكتها بنفسي مرتين، وتمكنت من المنام والراحة في قلبها، وأقول لكم إني جربت ذلك، وكانت أجمل ليلتين في حياتي تقريبا هما اللتان قضيتهما في قلب جهنم بنفسي فقط.. إن ذلك أفضل عندي ألف مرة من معيشتي معكم''.. ثم سكت وكنت أدرك انه يستحضر شيئا من "قصة الفرار جهنم" سيما حين قال ''إن الطريق إلى جهنم مفروشة بالبساط الطبيعي على امتداد الأفق، وأنا أشق طريقي نحوها بفرح وغبطة.. وبعد انحسار البساط وجدتها مفروشة بالرمل الناعم.. وصادفتني أسراب من الطيور البرية من نفس الأنواع التي تعرفونها، بل وجدت حتى بعض الحيوانات المستأنسة ترتع وتفلي!! ولكنى فوجئت بانحدارات شديدة أمامي، وأرض منخفضة حتى توقفت بتردد وإذا بجهنم تطل من الأفق.. ليست حمراء كالنار.. وليست ملتهبة كالجمر.. وقفت- لا خوفا من التقدم نحوها، فأنا أحبها، وأرغب في وصالها، فهي الملاذ عندما تطاردونني في مدينتكم المثلثة.. وعندما تراءت لي من الأفق أمامي كدت أطير من الفرح.. وقفت لأسلك أقصر الطرق إليها.. وأختار أقربها إلى قلبها.. ولعلى أسمع لها زفيرًا، ولكن جهنم ساكنة تمامًا وهادئة للغاية.. وثابتة كالجبال التي حولها.. ويحوطها سكون عجيب.. ويلفها وجوم رهيب.. لم أر لهبًا.. ولكن الدخان فقط يخيم فوقها.. انحدرت نحوها بشوق.. مسرعًا في الخطى قبل مغيب الشمس؛ أملاً في الحصول على مرقد دافئ في قلبها قبل محاصرتي بحراسة جحيمكم التي انطلقت ورائي دون وعى، مستخدمة أحدث وسيلة وأقدم استعمالًا''.
تبعثرت الكلمات امامي وانا اسبح معه في خيال جهنم الرحب، حيث كان الفرار اليها لذة ومتعة وسياحة مع النفس لا تحتاج حتى ''لجواز سفر'', بل هي خلوة مع الروح عاشها العقيد نفسه، وأقر انه كان يفر اليها لينتزع نفسه من الذين يحيلون بينه وبين نفسه..
حاولت لملمة بعض افكاري المتناثرة، حيث جهنم كانت ومازالت وستبقى وقفا حصريا للعقيد، وسرا تحوم حوله شكوك الخائضين فيه وفيها.. شعرت بنشوة وانا اخترق حواجز صمت العقيد ما جعلني امضي في حوار له بداية وقد لا تكون له من نهاية الا نهايات السؤال المفتوح.. فقلت له يا سيدي اريد لحوارنا ان يطول.. فقد اثقلت كاهلنا الهواجس وعجزت عقولنا عن تقفي اثاراكم.. ومعرفة سيرتكم الطاهرة التي لايطالها دنس.
 يا سيدي، اريد لحوارنا ان يقتفي اثار مداد ما خطه قلمكم، وما تعسًر علينا فهمه. فقل لي يا سيدي لماذا كانت القرية القرية ولما الأرض الارض! ومن هو رائد الفضاء وكيف انتحر؟ وما هي عشبة الخلعة؟ واين توجد الشجرة الملعونة؟ ولما سؤالكم عن جنس الموت ذكر كان ام أنثى؟ ومن هي عائلة يعقوب التي وجب لعنها؟ وماهي القافلة المباركة؟ وكيف نفطر لرؤيته؟ وما هو دعاء الجمعة الآخرة؟ وكيف انتهت الجمعة دون دعاء؟ ومن هو مسحراتي الظهيرة!
يا سيدي لما أخذتم معكم المعتصم بالله وتعلمون ضعفنا، ولماذا خذلكم الرفاق؟ ولما خانكم بعض الاقارب؟ ولماذا نكث بعض شيوخ القبائل الشريفة عهودهم؟ ولماذا ارتد ركنٌ من الفريق الأخضر؟، ولماذا، ولماذا، ولماذا؟؟؟
يا سيدي ان الحوار معكم سيفتح أبواب اخرى ونوافذ سيدخل منها نوراً سيزيل العتمة التي تغشى الابصار والأفئدة ولعله يوقظ أهل الكهوف...

 خميس الزناتي