تابع المغاربة ومعهم باقي العرب حالة السعار على وسائل الإعلام التقليدي ووسائط التواصل الاجتماعي بين المغرب والجزائر على خلفية إساءة بعض وسائل الإعلام في الجزائر للعاهل المغربي، ونحن ندين هذا المنهج في إدارة الصراع السياسي بين البلدين والشعبين… وضد الإساءة لأي شخص مهما كان ومهما كان مصدره ، فرسالة الإعلام ينبغي أن تكون رسالة ذات حمولة أخلاقية وتنويرية وليست منبرا للسب والقذف على شاكلة ما يحدث في بعض الحواري والأزقة.. فينبغي الابتعاد عن الشخصنة والسب والقذف والحياة الخاصة لأي شخص لها قدسيتها ، فالخلاف بين البلدين ينبغي إدارته بالحوار والتفاهم والبحث عن حلول وسط …أما تهييج الغوغاء وإطلاق الذباب الإلكتروني ليسب كل طرف الأخر فهذا أمر يضر بمصلحة كلا الجانبين.. ويهدم أكثر مما يبني، وما دفعني لكتابة هذا المقال هو السعي لرفع مستوى النقاش، والخروج من دائرة الغوئائية والتلاسن بين كلا الطرفين، لأني على قناعة أن مصلحة الشعبين تقتضي تجاوز هذه الخلافات الشكلية، والسعي نحو تطبيع العلاقات بشكل كامل وتغليب جانب التعاون والتكامل بدلا من الخصام والتصادم، وتجاوز الخلافات البينية ولو لحين، وتغليب المصالح الاقتصادية والتجارية على المصالح “الجيواستراتيجة”، فبنظرنا كلا البلدين يسيران نحو الهاوية ومستقبلهما محفوف بكثير من المخاطر ..
والوسيلة للخروج من الأزمات المتتالية في البلدين يقتضي حتما التعاون والتكامل بين المغرب والجزائر وعموم البلدان المغاربية، أما أي وصفة أخرى فمجرد تجديف عكس التيار، وأنا أوجه كلامي إلى العقول المتنورة في كلا البلدين ، والتي ينبغي أن تدرك أن سفينة النجاة واحدة ولن تكون إلا بالتكتل الإقليمي وخلق دورة تنمية إقليمية، فلست متحيزا إلى بلدي المغرب ولست متحاملا على الجزائر ، فعندما نرى أن سياسيات النظام المغربي مجانبة للصواب نقول ذلك ولا نخجل من قول كلمة الحق، وقد كنت من الأكاديميين والإعلاميين المغاربة القلائل الذين أدانوا قرار التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقلنا في حينه أن التطبيع مع الجزائر كان أولى وأصلح …
ودعوتنا إلى إصلاح ذات البين هي واجب وطني وقومي ، وقبل ذلك واجب ديني ، فقد قال الله تعالى في فضل الإصلاح:{ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَو مَعْرُوفٍ أَو إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } {النساء 114}، وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: صلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: إنها تحلق الشعر، ولكنها تحلق الدين)..
وكلامنا هذا لا ينطلق من أساس عاطفي، بل المؤشرات الكمية والنوعية، والتجارب الدولية، تؤكد فعالية التكتلات الإقليمية، ودورها في التنمية الإقتصادية، وايجاد مناطق أمنة وجاذبة للاستثمارات وللكفاءات…فتكتل المغرب العربي أو المغرب الكبير، هو حلم راود الرعيل الأول من رجال المقاومة والتحرير، فهذه البلدان وهي تحت الإحتلال الفرنسي، تشكلت نواة مقاومة شملت بلدان المغرب والجزائر وتونس، فمعركة الاستقلال والتحرر كانت معركة مغاربية، توحدت فيها جهود المقاومين قادة وشعوبا، غير أن جيل الاستقلال سلك منهجا مغايرا، إذ تم تبني سياسات ذات نزعة وطنية ضيقة الأفق، بل شهدت حروبا ونزاعات حدودية بين المغرب والجزائر وبلغ النزاع ذروته، ليصبح حربا ساخنة في فترة “حرب الرمال” وانتقل إلى حرب باردة أو بالوكالة بعد 1975، بفعل انفجار قضية الصحراء..
وطيلة الفترة من الاستقلال إلى 1989، شهدت بلدان الإقليم محاولات للوحدة، فكانت الوحدة بين ليبيا وتونس، وليبيا والمغرب ، لكن هذه المبادرات كانت غير واقعية، وخاضعة للمزاج السياسي، لكن في 1989 بمدينة مراكش أعلن قادة خمس بلدان مغاربية:(المغرب+الجزائر+تونس+ليبيا+موريتانيا) عن ميلاد اتحاد المغرب العربي، غير أن هذه الخطوة ظلت حبرا على ورق ولم تعقبها خطوات فعلية في المجال السياسي والاقتصادي …
ففشل اتحاد المغربي لم يكن نتاج لعدم فعالية الفكرة، وإنما لعدم وجود إرادة سياسية توافقية، تغلب منطق العام على الخاص، والإقليمي علي الوطني، والاقتصادي على السياسي، والتنموي على الأمني…لكن فكرة الوحدة المغاربية ناجحة وذات جدوى من الناحية التقنية والسياسية والأمنية، ومن دلائل هذه الفعالية:
أولا _ الوحدة بين بلدان الإقليم ستفرز فضاء إقليمي له إمكانات بشرية في غاية الأهمية: فعلى المستوى البشري سوق استهلاكي يتجاوز 100 مليون نسمة، ورأسمال بشري متنوع من حيث الثقافة، ومن حيث الكفاءات البشرية ومن حيث الاحتياجات.
ثانيا-إقتصاديا ناتج قومي إجمالي يقترب من عتبة 300مليار دولار سنويا، وفي حالة الوحدة من المرجح ان تقترب لتريليون في ظرف أقل من عقد، كما سينتقل معدل النموالاقتصادي في الإقليم لأزيد من 9 في المائة ولمدة عقد وأزيد ، شريطة توفر سياسات اقتصادية وإجراءات نقدية ومالية مواكبة…
ثالثا-جيواستراتيجا: تكتل مغاربي بسياسات ومواقف موحدة، يعني قدرة تفاوضية في غاية الأهمية والتأثير، لاسيما وأن الموقع يتيح خصائص جيواستراجية ناذرة، فالاتحاد يتواجد على واجهتين بحريتين، وممر دولي حيوي للملاحة الدولية وللكابلات الدولية، وهو همزة وصل بين إفريقيا وأوروبا، ودوره في التأثير على السياسات الدولية في قضايا الهجرة والجريمة العابرة للحدود ، سيكون جد مؤثر ويحقق لبلدان الإقليم مكاسب اقتصادية وسياسية يصعب الحصول عليها بشكل منفرد…
وإلى جانب هذه المزايا، الاتحاد هو خطوة سياسية كفيلة بتجنيب المنطقة النزاعات والثوثرات الحدودية، وكفيل بإيجاد تسوية شاملة للميول الإنفصالية سواء بداخل المغرب أو الجزائر أو ليبيا، بفعل وجود خصوصية ثقافية أو إثنية.. وهوحل عملي موضوعي لنزاع الصحراء..
فثمار الوحدة لها تأثير مباشر على المواطن، لأن التكتل سيخلق دورة حميدة على المستوى الاقتصادي والتنموي، فهناك تكامل اقتصادية بين البلدان الخمس، فاحتياجات الجزائر او ليبيا باعتبارهما بلدان نفطية، يمكن للاقتصاد المغربي او تونسي أن يغطيها والعكس صحيح، فالوحدة ستولد طلب على مستوى الاستهلاك الخاص أو العام، وسيتيح سيولة مالية بين بلدان الإقليم وهو الأمر الذي سيؤثر على الاستثمار ، ويحفز الإنتاج الصناعي والزاعي والخدمي…
من الصعب حصر المكاسب، فمكاسب الوحدة تفوق الخسائر المحتملة، وليس هناك خسارة وهدر تنموي، أكبر من الاستمرار في السياسات الوطنية والإنكفائية. والمنفتحة على أروبا أكثر من انفتاحها على بلدان الجوار، فحجم التجارة البينية بين بلدان الإقليم لا ترقى لمستوى مثيلاتها مع بلدان أروبا…
ومن المؤكد، أن طريق الوحدة ليس بالسهل والمتاح، فالمتغيرات الدولية والإقليمية، تفضل التعامل مع البلدان المغاربية بشكل منفرد، أما في حالة التكتل فذلك سيخلق موقف سياسي صلب، وله من أدوات الضغط والتأثير ما يجعله قادر على التعامل مع مختلف البلدان والقوى العظمى دون مركب نقص…لكن تغليب المصالح الوطنية والإقليمية، على الأحقاد والخلافات الشخصية، كفيل بتحقيق حلم مغاربي يراود شعوب الإقليم، ولو تحقق ، لتغير وجه المنطقة ولأصبحت من أكثر مناطق العالم جذبا للإستثمار وللكفاءات…
فإهمال تكتل المغرب العربي فيه مجانبة للصواب، وابتعاد عن أقصر الطرق وأقلها تكلفة وأكثرها نفعا، فمصلحة الشعب المغربي وباقي الشعوب المغاربية تقتضي تفعيل هذا التكتل على اعتبار أن مثل هذه المبادرة السياسية فيها مصلحة ظاهرة لكل شعوب الإقليم، نظرا لتقارب المستوى التنموي بين الأطراف وأيضا في ذلك تأثير مباشر على استقرار المنطقة وتنميتها ..
وبنظرنا، من يسير عكس هذا التوجه فهويسعى لعرقلة مسار أي تنمية حقيقة في بلده ، لأن بقاء العداوة بين البلدين لا تخدم مصالح شعوب المنطقة بأي حال من الأحوال ، ومن يحاول إشعال فتيل النزاعات والصراعات بين الشعبين فهويريد أن تستمر التفرقة لأن هذه التفرقة تحقق مكاسب شخصية وفئوية للبعض ، بل إن هذه المعارك الوهمية هي سند البعض للبقاء في السلطة وللحفاظ على المكاسب التي يتم تحقيقها من وراء هذا التصعيد الإعلامي المتكرر، وأيضا هوخدمة لأجندة فرنسا وباقي القوى الكبرى التي تريد أن تظل البلدان العربية مفككة، وكل نظام يستنجد بباريس أوواشنطن للحفاظ على سلطانه، فالتلاسن الإعلامي وسباق التسلح بين المغرب والجزائر يضر بحاضر ومستقبل كلا البلدين … والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
د. طارق ليساوي
رأي اليوم