إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي: "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح1

خميس, 18/02/2021 - 00:07

 مشهد صيد في طرابلس

من مصلحتنا دائما أن تُحدّد بداية الأشياء. كان هذا قبل أمس. كنت مع جيل هرتزوق؛ في القاهرة عائدين من إعداد تقرير بصحيفتي اليبيراسيون ونيويورك تايمز سانديكات. كنت قد قضيتٌ توا خمسة أيام بين الحيرة والأمل وسط هذا الحدث الهائل غير المسبوق الذي هو الثورة المصرية. وعلى شاشة تلفزيون في المطار رأيت فجأةً طيّاراتٍ حربيّة في ليييا تنقض على فلول الُمتظاهرين العُزّل وترشّهم بالرصاص. من جانب كانت الطيّارات تبدو على حدود الغيم تغوص كما لو أنها ستتحطّم، وتبصق نيرانها. ومن جانب آخر وفي الاتجاه المعاكس كانت الفلول البشرية المذهولة, الراكضة في كل اتجاه المتجمّدة المبعثرة تتجمّع. وتتفرّق من جديد متابعة الركض. سقط رجل ولم ينهض. واختفت مجموعة لائذةً بالفرار في سحابة من الرماد والدّخان. وتطرح امرأةٌ نفسّها أرضاً وهي تلتفَ حول نفسها شاعرةً بالخجل العارم إذ انحسر ثوبها وتتردد في النهوض ثم تنهض مطويّة الجسّد. وتتوقّف إمرأة أخرى ملفوفة بملاءة كبيرة عن الركض: تخرج رأسها من الملاءة وتنظر نحو الأعلى ‏ تُشاهد الطيّارة، كان أحدُهم على الشرفة يُناديها ‏ لكنّها تسقط هي أيضاً ولا تنهض. شرفة أخرى تحترق، بدالي أن الناس يقفزون منها. وثمّة سيّارة تنبثق من الأرض وقد تحوّلت إلى دائرة من اللهب. بشر آخرون أيضاً. بشر بائسون، صغارٌ جدا كأهم يعرجون. هذه صورة. صورة بالتحديد. لكنّها تُشبه اللحظة ‎‏ التي أعلّمني فيها حميد كرزاي في مكتبه بكابول قبل تسع سنوات بخبر إعلان "دانييل بيرل" وقرّرتُ من دون أن أعلم السبب أن أكشف سر هذا الموت والتعلّق بقدّمي هذا الرّجُل.

وتشبه أيضاً لحظة سابقة عندما سمحت؛ قبل ثلاثين عاما في باريس آندويه مارو يطلق نداءه المؤثر لتأسيس كتيبة من المتطوعين؛ لإنقاذ بنغلادش من المجزرة ‏ بوجهه الجميل المُختلج ارتعاشا وبيده المرتجفة المتشنّجة على حنكه كما لو أنها تريد أن تسنده وتمنعه من الضياع في الديكورات، والشاب الذي كنْته يأتي طالباً على الفور موعداً وماضيا وحدّه بعد عدّة أيام إلى المغامرة على الحدود بين شِقَّي البنغال كذلك الأمر في ذلك اليوم؛ قبل أمس: حين رأيتٌ صُوّر هذا الجمع المذعور يذهب يميناً وشمالاً بين قصف طيّارات السوخوي يستولي عليهم الرّعب والعجز أمام هذا السَربٍ المتوحّش وغير المسبوق في تاريخ الاضطهاد. مُتصوراً في النهاية لأن الصوت كان قد انقطع؛ عويلٌ الناس الذين حرصوا على تغطية فرقعة الرشّاشات وعلى طرده بصراخهم، قرّرت أن أذهب إلى ليبيا لأرى، إِنّهِ القرار الفاصل.

الخميس 24 شباط/ فبراير (حين تنام الديمقراطيات)

ساركوزي يُدين. وأوروبا تُبدي أسفها. ويحتجٌ أوباما. وهذه المقالات التي تشرح لنا أن القذافي بعد كل شيء... هل هو سيء إلى هذه الدرجة, القذافي؟ ألم يُغير التطرّف ويتخلى عنه ألم يكن يُحاول أن يكون تلميذاً مُطيعاً إلى حدٌ ما للمُعسكر المعادي للإرهاب؟ أليس هو من الآن وصاعداً عُنصر استقرار المنطقة المقدس هاجس الدبلوماسيّين؟ ثم إن هذا الحديث مساءً؛ مع مصرفي إنكليزي يشرح لي أنّه يعرف سيف الإسلام, الابن البكر للقذّافي الأكثر وعياً في العائلة، الأكثر عصريّة، وأنهما تزلجا معاً على الثلج، ورقصا في علب الليل في "زيرمات" وسيكون على صداقة حميمة مع الروتشيلدات الإنكليز ‏ فهل ستُعلنون الحرب على الرجل؟ كفى! علينا أن نحطّم هذه الذبذبات في جعل ليبيا سويسرا أو نمسا الشرق الاوسط؟ تريدون إضعافه؟ هل هو حقاً شخصية يُمكن أن نعتبرها كصدّام حسين؟ غريب هذا الإزعاج. كان ينبغي أن أقول هذا الفقدان للذاكرة. وهذه الإرادة في إنقاذ إنسان ما يزال يعتقد حتى الأمس قبل ثلاث سنوات حين صرّح في قمّة الاتحاد الأوروبي. وإفريقيا في لشبونه أنه «من الطبيعي» أن يلجأ «الضُعفاء» إلى «الإرهاب».

ما تزال الصورة في عيني. كان هذا يوم السبت السابق لزيارة الدولة التي قام بها إلى باريس وقُرش له السجّاد الأحمر، ونصب خيمته البدوية في حدائق ماريني وصُراخ راماباد، وصمت برنار كوشنر المزعج. أرى القذّافي جالساً في قاعة المحاضرات وجهه مُنتفخ وعلى رأسه عباءة نسائية شكلها غريب يداه مضمومتان ليس من أجل الصلاة، بل تعبير ا عن المسافة والازدراء؛ وأرى ساركوزي من جديد خلقّه منحنياً من غير أن يلتفت نحوه الآخرٌ الأمير ويهمس في أذنه لكن بصوتٍ عالٍ يكفي لتلتقط الميكروفونات ما يقوله، شيئاً من مثل: يُسعدني أن أستقبلكم. هذا كله مؤسف. هذا كله مُعيب.

إِنّه الربيع في ليبيا وفيما وراء ليبيا، في العالم العربي. ونحن أعني الأوروبيين وخصوصاً الفرنسيين محكوم علينا ألا نفعل شيئاً. أفكر بحديثي الأخير مع ساركوزي في شهر كانون الثاني/ ينايرمن عام 2007 تماماً قبل الانتخابات: «أريد تغيير كل شيء» أريد أن أثوّر كل شيء؛ تعال الحق بي» سنصنع الثورة معا .كم أحسنتٌ بعدّم الإصغاء إليه! لَأنّ الثورة هنا. إنها الحدّث الأعظم: بعد سقوط جدار برلين في حياة أبناء جيلنا. فهو لا يتحرّك ولا يتصرف بل يجانب الثورة.. يا للعار!

الجمعة ف 25 شباط/فبراير (فيما يخص الربيع العريي)

ثمة موقفان تمكنان من هذه القضية الهائلة المتمثلة بالثورات العربية. هناك القلقون. بل لنقل المُتشائمون الذين يعرفون أن الثورات تفشل، ولا يرون سبباً لاستثناء هذه الثورة: ميدان التحرير لا خلاف المُنتفضون الشباب على صفحات التواصل الاجتاعي (الفيسبوك)» أكيد، وماذا بعدُ؟ هل تكفي زهرة انترنت واحدة لتصئع ربيعاً ديمقراطياً؟ أليست هذه الصور الأخوية لجنود على دباباتهم مع مُتمرّدين مدنيين شباب تبلّغ من السذاجة ما يجعلّها غيرٌ نزيهة؟ أوَ لسناء نحن الفرنسيين أفضل وضعاً من أي أحد، لنعرف أنه بعد فوضى اختطاف سُجناء الباستيل حل النظام محل الإرهاب الكريه؟

وهناك المتفائلون أي الثوّار الذين يرون أنْ ليس من حقنا أن تُغلق الباب في وجه شعب حين يبدو أنه يريد التحرّر، والمضي صوب نصيب أكبر من الديمقراطية والانتصار على قدّره، ونطلب منه أن يعود يوم يُقدّم كلّ ضمانات الفضيلة، وعدّم الانزلاق، والحكمة: طبعاً هناك مخاطر مجهولة بالتأكيد لكن هل يُمكِن بهذه الذريعة أن نحكم على شعبٍ بأن يرزح تحت نير الاستبداد؟ هل يُمكننا بسبب أنه قد يمرّ بخانة الإرهاب, أن نجمّد في نظامه القديم؟ ألا تقلِب الثورة الفرنسية هذا البرهان تماماً بحكم أن ما بعد الإرهاب جاءت الثورة على روبسبيير (الترميدور) وبعد ثلاثين، أربعين. مائة سنة جاء الباقي كلّه؟ أو لم نكن نحن ديمقراطيي كل بلد ضدّ هذا الشكل المنحرف من النسبية الذي يحتكر الديمقراطية لبعض الناس «الغربيين»» ويمنعها عن آخرين (شعوب الجنوب) ليعني أن استثناء عربياً سيحكم على هذه المنطقة من العالم بالاستبداد. أترجّح بين الاثنين.

ذات يوم استبد بي قلق شديد؛ إذ لاحقتني صورة رئيس حزب الوفد المصري الليبرالي الكامل من -حيث المبدأ والحديث والمواطن العالمي الخ.. وهو يشرح لي في نهاية رحلتي إلى مصر خلال حفل عشاء عند سفير فرنسا «فيليكس باغانون»» أنْ إسرائيل جرح في خاصرة كل مصريّ. فقلتٌ له «وليبيا والمعاناة الليبية التي نرى الآن» ونحن نتعشّى على هذه الطاولة أوّل أصدائها الرهيبة. أليست ليبيا جُرحاً مفتوحا؟. فردٌ قائلاً: لا“‏ أبداً» بينما لم يتوقف هاتفه المحمول الموضوع على الطاولة» بجانب صحنه عن الاهتزاز فقطع حديثه لكي يجيب مُتذمّرا ويُرتّب أشياءه الصغيرة. ولا بدا أن المكالمة تُضايقه ضرب بإصبعه على زُرّ التوّقف كما نضرب حيواناً أليفاً لتأديبه! لا أبداً! ليس أمر ليبيا ُمشابهاً أبداً. ليست ليبيا جرحاً مصرياً لأنها قضية الليبيين وحدّهم؛ ولا تخصّكم أننتم الغربيين لأنْ هذا ملف عربي عري، على العرب أن يحلّوه بصرامة فيما بينهم. ولن تذهب طبعاً إلى حدّ المقارنة بين مجزرة يرتكبها عربي ضدّ عرب آخرين بمجزرة يرتكبها مجرم بامتياز، المجرم الأمثل مادَةٌ وجوهرا الذي هو إسرائيل.

في الغد بل في اليوم نفسه في لحظة أخرى من النهار: وقد تذكرت أن المتظاهرين في ميدان التحرير أحرقوا علما إسرائيليا، وحقّروا رمز أمريكياً فجأةً قلت في نفسي وأنا أكثر اطمئنانا وخجلاً من ردّة فعلي السابقة من خوفي غير المشرف: لعلّ بعض هؤلاء الشباب يشفى في النهاية من الوساوس المشؤومة التي تسكن الأجيال السابقة. من الْمكن أن يتعايش فيها السيئ والحسّن أو الأقلّ سوءا ومن دون العودة إلى لحظات الثورة الفرنسية، لا داعي لأن يتم ربيع الشعوب بالسوء نفسه الذي تم به منذ عشرين عاماً لشعوب أوروبا الوسطى والشرقية ‏ الصَّعْبِ والُضطرب الذي اكتّسته رياح سيّئة لكنّها ولّدت في النهاية مجتمعات ليست مُرفْهة بالتأكيد، لكنها كانت طبيعية، وبالرغم  من أنه كان لها مثلنا حسابها مع الفاشية القميئة، ومع معاداة الساميّة، لم تعتقد أنها مجبرة علة تتويجها.

أنا حائرٌ ولكنني أتدرّبٍ على الاحتفاظ ببرودة أعصابي. قلق ولكني واثق أفكر في النتائج فأزنها وأعيد وزنها، محاولا أن لا أستسلِم أبداً لهذا المنحدر من التشاؤم الموجود في داخلي الذي يجعل الحكم قاتماً. أشكٌ وأحتفظ بإيماني. أبقى واضحاً من غير أن أشِتُمّ المستقبل. لا أنخدع بشيء، وخصوصا أن ليس لديّ أوهام خيالية ‏ لكني لا أحتجب أبداً في وضعية أمكر الماكرين، الذي يرى قبل الناس جميعا قُدوم الغد الحتميّ الذي سيجعله يُقلع عن غروره. يقال في لّغة الفلسفة: الاشتغال على الروح، ليس جديا ولكنه متعاقب..

السبت  26 شباط/ فبراير (كيف دخل القذافي حياتي)

حدث هذا في الحال. بصورة طبيعية. حصل بطريقة غير واضحة ثم بطريقة أوضح. ثم بطريقة ضبابية، في البداية قيلت جملة فضفاضة مُلتبسة اتخذت بالتدريج شكلا كلمة كلمة وتقريبا مقطعا مقطعا،كحبر خفي في شّعلة ذاكرة مُبهُمة: لم ننتظر برنار هنري ليفي لنختلق عهد الله). ثم هو ذاو وجه متيقظ ورائع، خصلة شعر صهبا، وقبعة ذهبية من فترة ما قبل المرض، قبعة صديقي "بول جيليير" الذي كلّفه افيليب تيسون برئاسة تحرير جريدة أسبوعية منسيّة اليوم؛ وما عُدتُ أنا نفسي أفكر فيها منذ عدة سنوات اسمها الأخبار الأدبية. ثمّة إذآً تاريخ هو عام 1979: لم أرَها في ذلك التاريخ» فاعتزلتها أجل اعتزلتُها في حال نصف نائمة دائماً في حالة الأحلام اليقظة حيث يبدو لي أنها كانت تستوقفني طويلاً، وسأعيد تكوينها لأن هذه السنة؛ سنة 1979 شهدت صدور كتابي عهد الله. ثم إنَّ الأغرب الشبيه بنوع من الرّعد في الضباب الذي يغلفني أنا دوماً نصف نائم لكنّ هذا الدالٌ ينهال عل بحرفيته: اسم علّم آخرء هو اسم مؤلّف الجملة أراه بأمّ عيني هذه المرّة بحروفٍ عريضة ينبثق في أعلى واحدةٍ من هذه الصفحات التي كانت سمّة الأخبار الأدبية. صَعُب علي تصديق ذلك؛ غير أني أراه أقول لنفسي: هذا مستحيل إِنها مزحة شيطان طَبْعه خبيث يُرسل لي هذا الحلّم ذي القرنين وأقول لنفسي أيضاً هذا نمط الذكرى الزائفة أونمّط الذكرى الشاشة الذي يتكوّن مع الزمن أو ينبثق لسبب لا يعلمه إلا الله وإن لم يكن الله فعلى الأقلّ اللاوعي غيرأن هذا يؤدّي إلى النتيجة نفسها ولا أعتقد بها أكثر، ولكنّ الأمر هو هذا مع ذلك؛ فالوضوح حاضر هنا ليس وضوح اسمه فقط بل وجهه أيضاء وبالتالي فمؤلّف هذه الجملة غير الُمحتِمّل والذي انزلق اسمه من أبواب ذاكرتي المفتوحة وملامحه التي فرضت نفسها علي وأنا في يقظتي نصف واع إِنّه...القذافي» العقيد القذّافي الذي سيعرف. في طرابلس خلال مُقابلة في خيمته لماذا اعتقد أنَّ من الُمستحسن أن يقول من خلال أُوّل أسبوعية ثقافية فرنسية في تلك الفترة» إِنّه لم ينتظر برنار هنري ليفي كي... الخ. لكنْ كيف؟ وفي أيّ سياق حصل هذا؟

لاحقتني هذه الذكرى طيلة اليوم. إذ لم تتوقف الجملة عن التجوال في رأسي. حتى ذهبتٌ إلى المكتبة الوطنية ساعيا بهدف إراحة بالي إلى العثور على مجموعة هذه الجريدة الرائعة المختفيّة. وهنا كانت المعجزة! فها أنا أعثر على الجملة! أنا لا أحلم بذلك؛ بل أعثر عليها!

كانت فعلاً في جريدة الأخبار الأدبية. لم يكن مُديرها بول جيلبير؛ ىما كنت أعتقد بل «جان فرانسوا كان». أعثر على الجملة في عدد 29 تشرين الثاني/ نوفمير عام 1979» داخل ملف بعنوان «انتفاضة الإسلام الكبرى» كناية عن الثورة الإسلامية في طهران. يبدأ هذا الملفٌ بافتتاحية «كان الحذرة» التي تتجنَّب أن تُدين العملية الجارية في إيران تتبعها مقالة ل "مكسيم رودانسونك" وأخرى ل«بول بلطة» عنواهها «الُميني والأخلاق؛؛ ثم «ملحمة إسلامية» يحكيها واحد اسمه «روجيه غارودي» حيث كان ما يزال يُعاشّر؛ ثم نص ل«هنري كوربان» يتلوه تكريم المثقف الإيراني الكبير «درويش شيغان» لكوربان؟ ثم تقرير صحفي من إعداد «جيل آنكوتيل» عنوانه: "يا إيران اكتشفت شعباً تؤلمه ذاكرته». وهنا وأنا محصور بين هذه النصوص. في جوار مجموع نصوص عن "اميشليه" مع بحثٍ ل"جان ‏ لوي ايزين" واجيروم غارسان» حول "هل‏ الجوائز الأدبية مُزيّفة؟" مع مقالة لأرسان نفسه عن جائزة ميديشي لعام 1979 الممنوحة لكلود ذوران، أقع على الشيء الذي أبحث عنه: ثمة على الصفحة اليُمنى" في أعلاها بتوقيع شخص اسمه «جان مارابيني»؛ ورقة بعنوان "في ليبيا القذّافي رحلةٌ في جماهيرية شعبية إسلامية" وخُصّصه لمن كان آنذاك القائد الشاب للثورة الليبية. ليس هذا حواراً معه بل هو تقريرٌ عنه. وثمّة في أثناء التقرير شواهد بين هلالين منها شاهدٌ ‏ وهنا تحديدا وتقريباً بالكلمة أتذكّر منه: "لم ننتظر برنار ‏هنري ليفي لنبتدع الديانة التوحيدية"...

ما الذي أمكن أن يحدث في ذلك اليوم؟ ما المُصادفات والتأثيرات التي تلاقت ومكنت اسمي من أن يدخل في دماغ هذا الرَّجُل وينبثق منه بهذه الطريقة؟ علمتٌ من بحثٍ بسيط أن مارابيني مؤلّف سلسلة من كتُّب التاريخ التي نفدّت جميعها باستثناء كتابي يوميّات في روسيا في عهد ثورة أكتوبر؛ ويوميات في برلين في عهد هتلر. لا أجد في أي مكان سيرته الذاتية غير أني وقد تأكٌدتٌ من أنْ اليوميات في روسيا صدرت سنة 1965 قلت لنفسي رُبما مات وإلا فقد اختفى نهائياً. وفرانسوا كان الذي أكالمه؛ لم يترك من ذكرى ((أرى بغموض...بغموض شديد...شديد جداً.. .كنت أستخدم كتاباً مأجورين على الصفحة...حتى لقد كان لدينا يساري مُتطرّف نستعين به عند الحاجة...احذر من هو؟ دونيس كيسلر...الباترون دونيس كيسلر مُعاون البارون سيليير حين كان هذا يُدير هيئة آرباب العمل في فرنسا...؟ وانطلق من قهقهاتٍ مُفاجئة صماء قليلاً لأنه وهو يعطي دوماً الشعور بأنه لا يتوجّه إلا إليه يُضيف قبل أن يُغلِق الخط وبصورة مُفاجئة أيضاًء ومن دون أن يقول إلى اللقاء؛ مثلما فعل دوماً: "إذا عرفت شيئاً جديداً عن هذا المارابيني سأخبرك؛".. نتحدّث عن سنة 1979 حيث لم يكن هناك انترنت ولا فاكس. ولا سبب منطقياً أن يقع كتابي عن الإنجيل أو اليهودية أو الديانة التوحيدية بين يدَيّ القائد البدَوي ولا أن يخطر في باله. ومع ذلك هذا ما حصل. قبل اثنين وثلاثين عاماً من أن يُصبح مجنوناً خطيراً يُرسل الطيارات الحربية ضدّ شعبه الأعزل قبل اثنين وثلاثين عاماً من أن يصير العدو رقم 1 لكل ما تعدّه البشرية من ديمقراطيين، اثنين وثلاثين عاماً قبل أن يظهر لي عرّضيَا أنّه تجسيد لما قضيتٌ حياتي في إدانته ومحاربته العقيد القذّافي هو هذا القارئ الذي لا يراه وعيُّ الشخص الذي هو أنا إذ لم يتركني أقول إنّني علّمتّه معنى الديانة التوحيدية.

الحقٌ أن هذه الفكرة بعد أن انقضى الذهول الأوّل أشعرتني بالامتعاض على نحو غريب. فقد كان يملك موهبة أن يُثير غضبي بِدّل أن أتسلى بدل أن أبدو واحداً من ملامح المزاج التي يشكل اللاوعي أفضل مؤْلّفٍ لها، بعيداً عن أجعل نفسي أنبهر بالدُرّر التي تُمرّرها الذاكرات البعيدة حين تُلِحّ عليها قليلا كأنني أكتشف بيني وبين هذا الرَّجل نزاعاً غامضاً وقديراً. أو أنني؛ وهذا هو الأدهى؛ كنت أتنبّه لتواطؤ لا يُشرّح "غير إرادي" استغنيتٌ عنه تماماً. قرّرتٌ في النهاية أن أرى في هذا الانبثاق تحذيراً بعيداً يكف عن الاستيلاء عليّ.

الاثنين 28 شباط/فبراير (غداً في بنغازي)

أنا مُسافر غداً إلى ليبيا. أتى القرار فوري هذا الصباح. رُبّا ترك في تقريري عن مصر ذكرى من عدّم الإنجاز. كلّ هذه المقالات في كل مكانٍ تقريبأ التي تُرَكّز على امتعاض المثقَفِينَ الفرنسيين من الربيع العربي، والتي تُزعجني. هذا الصديق القديم؛ المرتبط بالأجهزة الأمنية يقول لي إن دخول ليبيا سيكون بالغ الصعوبة لإنسانٍ مثلي فليبيا غابة لم يعد أحدٌ يُسيطر فيها على شيء. وهذا يُحيرني. في الغد في اطراد إصراري مع مرور الأيام وكنًا نشهد حدثاً تكوينيا موجته طويلة وبعيدة المدى وهذا الشيطان الذي أعرفه جيداً ليس شيطان الُطلّق بل شيطان النسبيٌ أي شيطان الحدّث الذي جعلني كأنني أجري وراء كأس مُقدّسة علمانية. أو صورة الفلول المرميّة بالرصاص من الجو التي لا تُفارقني وأنا أؤكّد أول إحصاءات القتلى وبعض تقارير

المُراسلين النادرة كتقارير القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي التي استطاعت دخول ليبيا: 640 قتيلاً بحسب الفيدرالية الدولية لجمعيات حقوق الإنسان و2000 في بنغازي وحدها بحسب إحصاءات أخرى حيث يقول طبيب فرنسي عاد من هناك أمس مساء: إنها مذبحة؛ وصولاً إلى سيف الإسلام ابن القذّافي الذي يُقلّل من فداحة المذبحة مع أنه يتحدّث عن مئات الجثث...

تحدّثت بالهاتف مع «ألكسي ديكلو». أخي الصغير الُمصوّر الذي ضمن لي التقارير دائما (آخر أخبار الطفولة...الأنتيب...ذكريات نساء جميلات.. على شواطئ مُشّمسة...أجسادهنٌ الملتهبة...ضحكاتهنٌ المنعشة...) لكنّه محجوز على الحدود الليبية وللأسف؛ ليس من الجانب الآمن بل من الجانب التونسي الذي لا يُعبر. ثم مارك روسيل الذي لا أعرفه جيداً لكنّي أَحِبَ عمله، وذهبتٌ معه إلى أفغانستان، بعد موت اللواء مسعود, في المهمّة التي كلفني بها شيراك وجوسبان. كان روسيل حُرَا. ثم جيل طبعا،ء إذ كيف سأقوم برحلةٍ كهذه من دون جيل؟ أما "فرانك فافري" فهو الذي سوف يضمن حايتنا. بينما سيضع صديقي فابريس آلكو خطة رحلة جوية إلى مرسى مطروح بين الإسكندرية والحدود ‏ وهكذا سنوفّر الوقت.

أخذتٌ جريدة نيويورك تايمز سانديكات وجريدة الأحد وصحُفي المعتادة (الرسالة الإيطالية والبابئيس في مدريد والاكسبرس والآفتن بوستن الاسكندينافية. أَقرّر السفر غداً. لا أعرف شيا عن هذا البلد. أجهلٌ كلّ ما سوف أَجِدٌ فيه. حتى إنني لا أملك الوقت لأجمع عنه ملفا. لكن قراري قد حُسم.

الثلاثاء 1 آذار /مارس (سيارة أجرة إلى لا مكان)

مرسى مطروح. ثم السلوم. كان الليل قد هبط. هذا المكان الذي لابْدَ أنه كان قديماً نقطةٌ حدودية عادية؛ مُنظّمةَ وقليلة الارتياد غدا أرضاً واسعة خالية حيث يتكدّس اللاجئون الهاربون من ليبيا محاولين العبور إلى مصر. اقتّحِمّت الأبنية الإدارية وحُوّلت إلى مهاجع، وصارت قاعة المرور حيث تُفحَص الأمتعة مستشفى مؤقّت. لم تعد الطريق موجودة إذ تحوّلت إلى معسكر برّي تحرس مدخله دبّابتان مصريّتان ضخمتان وقد صُوّْبت فُوهات مدفعيهما باتجاه اللاجئين. كما اختفت الجوانب حيث تستلقي على مد النظر مخلوقاتٌ كالأشباح ‏ تفترش حتى الحجارة أو الأغطية النتنة. ثمّة جرحى ومرضى وبشر يعانون من الزّحار. ولا بد أن تكون النقطة الحدودية الليبية من الجانب الآخر قد دُمّرت لأننا لا نرى من هنا حيث نوجد وحيث يُقلقلنا الجمع: ويُضايقنا التعثر بالأجساد المستلقية ونحاصّر إلا هياكل بناية يبدو أنها قُصِفْت وحول البناية وفي ما وراءها على مدّ النظر بمئات الأمتار كتلة داكنة بل سبخة من الأجساد شبيهة بتلك الموجودة على هذا الجانب تستلقي بدورها بعيداً في الصحراء المحيطة.

يقف هناك جانباً مُرتزقة القذافي ومعظمهم من السود الذين هربوا من المعارك الأولى ويُراقبهم الجنود المصريون عن قُرب. ثمة عمال سُود أيضاً مرعوبون من اعتبارهم من المرتزقة. ثمّة نساء. وأطفال. وأناس يائسون؛ وآخرون يعتقدون بأنهم سيعبرون. بينما آخرون لم يعودوا قادرين على العبور لأنهم مُرهقون أو نصف مجانين كذاك الرجل الذي يُغطي وجهه بيديه ويدور حول نفسه صارخاً بأنّه هنا منذ ثانية أيام وأنَّ المصريين يوقفون كل شيء ولا يُريدون أجانب في بلادهم هذا أمرٌ رهيب. أو كالرجل الآخر الذي يلبس سترة منامته فوق-سروال جنزه على صدره نيشان ويصرخ باللغة العربية: لجأت إلى الاحتيال وما استفدت شيئاً. فهم لا يأخذون أحداً أبداً!. وكان هناك آخرون لم يستسلموا نهائيا بل يتشبّثون جميعاً بهدفٍ واحد: العبور، العبور بأيّ ثُمَنْ الخروج من ليبيا والدخول إلى مصر الأرض الموعودة الجديدة ‏ كتلك المجموعة المحيطة بنا وتكاد توقف سيرنا، مع ناطق باسمها؛ يتحدّث بإنكليزية صحيحة لاحظت تحت دَرَنِ يديه اللتين يحرّكهما أمام وجهه. شيئاً هادئاً لطيفاً ينِمّ عن أنه مُثقّف» وقد يكون مُعلَّماً: "نحن هنا منذ ثانية أيّام ثانية أيام ونحن تُحاول أن نتخطّى الحواجز بالقوّة وهاهي مجموعة أخرى أتت من مدينتنا نفسها وعبّرت قبلنا فهل تعتقدون أنهم سيحصلون عل وثيقة إعفاء؟".

ثمّة هذه المرأة خارت قواها تعلقت بطرف سروالي وانخلع حذائي حين لم تفلح في الإمساك به. وهاهي امرأة أخرى مُستلقيّة عيناها مُغمضتان وقد تشكلت حولها دائرة من النساء على الرغم من الجمهرة، وفي الجمهرة، ويبدو أُتْبنَ يحرسْنها إذ منعن روسيل من تصويرها وطلبن منًا دواءً . كان أنفها مقروضا وقد لا يكون هذا إلا وحلاً جافاً علق به أوربما هي مريضة وفي حال من الاحتضار ويستحيل التأّكد من ذلك لأنَ الحشد دفقنا من جديد والتقطنا وابتلعنا وألقى بنا بعيداً. كان ثمّة من يُريدون التحدّث إلينا ومن ينظرونإلينا ونحن نمرٌ. ومن يطلبون من مالآ ومّن يسألوننا من أين أتينا وإلى أين نذهب وكيف يمكِن أن يرغب بشِرٌ في دخول هذا البلد الذي هربوا هم منه ‏ وثمّة أولئك الذين فضَلوا التزام الصّمت واجدين فينا موظفين رسميين، أو مرتزقة من نمّط آخر أو جواسيس. إنها جمهرة. لكن من دون ضجيج. من دون ضوضاء. كأنْ مُديراً غير مرئي لهذه الجموع خفّض الصوت، وكأنٌّ الإنهاك والسأم جعل الناس مُخفضونَ درجات أصواتهم حقاً. وعلي التصريح بأنَّ لحظة جمال حلت هناك حقّاً: حين يأتي وقت الصلاة أغلب هؤلاء الناس المرضى كما الأصِحَاء المقَمّلون ولا يزالون يقظين يغتسلون ويحركون سجاجيدهم وأغطيتهم البائسة قليلا ويتوجّهون صوب مكّة ويشرعون في الصلاة.

استغرقنا ساعةٌ لا نعرف أين نحن، في جوارٍ بئر مرحاض قذر مُكوّن من خندق طويل مُقسّم إلى كوى تفصلها صفائح مُرتفعة؛ وفي مدخلها كتب على لوحة باللغة العربيّة "تقدمة الصليب الأخضر" المكتب في الهواء الطلق حيث المسافرون القادمون من مصر جاهزون لإعطاء جوازات سفرهم لضابط الجمارك الذي يبدو ُمخدّراً. وقضينا ساعة أخرى ليأتي عسكري؛ صاح قليلا يُوافق على أن يدلنا على كوّة جديدة أبعد مائة متراً حيث افترضنا أن نجد جوازاتنا مختومة. لكنّ هذه الكوة كانت مُقفلة بستار حديدي صغير ينفتح من حين إلى آخر لتظهر منه يد مجهولة تأخذ ُرزمة أوراق السفر التي يُناولها إياه رئيس المجموعة وتُعيد حُزمةٌ أخرى تُلقيها باتجاه جمهور الليبيين ثم تقفل الكوّة من جديد, فيلتقط الليبيون الأوراق الملقاة على الأرض التي وّضِعت في داخلها في كل مرّة تقريب استمارة كتب عليها باللغة العربية «وثيقة غير صالحة» وتُقَفَل الحلقة من جديد ويبدأ التزاحم ثانية بانتظار انفتاح الكوة القادم.

هناء انتظرنا ساعةٌ أخرى وحين أعيد فتح الكوّة دُفعنا واعتّصرنا وأبعدنا بعنف والرجال في الوقت الباقي اعتادوا على حضورنا ولم يخافوا من أن يطرحوا علينا أسئلة. تفتح الكوّة ثلاث مرّات وتظهر اليد ثلاث مرّات. وثلاث مرّات لا تأتي جوازاتنا مع الوثائق. فهل من المؤكد أن تكون هناك حتمًا؟ أليست الكوّة مخصّصة للقادمين من ليبيا إلى مصر وليس لأمثالنا الذاهبين إلى ليبيا؟ حين فهمنا أنها ليست الكوّة الُمناسبة» وأن ليس هناك غيرها، نظراً لأننا وحدّنا المسافرون الذين خطرت لهم في تلك اللحظة الفكرة المجنونة في دخول جهنّم التي يُحاول الآخرون الخروج منها، وجب أن يقوم الأقوى بيننا، وهو فرانك بشقٌّ طريق بين الحشد ليذهب ويبحث بعيداً وراء الكوّة عن باب المكتب الذي تُشبهه الكوّة، الباب المخفي وراء حاوية هائلة ُرتبت فيها طرود غذاء بسكويت في الواقع يوزع على الناس بطريقة إلقاء الغذاء على الكلاب. هناك يُحاول جمركي مُتسلّط أن يمرٌ بالتدافع.

يعلو قليلا ويصرخ لجمركي آخر شبه نائم: «مُهمّة رسميّة». ويجد جوازاتنا الأربعة مُلقاة على طاولة، وغارقة في رُكام من أوراق الليبيين يحملها إلى الجمركي شبه النائم ويرجوه مع تقديمه عدّة دولارات ليختمها.

بعد أن صدّقنا جوازاتنا، وحملنا حقائبنا استغرقنا ساعةٌ أخرى لنعبر بحر البشر الذي يفصلنا مسافة 500 مترأ عن الطريق الطبيعي: إنها المسافة الأطول لأننا من حيث المبدأ من الجانب الليبي؛ وليس ثمّة ظلّ أي موظّف رسمي يفرض نظاماً ظاهريا. كان هناك بالضبط خروج آخر الواصلين الرجال القّساة الُمصِمّمين الذين لم يروا بعد الدبّابتين المصريّتين» ولم يفهموا أن الموقف أمامهم يائس يأس العالم القادمين منه؛ وكان هناك أربعة أجانب يعتبرون بحذر أنَّ ليس من خشية كامنة لهم.

إنها الثانية صباحاً. نحن في ليبيا في نوع آخر من الخلاء هنا حيث كل نور مُطفأ في ظلمة تامة أو تبدو كذلك على كل حال بالمقارئة مع الأضواء المرتعشة التي تنتهي بعض المصابيح المبعثرة بنشرها حول الأغطية في الجانب المصري هنا تركن ثلاث سيّارات: سيارة فورد نصف مغلقة أنزلت للتو بعض العائلات، وتبدو مُكسّرة إلى درجة جعلتنا نتساءل كيف استطاعت الوصول إلى هذا المكان وسيّارة لادا مُهِمّلة وشاحنة صغيرة ليست أحسن حالاً.. أشار روسيل إلى أن دولابها الأمامي مُفرَعْ تماماً من الهواء . غير أنها كبيرة وطويلة؛ وفيها ثلاثة صفوف من المقاعد؛ في مقعدها الأماميّ شابّان شبه نائمّين. قالا لنا طبرق؟ هل أنتم ذاهبون إلى طبرق؟

سألناهما: كم تُريدان لنقلنا إليها؟ الشابان لا يتكّلمان الإنكليزية. لكننا انتهينا بالتفاهّم والاتفاق: نعم» طبرق» ورقتان من فئة 100 دولار أي ما يُعادل راتب شهرين في عهد القذافي؛ وهكذا حشْرنا على المقعد نفسه؛ لأنْ المقاعد الأخرى حَمّلة برُزّم من الخضار. الشاحنة تسير قدر استطاعتها تلهث كحيوان عجوز تُرجرج بأسطواناتها الأربع ودولابها الأمامي الأيمن يئن في الارتجاجات. وقليل من الهواء البارد يدخل من زُجاج النوافذ الُمحطّم. الطريق مليئة بِالحفر التي كان السائق في كل مرّة يتجنّبها بمهارة. ولم يعد من شيء على اليمين ولا على اليسار الُمضاءين بالقمر الساطع إلا الصحراء باستثناء خرائب بُرِج تظهر بين حينٍ وآخر أو ظلّ جسم غير مرئي وكذلك سيّارات ُمحمّلة بالحقائب والأكياس وأحياناً حيوانات تتّجه صوب الحدود. ذلك كله الُمضاف إلى فعل التبايّن مع مُراوحتنا اللانهائية السابقة على الحدود؛ كان يُعطينا انطباع السرعة والمغامرة. وعند الأربعة أيضاً شعور بالأمان وحتى بالراحة ولو أنه غير مُعلّن. ولم نفهم أننا مع بائع خضار عليه أن يتوقف كل 10 أو 20 كم. لكي يُنَزِل حمولتّه: إلا بعد نصف ساعة حين جنحت الشاحنة في عرض الطريق وكادت تغوص في خندق لم تستطع هذه المرّة تفاديه لتقف أمام خربة معزولة حيث يقف رجلٌ مُعمّم حيّاه السائق بقوله: السلام عليكم. قدّم لنا أقراص طماطم التهمناها بشهيّة ونحن نقف في ساحة المزرعة. أعطاه الرجل المعمم ورقة نقدية مُجحعدة حاملاً إلينا بلطف عُلب صودا. كان قلقنا الوحيد أن نعرف إن كانت الشاحنة ستدور أم لا. ثمّ مُشكلة البنزين: هل لدينا ما يكفي؟ وهل فكر الشابّان في السفر حتى طبرق؟ وكيف ستتصرّف في مناطق لا توجد فيها محطّات وقود؟ وبطاريّة السيّارة؟ فالسائق يُطفئ الأنوار دائمأ فهل يفعل ذلك ليحتفظ بشحن البطاريّة؟

أعددت في حياتي كثيراً من التقارير الصحفية. لكني في العادة أتزوّد "بِمُثبت". موجة ONG موصولة من باريس. ووكالة الصحافة الفرنسية التي عرفتٌ رئيس مكتبها سابقاً في مكان آخر وأعدت الاتصال به قبل السفر. أبحث عن نقطة استناد. عن مكان وصول. لا شيء هنا. فقط هذه الشاحنة المشؤومة ‏ ولا فكرة عن العالم الذي أدخله؛ ولا عن العالم الذي ينتظرني.

فندق البطنان في طبرق. توصّل موزّع الخُضار الشاب إلى أن يرمينا في الخامسة صباحاً في فندق المدينة الوحيد الذي يُديره واحد من أنصار القذَافي، والظاهر أننا كنا وحدّنا زبائنه. ولم نمتنع عن إشعاره بذلك؛ فبعد أن أخذّنا حمّاماً سريعا، وفطوراً متكوّناً من خبز بائت، وخيار وبيض مسلوق، وجبن «البقرة الضاحكة»؛ خرجنا لنبحث عن سيارة أجرة قادرة على إيصالنا مسافة‏ أبعد 500 كم حيث مدينة بنغازي. مرّت أمام الفندق كالإعصار سيارة بيك آب اذ بشباب مُسلّحين. أطلق أحدّهم رشّة رصاص من بندقية كلاشنكوف فوق رؤوسنا على الواجهة المغطاة بثقوب الرصاص، فخرج صاحب الفندق وفي يده بندقية صيد لكن من دون أن يكون أكثر انفعالاً من هذا بالحادث. وبارتخاء ومن دون تصويب وبموقف من تعود أن يفعل ذلك كل صباح، وربمّا صار هذا لُعبة بين الشباب وبينه أطلق عياراً من بندقيته باتجاه البيك آب التي كانت قد ابتعدت.

زرنا المدينة زيارة سريعة. سلّمنا على الثوّار - ربا هم المسلّحون الذين أطلقوا رشّة الرصاص ‏ الذين يسيطرون تحت الخيام؛ على الساحة الكبرى للمدينة ويحَدّثوننا عن مقبرة جماعية اكتّشّفت على مسافة 10 كم من هنا. زرنا برفقتهم المدرسة التي تحوّلت إلى قاعة عرض رسوم كاريكاتورية للقذّافي رسمها صبيان المدينة. مركز الشرطة» مقابل المدرسة» محروق. وثمة ثكنة عسكرية سوّدها السّخام. والقصّة المجيدة لتمرّدٍ لا يدوم إلا-ساعات ليرى الكتائب الموالية للقذّافي إِمَا مُتفرّقة وإمًا مُنضمّة إلى الثوّار. الأشياء كما تُرى من هنا بسيطة وربما كانت كذلك فعلاً. فالديمقراطية لا تُقَهّر. وريح الحرية التي كنسّت هذه الرمال الغنية بالذاكرة ريح لا تُقاوّم. أما الذين كانوا هشين بل في مُنتهى الهشاشة والتردّد فهم العساكر الذين يفترض أنهم صاروا ديمقراطيين من ديكتاتورية هي نفسها ميؤوس منها وتبدو هنا قد تبخّرت بصورة رائعة. فالقذّافي سيسقط كما سقط حسني مبارك وزين العابدين بن علي. إِنّه قيّد السقوط. والسؤال الحقيقي الذي أطرحه على نفسي بينا كنا نأخذ الطريق باتجاه بنغازي في سيارة أجرة حقيقية هذه المرّة هو إن كنا سنصل في الوقت الُمحدّد لنشهد سقوط الديكتاتور.

في ما يتصل بالرمال الغنية بالذاكرة... المقبرة الفرنسية في الجنوب مفترق طرق صوب جربوب» حيث أصرٌّ «جيل» أن نذهب ونترحّم على موتانا. بحثنا عبثاً عن قبر عضو وحدة الطيران الخاصّة الفيلسوف «آندريه زير ميلد (الذي قُتِل في قلب الصحراء عام؛ 1942 وقد حكى لي أبي عنه ففتنت به) قبل أن نعرف من رجل عجوز يرطن قليلاً بالفرنسية كان مُقرفصاً على الحدود بين القبور أمام ثلاث أثافي سوداء يغلي الماء لزوّار افتراضيين أنّ جسان زيرهيلد في مقبرة باتينيول (لفظها بانيول) إن كان هذا ما يهمكم فلا داعي للقيام بهذه السفرة الطويلة.! ثم طبرق نفسها مدينة طبرق وحصن طبرق الذي كانت تسيطر عليه طيلة 240 يوما فرقة بطولية استرالية والذي كان مسرحاً لهزيمة جيش إفريقيا الألماني. هذا أقوى مني. هذا أقوى منا. لم يبق ظرف لم نكن أنا وجيل نبحث فيه عن المظاهر نفسها. عن هذه المواعيد السريّة مع الذاكرة. عن تصادٌم الأمكنة والأزمنة. عن هذا المخزن من نماذج

الأدوار وفهرسها الذي يتخطانا. عن التاريخ العظيم الذي يعود دوماً إلى تاريخ الحرب العالمية الثانية، ويبقى على مرّ السنين سيّدٍ حياتنا ومشاهدها الكبرى. فهل نصنع التاريخ. أم نريد صُّنعّه؟ وهل نصنعه بإعادة صُنعه ؟

أَوَ لسناء كثوار 1789 الذين جهدوا لتكرار حركة التاريخ القديم غير عارفين أن نصير أنفسَنا إلا حين نكون ظل آبائنا؟ أحداث 1968... حماستي المناهضة لفاشية الإيديولوجية الفرنسية... البوسنة التي لم نكن نستطيع عيشّها والدفاع عنها أمام دهشة أصدقائنا البوسنيين أشباح الحرب الإسبانية... والآن لحظة شروعنا في التحرّك؛ هذا البحث الصبيانٍي بعض الشيء عن آثار المعارك ضد النازية... وهكذا دواليك.

أمَا رسوم الكاريكاتير عن القذَافي فهي أولا مُلفتة للنظر. لم أر مثلها أبدا أجل! لم أر أقوى منها وأكثر موهيةٌ وبلاغة فهي من مستوى رسوم شارلي هيبدو ويجب أن أحكي لشارل وبيلوه عن رسوم القذّافي الكاريكاتيرية المؤنّثة المحوّلة إلى شكل حيوانات؛ إلى جزّاره إلى راعي قطيع مُضحك إلى جمّل ثم إلى جرذ إلى الدكتور فولامور إلى دراكولا وإلى لائحة الأدوار السيئة كلّها صوره عن نفسه المثيرة للشفقة كان يُريد نفسه قائداً فصار مُهرّجاً. لكنّ هذا على الأخصٌّ درس الأشياء، درسٌ الأعمال التطبيقية بعظّمتها الواقعية لأنها تقول الكثير عن تفكك نظام يسقط لأنّه لم يعُد يعد مخيفا، لم يعد مخيفاً لأنّه يغوص في الغرابة، وماذا لو كانت الحماقة هي التي قتلت القذافي؟ نظاراته السوداء؟ شذوذه؟ وجهه الذي شوّهه البوتوكس وغزاه الشحوب المصفر؟ وضعياته؟ تماثيله الجداريّة؟ وماذا لو أنّه مات من الضحك الذي أوحى به إلى رعاياه حين اكتشف هؤلاء أن هذا الديكتاتور، هذا الرجل الذي وجب أن يحفظوه عن ظهر قلب منذ الطفولة، أن يُعلنوا غباواته، وأنّه كان مُهِرّجِا مهبولا

مهبول/ ديكتاتور، كالملك أوبو؟ الأبله يقتل. الأبله يهزم الخوف. لم نعّد نخاف من إنسان مُضحِك إلى هذا الحدّ. الُمضحك هو الذي انتصر على الخوف، وأفضى بهذا النظام إلى السقوط. إن درس طبرق. حقيقة أطفالها. عظمة تعليم الفلسفة السياسية وملاحظة إضافية على خطاب العبودية الطوعية المشهور. وبرهانُ على أن الديكتاتورية يُمكِن أن تهلّك في الهائل في الضحك وفي الموهبة. ثّمْ نتوجّه إلى بنغازي معقل الثوّار التي يجب أن نصلها قبل هبوط الليل.

توقفنا في البيضاء مدينة الملوك القدماء حيث أتى بنا «قائد» من دون رُتّبِ ومن دون أوسمة إلى القصر الصيفي للقذّافي بغرفه الأربعين المُهدّمة المنهوبة بالمسبح الداخلي الذي يستخدّم لرمي النفايات وحماماته البخارية وأحواضه المهشَّمة ‏ ثم تأتي خاصةً العلامة المنتظرة دوما في أسوأ الأحوال. أي الممرّات تحت الأرض الممتدة عدّة كيلومترات وفيها محطات تنقية المياه ومولّدات كهربائية نزعت أسلاكها وكسّرت مضْخَاتها بالجملة وملاجئ واقية من السلاح النووي هنا حيث كأننا ننزل في عمق هرّم وحيث يتجوّل سكان المدينة مع بقية من خجّل.

نّم تأني درنة المدينة الساحلية التي ينبغي أن تكون إذا صدّقنا مؤيّدي النظام القديم معقّل القذافي في ليبيا وقاعدة الإسلاميين أعني «إمارة» أسّسها منذ عدّة أيام عبد الحكيم الحصادي, السجين القديم في غوانتانامو فارضاً وضع الْبُرقع وقاد سابقاً كثيراً من عمليات القتل المبرمجة لمسلمين مُتفتحين على الحداثة: هل أُحدّد بالقول إننا جُلنا في المدينة طولا وعرضاً ولم نر شيئاً يُشبه إمارةً ولا أي دليل على البرقع؟

ثم ذهبنا بالقرب من البيضاء إلى «لبْرْق» وهي منظر متوسّطي تتخلله مزارع ضخمة بواجهاتٍ واسعة تغسلها الريح: هنا قادنا طفل إلى مطار عسكري قُصِف حديثاً فصار مقبرة طيّارات حيث أعادت مجموعة من المزارعين تحسبهم خرجوا من رواية "الأمل" تمثيل المعركة التي لا بد أنها خاضتها ضد كتيبة من المرتزقة القادمين من النيجر ومن تشاد في طيّارات شحن ضخمة. المكان الذي أنزلت فيه الطيّاراتٌ حمولتها. الأمكنة الأربعة في الزوايا الأربع لِقَطر المطار حيث كمن مُزارعون في النقاط التي بدؤوا منها الهجوم. وتشهد آلاف الخراطيش على عنف تبادّل إطلاق النار. ثمة أغطية مُلقاة في خنادق عليها بقع من الدم لأنّ المعارك دامت نهارا وليلتين، وكان أنصار القذَّافي يتغطُون بها اتقاء للبرد. وعلى جُدران بعض البيوت المجاورة لطخات بُنيّة ما تزال طريّة تشهد على أساليب النظام العاجلة.

عدد المزارعين الآن حوالي المائة عرفوا بحضورنا فتجمّعوا وحضروا معا وكان بعضهم مُسلَحا حتى الخط الرئيس للمطار. أما أحمد الذي يبدو أنه يتمتع بسلطة كبيرة والذي يُمكِن القول بالمناسبة إِنّه لا يُمكن أن يرسب في موضوع ملحمة الحلفاء والفرنسيون الأحرار خاصة. في هذه المنطقة من درنة وطبرق وبئر حكيم فيرى أن هذه اللطخات البنيّة تهمنا ويقول إن بإمكانه أن يُرينا منها لطخات كثيرة أخرى من اللون نفسه؛ وُجدت حول المدينة بشكل دائم. ألم تكن هذه تقنية القذَّافي؟ إخفاء الناس وحجزهم. وإعدامهم في الصباح الباكر من دون محاكمة وتسليم الجثث؛ ولا يبقى إلا هذه اللطخات. على واجهة داكنة لا تُمحى. رفضنا رؤية غيرها ‏ فهناك من ينتظرنا في بنغازي.

يتواصل