إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح 2

جمعة, 19/02/2021 - 00:06

جدي شالوم بن يعقوب

سافرنا في السيارة ست ساعات. توقّفنا خلالها مرّة لشراء شيءٍ نشربه من مقصف صغير حيث قَدَّم لنا عامل ميكانيكي ليبي كان منفياً إلى شيكاغو منذ ثلاثين عاما ويعود الآن للقتال نسخة من تقرير التحالّف الدولي ضدّ مجرمي الحرب الذي كان في 22 شباط/ فبراير قد كتبّه في لائحة تضمّ أسماء 519 قتيلا و1500 مفقود. وتوقّفنا مرّة أخرى. في وسط الجبل:

تمتم السائق قائلاً إنها قصة تبريد الْمحرّك ‏ وكانت في الحقيقة قصة عطل في السيارة وبذلك قضى وقتاً طويلاً في الحرارة الحارقة يبحث عنه تحت غطاء الْمحِرّك. ساد الصمت خلال هذه الفترة. وسطع نور باهر. الحصى على يسارنا وصخور مُنبثقة من الرمل. وعلى يسارنا مُنحدر من الحوار المسنن. تبزغ هذه الصخور الهائلة المنخفضة: عمودياً من البحر. ليس في هذا المكان إنسان واحد. ولا حيوان. ولا أثر لمسكن. أحب الصحراء؛ وأحسب حسابها. ليست هنا الصحراء الحقيقية طبعاً. الصحراء الحقيقية تبدأ في مكان أبعد. لكنْ في جغرافيّتي المْتخيّلة هذا ما أدعوه صحراء. أحب هذا الجفاف جفاف الأرض وجفاف الهواء الذي أعطاني دائما شعوراً غامراً بالخفّة. أُحب أن يكون هذا عكس التراب بصلصاله الثقيل؛ وأوحاله وجذوره.

بعض الناس تُشعرهم الصحراء بالملل. ويجد بعضهم الآخر أن كل شيء مُتشابه فيها إذ لا تحتوي أيّة تضاريس. ولن أتكلّم عن أولئك الذين تُرعبهم الصحراء: حرب الصحراء، رومل، ذكريات الُمحاربين القدماء وقبلهم «كاتون»» في كتابه "الفارسال" وهو حوار داخلي عن الوحوش والزواحف. ومُعاناة العطش والأجساد المحروقة والمتفسّخة. ومملكة ميدوزا الأخرى ‏ نوع من جحيم رملّ من جحيم دانتي قبل دانتي وجه الرُعب ذاته. أمّا أنا فعل العكس. الصحراء تفتح شهيّتي. الصحراء تُلهب مشاعري. أستطيع أن أقضي ساعاتٍ في تأمّل مناظرها البرونزية المشوية. ولا أستطيع أبداً أن أتحمّل في أي مكان الوقوف مكتوف الأيدي وهنا أستطيع أن أبقى يوماً كاملاً أتأمّل المزارع المهجورة أو الُمهدّمة وعد الأشجار المتحجرة وألاحظ عبر زجاج السيارة؛ انعكاسات الهواء على الأرض المحماة.

جدّي شالوم كان مثلى. فهذا هو نوع المناظر التي لا بد أنه قاد قُطعان الخراف إليها طيلة حياته حياته القصيرة. كانت بني ‏ ساف المدينة التي وَلِدتٌ فيها قِبلتّه. كان يسكنها أربعة أشهر في العام يبقى مع عائلته في الصيف من دون شك: مع جدّي وأمي التي ولدتني» وايفيت» الأخت الكبرى لأمّي وأولاده الآخرين. لكن باقي العام كان يُسافر إلى وجدة على الحدود المغربية؛ مشياً على الأقدام مع خرافه البنيسفيانية الجميلة. ومن هناك يذهب إلى جرادا وكلميمة وتتغير الأبعد باتجاه الغرب وأخيراً إلى زكورة التي كانت باب الصحراء وحيث يمضي ليلتقي من جديد مع الرّعاة العرب في جبل مكون من ولاية سدرا الذين كان يلبس مثلهم؛ ويأكل التمر نفسه الذي يأكلونه» والخبز المُغمّس بالزيت نفسه أيضاً. لا أعرف شيئاً كثيراً عنه. ولا أعرف إن كان يقطع هذه المسافة البالغة على الأقل 1500 كم؛ على الأقدام أم كان يقطع جزءاً منها في شاحنة. كما أنني أجهل إن كان يقود قطعانّه بحسب المواسم» من مرعى إلى مرعى» أم كان عنده زبون غنيّ في الصحراء المغربية يُقَدّم له كل سنة حسابه من الخراف الُسمّينة التي يشتريها في طريقه. كل ما أعرف أنّه كان أميا تقريباً. أعرف إذ عثرت في خزانة أمي على وثيقة مرّض لا يكاد يعرف كيف يُوقّع اسمه عليها وهذا نادر بالنسبة ليهودي حتى لو كان فقيراً جداً. غير أني أعلم أنه كان يعرف لغة الصحراء. أعلم أنه كان يحفظ عن ظهر قلب صوت هذه الأم الأخرى أم الرمال التي كان يحبّها بلا شك بقدر ما يحب صوت الأم الأخرى في بني ‏ ساف. أعلم أنه كان قويّ البنية يمشي منذ طلوع الفجر حتى غياب الشمس وأنه حين يشتدٌ الحرٌ يفعل العكس فيمشي الليل من واحة إلى واحة ويستريح في النهار حاسباً حساب أن يسقي قطعانه في أقرب واحة. وأعرف أنه كان قويّ البنية ومريضاً لأنْه إذ كان يعتني بخرافه أكثر من عنايته بالسكري الذي يلتهم جسده.

وحيث إِنّه كان يجب أن يصل إلى الشاري بصحة جيدة، انتهى بالموت في وضح النهار في منطقة تقع بين زكورة وتكنيت، موتاً جافاً هو الموت في الصحراء.

هناك روايات عن موته. الرواية الرسمية: عاد في الوقت المناسب، ومات في مدينته، وقبر حسب الطقوس. والرواية الثانية التي أخذتها من فم جدّتي تقول ذات يوم سرا، وربما كان سرّها الوحيد، ومفاده أن جدّي مرض في صحراء تُوز، وما كان عنده وقت إلا ليجرجر نفسه حتى أطراف أغاديس، وقد ذهب أعمامي لوف وهيامين وموسى ومسعود, في سيّارة للبحث عنه بعد أن أخبرهم بأمره أحدٌ المسافرين. أودٌ تصديق الرواية الثانية. أن أُصدّق هذا الموت في قلب الصحراء؛ الرهيب قطعا، لكنه مع ذلك حظ تحوّلٍ جسد جدّي إلى معدن ورحمةٌ التحاق عظامه فوراً باللانهائي، وعدم فساد جسده أبدا، إِنَّه موت القديسين. أُحِبَ فكرة هذا الموت ألف مرّة أكثر من موت الآخرين الذي هو اختلاط الحياة بالموت، وانتقال المادة العفنة والتحوّل الخبيث من يرقاتٍ إلى شراغيف وديدان وهذا التكاثر كله لِلّحم الذي صار عجيناً حيث تنهض مخلوقاتٌ جهنمية تنعم بالنتن وباللحم البشري. فكيف يُراد لي أن أتأثر بموت الشاعر شارل بيغي ورأسه في الشوندر والسماء السامّة فوق رأسه؟ كيف أستطيع أن أمشي على أنغامهم، أنغام موريس بارايس وصحبه، على الأرض والموتى؟ أو على

العكس: أليس هنا في هذه الصورة القاتمة في فكرة هذا الفضيل الذي إذ حالّه كحال آخيل حين أسرّ إلى عوليس بالقول: «بدل أن يحكم شعباً مُطفا» فضّل بداية أن يشرع في خدمة مربي مواش فقير ويصير «راعِيّه»» وحارس «(قطعانه»» مُختاراً حياة البداوة مُقابل الأوديسة أليس هنا أجل هنا في نهاية المطاف؛ منبع هذه الحزمة من القرّف والتمرّد التي كانت قديماً الإيديولوجية الفرنسية؟ لا تدوم إلا الحجارة. . الصحراء وحدها جديرة بالموت وجديرة بطريقة ما بحياة البشر. إنّه درس شألوم بن يعقوب والد أمي الذي يهجع في اسمي.. وصلت بنغازي عصرا وأنا متعب، لكنني سعيد..

الأربعاء 2 آذار/مارس آخر التهار (مساء 4 بنغازي)

إنه الجو النموذجي للمدن البحرية الكبرى. رائحة البحر. ضباب كثيف يبدو أنه عند حلول المساء يتصاعد من الشواطئ. الكورنيش. وبناية ضخمة حسبتها عمارة قديمة لكنها في الواقع المحكمة العليا؛ لنظام القدّافي التي صارت الآن مقرًاً للمجلس الانتقالي الذي يُدير المدينة. وهذا المكان هو تقريباً ميدان التحرير في بنغازي. مركز الاحتجاجات. عدّة آلاف منهم يُرابطون فيه شيباً وصبيانا. رجال من العهد القديم؛ وشباب بكوفيّات يرفعون لافتات طبعوا عليها صُوّر ضحايا الاضطهاد. وجاء سائقو سيارات بعد أن تركوا سياراتهم في مدخل الكورنيش مشياً وثوّار مسلّحون يهتفون «ليبيا حرّة» ويُروننا على هواتفهم المحمولة صُوّر المشنوقين في بنغازي بعد أن أرسلت إلى التلفزيون؟ لأن هذه كانت طريقة الطاغية التي لم تعد تقنية انقلاب بل طريقة إعدام دائم حيث كان القذّافي والسنوسي الخبيران في عمليات الشنق اللذان كانا يُنوّعان أشكال التعذيب كا تُنوّعَ الملذات، الشنق عنقا، الشنق سقوطا، شنق بطيء، شنق بعد خصي، وكان خيالهم لا حدود له، وفي السابع من نيسان/ ابريل من كل عام» يُقدّمان للشعب المضطّهد عرضاً لجثث المشنوقين. كان هناك بعض الأئمة. ومسلّحون مُتّحدون يُعرفون بلباسهم العسكري الموحد الذي احتفظوا به. إنه شعب بنغازي، الشعب المتجمّع. مجموعة متلاحمة بأخوّة. كان بعضهم هنا منذ عدة أيام وليال لم يتوقفوا، ولم يهملوا شيئا، يبدأ هذا كما في القاهرة بالاحتلال الرمزي للكورنيش. بينما كان بعضهم يمرّون من هناك غير عابئين يقومون بجولة ويمضون لذا فالجو خليط من العزة و التسكّع. من حميّة وطراوة . وهذا جميلٌ إلى حدّ ما.

نذير شؤم: ل يكن الأئمة بالتأكيد، وحتى ليس تكبيرات الله أكبر، التي تحيي رجلا واقفاً على الشرفة يشرب الشيشة ويبدو أنه زعيم ديني؛ بل في الواقع. وجود مُربْع تحت الشرفة خاص بالنساء اللواتي لم يلتزمن به جميعهنٌ، وكنّ تُحِطْنَ بناء بعضهنّ محجبات وبعضهنٌ سافرات في نوع من الثرثرة المسليّة نتيجة وجود أجانب ولسنّ مُستِعدّات لأي سبب كان للذهاب و حبس أنفْسهن في هذا المربّع.

بشير خير: ساعة الصلاة كلّ الذين كانوا يقفون جانبا في الساحة المّجاورة لشاطى البحر لتدخين سيجارة أو للاستفادة من الفاصل او التقاط الصوّر. قال لي قادر الْمعلّم القديم: «إسلامنا إسلام وسيط ‏ بين ماذا وماذا؟ بين الكفر والتزمّت» بين اللاأخلاق الخاصة بالمجتمعات التي لا تؤمن بالله وجنون أولئك الذين يضعونه في مركز كل شيء؟ إسلامنا إسلام طبيعي يضعنا في مأمن من جنون العالم إن شاء الله".

ثُمَ إن شيئاً يصدمني عند الليبيين جميعاً: غرابة الأجساد. لا أقول الألبسة (أطقم الخمسينيات التي تحسبّها خارجةً من النفتالين ولباس موحد يُشبه رسوم الأطفال؟؛ وألبسة تقليدية لم تعّد موجودة إلا في مدن أخرى من العالم العربي). أقول الأجساد حقاً.

القامات التي تحمل الألبسة فتبدو هي الأخرى كأنها تحمل حركات عصر آخر. خشونة خفيفة في الخطو. طريقة لبقة بغرابة في السلام بهز الرأس. غياب الازدحام على الرغم من جوٌ الثورة والعيد. شيء ما لا أعرفه من التحفظ. من البطء يفقد فجأة أية علاقة مع الأساليب الُموحدة العالميّة في إحياء العيد بنفس الطريقة بين أقصى أطراف المعمورة؛ مما يُشعرني فجأة بأنني أرى فيل بالأبيض والأسود أو الصّوّر البنيّة في مُجمع صُوّر بني  ساف التي كانت أمي تحتفظ بها والتي فقدتها بعد موتها. في هذا الجانب رجال ونساء وأجساد خارجة من البرد القارص رأيتها أيضاً بعد سقوط جدار برلين عند الناجين من الجمود الشيوعي الذين قال في لانزمان عنهم ذات يوم إن هذا بالتحديد ما أذهله خلال إقامته في كوريا الشمالية منذ أكثر من خمسين عاماً.

ألا ألمس هنا لمس اليد ما مثل في نهاية النهايات؛ جريمة القذّافي في الحبس والعزل والحجر وفي العمق محاولة الإعدام الروحي لأحفاد مملكة سيرين؟ ويا ليت لديّ بداية إجابة على سؤالي ذلك اليوم في باريس "عن التفاؤل والتشاؤم" وعما إذا كان يجب معالجة هذه الثورات العربية بالخشية أم بالرجاء» الخ؟ هذا هو السؤال الذي أَسيء طَرْحّه. لأنّ الحقيقة، لكن كان يتبغي أن نكون هنا على الكورنيش في قلب فورانه المزدحم للبدء بلمسها لمس اليد هي أنْ ليبيا ماتت وهي قيد الانبعاث. لم تكن فقط مظلومة ومسحوقة ومنهوبة ودامية. لم تكن خاضعة لديكتاتور مُتعطّش للسلطة؛ وللابتزاز والدم. بل كانت ميتة مِيتةٌ دماغية. فقد نجح هذا الديكتاتور ككل ديكتاتور في العالم في إنهاك عناصر الحياة في ليبيا.

وهذا ما يشرح تعاطّف الغرب مع ما كان يبدو أنه حتمية الموت العربي وصمت النخب العربية التي كانت تفكر أنّ ليس أمامها إلا الصمت الجامد للموت. باستثناء أن معجزة تحدث, والموت ينتفض ويتحرّك ويمشي.

كان السرياليون يسألون: هل سبق أن صفعتٌ ميتاً؟ وسوف يسأل مؤرّخو القرن الحادي والعشرين: هل سبق أن رأيتٌ ميا يُبِعَث حيّا؟ وسوف تُجيبون: نعم رأيناه مرّة فقد كانت مرّة شعوب ميتة، ليست نائمة، وميتة موتاً روحياً بقدر ما هو سريريٌ وسياسيّ ‏ وأن مُعجزة حدثت؛ حيث قال ملاك التاريخ لهذه الشعوب: اغضبي وسيري. وسارت؟ حينئذ إلى أين سوف يذهبون؟ في أي اتجاه سيكون المسير؟ هل سيسيرون بسهولة أم نصف نائمين؟ في ضوء الفانوس أم في النور الوضًاء؟ وإذا كانوا عائدين إلى الموت بعد أن خرجوا منه توًاً؟ يكفي أصلاً المسير. يكفي ألا تكون هذه الشعوب بعد أولئك الأموات.

الخميس 3 آذار/مارس (حين يعود شيطان الفعل)

تعرّفنا على إنسان رائع. إِنّه صديقنا الوحيد في بنغازي. اسمه محمد عبد الملك. لكن بسبب هيئته المتقلّبة المندهشة على الدوام قررنا أن نسمّيه دوّار الشمس. عمره ستون عاما لكن يبدو في السبعين. نحيف. وجهه شديد التحول. جلده مليئ بالتجاعيد لكنه ناعم شفًاف يُشبه ورق الحرير المجمّد. يرتدي معطفاً رمادياً قصيراً جدا وضيّقاً يُعطيه مظهر المشنوق والمكبل. ربطة عنقه الأنيقة تبقى في مكانها مطويّةٌ بشكل مُزيّف حتى عندما يمشي بسرعة أو عندما نركض كما فعلنا قبل قليل. نظرته خامدة تنبعث منها لمعات الخبث والمكر. ففي حياة دليلنا السابقة في واحد من معابره إلى الجنون وقبل أن يُمنَّع من التعليم كان أستاذ لغة فرنسية فاحتفظ من تلك الفترة بفضول كل ما هو فرنسى بإتقان جيد للفرنسية؛ وبمعنى تغيّر نبرة الصوت وبنبرة فرنسية كاملة تقريبآ مع معرفة تامة بأدبنا تتوقف عند سارتر وكامو وايتيامبل.

يقضي أيامه في فندق تيبستي الذي يُشكل مع فندق أوزو مقرّ الصحفيين. تُجَرجِر فيه هيكلة المُفكّك وحزنه وفي فمه سيجارة نصف مُطفأة ومُوفّرة بهذه الطريقة. كدت أجرح شعوره بأن أقترح عليه مالا مُقابل المساعدة ألتي يُمكِن أن يقدمها لنا. قال لي: لست مستقراً.

أنا أستاذ لغة فرنسية. أستاذ متنقّل حقاً. أنا خوري من دون كنيسة اللّغة التي أحببتها أكثر من أي شيء آخر. لكني خوري على أية حال. وإذا رأيتموني هنا في هذا الفندق فذلك بدافع أملي في أن أسمع الحديث بهذه اللغة الفاتنة التي لم يكن عندي من مصدر للحلّم إلا من خلالها كالصّمٌ والعميان.

لم يتركنا دوار الشمس طيلة اليوم. قادنا إلى ثكنة فضيل بن عمر العسكرية الواقعة على مخرج المدينة حيث كان الجيش يُطلِق الرصاص عل المتظاهرين العَزّل. وأرانا قرب مدخل الثكنة بقايا السيارة الْمفحّمة المشهورة التي كانت مليئة بأسطوانات الغاز التي فجر بها مهدي زيو أب العائلة ذو 49 عاماً أبواب الثكنة في 20 شباط/ فبراير. وقادنا أيضاً إلى قصر القذافي الأقلّ فخامة من قصر البيضاء ومع ذلك قال لنا وهو يضحك ألا ترون هذا غريباً.

عندكم في أوروبا يصدمكم بالخيمة والناقة وهنا في ليبيا يعيش كغيره من الطّغاة الرفاهيّة والمال وقلّة الذوق!». ولما قال له جيل: لسنا هنا كي نملا الأمكنة بالذاكرة

قادنا إلى المحكمة العليا لأن الكورنيش في الداخل هذه المَرّة وصل بنا إلى دخول قاعات المحاكمة التي صارت مكاتب للجان المشكلة منذ عدّة أيام لضان المعاملات الإدارية في المديئة.

هنا ينشغلون بالطرقات.وهنا بتجهيز المدارس.وهناك بغذاء المدينة وثمة أيضاً امرأة أنيقة جميلة اسمها سلوى بقصيص تتكلم الإنكليزية بإتقان وتشرح لنا أنها ترأست لجنة وهذا لا يُتخيّل في عهد القذّافي وأنها تهتم بالنساء وحقوقهنٌ. وأختها إيمان التي كانت مثلها من أوائل المتظاهرات ضدٌ النظام طبيبة أسنان ويبدو أنها متحدّثة باسم هذه المنطقة الليبية.

كذلك هناك اللجنة المكلّفة بإدارة المعلومات التي تصل متفرّقة من كلّ مكان عن الأموات والمفقودين؛ والعساكر المحروقين أحياء لأنهم رفضوا إطلاق النار على المتظاهرين والمقابر الجماعية التي بدؤوا باكتشافها في ضواحي المدّن المحرّرة.

أتذكّر هذه القضية المشهورة للإدارة الذاتية التي أظهرت اهتمامي بها سنة 1972 لحظة لقائي بفرانسوا ميتران لأنه كان يتعيّن علّي أن أتصنّع بأنني متخصّص لكي أدخل في حلقة هذه الإدارة. لم أكن أصدّق ذلك تماماً. كنت أكثر ماركسية من أن أؤمن بهذه المؤسسات الذاتية في المجتمع. لمس هذا في نقاشي الأوّل مع شوفينان الذي كان مبدئياً في قلب مجموعة الخبراء الكّلفة رسمياً بالملف الذي حطّمتّه باحتقاري الألتوسري هذا المصطلح البائس غير موجود في النظرية الماركسية. لكنْ هنا فجأة أمام هذا الغليان الديمقراطي الأهلي أمام لجان المستخدمين هذه التي تتولّى بنفسها شؤونها الخاصّة وتحل محل دولة إجرامية وضعيفة أفاجئ نفسي بأني اعتقدت بهذا قليلاً. فهل تكون ليبيا المضادة للقذَّافي في تلعثمها الأوّل أرضاً للديمقراطية؟ الثورة العربية عموماً وهذه الثورة العربية تحديدا مسرح واحد من مظاهر هذا الغلّيان الذي تكوّن مبادرته وابتداعه شرف الشعوب الثائرة؟ التشاؤم القابع في ذاتي وتأثير توكفيل ولاكان ذاك الذي يعرف كما كان يقول ماوتسي تونغ أن بعد الفوضى على الأرض يأتي النظام وأن الثوريين مع جهلهم لكونهم هستيريين بامتياز يبحثون دوماً عن مُعَلّم بإمكانهم أن يُسيطروا عليه؛ هذا التشاؤم يتبرم من فرط الاعتقاد بذلك. لكنّْ ما أمر المتأخر عن التقدّمية؟ والألم الذي شفِيَ من الأوهام اليسارية؟ ومرض الأمل العُضال؟ ومن جانب آخر أسائل نفسي عما يفكر فيه هؤلاء الناس وهم يروننا هكذا مُقيمين في مكاتبهم نخرج وندخل من دون استئذان تُقاطعهم: وننصحهم ونبدي رأينا في كل شي ونذكر البوسنة ودارفور واسم بيغوفيتش السابق والشيخ مجيب الرحمن أول رئيس لبنغلادش الذي ينفصل عن باكستان الغربية مثلما قد تنفصل إذا كان هذا هو الحل الأخير برقة عن ولاية طرابلس. قد لا يقبلون هذا من صحفيين في ما يبدو لي. ولا من أعضاء الجمعيات الإنسانية. ولا من الموظفين الدوليّين. وبالمقابل لم نكن تلتقي في هذا الجزء من المبنى حيث توجد مكاتب هذه الإدارة المؤقتة بأيٌّ من هؤلاء. وهل سيكون في هذا أدنى شك كنتٌ أنا نفسي سأزيله بالقول في لحظة معينة: لسنا أيَاً من هؤلاء جميعاً وتأكٌدوا على الأخصٌ أننا لسنا صحفيين سنكتب هذا المساء أو غداً أو حتى بعد غدٍ من هم الشهود وبهذه المناسبة ‏ ورأيت بصيص قلق يلوح في النظرة الجميلة لطبيبة الأسنان ‏ إنها قصة شبكة اتصالات من العاجل أن تُفصّل عن شبكة طرابلس التي تُراقب كل شيئ.

ماذا إذن؟ ماذا يُمكن أن يظنوا بنا وبما نفعل هنا؟ أنا شخصيا لا أعرف. أشعر فقط أنني منذ هذا الصباح فريسة فعل يأكلني لكنّه غامض غير متُشكل؛ وليس له موضوع حقيقي. أشعر من خلال هذه الأحاديث الأولى أن الموقف بعيد عن أن يكون مطواعاً بقدر ما كنت أتصوّر حين كنت في طبرق؛ فالقذّافي يمكن أن يقوم بهجوم مُضاد ويسبّبٍ حماماً من الدم وأنا أترصّد إذن زاوية أو فكرةٌ أو مُبادرة أو شخصاً قد يُساعدني لأساعد لكن بصراحة؛ لم أعد أعرف شيئا ولم تعُد عندي فكرة مُحدّدة. وخصوصاً هم! فاسمي لا يعني لهم شيئاً.. الكتاب لم يفهموا شيئاً في الحقيقة والفلاسفة هذا أعقد أيضا ولا يظهر أنهم فهموا. فهل هذه القصة الأزليّة لشخص موجود هنا لأنّه موجود هنا؟ الشيء المتعلّق بالأوهام الكبيرة الذي نكتشفه ذات يوم وهو أنهم نجحوا في أن ينحشروا من دون أن يطلب منهم أحد ماذا وكيف, في الصورة مع البابا ورونالد ريغن» وملكة انجلتراء ومجموعة الثمانية؟

يقول دوار الشمس الذي يسمع حديثنا منذ وقتٍ دون أن يقول شيئاً «لا» أنتم لستم فيها. يقول ضاحكاً: ثمة شرح آخر لترككم تدخلون كل مكان... هو لباسكم... لباسكم بالتحديد... فلا أحد هنا يرتدي مثل هذا اللباس حتى الصحفيون لا يلبسونه.... وشدّد على كلمة sape مُنفصلة كأنه يقصد القول إِنَّه يعرف أنها كلمة خاصة؛ دارجة قليلا لا عاديّة. تذوّق الكلمة. وتمتّع بهاء استمتاعه قبل قليل بلفظ كلمة fric (مال)» وبلفظ كلمة أرتيشو (أرضي شوكي»)» وتعبير bayer aux corneilles (ظلُّ فاغراً فمّه) ‏ إِنّهِ التلدّذ باللغة الفرنسية... رُبما كان على حقٌ في النهاية. ورٌبّما كان السبب الذي ذكره صحيحاً. السبب الذي قد يستحقٌ أن أَثبت على عجّل نقطة من عقيدة: رفضي أن أَغيّر طريقتي في الوجوده وفي الانتباه لنفسي وبالتالي وعلى الأخصٌ في لباسي بحجّة أنني في مُهمّة إعداد تقرير.

كم مرّة قرأت أو سمعت القول: "لا"‏ لكن ما هذه الطريقة في لباس الأطقم في بلاد تخوض حرباً؟ وقمصان ناصعة؟ إضافةً إلى أنَّ لونها أبيض؟ أجل! الاحترام الأساسي.

وتقدير الآخر أو أكثر دقّة تقدير عالمّه الذي أمتنع عن عدّه عالَما آخر. وأقلّ من ذلك عن عدّه مسرحاً يجب ارتداء طقم رسمي لدخوله. لا سترة بلا أكمام مُتعدّدة الجيوب. ولا سروال عمّل. ولا سترة مشدودة على طريقة محارب قديم. فوجودي هنا في بنغازي كوجودي في باريس. أعرف أن هذا يُمكِن أن يستحضر جان كوكتو 1914 )لباس موحّد ماركة بواريه للذهاب إلى خنادق الجبهة). أو يستحضر مالابارت على الجبهة الشرقية (أحذية عسكريّة ممتازة مُلمّعة بشكل ممتاز في أسوأ الأمكنة خلاءً). أعرف أئّهم قد يقصدون هذا إذا ما تجرّأت على قوله أمام الناس كاعتراف هذا المتأنق الذي لامني على هذا منذ ثلاثين عاماً "ادغار موران" منذ عام 1977 في النوفيل اويسرفاتور: "برنار هنري ليفي الذي يشتري لباسه من محلات اليأس" لكن ماذا في وُسعي أن أفعل حين يقصدونني بقول الآخر؟ وإذا فهم كوكتو أو مؤْلّف الميؤوس منه حين أفكر بالفيلسوف ليفيناس؟

قد يكون قول دوّار الشمس صحيحاً. رُبّما كان هذا فعلاً الذي يُثِير فضولهم ويُعطينا امتيازا أن نُقَبل من دون أن نطلب ذلك؛ في قُدس الأقداس هذا. أوَليس هذا من جهة أخرى ما انتهى كمال إلى قوله لنا في سراييفو حين وافق بعد إقامة مُتكرّرة أن يشرح لنا أثناء ذلك الصباح المشهور حيث دخلنا بالمصادفة فقط لنهرب من التفجيرات كنا في بناية الرئاسة وبعد أن عرفنا أين نحن وقدّرنا حظنا طلبنا مُقابلة الرئيس وهذه في الحقيقة هيئة جيل فسترته القديمة لكنْ الأنيقة وربطة عنقه؛ أقنعتاه ذلك اليوم؛ بفعل ما لم يكن ليفعله؛ من أجل أي أحد آخر: قيادتنا حتى الدير الذي كان يختبئ فيه الرئيس بيغوفيتش حيث أسرٌ لنا بالرسالة العاجلة المشهورة الموجّهة إلى فرانسوا ميتران والتي كانت برغبة ميتران السبب المباشر في سفره المفاجئ إلى العاصمة البوسنية الُحاضّرة؟ لكن حسناً. الواقع أنني هنا. بلباسي هذا أم من دونه، الواقع هو أنني كما في البوسنة وفي دارفور وكما في كلّ مكان أستغل الموقف لأطلب مُقابلة "المسؤولين عن الثورة" لا أعرف شيئاً عنهم. ولا أكاد أعرف أسماءهم. فقد عدَّدتها لي سارا دانييل بنت جان في فندق تيبستي؛ خلال الحديث وتظاهرت بأنني أعرف هذا كلّه مع أنني لم أكن أعرف أي شيء. فقد بلغ مني التعب وازدحام الأسماء الجديدة في ذهني حدّ عدم الوصول إلى حفظها، والحاجة إلى كتابتها في باطن يدي، كي أتمكن من النظر إليها كل مرّة بسرعة قبل أن أقول اسم المسؤول الذي نطلب رؤيته: «نحن هنا للقاء السيد مصطفى عبد الجليل...» أو: هل تعرفون أين يُمكن أن أجد السيد عبد الحفيظ غوقة: الناطق الرسمي باسم السلطة الانتقالية والذي يتحدّث إلى الصحفيين. ؟. هذا يعني أن الأمر يسير على ما يُرام. فأشعر مع مرور الساعات أنَّ الفضول يتحوّل عند بعض من أخاطبهم، إلى فائدة غائمة والفائدة الغائمة إلى مشروع حساب . لا أعرف أي مشروع لكن أعرف أن هناك حسابا ولأن هؤلاء الناس ينتهون بالقول: «لا نعرف أبداً...هؤلاء الرجال غريبو الأطوار...لكنهم بسبب غرابتهم يُمكِن أن يكونوا مُفيدين...ولم لا وفي هذه الحال نقودهم إلى فلان أو علآن ومن خلالهم تُمرّر هذه الرسالة أو تلك أَحِسٌ بذلك. وأنا مُقتنِع به والحق أنني أصل إلى نهاية اليوم؛ إلى لقاء غوقة وهو محام وهيكل مُنطلق عيناه سوداوان شديدتا اللمعان، أنف دقيق، وجه ناتئ العظام؛ وكتلة من شعرٍ أسود تبدو أثقل من أن يحملها رأس. لكنها تمنحه المهابة وأنهم يعدونني غداً ورُبها بعد غد بلقاء عبد الجليل "الشخصية الأكثر أهمية كما يبدو؛ فهو القائد السري للثورة" قائد جوقتها الْمتخفي؛ لا تقولوا لي إنه ليس في بنغازي؛ بل في البيضاء مدينة ملوك ليبيا هناك حيث يدير الثورة عن بُعد؟ قيل لي إنني سوف أراه وأكّدوا لي رسمياً أنني لن أبرح المحكمة العليا قبل أن أراه..

الوقت متأخر. والطقس حارٌ. ينتظرني محام عند جماعة الفندق ليُحدّثني عن عمليات القتل التي ارتكبت سنة 1996, في سجن أبو سليم في طرابلس (1200 موقوف أعدموا بالرصاص خلال عدة ساعات ‏ ولم تسلم جثثهم أبداً إلى عائلاهم. ثمٌ يأتي ناشط في حقوق الإنسان أرسله غوقة ليُسِلّمني ملف مقتل ضيف الغزال قائلاً هو صحفي مثلك، قتل قبل ست سئوات. في أقبية المحكمة العليا . سوف تعودون إليها أليس كذلك؟ قطعوا أصابعه قائلين له إِنْ هذا سوف يُعلّمه الكتابة ثم قتلوه قبل أن يُقطّعوا جُثته. ولماذا هذا كلّه؟ لأنّه كان قد نشر مقالاً ضدّ فساد رجال القذّافي. صعدتٌ إلى غرفتي في الفندق محاولاً النوم قليلاً. لكنّ صرخات كثيرة كانت تتخبّط في رأسي. صورٌ كثيرة جداً. كثير من الأجساد الموعودة بالموت عصبت منها الأعين بالأسود. والأرض التي تنسحب تحت القدمين أو كما في سجن أبو سليم تحت القذيفة. وكثير من الأسئلة أيضاً. بدءاً بسؤال يقلِب من الآن وصاعداً كل الأسئلة الخادعة التي يُثيرها الجنس الصحفي: «من هم هؤلاء الناس؟ ماذا يفعلون هنا؟». هذا السؤال هو: ما العمل أمام هذه الجرائم وأمام مّن ُترتكب بحقّهم؟ هل أستطيع الاكتفاء بالتقرير التقليدي؛ مع الأشياء المرئية؛ وصنع المسافة وإجراء المقابلات وبعض التدوين؟ أليست هي لحظة محاولة استخدام القوّة بأسلوب اللواء مسعود في باريس أو أسلوب بيغوفيتش الذي هُرّبٍ من سراييفو؟ لا أعرف. لم أعد أعرف. انتهيت بالنوم وأنا أرى بأمّ عيني يدي دوّار الشمس ترتعشان وهو يُشعل سيجارته واسمّي عبد الجليل وغوقة مُركبانٍ في صُوَّرٍ مُعقدة.

الجمعة 4 آذار/مارس (على الجبهة)

قال لنا دوّار الشمس إن الرجل مُرابط في البيضاء. وكي لا نخسر الوقت قرّرنا الذهاب باتجاه الجبهة.

الانطلاق في السابعة صباحاً. استأجرنا سيارتين. ركبت وجيل في الأولى وروسل وفرانك في الثانية. أين الاتّجاه بالضبط؟ كان. في الفندق أمس ساعة العشاء بين جماعة الصحفيين روايات مختلفة بقدر الجالسين على الطاولة. في نظر بعضهم وصل الثوّار إلى بن جواد: بعيداً وراء نهاية خط نقل نفط راس لانوف؛ على مسافة 100 كم من سرت. وفي رأي بعضهم الآخر لابْدَ أنهم في ما بعد ابن جواد يتقدّمون باتجاه طرابلس. وفي رأي آخرين أيضا القوّات المواليّة للقذَّافي هي صاحبة الحظوة ‏ وقد تكون قد أعادت احتلال بن جواد وراء رأس لانوف وهم في طريقهم إلى بنغازي. والحقٌ أنّ لا أحد يعرف شيئاً عن هذا. ويُمكن أن يكون الموقف نفسه غير قابل للإدراك لأنّه يتغيّر من ساعةٍ إلى ساعة. يبدو أن الحل الوحيد هو أن نذهب ونرى بأنفسنا.

اجدابيا أولاً.. المدينة الممتدّة في قلب الصحراء؛ على مسافة ساعتين من بنغازي حيث نجد عشرات من المتطوّعين الذين لم يكونوا قبل الأيام الأخيرة قد أمسكوا سلاحاً بأيديهم والذين يُراقبون المناطق السكنية. نقطة عبور على الباب الشرقي. وأخرى على الباب الغربي.

وحوالى عشر سيّارات بك آب على الساحة المركزية بعضها مُرْوّدٍ بمنصّات صواريخ مُضَادَة للطيّارات تبدو مُتحرّكة باتجاه الغرب. شرح لنا المحافظ أن مؤيّدي القذّاني أفرغوا المدينة بسهولة. تركوا وراءهم بعض الدبّابات. وتركوا أيضاًء على مستوى الباب الغربي في سقيفة مخازن أسلحة مصنوعة في روسيا وإيران وللأسف في فرنسا تلذّذ بإظهار كم تؤكّد في نظره طبيعة النظام الإجرامية. سألْنا الرائد الشاب الذي أبقاه المحافظ كي يسمح لنا بدخول المستودع: لمن في رأيكم: أَرسِلتُ هذه الأسلحة؟. فَكرّر قائلاً «لمن» باصِقاً على صندوق مستطيل نصف مفتوح عليه وسمة «كارتريج» حيث ميّزتُ صواريخ من عيار ثقيل.

ألا يعني تخزينها هنا أن الطاغيّة أعلن الحرب على شعبه منذ تاريخ بعيد؟ أليست هذه بديهة؟ وإثبات لذلك. بقي أمامنا ساعتان من السفر. وصلنا إلى البريقة شبه مدينة لكنّها نهاية خط نقل نفط حقيقي أهميته الإستراتيجية كما أظنّ كبيرة: وهناك لابْد أن المعركة إذا رأينا عدد الطلقات على الواجهة والفوهتين اللتين حفرتها القنابل في مدخل المدينة كانت أكثر جديّة. لكن ليس هناك ولا هنا توتر حقيقي. فقط غارة جويّة مع بداية الصباح؛ لم توقع ضحايا. وثمّة حركة سيارات البك آب التي رأى بعضّهم أنها واصلة من الجبهة بينما هي في رأي الأغلبية كما في اجدابيا ذاهبة إلى الجبهة. إئها غاصّة بالرجال» بعضهم مُتعلّق بالأبواب؛ أو واقف على غطاء المحرّك أو على سطح السيارة وجوانبها. كلهم مدنيون تقريبا ومع كل منهم قطعة من لباس موحد وكأنهم يُريدون إثبات انتمائهم إلى جيش التحرير وهم في دورة التدريب وأحياناً كان معهم فقط عَمرة وسترة. أمام جامعة البترول سألّنا صبيّين يلبس كل منهما سترة مموهة؛ شعرهما مُلمّع يضعان قلنسوة مطوية من الخلف؛ وكانا يصنعان بأصابعهما إشارة النصر ويمشيان بخطوات غريبة مُتثاقلة قليلاً القدمان أفقيان والجسد في الخلف: أين الجبهة؟. إلى أين وصل ثوّاركم؟ هل ما تزال الجبهة بعيدة؟ ‏ يجِيب الأكبر سنا بينهما الأشقر بلحيته الصهباء اسمه عبد الرحمن ويعرف بعض الكليات الإنكليزية ‏ تماماً! يا للمُصادفة الحسّنة! نحن ذاهبان إلى الجبهة! وهاهما يثبان إلى سيارتنا: جلس أحدهما في المقعد الأمامي والآخر على المقعد الخلفي العريض ووضعا بندقيتي الكلاشنكوف بين ساقيهما وحاولا أن يشرحا لنا الموقف بإنكليزية فوضوية، قال الأول الذي كان قبل الحرب طالباً في كلية الطبّ لكنّه بسترته وكوفيّته الملفوفة حول عنقه بمربعاتها السوداء والبيضاء وخنجره المعلق بحزام على فخذه وخدّه الأحمر كان يلفظ المسبّة الُمقِذِعة كمُحارب. فردّد الآخر مهزّئاً القذافي مخنث ولوطي، وشارحاً لي بجدية أكثر مع حركات عنيفة أنهما أخذا حذاءيهما من جُثْتي جنديين من جنوده وهما ضيّقان جداً يجعلان المشي شاقاً عليها وأنهما سعيدان جداً بلقائنا!

"... كل رجال القذَّافي! يا للجنود الأشرار! المرتزقة". وينطلق من هنا في حكاية طويلة ومُبهّمة فهمت منها أن جيش النظام احتجز جماعة من الشباب لحظة التقائنا بهم أمام جامعة البترول واستخدمهم دروعاً بشرية وأجبرهم عند انتقاض القوى الثورية على أن يكونوا في الخط الأول لكنّ نداء الحرية كان الأقوى: وعندما وصل الشباب إلى نقطة الاحتكاك بالثوار. هرعوا للقائهم وألقوا أسلحتهم وتآخوا معهم. وفي النهاية حين حاولت سؤالهما عن التجربة العسكرية التي يمتلكانها وعًما إذا كانا خاضا المعارك وإذا خافا مما واجهاه أجاباني مع هذا التبجّح الصّبياني بأنهما يِحلمّان أن يخوضا المعارك؛ لكنّ الفرصة لم تتح لهما بعد: «نحن نخاف؟ أبداً! هم الذين يخافون! هم الذين يفعلونها في جُبّتهم!» طالب الطب هو الذي يتكلّم ينهض قليلاً من مكانه ويهز سرواله. نحن؛ عندما يتصبب عرقنا...؟ وخفض يده هذه المرة إلى صدره وهو يدور في اتجاهي حتى صار في مستوى وجهي كانه يُرِيد أن يعصره. "نحن نعرّق عرّق البشر وهم عرقهّم من دم ولسنا في حاجة إلى رؤيتهم لكي نعرف هذا".

على مشارف راس لانوف وبعد ساعة ونصف من السفر الممتع بصحبة صديقينا الجديدين بدأنا نشعر باضطراب جديد في الهيئة والنظرات ‏ وهذه خاصية لا أعرف ماهيّتها سماها "جان هتسفيلد" بخصوص البوسنة «هيئة الحرب» التي تُشير دون تأخير إلى خطوط الجبهة. للثوار في سيارات البك ‏ آب هيئة مُغتبطة. في مكانٍ خسفت في الطريق حيث يجبر الجميع على  تخفيف السرعة؛ يصرخون بفتى تقريباً طفل يستغل الزحام ليتسلّق على غطاء المحرّك ويتعلّق بحامل الأمتعة. كذلك يتوقفون لتبادل بعض الكلمات مع صديق يمشي في الطريق؛ ومعانقته والاستعلام منه عن خبر؛ وإعلامه بخبر أو الضحِك على فلاح ينقل بهدوء سلال فواكه على جرّار بدواليب عالية جداً يبدو حتى هنا كأنه خارج من القرون الوسطى. غير أني تسلَّيتُ حيئئذٍ بملاحظة الشفاه التي شققها الهواء والفهم الصامت للنظرات كما الهيئة الحازمة الجريئة التي لم تكن موجودة لا في اجدابيا ولا في البريقة. نقاط العبور أكثر هنا. تُرى على جانب الطريق دبابة مُدمّرة. وعلى مسافة 20 كم من المدينة؛ ورب

15 كم نصطدم بنقطة عبور أخيرة يقوم عليها للمرّة الأولى رجال بنصف لباس موحد. أي بسترة وقبّعة مموّهِتينْ وبأسلحة أثقل قليلاً حيث أجبرونا على الوقوف فترة طويلة.

قال لي رجل يتكلم الإنكليزية ذو سلطة عالية: "لم‏ يعد أحد يمرٌ". له هيئة جندي نظامي؛ وقد يكون ضابطاً. ليس لأنّ هيئته كذلك فقط بل لأنه؛ فيما عدا قبّعة لاعب السلّة يرتدي لباساً موحّداً كاملاً. يُضاف إلى ذلك أنْ نيشاين مُعلَقّين على صدره؛ يجعلان منه ضابطاً في أعلى الرُتّب.

كرّر قائلاً لنا وحدَّد لنا أن نبتعد عدّة أمتار في الرمل وأمامه غاز يُسخَّن عليه الشاي: «توقفوا هناك»؛ عبر طاقم من المراسلين الصحفيين قبل قليل وسيكون الأخير. أن العدو يقوم بهجوم مُضادة. بقينا نصف ساعة نشرب الشاي الأسود. محل جداً؛ صبّوه لنا في كؤوس بلاستيكية ونراقب سيارات البك ‏ آب المتوقفة مثلنا ومعنا. كان هناك بعض المدنيين. وكان هناك المقاتلون على الأخصٌ. من الشباب دائماً. لا يرتدون لباساً عسكرياً. ومعهم قليل من الأسلحة. في أحسن الأحوال آك47: وقاذفات قنابل. سكاكين بسيطة أو سواطير للأقل حظأً. أحياناً حاملة خراطيش أو حاملات مُسدّسات فارغة. وثمّة بعض صواريخ 14.5 المُضادة للطيّارات نصف مطمورة في ردم التراب على جانب الطريق لا تُلْمَح فورا ويتجمّع حولها الرجال كأنهم يريدون أن يرتاحوا. ثمة أيضاً إطلاق رصاص في الهواء غير أنه يعد تعبيراً عن الفرّح. ولم تعد صيحات ‎«الله أكبر» المرافقة لها تُشبه الطريقة التي طمأنتّنا خلال الليل ونحن نسمعها صافية بصوت المؤذّن. تصل شاحنة من البريقة؛ َتعج بالرجال ولا تتوقف. وتصل شاحنة أخرى من الاتجاه المعاكس تقل رجالا يبدو عليهم الإنهاك. كما تصل سيارة إسعاف صفيرها الُمدوّي وتُفرغ ‏ -وليس عندي كلمة أخرى- ‏ جسد رجُلٍ هامد ثيابه مبلّلة بالدم. تصل شاحنة صغيرة وتأخذه بينما تذهب سيارة الإسعاف في الاتجاه الآخر.  فوقنا انفجار بعيد. ثم انفجار آخر أكثر قُرباً. إلى حدّ أن الشجرة الوحيدة إلى جانبنا بدت تُطقطق. يصرخ أحد الشابين الذي لا يتكلم الإنجليزية «صاروخ!» ويستأنف آخر بإنكليزية نبرتها أمريكية مُشْدّدة «صاروخ!». لكنّ في صوتيهما خوف بقدر ما فيه جرأة. وفي طريقتهما في تحرّي الأفق وكأنهما سوف يعرفان مصدر الإطلاق اضطراب بريء يحسم أمره مع العنتريّات التي أبدياها قبل قليل. كل شيء يتجمّد حولنا. يغدو صامتاً خلال بضعة ثوانٍ. ثمّ يشرع الجميع في الصّراخ: «صواريخ» أيضاً أو «غراد»» أو يلفظون كلماتٍ بالعربية لا أحد يُترجمها لنا. ثم نتحرّك فورأ من دون أن يطرأ أي عنصر جديد» ومن دون أن يقول ضابط نقطة العبور شيئا لكننا تتحرّك بفوضى: بعض سيارات البك آب تعبر الحاجز مُزِمّرةٌ وهي تنطلق باتجاه الجبهة ومؤخراتها مزدحمة بالمُحاربين؛ بين أبوابها مفتوحة كي تسمح لأكبر عدد من الشباب الواقفين أن يُمسكوا بها ويتحايل آخرون للعودة وحين لا يتوصّلون إلى ذلك يتركون الطريق ويقطعونها من الجوانب؛ فتتكوّن جوقة من المزامير والتعرّجٍ بين الصواريخ المضادة للطيّارات. والقنابل غير الْمَنفجّرة وتتوقف سيارة فجأة لأنها تغور في الرمل فتعكف مجموعة من الشباب على جرّها وبعد تبادُل المساعدة في ما بينهم يتعلّقون بالأبواب ليهربوا

في الصحراء وتسير مجموعة مُقاتلين على الأقدام تاركة الطريق للتوجّه صوب الكثبان التي يبدو أن إطلاق النار يأتي منها. أما نحن فحاولنا السير في أول دفق من سيّارات البك ‏ آب ذاك الذي يتقدّم باتجاه راس لانوف. لكنّ الضابط أوقفنا وتجادل مع السائق, ثم مع الشابين اللذين لم يقولا شيئا بل نزلا من السيارة وركضا باتجاه سيارة أخرى كانت تعبر. حدث ذلك كلّه بسرعة فائقة. صرخ بنا الضابط: «أمن» كما لو أنه يوبّخنا. شعرتٌ بعدم إمكان أي نقاش معه. فاتبعنا حركة الرجوع.

على طريق العودة توقفنا أمام حاجز لم يكن موجوداً عند ذهابنا حيث يُفتّش السيارات رجال آخرون باللباس العسكري. يصعد شاب ذو نفوذ في سيارتنا. ويصعد آخر على واقيتها الخلفية. أرى جسد رجل على الجانب نائماً على الأرض دامي اللُعاب. يصرخ. تتوقف شاحنة صغيرة. تنزل منها مجموعة شباب وتهرع صوبه لحمله. وبعد 2 كم حيث وقفنا على نقطة عبور أخرى. رأينا جسداً آخر رأسه في رامة من الدم المتَخثر وقد اسود الرمل حولّه ورف من الذباب فوقه ‏ لا أحد يلفت إلى هذا الجسد أظنّ أنه ميت على كل حال هذا ما يُفهمه الراكب معنا للسائق وهو يربت عل كتفه كى لا يُخْفف السرعة صارخا "غراد، غراد".

هذا الشعور الذي يلازمني دوماً أمام موتى الحرب: الحد الدقيق الفاصل بين حالتهم السابقة وحالتهم الآن؛ رؤية دمهم التي تمنحهم فيضاً من الحيوية؛ والثقة القليلة التي نشعر بالقدرة على منحها بالتالي لحياة الأجساد من حولنا،‏ وفكرة عدم مُناسّبة هذه اللحظة لأتوقف عند هذه الأفكار أكثر من ذلك.

يتواصل