موعد هام مع كلينتون
قمت بما قرّرتّه.اتصلت لا على التعيين بالهواتف المحمولة لأعضاء الوفد الليبي الثلاثة حتى أجاب واحدٌّ منهم هو محمود جبريل.
بعد تأكدي من أنْ جبريل يستطيع أن يكون في باريس اليوم؛ يوم الاثنين من دون مصاعب كثيرة اتصلتُ مع صديقٍ قطري بمكتب هيلاري كليتتون للحصول له على موعد في الخامسة مساء في فندق وستون تماما قبل لقائها بنيكولا ساركوزي والعشاء الرسمي لمجموعة الثماني في قصر الإليزيه.
باستثناء أن لاشيء سار كما كان مخطَطا كان هذا من أوّله إلى آخره.يوماً من الغبّن.أولأ وصلت طيّارة جبريل التي استأجرها القطريون في الموعد الْمحدّد الساعة الثانية والنصف بعد الظهر قادمةٌ من الدوحة مما يوفْر له الوقت الضروري قبل الموعد المُحدّد مع كلينتون في الخامسة للمجيء إلى باريس والمرور إلى فندق رافاييل حيث حجزت له غرفة وحضرت له اللقاء مع هيلاري فقط، لم يفكر أحدٌ أبداً بإعلام أحد أيّاَ كان بالوصول الوشيك لممثّل المجلس الوطني الانتقالي المعترف به حديثاً. فاضطرب رجال شرطة مطار بورجيه حين رأوا جواز سفره. وانكبّوا على الاتصال الهاتفي مع كل الجهات يُتابعون القضيّة ولكنهم يُعرقلوننا. دافعت كثيرأ وزجرت. وجبريل انفجر وأدان وهدّد حين فهم من هذا أنه غير مُرحُبٍ به؛ بأنه سيعود من حيث أتى. ما أكثر ما شرحت الأمر لرجال الشرطة الُمتشْبّثين برأيهم أنَّ هذا هو محمود جبريل حامل جواز السفر نفسه هو جبريل نفسه الذي زار باريس أوْل مرّة يوم الأربعاء الماضي. لكنهم لم يقتنعوا. مضت ساعة ساعتان. فاتّصلت بالرئيس الذي لم يفهم شيئاً من القصّة فحوّلني إلى ليفيت الذي وعدني وهو يلفت نظري إلى أنه ليس على عِلْمٍ بشيء؛ بأن يفعل ما يستطيع. لكنّ آن لور مونديزير من وكالة الصحافة الفرنسية هي التي اتصلت فإذ كانت على علم بالموعد مع كلينتون اندهشت من بقائنا في مطار بورجيه حتى ذلك الوقت ومضى الخبر الجيّد الصغير وميشيل ديكلو المستشار الدبلوماسي في مكتب وزير الداخلية الذي شرحت له أننا نلامس الحدث الأكبر ولا داعي لإذهال العالم بكوننا أوّل المعترفين بالمجلس الوطني الانتقالي وبعد ثلاثة أيَام نزُعِج مبعوث هذا المجلس هو الذي توصل إلى حل المشكلة إنها للأسف الخامسة والنصف مساء. مضت ساعة الموعد. وجبريل غير المرتاح يبدو في هيئة بل في مزاج ثور هائج، ركبنا في سيارتي ووصلنا إلى أبواب باريس وبقي جبريل لائذاً بالصمت.
سوء التفاهم الثاني. بينما كنت أجاهد وأنا في السيارة لأحدّد ساعةٌ أخرى هذا الموعد مع كلينتون تلقى جبريل رسالة نصية على هاتفه الخاصٌ. «صاح فرحا وفجأة تحسّن مزاجه قليلاً: "إنه جوبٌ. حُدَّد لنا موعد مع السيّد جوبٌ". قلت له: هذا رائع وطلبتٌ من السائق أن يتجه إلى وزارة الخارجية. حتى لو أتيت إلى هذا الموعد فعلي أن أَنبّهه بصدق أنني؛ نظراً حال العلاقة بيني وبين من يُسمّيه السيد جوبٌ من دون تشديد النبرة ويلفظ اسمه كما تُلفظ كلمة تنورة، فسوف أرافقه لكنني لن أشارك... وا أسفاه. على حرس وزارة الخارجية لم يسمع أحد باسم جبريل. وبعد التنقيب فهمنا أن جوبيه نفسه ليس هنا لأنّه غادر منذ ساعة إلى قصر الإليزيه ليستقبل السيّدة كلينتون مع ساركوزي. وفي النهاية وعندما نزل أحد المستشارين الذي ما إن رآني حتى انفجر ضاحكاً اكتشفتٌ أن هناك خلطاً قد حصل نتج عن الصياغة السيّئة للرسالة النصيّة فالموعد ليس مع جوبّيه بل مع مدير مكتبه. توجّهت إلى اينّى - ليه مولينو إلى قناة الآرتيه لأترأس مجلس الرقابة الذي ينبغي أن يُنصّب فيرونيك كايلا ويُودّع جيروم كليمان. بينا بقيَ جيل هرتزوق يننظر في مقهى مجاور نهاية الموعد مع مدير مكتب الوزير.أمَا جبريل الذي باغتّه برد باريس فوضع في رأسه فكرة شراء لثام ومعطف. وبعد ساعتّين حين التقيتٌ به من جديد كان أكثر تعجرّفاً وغضّباً مما كان حين تركته.
سوء التفاهم الثالث. لقاء كلينتون. أجل الموعد في النهاية إلى التاسعة مساءً تماماً بعد موعد ساركوزي جويّيه والعشاء في الإليزيه. نحن في فندق فيستن. هذا الفندق محطة استراحة كبرى نموذجية للأميركيين المسافرين. فلول من الصحفيين والمعاونين من مختّف الألوان والأنواع. مخابرات. حرّس شخصي. وفجأة في العاشرة تشرع خليّة النحل في الحركة وكأن علامة نبَهتها إلى وصول ملكة النحل. «قَهِمَّهتُ وهي تراني» عند باب المصعد وأنا مع جبريل بين مُرافقيها وقالت: ها أنتَ هنا! كنت أعتقد أَنّك في ليبيا تماماً يا سيّدتي » فقد وصلت توا من هناك» وأشرت لها إلى جبريل قائلاً: "نحن هنا من أجل هذا...؛". صعدنا إلى الطابق الذي تنزل فيه. استمرٌ اللقاء الثنائي كلينتون جبريل حوالى خمسين دقيقة. وكان حين خرج منه؛ أكثر حنقاً مما كان عليه في مطار بورجيه. وأكثر اهتياجاً مما كان عليه بعد موعده الخُلّبٍ مع «جوبٌ»: ويشرح للسيّدة كلينتون المذهولة أنّه يطلب "باباً خلفيا" يجب أن أجد باباً خلفياً؛ بل مخرج نجاة... لأنني لا أريد أن أرى الصحفيين... لا أريد أن أكون فظأً مع أحد غير أنني لا أريد أبداً أن أقدّم أيّ ضمانٍ لأيّ كان عن هذا الموعد الذي انتهى توّاً... لأنَّ الموعد كما شرح لي حين عاد إلى السيّارة لم يكن موفّقاً. فكلينتون لم تقل شيئاً. تركئة يتكلم ولم تقل شيئاً. وشعر تماماً ب "تعثر مُرافعته عن المدنيين في بنغازي؛ وعن دعوته إلى توازّن السياسة الأميركية التي لا تستطيع أن تدعو في كل مكان. إلى قِيَمِ الديمقراطية وحقوق الإنسان وتترك الشعب الليبي يقتل عندما يُطالِبٍ بها" جبريل واثق من أنه أخفق واثق من أنّ كلينتون لم تفقه شيئاً. لهذا السبب وبعد مروره إلى البريستول لأنه كان عل موعد مع إماراتيّين عدنا إلى فندق رافاييل حيث حاولت أنا وجيل؛ ونحن مُتعبان تعيسان. لأنّ مرارة جبريل تغلّبت على حُسن مِزْاجينا أن نكتب في قاعة الطعام الخالية على طاولة مُعَدَة لفطور اليوم التالي مسوّدة «نداء الفرصة الأخيرة» الذي سأنصح جبريل منذ الفجر بأن يُطلقه كطلقة أخيرة كآخر قارورة تُلقى في البحر.
يقول النداء: «ليبيا صديقة العالم أجمع! ليبيا الُحرّة في خطر الموت. فهبوا لنجدتنا. ثار الشعب الليبٌي؛ منذ ثلاثة أسابيع؛ بعد أربعين سنة من الاضطهاد. وحرّر قسياً كبيراً من البلاد بدما آلاف القتلى .لكنّ الطاغيّة تمالك نفسّه ثائية. فصدّ جيشٌ مرتزقته مُقاتلينا غير المسلّحين كها ينبغي الذين انطلقوا لتحرير طرابلس. طيّاراته؛ ودبّاباته ومدفعيّته تقصفنا ليل نهار في قلب الصحراء. كان ينبغي أن نتراجع خسائرنا فادحة وطريق بنغازي المحرّرة مفتوحة أمام أرتاله الجهنّمية التي نخشى وصولها السريع عاجزين فلم يعُّد أي شيء في الصحراء يعترض القوّة الميكانيكية؛ والمصفحات التي لا نملك الوسائل ولا الزمن لإيقافها. لا نملك إلا صدورنا لصدّها وسوف تُضحَّي بأنفسنا قوّة واحدة تستطيع إنقاذنا يا أصدقاءنا في سائر أنحاء العالم.إنها قوّة أصدقاء الحريّة. القوّة الخارجية وحدّها الخارجية حقّا هي القادرة علىإنقاذنا. فرنسا هي أوّل من اعترف بنا كبلد حر وعلّمها يُرفرق في بنغازي. ونحن نناشِد هذا البلد العظيم أن يأخذ زمام المبادرة لتشكيل تحالف عسكريٌ دوليّ. فبإمكان الأساطيل الأجنيية القريبة من سواحلنا والجيش المصري الصديق أيضا أن تصدّ بطريقة حاسمة: عبر قوّها الرادعة وحدّها تقدّمَ كتائب القذّافي باتجاه بنغازي وليبيا الحرّة. أيها الأصدقاء الفرنسيون أنتم الذين عانيتم من الاحتلال الأجنبي الشرس طيلة الحرب العالمية الثانية: أنتم الذين حقّقتم التحرير بفضل الجنرال ديغول والمقاومة ومساعدة حُلفائكم. ندعوكم يا سيادة.. إنها الساعة الثانية صباحا.. سيكون نهار غدٍ وعِراً.
الثلاثاء 15 آذار/مارس (مكالمة هاتفية من ساركوزي)
لم أعد أفهم شيئاً. الإخفاق من جانب وحتى النحس فمجموعة الثماني أعلنت موافقتها على عقوبات لكنها استبعدت الخيار العسكري، وألقت ألمانيا بثقلها الكامل لتمنع صدور بيان صارم »ويبدو أنها تغلّبت على التصميم الفرنسي. ومن جانب ثقافي» وقّعت على عريضة أرسلها إليّ غلوكسان وكتبها نيكول باشاران؛ ودومينيك سيمونيه. لكنّ العريضة الوحيدة التي أتمكن من تنظيمها والتي يمكن أن يكون لها معنى هي عريضة الْمثقَفِين الفرنسيين والألمان الذين يجب أن يضغطوا على حكوماتهم لتذكيرها بقواعد الشرف الآساسية وهانس كريستوف بوش لا تُجِيب ورقم بيتر شنايدر الذي عندي غير صحيح وحين هتفت لبوب جلدوف المحترف في المجال الذي لا خلاف حوله أجابني بأنه موجود في الولايات المتحدة وأنه مشغول جداً في تلك الفترة وأن الدول وحدّها هي التي تستطيع؛ في هذه المرحلة؛ أن تُوقف المجزرة. لكن من جهة أخرى تلقيتٌ مُكالمة هاتفية من الرئيس؛ الحانق على شُركائه وخصوصاً على ألمانيا فقال لي (لست أدري إن كانت المستشارة مُنتبهة إلى مجازفتها والمُجازفة ببلدها؛ فأنا من يجدون طبيعياً أن تكون ألمانيا مُرشحة لنيل مقعد دائم في مجلس الأمن لكن كيف يُمكِن أن تبغي الشيء ونقيضّه وكيف تغيّر موقفها بهذه الطريقة أمام الأزمة العويصة الأولى التي تواجهها السياسة الأوروبية منذ حرب البلقان؟ لكنه مع ذلك ليس محبطا بصورة غريبة ليس محبطا تماماً (من جديد يُخيّم شبح البوسنة الذي سبق مذبحة سبرنيتشا والذي أتنبّه على عجّل أن في رأسه توقيته الدقيق تقريباً؛ «قال لي: اليوم أنا صاحب القرار وأريد أن أفعل كل شيئ لا أعرف بعدُ كيف» غير أني أفكر في الأمر لأمنع تكرار مذبحة سربرنيتشا» وشدّد على دعم الجامعة العربية الجوهري والأكيد ومن جهة أخرى. قال لي مصدر مُقرّب من هيلاري إِنَّ جبريل لم يفهّم؛ وأنّ هذا الدبلوماسي المُحنّك جانبَ الموضوع الذي أثاره بغرابة؛ وأثْر في هيلاري وهزٌ مشاعر الحيوان السياسي الكامن فيها وببساطة شديدة حرّك مشاعر المرأة وما إن عاد على أعقابه من الباب الخلفي؛ حتى انعقد مؤتمر هاتفي بين باريس وواشنطن. في جنح الليل مع روبر غيتس (المعارض الشرس للتدخل) ومع أوباما (المتردد) الذي لم يكن من المؤكد أنه يمضي في اتجاه عدّم التدخل الذي يتبنّاه غيتس.
لما أحاطني الشكٌ وجدت من الحكمة أن «أحتفظ» ب «نداء الفرصة الأخيرة» وأن أخبر جبريل بذلك عبر رسالة نصيّة،اقترحت عليه أن نمنح أنفسّنا أربعاً وعشرين ساعة. فالبشر »وحتى السياسيُون» غامضون في بعض الأحيان. ومّن يدري فَربما تزحزحتٌ كلينتون عن موقفها من دون أن تعلّم؟
الأريعاء 16 آذار/مارس (مكالمة ثانية من الرئيس)
مضت الأربع والعشرين ساعة. وجهتٌ رسالة نصيّة أخرى إلى جبريل وطلبت منه أن يؤكٌد لي رغبته في نشر النداء الذي كتبناه يوم الاثنين مساءً. وخلال فترة انتظار جوابه كنتٌ أكتب في غرفتي كلمتي الخاصّة بتكريم جورج سميرون التي ينبغي أن ألقيها نهاية شهر حزيران/ يونيو بحضور جورج في مدريد. رنَّ هاتفي. إنّهِ الرئيس،رأى عريضة باشاران سيمونيه التي كانت قد نُشرت توا في جريدة اللوموند. ويبدو أنه كان قد تقدّم قليلاً في القضية ما يزال مُغتما ويائسا لكنْ من المحتمّل أَنّهِ تبصر حلاً. هل تعرف سفيرنا في الأمم التّحدة؟ هو الذي كان سفيراً في إسرائيل منذ سبع أو ثماني سنوات؟ قريب من دو فيلبّان؟
هذا شخص ممتاز مقدام تخاصًم أمس مع سوزان رايس.يا لُرخاوة الأميركيين. لم أعد أفهمُهم. صمت ثم قال:
- أو أنني أفهمهم تماماً لكن لنصرف النظر ...
- تفهمهم تماماً؟
لا لا أهمية لهذا. علينا أن نتقدّم الآن ونحاول المضي بقّوة..
قلت وأنا مُقتنع أنه يعرف المسألة أكثر مني وأنه سيقول لي ذلك: مُعادلة الأميركيين
شديدة التعقيد. فهناك كلينتون من جهة:؛ التي قيل لي إن موعدها أمس مع جبريل رُبَما هز كيانها...
لم يُعلّقَ على كلامي.
ومن جهة ثانية؛ هناك روبي غيتس الذي مضى إلى حدٌ القول كأكثر طبقات العزل
سباكةً إن أنصار العمل العسكري في ليبيا خارجون من مستشفى الأمراض العقليّة...
تمتم شيئاً عن غيتس ومستشفى الأمراض العقلية؛ لكنه غير الموضوع.
ما الأخبار عندك عمّا يجري هناك؟
- دبّابات القذّافي تخطت البريقة. وسيطرت كتائبه على المدّن كلّها بها فيها اجدابيا التي كان الثوار ما يزالون يسيطرون عليها صبيحة اجتماع الإليزيه. والآن تزحف كتائب القذّافي إلى بنغازي..
صمت لثوانٍ واستأنف كلامه بصوتٍ مخنوق وكأنّه كان يتحدّث مع نفسه.
"أعرف هذا كله". ولذلك يجب أن نخاطر بكل ما لدينا. الآن قد لا ننجح. وحينئذ لن يستطيع أحد أن يقول إننا لم نحاول.
ما ذا تعني الُخاطرة بكل شيء؟
التصرّف بسرعة واستباق العالم.
- ماذا تعني؟
استباق الأميركيين أوّلاً. ثم الروس الذين يستعدّون لاستصدار قرار لن يذكر إلا وقف إطلاق النار مما سوف يُعقّد المسألة.
من دون الحديث عن الصينيّن الذين يترأسون مجلس الأمن...
من دون الحديث عن الصينيينَ نعم بالتأكيد. هذه الأسباب مُجتمعة يجب المضِي بسرعة فائقة والاعتماد على عنصر المفاجأة. لكنْ لا تقل كلمة عن هذا أيّة كلمة.
وبعد فترة صمت جديدة قال: قبل أن يُعْلق الخط هذه الكلمة الأخيرة بصوتٍ مشوب بالسخرية: "أسمح لنفسي بإسداء نصيحة إن أمكن نصيحة بسيطة للغاية هي أن يعدل جبريل عن توجيه ندائه إلى دوّل العالم..." لا أتذكر أنه تحدّث عن ذلك. أو رُبَّا لم عد أتذكر. كل شيء غريب. على أيّة حال. الزمن
يغدو غريباً. فهو سريع حينأا بل سرعتّه رهيبة؛ وخصوصاً حين تنسكب موجّزات الأخبار الإذاعية التي تورد تصريحاً لسيف الإسلام؛ ابن القذّافي يُعلِن فيه أن كل شيء سينتهي خلال ثمإنٍ وأربعين ساعة؛ أو تورد تقارير مُراسليها النادرين الباقين هناك الذين يستحضرون مشاهد من الرُعب وعائلات تنحشر في سيّارات للسفر إلى طبرق وفلولاً من اللاجئين المتدفقين إلى الحدود المصرية. وهو على العكس بطيء جداً حيناً آخر حيث تستمرالدقائق ساعات كمثل غيوم ثقيلة تتأخر في الانجلاء حين أحاول الاتصال ببنغازي أو أفعل تحذيراتي على تويتر وفيسبوك عن ليبيا. فمن سينتصر في سباق السرعة بين الدبّابات من جهة ومن جهة ثانية؛ تبني مشروع القرار الذي كان ساركوزي يُكلّمني عنه قبل قليل لكن في الوقت الحاضر غير مكتوب وغير مطروح وغير مُصوّت عليه؟
اليوم الأطول؛ ثلاثة أحاديث مع الرئيس عن الكارثة الوشيكة يوم غير معقول. قد يكون هذا اليوم هو الأغرب منذ بداية هذه القصّة.
كنت في الثامنة والثلث على موجات إذاعة "فرانس أنتير" مع باتريك كوهين. أعتقد أنني كنت أمثّل كل أولئك الذين يرون قدوم هذه الكارثة المُعلنة وعدّم قُدرتنا على منعها. ثرتٌ واهتجتٌ. تكوّن لديّ انطباع بأنني أكثر من أيّ وقتٍ مضى أعيش من جديد ساعات نحس البوسنة وأستعيده بالمقابل لأعبّر عن ذلك، كلامي في تلك الفترة عن القائلين بمذهب نوربوا أقصد الذين يُعارضون أيٍّ نوع من التدخل أنصارٌ إيديولوجية وزارة الخارجية الفرنسية. كدتٌ على امتداد الُقابلة: أضرب ذاتٌ اليمين وذات الشمال مُعرباً عن أسفي على صمت الاشتراكيين الُمطبق الذين ينبغي أن يفهموا على أقلّ تقدير, أنَّ ثمة مواقف يجب أن ترك فيها المشادَات السياسية جانباً وأن يقبلوا بدعم رئيس يذهب في الاتجاه الصحيح وذلك مهما كانت الخلافات كبيرةً معه. في القسم الثاني من البرنامج؛ المُخصّص للمُستمعين انبثق صوتٌ يقول لي شيئاً لم أتبيّنه إلا بعد عدّة ثوانِ: صوت وزير الدفاع السابق بول كيليس يقول إِنّهِ يتفهّم غضبي لكنه يعترض على فكرة صمت الاشتراكيين إذ كانت الأمينة العامة للحزب مارتين أوبري حتى قبل ساركوزي أوّل من دعا إلى التدخل في ليبيا. وحين خرجت من الاستديو وركبت سيّارتي بحثتٌ عن رقم هاتفه. اتصلت به. لم أرّه منذ ثلاثين عاما منذ فترة مجموعة الخبراء البعيدة؛ ويبدو لي أنّه كان يهتمّ فيها من أجل فرانسوا ميتران وبعد شارل هيرنو بقضايا عسكرية ومع ذلك اتصلتٌ به: «لا أهمية للخلافات الأبويّة الأمر عاجل. وإذا كانت مارتين أوبري أخذت حقّاً الموقف الذي ذكرْته فهيًا نرّها معا لنعمل على أن يُلاقي هذا الموقف الذي كان حتى الساعة غير مسموع به على نطاق واسع الصدى الذي يستحق»ّ. أخبرني كيليس أنه في بيته في منطقة تارن ولكنّه سيطلب من أوبري أن تتصل بي. وبالفعل تلقيت في الحال اتصالا ليس من أوبري؛ بل من مُستشارها فرانسوا لامي. الذي طرّح عل عدة أسئلة تقريباً الأسئلة نفسها التي طرحها ساركوزي البارحة وقال إِنّه سيّعيد الاتصال بي سريعاً.
إنها العاشرة صباحاً. كنت في الطابق الأوّل من فندق فلورأناقِش مع دانييل كوهين بنديت نداء الْفرصة الأخيرة الذي أريد إطلاقه منذ أمس بين المثقَفِينَ الألمان والفرنسيين والذي هو وحده يستطيع أن يُعِدَّهِ معي تأثّر بذلك كان أقلّ تمكناً من المُعتاد لكنه تأثّر.
وهكذا من دون أن أؤمن بذلك حقٌ الإيمان وإذ تملُكني شعور بأنني أقوم بنوع من معركة يائسة كتبنا قائمة من أسماء شخصيات سنتصل بها بدءاً من هذا الصباح؛ وهو خصوصاً إلى فرانكفورت وباريس كي نحمّلهم مسؤولية نجدة أخيرة. وفجأة يُنشر في جريدة لوبوست خبر عاجل طويل بعنوان «هل سمعت مارتين أوبري هجوم برنار هنري ليفي على الحزب الاشتراكي قبل أن تدفع حزبها ضدٌ المجتمع الدولي؟». يبدأ الخبر بهذه الكلمات: «بينما تقوم قوّات القذّافي بدحر الثوّار» وبينما تبسط الأمم المتحدة في اتخاذ قرار الحظر الجوّي على ليبيا أطلقت رئيسة الحزب يوم الخميس خلال زيارة إلى سانا لدعم مُرشّح الحزب الاشتراكي في الانتخابات المحليّة في الفال دواز هذا الكلام ويُعيد لاحق تصريح أوبري الآتي: "أفكر بليبيا التي لا أحد يتحدّث عنها تركنا القذّافي يفعل ما يُريد واليوم؛ الأمم المتحدة لا تملك القّدرة ولا الشجاعة على التصرف أشعر بالخجل من موقف أوروبا من موقف مؤْسّساتنا الدولية فنحن نتّفْق على مُساعدة صيارفة بنوكنا لا على مُساعدة شعب آسفة على هذا الهجوم: غير أني أفكر بليبيا ليل نهار." أمَا وكالة الصحافة الفرنسية فأضافت أن مُحافِظ مدينة ليل ذكّر بأن الحزب الاشتراكي كان قد طالب منذ 27 شباط فبراير بمنطقة حظر جوّي ووجّه خاصّة «بالمقارنة مع سلبيّة المجتمع الدولي»؛ في الحرب الإسبانية مُشْدّداً على أنْ «العالم أجمع قال إِنَّ ما حصل مع فرانكو ليس مقبولاً لكننا تركناه يفعل: وهذا ما نفعله اليوم». قال داني إنها ضربة مُعلّم. وأظنْ أنا أيضا أنها مناورة سياسية ناجحة. لكنْ لا؟ ومن يدري ولكون السياسة هي السياسة والتنافس يغذي التناُفس إن كان هذا التصريح سيّضيف إذا دعت الحاجة؛ شيئاً إلى عزيمة الرئيس؟
الساعة الثانية بعد الظهر بعد أن أنهيت تناول طعام الغداء مع ماتيو تارو رن هاتفي. إِنّه الرئيس. لكنّه رئيس مختلف. لأنّه استعاد حبّه للمواجهة التي كانت لديه الأسبوع الماضي. أعلن لي أن سفير فرنسا في الأمم المتّحدة "جاوّز" كما كان قد قال لي مُغمغما نظيرتّه الأميركية بتقديمه قبلّها مشروع قرار صارم. قال لي لكني فهمتٌ هذا وأنا أرى برنار غيتا هذا الصباح في أستوديو فرانس آنتير يمضي مُصرّحاً يعاون باتريك كوهين بأنه كان ذاهباً مع جوبيه غير أن تغيراً غريباً في البرنامج حصل قبل قليل حرفيا حول اتجاه الوزير الذي كان يجب أن يذهب إلى برلين لكنّه أمره بأن يتوجّه إلى نيويورك للدفاع عن مشروع القرار الفرنسي. وأظهر لي خاصّة ورقته الأساسية في التفاوض الذي بدأ توآ حديث مع ميديبديف وأقنعه بالامتناع عن التصويت مُقابل أن تُضاف على مشروع القرار: عبارة تُلِزِمنا صراحةٌ بعدّم إرسال جيوش إلى الأرض الليبية. فهل يُمكن أن يعتمد مستقبل ليبيا ومستقبل العالم العربي ومستقبل العالم على مُفاوضات صُغرى وبالتالي على مُفاوضات صُغرى من هذا النوع؟ الساعة الثامنة والنصف مساء تناولتٌ طعام العشاء وحيداً من دون شهيّة كابساً الأزرار لأنتقل من قناة تلفزيونية إلى أخرى أجول على شبكة الانترنت بحثاً عن أخبار طريّة. فالحق أن العام كله ينتظر دخول كتائب الموت إلى بنغازي. المسألة بحسب قناة CNN مسألة أيام، وبحسب الجزيرة مسألة ساعات، لكنْ النهاية لم تعد مثار شك عند مُعظم الناس... فوجّه الرئيس نداءً جديداً وزمجر بالقول المستشارة الألمانية "فجيعة" من الحذر. لكنّ ميدفديف سيفي بتعهّده، وساركوزي شخصياً أقنع رئيس جنوب إفريقيا والرئيس اليوناني. بحيث إذا قبل «هو جيانتو» الذي اتصل به هو شخصيا بعدم استخدام حق النقض «الفيتو» واكتفى بالامتناع عن التصويت وإذا ما استسلم أحد الأعضاء للاسترحام "ليس هناك كلمة أخرى" الذي وجهه فهناك فرصة ثمينة ليمرٌ مشروع القرار الفرنسي مُنتصراً بذلك على تعقيدات العدوانية والمصالح المتناقضة:؛ والتحفّظات التي تُعيقه من حيث المبدأ.
أخيرا في مُنتصف الليل. انتظرنا على منصّة تاداي؛ حتى آخر لحظة لكن من دون جدوى ما انتهت إليه المناقشات في نيويورك ونتيجة الملاحقة الصاخبة بين المؤيّدين قرار التدخل وطوابير المصفّحات. نحن في لونتالامبير مع فريق من مجلة "لا ريجل دي جه" شيء ما يقول لنا هذا كله شديد البط هو من البط إلى حد أنه لا يبشر بالخير. وماريا دو فرانس وأرمين أريفي وجيل كولار يفكرون بمبادرة يُمكننا هذه المرّةَ أن نأخذها في نيويورك عندما يرن الهاتف. رئيس الجمهورية من جديد: «ما أزال مُستيقظأ وليس هذا من عادتي لكن يجب أن أخبرك بنفسي. لقد تم تبني القرار. نعم» تم تبنْيه. هذا نصر كبير لفرنسا وهو نصر كبير خاصةٌ لليبيا التي أصبح شعبها من الآن تحت حماية المجتمع الدولي.
تخلّلت هذه المكالمة المتأخرة وهي الثالثة اليوم؛ كلمات تُعبر عن الفرح لقد قاتلتُ أنا سعيد؛ وعن الاعتراف بالجميل «كان يوما رائعاً»؛ وعن تقديرات أكثر سطحيّة (إذا قرّر أوباما المشاركة أم لم يُقرّرها سأتصل به لتهنئته(: وعن فضول (الظنون حولي وعًlا إذا كنت متأكّداً من أن كوهين بنديت مثلاً مؤيّد للتدخل العسكري وأخيراً عن النغمة الحادّة لقائد حر كان مُجِبرأً اعتباراً من هذه اللحظة:؛ على اتّخاذها عنده سلّفاً فكرة عن أرض المعركة والجبهات وقد كلّف بالعمل مُعاونه الخاصٌ وجنرالاته وسيكون بين يديه؛ بدءاً من صباح الغد خطة ضربات عسكرية يجب أن تنفذ فوراً إذا أردنا إنقاذ بنغازي.
الجمعة 18 آذار/مارس (الحرب؟)
يوم سهرة الاستعداد. أعرف أن الطيّارات الحربية في طريقها إلى ليبيا. وأنها لن تكون جاهزة «فوق مناطق الحظر» إلا غدا السبت بعد القمّة التي دعت إليها فرنسا والتي إذ تجمع ممثلين عن بلاد غربية وعربية؛ ستنتهي بإعطاء شكلي للتحالّف الذي سبق تكوينه من أعلى شرعية دولية ممكنة. فكيف سيتصرّف القذّافي؟ هل سيمتلك حكمة الاستسلام؟ أمْ أنه سيستمرٌ في التقدّم ويجعل التدخل حتمياً بتحدّيه للمجتمع الدولي؟ تقول آخر الأخبار إِنّه يُمكِن أن يُعلن وقف إطلاق النار. لكن على الكورنيش حيث تمكنتٌ من الاتصال بأحد معاوني عبد الجليل قيل لي: هذه مُناورة والكتائب سوف تستمرٌ في الزحف. قضيتٌ الليل من جديد في الكبس على الأزرار والانتقال بين CNN والجزيرة والعربيّة؛ ومُتابعة رسائل محمّد نابوس على التويتر ومحاولة الاتصال من جديد ببنغازي حتى الفجر..
السبت 19 آذار/مارس (فرنسا انقذت بنغازي)
بدأت العمليّات... ثلاث مكالمات هاتفية مع الرئيس. /
الأولى قبل موعد الغداء تماماً حيث كانت القِمّة على وشك الانعقاد في الإليزيه. «سيكون الجميع هنا. بان كي مون وهيلاري كليتتون: والنرويجيون» وهذا جيّد لأنهم ليسوا أعضاء في الاتحاد الأوروبي. أعتقد أنني نجحت أخيراً في إقناع أنجيلا ميركل بالالتحاق بنا مُقابل تعديل في النصّ أعددناه معاً حيث نعترف بحرية كل بلد في أن يُطْبّق بطريقة مختلفة القرارات التي يُمكن أن تتبناها الأمم المتحدة في قضية ليبيا. ستكون قطر حاضرة؛ لن يأتي :الأمير الذي سبق أن جاء أمس سِرَأ ليُجهّز آخر تفاصيل العمليّة بل سيأتي رئيس وزرائه الممتاز. المشكلة البسيطة الوحيدة هي تلك التي أثارها ممثّلا السعودية والإمارات. فهما لا يُريدان أن يجلسا عل الطاولة نفسها مع هيلاري كلينتون بسبب مُساندتها للمتمرّدين في البحرين. لكنهها وصّلا أخيراً. وهذا هو الجوهري. فهذه هي المرّة الأولى التي تتحرّك فيها مثل هذه الجبهة من بلاد الشمال والجنوب من أوروبيين وعرب ضدّ ديكتاتورية.
كانت المكالمة الثانية قبل الرابعة عصراً بقليل. فقد انتهى الغداء توّاً. بدا الرئيس أكثر توترآ وقلقا تنم لي المكالمة: هذه المرّة عن بداية وشيكة للضربات العسكرية. "حان وقتها." كل المعلومات التي تصلنا تُشير إلى أن القذّافي سخر منا بادعائه وقف إطلاق النار وسقوط بنغازي؛ ونحن نتكلّم الآن ليست إلا مسألة ساعات. وربما مسألة دقائق إذا لم نتدخل. لكنْ هنا تدخلنا سيتِم. وسنكون فوق مناطق الحظر في الوقت الُحدّد. والطيّارات الفرنسية هي التي ستبدا القصف أوَلاً. ثم الطيارات الكنديّة والأميركية غداً. وفي الساعات اللاحقة تصل الطيّارات العربية. ولم لا تأت فوراً؟ لأنّ عندهم مشكلة طيارين. لكن لا أهمية لهذا أبداً. هم وراءنا يدعموننا دعما كاملاً.
وأخيراً جاءت المكالمة الثالثة قُبيل الثامنة مساء. كانت هادئة: «تمّ تحييد الكتيبة الأولى وقد دمّرنا قبل ساعتين سيّارة مُصفحة. وهنا تغدو العمليات أكثر أهمية. إذ يتصل الأمر بتدمير أربع دبّابات» الدبابات الأربع الأولى التي كانت على أبواب بنغازي. وطيّاراتنا هي التي قصفت في المرّتين. الطيّارات الفرنسية. وسوف نتابع القصف طيلة الليل إذا لزم الأمر.. كانت معلوماتنا جيّدة. لم تكن المدينة قادرة على الصمود ليلةً أخرى. فاعتقدت كتائب القذّافي بسقوطها وبدأت تظهر في ضواحيها. وهي الآن تستسلم. الخوف غَيَّر المعادلة. هذا رائع".
الأحد 20 آذار/مارس (حيث يظهر أن ليبيا ليست العراق)
رسائل «تهاني» نصيّة... قيل كثيراً: إنه لأمرٌ غريبٌ أن يتلقى مُثقف التهاني على حرب تبقى مها كانت عادلة حربا وستُخلّف بالتأكيد أمواتا وجرحى وأضراراً من كل نوع وتدميراً. الفكرة مُدوّخة. تُغرق المرء في هاوية من الحيرة. قضيتٌ بقيّة اليوم محبوساً في غرفتي لم أتصِل بأحد. ولم أجب عل اتصال أحد وخصوصاً على الصحفيين الذين قرؤوا مقال رونو جيرار الذي نُشِر أمس في جريدة الفيغارو ويحاولون أن يعرفوا المزيد عن هذا الكاتب؛ الذي كان يُمكن أن ينجح. في نهاية ترابطٍ من المُصادفات والعناد في إيجاد طريق مركز القيادة الرئاسية وفي أن يستصدر له قراراً من مجلس الأمن يُوافق لأوّل مرّة على التطبيق الكامل والعسكري لمبدأ التدخل. الحق أنني لا أستثني إلا واحداً. بوتِل. ميشيل بوتل. اتصلت به قبل قليل؛ بعد الرسالة النصيّة الجميلة والغريبة التي أرسلها لي بعد عدّة دقائق من أؤل قصف لضواحي بنغازي. قال لي فيها: "يا برنار. نعرف منذ القديم أنَّ ما فعلنا بحياتنا وبهذه «الجبريّة» أي طَبْعنا سوف ُيجابه ذات يوم الحدث الذي سيناقضه. ويُزعجه؛ ويُعاكسه أو بفعل مُعجزة: يؤكّده ويحمّسه ويُمجّده. وها أنت للتوٌ تنجح في الامتحان الكبير. وما كنت قد خلقته من قبل يتحقّق الآن. كنت أحياناً غير مُتفقَ معك ومُنرْعِج أحياناً أخرى. واليوم؛ أقصد هذه الأيام التي نعيشها أنا سعيد بأني التقيتٌ بك وأننا صرنا صديقّين عجيبّين غالباً بعيدّين لكننا قريبان في كل الظروف الجديّة. لك قُبلاتي يا ميشيل". أجل يا صديقي العجيب. حقَّا لم نتقابل كثيراً في الفترة الأخيرة. حتى إنني فجأة لم
أعد أعرف إن كنت ما أزال عضواً في المجموعة الصغيرة أدفع اشتراكاتي للجمعية المؤسّسة بحسب قانون 1901. التي أنشأتها نساءٌ سابقات وسيّدات لضمان المحافظة على التراث الوطني مما آل إليه في نظرهنٌ. لكني أتذكّر اللامتوقّع.أتذكر المكانة التي احتلّيتها في حياتي قبل الآخرين وأكثر من الآخرين «كأفضل صديق» أصيل. أتذكّر الزمن البائد الآن طبعاً الذي كان خلاله يفتنني إلى أعلى حدٌّ بذكائه وبجانبه العبقري وبطلاقته الفائضة وبأسلوب حياته وتفكيره.. رسائله النصية هي أكثر رسالةٍ أسعدتني من بين الرسائل التي تلقيتها. في ما عدا هذا راودتني أفكار غائمة.
قضيّة الحرب هذه. إنها للمرّة الأولى الحرب؛ الحرب الحقيقية وهي إذا تجاسرت على القول الحرب فعلاً. كنت حتى الآن أدافع عنها. وأدعو إليها. كنت أزدري دُعاة السَلْم على طريق اللواء بيتان والأوغاد الذين يظنون أن فاشية صُغرى أفضل من حرب كبرى. لكني لم أكن أخاطر كثيرا لأنني كنتُ أعرف أن الكلمة الأخيرة ستكون. في آخر المطاف للسِلّم وأنّ العالم مهما علا صراخ أناس مثلي سيبقى منقسما من جانب، بين سكان ميونيخ الذين يُفضّلون يقين العيش نائمين على الموت ناهضين وحماة الديمقراطية الذين يقبضون أرباح شرفهم من دون أن يُخاطروا برؤية نداءاتهم خاضعة لامتحان الواقع من جانب آخر. لم تكد هي الحال هنا. فالحرب اندلعت حقّاً. ومن حقّي ألا أنخدع.
ما معنى حرب عادلة؟ منذ بداية حديثي عنها... منذ الزمن الذي كنتُ أبحث في موضوعها...أقول: تجد الحربٌ العادلةٌ نفسّها إذا اعتقدنا بمن ولدوا مفهومها بدءاً بالقديس أوغسطين., وتوما الأكويني وانتهاء بغروتيوس في ثلاثة ملامح أساسية تبدو جميعٌها متلائمة مع هذه الحرب الليبية.
1 - نبل القضيّة: أليس إنقاذُ شعب مدني من مجزرة مُعلّنة: نمطا أمثل للحرب العادلة؟
2 - الملاذ الأخير: من يُنكِر مع وجود الدبّابات على أبواب مدينة بنغازي وتقدّمها على الرغم من الُمُفاوضات السياسية والعقوبات الاقتصادية والجهود الدبلوماسية انطباق هذا بحٌّق على حجة الملاذ الأخير؟
3- التناسّب في النتائج الأخيرة أي فكرة أن تكون الأضرارٌ التي تُسببها الحرب أقلّ من الأضرار التي تمنع قيام الحرب: هنا تتعقّد الأشياء هنا حيث لا أحد مُتأكّد من شيء هنا حيث لا يبقى الرجاء والصلاة لمن استطاعوا إلى الصلاة سبيلا.
لماذا هذه الحرب لا حرب العراق التي طالما أدنتها أنا شخصياً؟ هناك أربعة اختلافات بين الحربين. بل خسة. خمسة أسباب موضوعية وواضحة؛ ولا نقاش فيها تُشير إلى أننا في نمطية مختلفة وأن حرب ليبيا مُعاكسة للحرب على العراق.
1 تفويض من الأمم المتحدة مصدر الشرعية الدولية اُلمسلّم بها.
2 تفويض أخلاقي قوي منحَنّه الجامعة العربية التي لا ينبغي أبداً نسيان أنها كانت حاضرةٌ على الفور هنا مع الغرب لإدانة عدوان القذافي على شعبه.
3 حضور مجلس وطني انتقالي يستحِقٌ الوجود. ويتمتّع بقاعدة شعبية فعلية وبمظهر أفضل من مظهر المؤتمر الوطني العراقي البائس الذي كان يرأسه شلبي.
4 . ثورة ديمقراطية سبقت التدخل الذي جاء للمواجهة وليس للتحريض - وهذا أيضاً يُغيرٌ كل شيء!
5 ليس في حرب ليبيا جيوش على الأرض ولا جيش احتلال وهذا إذا احترمنا شعب بنغازي وإذا توصّلنا إلى حمايته وحتى إلى إسقاط القذّافي من دون أن نكون مُجبرين على إرسال جيش غاز سوف يُنجز تفرّد هذه الحرب. ويُميّزها عن الحروب التي قام بها الغرب حتى الآن.
لهذه الأسباب مجتمعة ميشيل بوتّل على حقٌ. ولاشك أن الحدث العظيم هو هذه الأسباب ولغيرها الموعد الأكبر في حياتي الثقافية والسياسيّة. فما الأسباب الأخرى؟ أوه! ثمة أسباب كثيرة... وجوب التدخّل المشهور الذي أدافع عنه منذ أكثر من ثلاثين عام ورُبّما هو في طريقه إلى أن يتحقق... هذه القذارة السياديّة هذه القذارة الإيديولوجية التي تكون الكلمة الأخيرة بحسبها دوماً للأوطان؛ والتي ما إن تُرتكب مذبحة أو جريمة ضد الإنسانية أو قتل جماعي في الغُرَف المغلقة لوطن ذي سيادة ولا تنتهك سيادة وطن مجاور فليس وارداً التدخل ربما هذه الإيديولوجية بصدد معرفة أول هزيمة تاريخية. .. خط المْنحدّر الآخر هذا الذي هو أيضاً في حياتي على الدوام رفض الحتميّة الجغرافية: حين كنت أذهب وأنا طالب شابٌ في المدرسة العّليا للأساتذة؛ لدعم البنغلادشيين ضدّ برعم القتل الجماعي الأول الذي لم نشهد مثله إلا في اوشفيتز حين كنت أذهب إلى دارفور إلى أنغولا وبوروندي وحين كنت أدافع في صحراء نسبية؛ كي لا ننصاع لتقسيم الإنسانية الشنيع إلى شعوب بَرهميّة تتمتّع بكل الحقوق والامتيازات وشعوب لاتمُسَ مُعذَبةٌ الأرض والحرب وملعونة...ثمّ مسألة العلاقة بين اليهود والمسلمين نقطة الرُعب التي وضعتها لنفسي طيلة حياتي بألا أفكر انطلاقاً من سُلالتي وأن أُمُدٌ يدي: حين يقضي اليهودي الذي أكونه سهراتٍ كاملة مع بيغوفيتش في سراييفو المدمرة؛ لمناقشة العلاقات بين الإسلام واليهودية حين كان يُدافع في جامعة بيرزيت أو حول خطة جنيف عن دولة فلسطينية وفي الوقت
نفسه عن وجود إسرائيل وحين كان يهب ويهبٌّ الآن لنجدة الشعوب المسلمة التي تضطهدها شعوب غير مُسلِمة: وأحياناً شعوب مُسلِمة أخرى. فماذا كان يفعل؛ في الواقع؛ غير أن يُحضّر نفسّه لهذا الموعد العظيم الراهن؟
علي ومنصور
تلقيت في الحقيقة اتصالاً هاتفياً أمس مساءً اتصالاً واحداً من ليبيا يُشير لي إلى وجود تمركز كتائب ومُصفحات في الجنوب ويرجوني أن أوصل الإحداثيات إلى الإليزيه. دوّنت هذه المعلومات وأرسلتها في رسالة نصيّة إلى ليفيت وحدّدت موعداً في الصباح لليبي كي أتعرّف عليه شخصياً وكان هناك في الساعة المُحدّدة يُرافقه أحد أصحابه. الآن عرفت مَن يكون! أجل! لم أفهم شيئاً على الهاتف أمس. لكنني الآن عرفته! إِنّه أحد الثلاثة الذين زاروا ساركوزي ذاك الذي كان يقابل الرئيس على يمين محمود جبريل وعلى يساري علي زيدان! يلبس الطقم البنّي نفسه بتفصيلته الممتازة. نظاراته الحرشفية السميكة نفسها التي ألاحظ الآن أنها تُصحّح عدّم تماثّل خفيف في النظرة. حركته دقيقة. صوّته صافي أرَنّ. شعره أصهب قصير ينمٌ عن أناقة يعيش في ألمانيا منذ سنوات. يُدير أعماله في المواد الطبيّة وفي الوقت نفسه يترأَسٌ الفرع الليبي للاتحاد الدولي لجمعيّات حقوق الإنسان. وبعبارة أخرى: هو مُعارض كامل. كذلك الرجل الذي يُرافقه. مُكتنز غير رشيق يُشبه تشرشل قدآ عملاق يعوم في لباس أوسع من جسده؛ يعيش في فلوريدا ويحمل جوارٌ سفرٍ أميركيّا بالإضافة إلى أنه يتكلّم فرنسية رائعة. لماذا؟ اسمه منصور سيف النصر. ينحدر من أب كان آخر شخص من منطقة فزّان تحالف مع الفرنسيين ورفض الاستقلال وبالتالي تقسيم ليييا الذي كان الفرنسيُّون يمنحونه إيّاه. عمره ثلاث وستون عاما قضى منها اثنين وأربعين في المنفى. شرح لي تاريخ بلاده. حكى لي عن جرائم العقيد غير المكشوفة. قال لي أيضاً إن له عما كان وصيّ «القائد» العتيد وبالتالي كان من أولئك الذين عرفوا بعد الانقلاب أن البلد ماض إلى الكارثة. حين جاء صحفيّون من تلفزيوني القناة وقناة فرنسا الأولى عرفوا مكانهما فجاؤوا لمقابلتهما اكتشفتٌ عند كِلَّيهما مهارة في استخدام وسائل الإعلام راقتني كثيراً. وعلى الفور صارت علاقتي معهم متينة. لا أفهم تماماً دورهما في كوكبة المجلس الوطني الانتقالي لكنّي شعرت تجاه كل منهما بالتعاطّف المباشر بردود أفعال مُشتركة؛ وتفاهّم كامل . فطلبتٌ منهما أن تُجِمّعا حولهما غداً برعاية جريدة "لاريكل دي جه" لقاءٌ غير رسميّ مع أصدقا صحفيّين ومُثقَفِين ورجال سياسة لا مؤتمراً صحفياً..
الثلاثاء 22 آذار/مارس (وجه ليبيا الحرة)
مؤتمر صحفي في فندق رافاييل. رجُلان. نعم مجهولان لم تطأ أقدامهما ليبيا منذ عشرات السنين وليساء بحصر المعنى عضوين في المجلس الوطني الانتقالي. حاولتٌ ماريا إقناع أحدهما هو زيدان بأن يترك الغموض مخيما على ظهوره في المجلس وثانيهما هو سيف النصر بألا يُلح كثيراً على حقيقة أنّه لم يعُد إلى البلد منذ أربعين عاماً. لا نستطيع أن نفعل شيئاً فهما بالإضافة إلى ذلك نزيهان في كل امتحان. وكانا في الواقع على حق لأنهما خلال ساعتين سَيجيبان أمام بعض الصحفيين الأفضل معرفة بها يجري والأقل مُجاملة في باريس وأمام كل ما يُمكن أن يوجد في المدينة من شخصيّات بارزة على الأسئلة ويتجنبان الفخاخ مجسدين ألوان ليبيا الحرَة تجسيداً رائعاً. وكانا فصيحين في جوابهما على سؤال "يان مواكس" حيث وصَفا صَلْب بلدهما تحت كم القذافي يحرّكان المشاعر وهما يوجّهان الشكر لفرنسا على تدخلها المواتي. وكانا ماهرّين حين حاول "ايمانويل جاري" من وكالة رويترز محاصرتهما بموضوع تقلّب ساركوزي الذي دعا إلى باريس قبل أربع سنوات ذاك الذي يحاربه اليوم. لم يرتبكا في الحقيقة إلا أن خطأ واحداً مرّ من دون أن يلحظه أحد: حين سئلا ماذا سيفعل الحكام الجُدد بعقود النفط الموقّعة حاليا إذا انتصروا فأجابا من دون استعراض وببساطة ومرّة أخرى أقول بنزاهة تصل إلى حدّ السذاجة: بأئّهم سيلتزمون بها لكن ليس من دون منح مُكافأة للبلدان التي ساعدهم كثيراً كفرنسا. لو قيلت كلمة زائدة في هذا الموضوع وجرعة إضافية من سوء النية بين الحضور لكتبتْ الصحافة غداً بالعنوان العريض «حرب البترول». لكنْ لحسن الحظ توقف الأمر هنا. ضغطتٌ بحركة خفيّة قدّم زيدان فأنهى كلامه عند هذه النقطة. أشعر أنني سوف أَحِبّ هذين الرجلّين. شهامة” السيّد سيف النصر ونظرة الطفل التي ينظرُها علي زيدان أحياناً.
يتواصل