إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع العربي" ح6

ثلاثاء, 23/02/2021 - 00:06

الخصومة مع جوبيه وأسبابها

وزير الخارجية الآخر سبّق أن خدعوني منذ خمسة عشر عاما إبَانَ حرب البوسنة. هذا يُرهن, على الأقل ثبات الصحافة. وكذلك ثبات ردود أفعالي أمام المواقف المُشتركة أكثر مما كان يبدو "عبد الجليل يقوم بِدَوْرِ بيغوفيتش وساركوزي بدّور ميتران وليفيت بدّور فيدرين وجوبيه بدور رولان دوما...". المشكلة الوحيدة أنني بقدر ما كنت أزدري دوما في تلك الفترة كنت أكره صلفه. والجانب الذي يُشبه فيه "تاليران" لكن من دون موهبته؛ وأحتقر أساليبه في إظهار بل آمي المسن يشكُ قرنفلة في عُروة سترته. وأنّ طريقته في التطفّل ترقى إلى مستوى واحد من الفنون الجميلة وانحناءات التحية وبقدر ما تُنفّرني حياته عديمة الكرامة التي يعرف الناس جميعاً أنه جدلها قشَّة قشَّةء مع رذائل مُعاصريه؛ ليس عندي شيء ضدّ جويّيه. لست مُتزمتاً

إزاء المسؤولين السياسيّين بصدق؛ وحين أرى الحمقى مفتونين بوزير الخارجية العظيم الذي منحتهم إِيَاه العناية الإلهية وفي واقع الحال ساركوزي وحين أسمعهم يتنهدون بارتياح لفكرة هذا «الُمحترف» الذي جاء بعد ذاك «السطحي» الذي كانه كوشنر لا أستطيع أن أمتنع عن التفكير بأنه كان كذلك وهو وزير وأنْ هذا الوزير نفسه الذي شغل المنتصِب نفسه؛ ساعة هذين الموعدّين اللذين مَنْحَهما تاريخ مُنتصّف القرن لِبلدنا وأنّه في كلتا الحالّين أساء التصرّف: عدّم التدخل في البوسنة وحماية الهوتو مُرتكبي القتل الجماعي في رواندا ومُساعدتهم على العودة. لكن بالّقابل لم يكن لي مع الرجل مشكلة أبداً. حتى إنه أحتفظ بذكرى لقاءاتنا في بوردو لطيفة وديّة تقريبًا تنطوي أحياناً على تواطؤ صامت. كان آخرها بمناسية مؤتمر نظمته جريدة ليبيراسيون.وعلى أيّة حال بدا لي الرجل على الدوام محترما صلب الرأي نزيها وهذا ما قلته قبل خمس أو ست سنوات خلال فترة مُلاحقته القضائية في قضية الوظائف الوهميّة حيث ادّعت جامعة كندية أنَّها استقت حجّة منها لمنعه من التدريس فيها (فدافعتٌ عنه وحدي تقريبأ في واحدة من مقالاتي في مجلة لبوينه ضدّ المتكالبين عليه). هذا كلّه لأقول إنّ تفادي جوبّيه وإزعاجه وفكرة رؤيته يصدّق كل شيء كان يحضره له ساركوزي وأصير أنا مُتعهّدا ذلك مُباشرة أو بشكل غير مُباشر قد

يكون وهماً من أوهام جوبّيه أو حتى من أوهام ساركوزي لكنه ليس على الإطلاق وهمي وهذا لا يروق لي في شيء.

علي كي أكون صادقاً تماماً أن أقول طبعاً إن هناك أسباباً لحذّر جوبّيه. على الأقلّ سبب واحد حتى لو كان سوء تفاهّم هائل ويبعث على الضحك في النهاية. كيف أَعبّر عن هذا؟ نحن في احتدام الحرب في البوسنة. لم نتوقّف منذ سنتين عن تبادّل الشتائم. نتناول الغداء على انفراد في وزارة الخارجية؛ ونتساءل حول الموضوع: «الوقوف ضد الصرب حقّ لكن يجب على الأقل التصرّف بشكل مُناسب من دون خِسّة تصوّف رجال شرف وعقل، محَاولين أن نتبادل المعلومات حين تتوفّر الإمكانية حين يجب منح تأشيرة دخول لجريح حالته خطيرة وتقديم منحة لمثقف أو لفنّان من البوسنة». يبدأ الغداء بوقار ويستمر بلباقة وينتهي غالبا حين يهدّئ كل منًا الأمور في اكتشاف الآخر وفي اللطف الذي لا يُقَاوّم، جانب "كيف‏ استطعنا أن نغفل خلال هذه المدّة الطويلة أن...الخ". كنا نقول: هذه المرّة سنبقى على اتصال، ونكمل القول: سيكون هذا كخطٌ  ساخن. وكنًا نختم بالقول: هل يُمكن أن توفّر الظروف؛ بسرعة فائقة فرصة لرئيس الدبلوماسية الفرنسية؛ ولرئيس الحزب البوسني في فرنسا ليُظهرا أن خلافهما لا ينفي الاحترام والحوار. بعد الغداء أحدنا يدفع هم الاحترام والحوار حتى يُرافق الثاني إلى أسفل السّلَّم الكبير. وما كدت أركب سيّارتي حتى اتصل بي بمحض المصادفة جيروم كليهان حيث كان حينئذ رئيس "آرتيه" ومن جهة أخرى صديق مُقرّبٍ من صديقي الجديد: "حادث سيء. مؤتمرنا الكبير اُّلمقرّر انعقاده يوم السبت... بالادور الذي كان سيفتحه اعتذر قبل قليل... يجب أن نجد فكرة خلال فترة بعد الظهر لنرى من يحل محله..."

قلت له: عندي فكرة... خرجتٌ توا من مكتبه... كان بيننا حتى اليوم سوء تفاهم...

لكننا قرّرنا أن نتبادل الثقة في ما بيننا وأن نختصم في جوٌ من الإخلاص ونحتفظ بخطّ ساخن بينناء ونجد بسرعة كبيرة فرصة نبرهن فيها أننا قد نكون خصمَّين من دون أن نتعامل مع ذلك تعامّل الكلاب... إِنّه ألان جوبّيه!

أجابني بضيق مخبوء: لا معنى لهذا. إذ لا نستطيع أن نتصل بجوبّيه هكذا يوم الأربعاء ليأتي يوم السبت... هذا عبّث...

دَعْني أحاول... لا ندري... وكأنّما انطلق تحدٌ... إذا كان الرجل جيّداً بالقدر الذي قُلتّه لي دومآ وإذا كان وفيّأ ويمتلك حِسّ الشرف. والالتزام بكلمته فأنا مُتأكّد من أنّه سيبذل قُصارى جهده لِيُعطيني العربون... علي أن أتصرّف...

الفعل أردّف القول. جوبّيه الذي وصلوني به فوراً مشغول. لكّن جوبّيه تحرّر من أشغاله كما توقعت. قال لي: ما تطلبه مني عُربون صداقة. علما بأنني مشغول جدأ وعندي برنامج عمل هائل في بوردو سيتحتّم علي إلغاؤه. لكنْ قيل لي أن آتي إذاً سأفعل. أنا موافق.

جاء يوم المؤتمر. لم أعد أعرف موضوعه لكنْ لما كنا في قلب الحرب في البوسئة وكنتٌ أنا مع جيروم. رئيسّه وجب أن أجد وسيلة لإدراج البوسنة في برنامج المؤتمر وحتى لو لم أفعل. حتى لو أنه بالضبط واحد من هذه المؤتمرات السرمدية عن «أورويا والثقافة» لكان الناس فهِموه هكذا فالحقيقة أنني ميزت منذ دخولي الوجوه التي صارت. مُجبَرَة لتتآلف بلا قَيْدِ أو شرط مع القضية البوسنيّة كان مُدرّجٍ ريشيليو مليئاً إلى حدٌ أن كثيرين جلسوا على المقاعد؛ والدرّج والقواطع العرضية وفي الممرّات أو استندوا على حوافٌ النوافذ كما جلسوا على الأرض وعلى المنصات. مُعيقين الوصوء من أيّ مكان إلى الطاولة.. القاعة حارّة لاتعرف ماذا تنتظر لكنها تنتظر شيئاً. جاؤوا يوشوشوني في أذني بينما كنت أحاول إقناع الحجاب أن يُدخِلوا حوالى خمسين شخصاً آخرين: «وصل الوزير». «قلتٌ: آه! هذا رائع!». نظراً لأنه ضيفي الشخصء ونظراً للخط الساخن وعربون الصداقة والعلاقات الجديدة الخ. أوقفتٌ كل شيء لأذهب بنفسي وأستقبله هناك حيث يختبئ في الكواليس مُنتظراً دخوله الكبير. شققتٌ الجمهور في اتجاه مُعيّن وأعدتٌ شقّه من جديد في الاتّجاه الآخر برفقته. قُلتٌ: «عفوا عفوا» مُنتبهاً إلى ألا أدوس على البنات والصبيان الجالسين على الأرض الْمكوّمين بين الكواليس والمنصّة. سمعنا عندما دُسنا على قدّم أحدهم, أو على يده إذ لم يعرف كيف يركن: «إيه هنا أنتبه». لكنّه كان طفلاً لطيفاً مؤدّباً وإذا كانت هناك دمدمة ترافقت مع مرورنا فذلك من وقع المُفاجأة لا نتيجة عُدوانية أو احتجاج.

باختصار كل شيءٍ على ما يُرام. نجحنا من كثرة التخطَّي (وطلب العفو والمعذرة». في الوصول إلى الطاولة حيث ينتظرنا جيروم. جلسنا وجلس الوزير في الوسط بينناء نحن الاثنين. تناولت مُكبّر الصوت لأشكر مَن جاؤوا بأعدادٍ كبيرة من رجال ونساء وخصوصاً يوم السبت! يا لها من بطولة ‏ ولكي أشكر شكراً خاصًا الوزير الذي على الرغم من انشغاله ومن خلافاتنا التي لا تخفى على أحد قبل أن يَفتتِح المؤتمر. باستثناء...أجل هناك شيء واحد...هو أنني تحسبت لكل شيء. وخيوط الموقف في يدي مع بعض التحفّظ. إِنْه جيل. صديقي جيل. رئيس الحزب البوسني الآخر في باريس. الشخص الآخر الذي يثق به الحزب البوسني كا يثق بي ثقةٌ عمياء. إذ تعلق في حلق جيل كما تعلق في حلقي كل المظالم التي استطاع جوبيه ارتكابها ليس بحقٌّنا بل بحقٌ البوسنة. وجيل الذي نسيتٌ أن أَنبّهه إلى التحوّل التكتيكي البسيط الذي جعلني أتصالح نصف تصالح مع جوبيه وأن جوبّيه قدّم لي كعلامة على حسن نيّته شرف قبول الدعوة التي وجهتها له حالاً. لمحتها في عُمق القاعة سلكن مُتأخراً جداً نظراً لانحسار بصري لمحت في الحقيقة في ما يُشبه الضباب؛ شبحاً طويلا يجلببه معطف أبيض غريب. وقبل أن أتمكّن من أن أقول أيّ شيء رأيتٌ الشبح ينتصب. شعرتُ أكثر مما رأيتٌ ذراعاً مُتهما يشير إلى المنصّة وسمعتٌ صوتاً جهيرأ سمعتٌ صوتاً ثأريّا صوتاً صارخاً كان في الواقع يُشبه الصوت الذي علا قبل ثلاثة أيام: "السيّد وزير الخارجية السيّد وزير الاستقالة الوطنية موتى البوسنة يوجهون لكم أجمل التحيّات."

وحيث اعتقد الجمهور أن هذه إشارة وأننا توزّعْنا الأدوار بين خيّر وشرّير أنا مع جوبّيه وجيل ضِدٌ جوبّيه. انطلقت القاعة في عاصفة من الصياح والصّراخ وضرب الأرض بالأرجل والضجيج والصفير. أمّا جوبيه الذي كان يُراجع خطابه فنظر إلى جيروم بهيئة من عدم الفهم المشوب بالذهول ثم نظر إلي كأنه يُريد أن يقول: ألستما طبعاً سافِلَين إلى حدّ أن تنصبا لي هذا الفخ؟: واصفرٌ وجهه. وغمغمَ بعض الكليات التي غمرها الصَّخَّبُ وقبل أن أتمكن من الكلام ومن فعل أيّ شيء؛ نهض من مكانه مع جيروم: ومع الناس الذين كانوا جالسين قبل قليل والذين مضوا هذه المرّة ليلتحقوا بالضجيج وشقٌّ له طريقا بصعوبة بالغة حتى وصل إلى المخرّج. وحين صار في سيّارته سألّ كلييان: «من كان ذاك الأرعن؟ من كان ذاك الرجل ذو المعطف الأبيض الطويل ومن الذي أعطى إشارة الضجيج؟». فأجابه كليهان الذي لم يعرف أبداً أن يكذب. ولن يبدأ الآن بأن يتعلّم الكذب: إن جيل هرتزوق. هو صديق برنار المُفضّل بل هو باختصار قائده. لم تتوفر لنا أيّة فُرصة لنشرح الموقف ومنذ ذلك اليوم التاريخي تكوّنت لدى من هو الآن وزير الخارجية الفرنسي القناعة بأنني إن لم أكن الشيطان فأنا على الأقل مُغالٍ في السّفالة.

الخميس 2 آذار/مارس (وزارة الخارجية ...)

"الحرب في ليبيا تتعقّد" أقرأ هذا في كل مكان. مع أُنها لم تبدأ إلا منذ عدّة أيّام. لكنّ الناس ملَّوا منها. إذ يجدون أنها طويلة جداً فالعصر مُتقَلّب وغير مُجْدِ إلى حدٌ أن حرباً تدوم أكثر من ثمانية أيام تبدو لهم بلا نهاية. إِئّها رتابة تثبيط العزائم إِنّه اعتياد الضعف هذه القضية الليبية كمُوح ممتاز في العُمق بالأفكار الأبدية لأصحاب الميول التّركيّة للبيتانيّين الفرنسيين. وفيما يخصني بدأت موسيقى خفيفة تتصاعد. ليس تماماً: الوزير مرّة أخرى الخ. لكن (متغيّر): لكنّ الرجُل بدبلوماسيّته المُوازية وبخطه المباشر مع الرئيس وتدخُلاته البربرية غير الُناسبة يلحق الضرر بمؤسّسة فرنسية كبرى بفّخرِنا بدُرّة تاجنا الجمهوريّ بهذه المعجزة التي يحسدنا عليها العالم وهو فوق ذلك يقوم با قام به كما بمحض المصادفة. أجل! أجل! هذا لا يُصدَّق ولكنّه صحيح في الوقت الذي كان يقوم به ليفي.. آوه يا لوزارة الخارجية! يا لصواعق الحرب! يا لفرط الخيال والجُرأة! يا لهؤْلاء المبصَرين الكبار الذين لم يتوقّفوا كما هو معروفٌ جيدا منذ عُقود عن أن يروا قدوم الثورات ويستبقوها ويدعموها! كانوا رائعين في البوسنة. يُثيرون الإعجاب في رواندا. وكانت سياستهم الإفريقية فريدة من نوعها. وهنا في ليبيا كانوا يُحضَّرون لنا رائعة فنية رائعتهم الفنيّة ضربة سياسية موفقة سريّة تماماً كانت ستذهل العالم لو لم أحبط عملهم. إن تصريح جوبّيه؛ من القاهرة حيث أكّد أنه لن يكون هناك تدخل عسكري؟ يا لَلخُّدعة! انقلبت سحنته عندما سمع من الصحفبّين وهو ينزل بالكاد من الطيّارة أن الرئيس ساركوزي اعترف قبل قليل بالمجلس الوطني الانتقالي كممثل شرعي وحيد للشعب الليبي؟ يا للمهزلة! الدوران العكسي للساعات ثم للأيام التالية؟ أَهُوَ سوء تفاهّم! كانت وزارة الخارجية تُخفي لُعبتها. لَعِبتها سرا. الوزارة فذّة.

أحب كثيراً هذه الطريقة في كتابة التاريخ. هذا المجلس الحربي الذي عُقِد أمس على ما يبدو في مكتب مدير في الوزارة حول موضوع: «الوضع الحالي ومهماتنا البديهيات التي من أجلها لا نستطيع الّمضيّ إلى الحرب والفجوات الدقيقة التي سنتمكن من أن نضع فيها عناصر لُغتنا». وهذه الاتصالات الهاتفية مع المراسل الدبلوماسي لمحاولة بيعهم بصعوبة ومشقة سيناريو بسيط دبّرته منذ زمن طويل وزارة الخارجية المتيقظة الواعية التي رأت كل شيء منذ البداية؛ وفهمت دوماً كل شيء: وكان لديها خطة ساخنة لقلب نظام القذّافي!

فال لي جان ‏ بول انتوفن الذي يرقب كل شيء ليس بعين سيريوس: بل بعين الأدب الخالد: هذا في حدٌ ذاته ليس خطيراً. أو بالأحرى من حُسن الحظ أن ترى هؤلاء الخبراء الكبار الجامدين المعارضين وجودياً لأيّ تدخل يشعرون بالحاجة إلى القطار المُنطلق. هذا صحيح. مادام القطار لم يصل بعد وأنا الآن مَن يخاف أن أراهم يُعيقون هذه الالتفاتة الفرنسية الرائعة ويُدمّرونا ويمنعون وصولها إلى غايتها. يُضاف إلى هذا من جهة أخرى أننا لا نرى كل يوم كيف تعمل في المخبر حول حالةٍ هي من الوضوح بحيث تبدو صغيرة ونادراً ما نحتاط في أمرها أقدم آليّة لإعادةً كتابة التاريخ؛ ومشهد هذه المناورة هذا الفجور الأخرق في الطاقة الْموجّه لتوضيح ما لا يُوضّح هذا الاهتياج في كل الاتجاهات وعلى الجملة الاهتياج الصبيانيَ للناس الذين لا يتراجعون أمام أيّ شيء كي يُعيدوا كتابة التاريخ؛ أقول بصريح العبارة إن إعادة كتابة التاريخ ومشهد هذه المناورة نموذجيّان.

جوهرتانٍ في الحرب ‏ جوهرتان صغيرتان إلى حدّ أنني لا أستطيع مقاومة لذة حجزهما: أولا قافلة المساعدات الطبيّة الْمكوّنة من أطبّاء ومُساندين وأدوات استشفاء القافلة التي وصلت إلى بنغازي مساء الثالث من آذار/ مارس وذهب كل الصحفيّين في المدينة لاستقبالها. فاستخدموا كل الوسائل وقالوا لأنفسهم كلما مر الزمن أكثره ضاعت مصداقية قضّيهم في ضباب أرشيف غير أكيد وبدأت حناجرٌ وزارة الخارجية تحكي أن رجال الدرك الفرنسيين كانوا يُرافقون القافلة (وهذا صحيح) وأن ر جال الدرك وعناصر القيادة العامة للأمن الخارجي الذين كانوا يُرافقونهم؛ كلّفوا بمهمّة أن يتَصِلوا "بحسب الأصول" ‏ وأن يتابعوا بنظرهم ...

المجلس الوطني الانتقالي (وفي هذا بعض التهريج نظرا لان المجلس الوطني لم يتشكل إلآ في الخامس من الشهر أي أنه لم يكن موجوداً في اللحظة المذكورة!(.

وهناك على الأخص الخبر الغريب الذي ظهر في رسالة سريّة تسمّى ب "الرسالة" بعنوان من نوع "كاد برنار ‏هنري ليفي يموت في بنغازي كان من الْمكِن توقيفي عل الكورنيش على أنني «عميل إسرائيلي». وحين كان الثوّار الشباب على وشك ضَرْبي ما كنت نجوتٌ لولا التدخل اليقظ لعناصر القيادة العامة للأمن الخارجي الذين لأشكٌ في أنهم هم أنفسهم الذين رافقوا قافلة المساعدات الإنسانية وتواجدوا هناك بمُعجزة وجعلوا من أجسادهم سوراً يحميني. لا جدوى من توضيح أن هذا الخبر لا أساس له من الصحّة. فأنا هنا في الصفوف الأولى من مسرح (اختراع يستخدم كل أنواع القطع من دون أيّ أساس ويثير الدخان من دون ناره وذلك لتضليل أَعِدَ بحسب الأصول هذه المرّة كدت أعتقد أنه لا يوجد إلا في الروايات البوليسية الرديئة. لكنٌ المهم أنني عندما طلبت من باتريك كلوغمان أن يذهب ليرى مدير هذه "الرسالة آ" كي يرجوه لسحب هذا الخبر الذي أكذّبه جملة وتفصيلاً والذي سيكون أثره الوحيد إعطاء فكرة سيئة عني عمّا يضعني في خطر إذا عُدتُ يوماً إلى ليبيا الهم أنني اكتشفتٌ أن مصدر هذا المونتاج اللامع هو طبعاً نفس المصدر الذي

أشاع أنني هربتٌ مع موكب قافلة الُمساعدات الطبيّة علاوةً على قطرة السّمّ ‏"عميل إسرائيل" ‏ في نهاية المقالة. لكنْ أليس للمؤسّسات لا وعي؟ ولماذا يُمكن أن تُستثنى وزارة الخارجية من هذه القاعدة؟

(الكاتب الشبح) ترجمة محمود جبريل

في بداية فترة بعد الظهر تلقيتٌ مكالمة هاتفية من الرئيس. دائماً أخاف حين أسمع على الطرف الآخر من الخط الهاتفي؛ «هنا أمانة سرّ رئيس الجمهورية» الرئيس يُريد أن يُكلّمك». في الواقع» أخاف دوماً من احتمال أن ساركوزي قرأ كثيراً من الصّحف واستمع كثيراً إلى وزرائه» أو إلى الأسياد في وزارة الخارجية» فبدأ يجد أنه خاض مُغامرةً أعقد مما تبدو. لكنْ لا. هذه المكالمة مجرّد حديث اعتيادي لأكون. كما قال. "عل عِلّم" بالْمستجدّات ثم ليطلب مني شيئاً.

ابدأ بالقول: أنا مُسافر إلى بروكسل. أشعر أنني مثل فيل في مخزن بورسلان... هؤلاء الأوروبيُون لا ينتظروني إلا ليسلخوا جلدي...؛

ثمّ: «وصلت أول الطيّارات القطرية». سألته: في الجوٌ؟ «ليس في الجو لكنها أخيرأ هنا ومعها الرمز. ثم «وفي النهاية أعطوا ضمانهم لإمكانية أن نقصف ليس فقط طيّارات القذّافي بل دبّاباته أيضاً (هل عنى أتّهم ضمنوا أن تقصف الطيّارات الأميركية دبّابات القذّافي؟). لم أفهم تماماً لكنني لم أجرؤ على أن أطلب منه إعادة ما قاله.

وأعلن لي أيضاً أنّه وكاميرون "الذي تحفظ في البداية على الفكرة وافق عليها في النهاية" بصدد تركيب «مصنع غاز» يسمح للتحالف بأن تقوده مجموعة مُتراصّة ‏ يسمّيها "مجموعة طيّارين" ‏ بينما يضمن حلف الناتو الذي يخشى من ثقل المصنع إسناد العمليّات.

ثم وصل في النهاية إلى السبب الحقيقي للاتصال: «أصدقاؤنا في بنغازي... ألا يستطيعون أن يظهروا أكثر قليلاً؟ وحين سألته عّما يعني بذلك» وعًما إذا كان ينتظر منهم حركةٌ عسكرية وأيّة حركة يُريد: «لا لا من الناحية العسكرية» كل شيء على ما يُرام؛ لكنْ عليهم أن يظهروا سياسياً. بما يغني حتى لو لم يقّله أنه يوش من أجل طمأنة الرأي العام تصريحاً استعراضياً من المجلس الوطني الانتقالي يحيي فيه الجهد العسكري لقوى التحالّف وخصوصاً فرنسا.

اتصلتٌ فوراً بمنصور. ثمّ اتصلت بجيل الذي كتبنا معه. كما في الفترة البوسنية العظيمة مشروع رسالة شّكر للشعب الفرنسي ترجمها منصور إلى اللغة العربية: وأرسلها في الحال إلى محمود جبريل الذي صار منذ ذلك الصباح رئيس وزراء المجلس الوطني الانتقالي.

وجدت أن الرسالة وأنا أقرأها مثيرة للأشجان. لكنّها لا تحرج عن نغمة الرسائل التي من هذا النوع التي كنا نكتبها لبيغوفيتش منذ خمسة عشر عاماً. وخاصة أن جبريل أجازها وأضاف عليها كلمة واحدة في بدايتها هي تلك التي تذكر اسمي. لكنّه يعتمد باقي الرسالة ويُرسلها لي مُوقعَة في ورقة بترويسة عليها ختم المجلس.

وضعنا للرسالة هذا العنوان: "ليبيا الحرّة تُشيد بموقف فرنسا السامي". إنّه العنوان الثاني الذي كتبتّه من أجل هذا الرجل ليلة تلاحٌق المواعيد مع هيلاري.

وها هو النصّ كما أوجّهه إلى "ايتيين موجوت" الذي وعدني بنشره غداً السبت في زاوية بارزة من الفيغارو.

العزيز برنار ‏ هنري ليفي. اسمح لي أن أطلب مرّة أخرى وساطتك ‏ أنت الذي أول مَنِ قرّبنا من الرئيس ساركوزي ‏ لتوصل إلى الرئيس الرسالة الآنية. .

"السيّد الرئيس. دمّرت طيّاراتكم في الليل الدبّابات التي كانت تستعِدٌ لتدك بنغازي

وتدخلها من دون مقاومة. شُكراً لطيّاريكم الذين ينطبق عليهم قول ونستون تشرشل في الطيارين الإنكليز سنة 1940: هذا‏ العدد الكبير من الناس مَدينٌ لقليل من الرجال.

ومنذئذ شلّت ضربات التحالّف تشكيلات الطاغية حتى لو احتل المدّن الساحلية حيث يتحصّن: وحيث لا نزال غير قادرين على طرده منها نتيجة نقص المعدّات.فشكراً للقوّات البريطانية والأميركية؛ والأوروبية والفرنسية والقطرية والكويتيّة على مشاركتها.  فالشعب الليبي يرى فيكم المُحرّرين. وسيكون إلى الأبد مُعترفاً بجميلكم. وأريد يا سيادة الرئيس العزيز ساركوزي أن أوجّه إليكم وإلى الشعب الفرنسي هذه الكليات: الشعب الليبي وكذلك الشعوب الصديقة والجارة بدءاً بإخوتنا التونسيين والمصريين ترى في النجدة التي قدّمتموها لنا التفاتة عظيمة إزاء العالم العربي، نجدة الربيع العربي وهذا الدعم الحاسم لتطلّعات شعوب منطقتنا إلى الحريّة وحقوق الإنسان. إِنَّه يتجلى اليوم في ليبيا: لكننا نعرف أنّ هذا سيتخطَّى حدودنا ويتوجّه في ما وراء كفاحنا إلى إخوتنا جميعاً. أما الآن فسوف يستمرٌ كفاحنا من أجل التحرير. لا شك أنّ على قوّاتنا أن تُنظّم. لكنْ لا تنسوا يا سيادة الرئيس أنّ عمر جيشنا لا يتعدّى ثلاثة أسابيع. ورجالنا جميعهم جاهزون للمعركة. ولا نشك بشجاعتهم. نحن لا نُريد قوّات خارجية ولن نحتاج إليها. وبفضلكم سوف ننتصر في المعركة الأولى. سوف ننتصر بوسائلنا الْخاصّة في المعركة الثانية. وتحرير بلادنا قادم. يلزمنا فقط بعض الوقت. ونحن نعلم أن بإمكاننا الاعتماد عليكم حتى التحرير النهائي لبلّدنا وسقوط الطاغية القذّافي. شكراً لفرنسا. وعاشت ليبيا الحرٌة."

في المساء اتصل بي الرئيس الذي وجهِتٌ له الرسالة بطبيعة الحال. كان يبدو راضياً. وقد تأئّر بصدق حين لفت نظره إلى أن هذه الرسالة ستكون أوّل فعل رسمي لحكومة ليبيا الوليدة. وقال لي على عجّل إن الأشياء تطورت في الساعات الأخيرة وأنْ الاثني عشرة طيّارة إماراتية والطيّارات القطريّة الستَ دخلت المعركة فعلا كما أخبرني أنْ القمة الأوروبية التي كان يخشى عواقبها لم تكن بهذا السوء؛ وأنَ مجموع الشركاء انتهى» طوعاً أوكرها بالإصطفاف وراء فرنسا وأن قمة في لندن ستنجز في الأسبوع القادم تقويم العلاقات وستسمح في الوقت نفسه بالتفكير في وسائل تشجيع الانشقاقات في معسكر القذافي وتسييرها بل وتنظيمها..

السبث 26 آذار/مارس (بسرعة: لفتة من إسرائيل)

أمن مساء. في بهو فندق رافاييل. حديث مع أفيغدور ليبرمان وزير خارجية إسرائيل الذي لم أكن أعرف أنه نزيل هذا الفندق. كنت عائداً من قناة فرنسا الثانية بعد أن شاركت في النهاية في نشرة الثامنة مساء بعد أن ألغيتها بسبب مُقابلة مع البي بي سي.. الوزير هنا في البهو يُرافقه صديق بلجيكي دنا مني وقال: "رآك الوزير توا على التلفزيون في غرفته. هو الآن خارج ليتعشّى بسرعة؛ لكنه يودٌ أن يراك بعد العشاء مباشرةً ليتحدّث معك عن القضية الليبية".

عاد بعد ساعة شكلّه مُطابق لما كنتٌ أتخيّله بنية جسدية حارس ملهى ليلي.. هذه الطريقة في أَخذٍ راحته وهو ينزع سترتّه وربطة عنقه شخيره الرنان الهادر. تخالّه شخيراً؛ إذ لا أستطيع من جهة أخرى؛ أن أمتنع عن تخيله وهو يتكلم نائمأ يعلو شخيره بمثل هذا الضجيج. فيها عدا هذا هو ذكيّ. إنها المفاجأة: وجدته أذكى وأكثر تماسكاً مما كنت أظنّ، قلت له كم أجد فزع إسرائيل من الربيع العربي مؤسفاً.

ألححتٌ على حقيقة أن هذه الثورات واقع؛ وأنهاء سواءٌ راقَتْ لنا أم لا لم تطلب من أحد السماح لها بأن توجد وتسلك المجرى الذي حدّده لها التاريخ. لكنّ الخيار بالمقابل هو خيار باقي العالَم. وخصوصا إسرائيل ‏ فهل سنتمسّك بالعالم القديم؟ وهل تُريد أن نكون آخر من يخوض معركة خلفية خاسرة سلفاً ومخجلة؟ ومن وجهة نظر أخلاقية وإستراتيجية: أليس الاقتران بحدث لا يعتمد في أية حال من الأحوال إلا على نفسه باهظ الكلفة؟ كنتُ أشجّعه في النهاية على تبديد الإشاعة المتواطئة التي تقول إِنّه على علاقة شخصية مع رجل أعمال نمساوي غامض هو نفسه صديق سيف الإسلام الابن الْمَفضَل عند القذافي: قلت له: "ليس هذا موقف شمعون بيريز» ولا يهود باراك؛ وأيّ شخص في ليبيا يعرف أنَّ القذّافي هو العدو الأكثر بُغضاً لإسرائيل؛ فلماذا يبقى الشخص الُمكلّف بحقيبة وزارة الخارجية في إسرائيل الذي هو أنت منسجماً بهذه الطريقة الغريبة؟ وعلى غير المتوقّع أجابني بحُزمةٍ من الحجج التي رأيت أنها رديئة وغير مقبولة ‏ لكنّ لها منطقها:

 وجوب عدم تخْلف إسرائيل عن حُلفائها على قَلَتهم. فإسرائيل معزولة كما هي حال بعض دوّل العالم وكل حليف من حلفائها سماوي نعمة من الله. فلماذا تخون بن علي الذي عمل كل ما يستطيع منذ عدّة سنوات ليحتوي مُعاداة الساميّة في الشارع التونسي؟ ولماذا كان يجب التخلٌي عن مُبارك الذي كان الحارس الوفي لمعاهدة السلام التاريخية الفريدة من  نوعها التي وقّعها السادات وبيغن؟ ولماذا سنقلق ملك الأردن الشاب فضلاً عن الملك السعودي العجوز الذي تُقيم إسرائيل معه علاقات سريّة والذي يعيش الرُّعب من رؤية الربيع العربي يجرف عرشّه؟.

تجنب إظهار أية علامة على الضعف قال: منطقتنا صعبة بل متوحشة لا تحترم إلا القَوّة والحال أنَّ قوّة إسرائيل ما تزال مُتماسكة؛ من خلال نوع من النبوءة ذاتية التحقق في هذه القوّة ذاتها التي تُقَدّم المشهد. تأمّل الذي جرى بعد أن تركنا لبنان. انظر كيف فهمت المنطقة انسحاب جيش الدفاع الإسرائيلي من غزّة. وجهنا رسائل سلام ففُهمت أنها دليل الضعف، قدّمنا تعهّدات بحسن نيّة فاعتقد الشارع العربي أنّهِ يستطيع أن يُركٌعنا. أريد فعلاً أن أتعاون مع السلطات الجديدة في مصر. أريد فعلاً لأنها طلبت مني هذا مخالِفَةٌ مع ذلك اتفاقيات كامب ديفيد التي تحظر نشر قوّات إضافية في سينا وقد وافقنا على هذا خاصة للمساعدة على حماية منزل مُبارك وحراسة عائلته في ذهابها وإيابها والسهر على أمن السيّاح. غير أني لا أريد بأيّ ثمن إعطاء صورة بلّد خائف. لا أريد وأنا أمد يدي إلى ثوّار لا أعرف عنهم شيئا أن أشيرهم أننا نتملقهم وأننا نمضي في مهب الريح.

وأخيرأ وعرّضيا يُريد تجنب أن يبدو مُثيراً للسخرية ألا يبدو بهيئة الساذج الضخم الذي لا يرى كامل رُقعة الشطرنج بل قطعة واحدة مُفْرّدة - أو يبدو بهيئة أسوأ هيئة السياسي الذي يحب ويؤيّد هذه الثورات بدافع المصلحة؛ لكي يجني أموالأ ويدّخر أرباحاً. قال: عيوبي كثيرة لكنّي لست انتهازياً. أمَا لهب دور محُرّري ليبيا الرومانسيّين (على طريقة بايرون)؛ فبصراحة تجاوزتٌ هذا العمّر... هل كان يسخر منّي وكأن شيئاً لم يكن؟

امتّد الحديث إلى ساعة مُتأخرة من الليل وهو يطلب الويسكي كأساً إثر كأس، ولم يكن يبدو مع مضي الساعات بالوعة خمر بل أليف حانات لا يُريد الذهاب إلى النوم. لكنْ كلّما كان يشرب أكثر ينزلق لسانه وتتلاشى حُججه. وتُشْحَذ أفكاره حتى بدت لي رهيبة الوضوح. الحقيقة أنَ هذا الرجل خائف. نعم هذا الرجل الذي قال لي إِنّه خائف من أن يبدو بمظهر الخائف إِنّا هو رجلٌ مرعوب بخباوة لا توصّف، فعلى وجهه الضخم بملامحه البسيطة ونظرة المُدمِن على الخمر وفي جسمه الهائل لكن المنهك الذي يهزّه الشخير الذي تعاظّم ضجيجه وكأنه نداءات استغاثة وفي صوته الذي كان في البداية يُلِبسه نغمة صوت الوزير ولكن مع مرور الساعات؛ وبعد أن خلا البار من كل أَذْنِ فضولية لم يعد يستطيع التمثيل فاهتزٌ الصوت قليلاً ورأيتٌ شيئاً أعرفه جيدا ألا وهو خوف إسرائيل المرّضي الدراماتيكي العائد إلى آلاف السنين. وإزاء هذا الخوف أنا خائف من الخوف ولا أحد يستطيع أن يفعل شيئاً.

الأحد 27 آذار/مارس (مكالمة هاتفية جديدة من الرئيس)

لا شيء خاصًاً.. أعلمني تحديداً بآخر التطوّرات قال لي "إن الطيران الفرنسي يقوم بقصف سرت. أخيراً جاء قصف سرت أفهم نفسي, يُردّد نيكولا ساركوزي... قصف منصّات الدفاع الجوي حول سرت... تحييدها الواحدة بعد الأخرى... مع الحرص طبعاً على ألا تنتج عن القصف أضرار جانبيّة".

سألته عما ستكونه «المبادرة الدبلوماسية الكبيرة؛ التي أعلنت عنها الإذاعات», منذ هذا الصباح وتُعيد بثها دائمأ والتي ينبغي أن تتمخّض عن قمّة لندن يوم الثلاثاء. قالي لي: "لاشيء: صنعتٌ منها الصحافة جبلاً. لكنّ هناك سوء تفاهم. وهذا ما تحدّثنا عنه يوم الجمعة: باب الخروج. المنخل الذي يجب فتحه من أجل ضبّاط النظام وكوادره من يُريدون الانشقاق. أما القذّافي فلا شيء في شأنه ومن المستحيل أن نتّفْق معه وبالتالي عليه أن يرحل".

فهمتُ من دون أن يُوضّح لي أنه هو وكاميرون ترّكا برلسكوني يقترح برنامج تهريب القائد المخلوع. ترّكاه يفعل ذلك لأنّه كان يبدو راغباً في أن يتوسّط ويلعب دور الراعي الصالح الساعي إلى إنقاذ وضع شريك طرابلس. إذا تمّ هذا بمُعجزة فسوف نرضخ له ونتيح تنظيم انسحاب ذهبي إلى زمبابوي. لكنّ ساركوزي لا يعتقد ذلك ولا يتمناه. إِنّه لَشعور غريب أن يصير الأمر بينه وبين القذّافي؛ على نحو مُفاجئ «شخصيا» كيا يقال في الروايات البوليسية.

قلت له هذا فضحك. سألته لماذا فلم يجب.

هل يكون السبب معلومة لا أحد يعرفها غيره؟ أم ملمح شخصية اكتشْفّه منذ أربع  سنوات خلال الزيارة المشهورة إلى باريس؟ أم أنه حدّث عندما أرسل السكرتير العام للإليزيه وكذلك زوجتّه بريسليا للتفاوض في قضية الُممرّضات البلغاريات؟ اختزلتٌ الأمر في افتراضات.

الاثنين 28 آذار/مارس (ما معنى الديبارديودونيه؟)

هذا الصباح حدثت مُصادفة غريبة وحزينة. ديودونيه في طرابلس التي يُمطرني منها بوابلٍ من الشتائم - وهذا ليس جديداً. حتى جيرار دوبارديو في الفيغارو هاجمني أيضاً ‏ بلهجة عنيفة فاجأتني، طبعاً لم يستخدم الألفاظ نفسها، لكنّ ثمّة في مُوحِيات نقدهما اللاذع في رحيق التوتسترون؛ والخمر في جانبه الصّعب الوعر التحليلي الخرائي الغامض من النقاط المشتركة ما يكفي ليوحي لجان بول بأن ينحتّ كلمة جميلة هي «الديبارديودونيه»» ولمجلّة "لاريجل دي جه" بمقالة ظريفة جداً كتبها جان بول نفسّه تبدأ بهذه الكلمات: "الديبارديودونيه حيوانٌ فرنسي: بَدِينَ سكران؛ فظ وأحياناً جاهل" وتننهي بهذه الكلمات: "لماذا الهدف ذاته" وفي اليوم نفسه والمفردات المُتقاربة ‏ بينما كان الديبارديونيه قد عوّدّنا على فن ازدواج الشخصيّة (التمثيل) الأكثر حذقاً؟ حقاً إن دراسة الممسوخات علمٌ متلعثم يُرثى له. ومرّة أخرى وكما في البوسنة تتأكّد الطريقة التي تجري فيها الأحداث الحقيقية ليست الأحداث الأفلاطونية الضئيلة التي يتلمّظ بها «ثورجيّة» الصالونات أو المخابر ولا الأحداث الواقعية الأحداث المحسوسة؛ حيث تتقرّر مصائر الشعوب أو رغباتها في الحريّة أو العمّل كمُساعد على إحلال الحقيقة واستلهام اللاوعي السيامي وعوامل التقسيم أو التقريب غير المُتوقّعة وعلوم الخرائط الملهّمة.

في البوسنة تقاربتٌ مع جوليار أو مونجان, والتقيتٌ هيتشنز وتخاصمتٌ مع ماريك هاتير وتصالحتٌ مع فيكيبلكروت. وفي ليبيا الشكوك المعتادة نفسها يضاف إليها مُجدَّداً آخرون غير مُنتظرين ‏ مارتين أوبري التي تم اللقاء معها وجوفران أو ديموران الكاملان وتقارير ريمي أوردان في اللوموند وتقارير جان ‏ بيير بيران في ليبيراسيون أو تقارير موريس أوليفاري على القناة الفرنسية الثانية الممتازة ومهدي بلحاج قاسم الذي أوّل من حذرني من هول الحدّث التونسي ثم على العكس هذا الحيوان الذي لا جنس له؛ لكنّه ليس من دون مستقبل الحيوان الذي ظهر على قرون استشعاري الخاصة- ‏ ديبارديودونيه الحزين...

الخميس 29 آذار/مارس (ظل كوشنر)

الساعة العاشرة. حديث مع الرئيس.

الرئيس غاضِبٌ من باراك أوباما الذي هو الآن على وشك إعلان إرادته في الانسحاب. تحدث معه أمس مساء. كان مُتصلَبا جداً حازما بالِغ القسوة. فتكوّنت لديه القناعة بأنّ الولايات المُتحدة ستسعى إلى الانسحاب. ألّح بالقّول: "هذا غريب. كانوا ممتازين في البداية ممتازين جدّاً. أوباما هو الذي كان الحكم النهائي بين غيتس وكليتتون حين اتخْذ قرار التدخل لكن هنا فجأةً... لم أعُد أفهم ما يحصل... أنا مُتأكّد أنه انسحب...؟" لفت نظره إلى أنّ هذا الانسحاب الذي لن يكون نهائياً على كل حال والذي سوف يُبقي بالتأكيد إسناد البنتاغون على الأرض ليس بالضرورة سيئّاً من وجهة النظّر الأوروبية "ألا يجعل الأوروبيّين أكثر حريّة في التصرّف؟ وبالتالي أليست هذه فرصة غير مُنتظرة لأوروبا التي تجد صعوبةٌ في التكوّن كي تَبرهن على وحدتها بخطىّ حثيثة؟ ألْنْ يُعطي الانسحاب الأميركي فرنسا كي لا نتحدّث إلا عن فرنسا التي هي في الْمقدّمة حين يحل اليوم المناسب؛ أعني يوم النصر الذي لا ريب فيه. ألّن يُعطيها الاستحقاق الجوهري. وأكاليل الغار؟"

قال بصوتٍ يشوبه قليل من التفهّم لم أسمعه في مُكالماتنا منذ شهر: «نعم؛ رُبّما... لا أدري... ينبغي أن ينجح هذا... نعم يجب أن ننجح في المضيّ إلى نهاية هذا كله وأن يكون هذا فعّالاً..."

ثُمّ قال معبّراً عن قلقه: "هل هناك أخبار من أرض المعارك؟"

اتصلت أمس بجبريل وصلت الأسلحة الفرنسية. وكذلك الُمدرّبونَ العسكريّون. أشعر أن الأشياء تسير في الاتّجاه الصحيح .. قال وهو ما يزال شاكاً وقلقاً بغرابة: هذا صحيح. لكنْ كان علينا ونحن ننتظر أن نكبح جموحهم قليلاً. لنكن متأكدين أنهم سيملكون وسائل م هياجهم وبالتالي وجب أن نوققّهم. فليس لديهم ما يكفي من السلاح ولا من التدريب ولا من المدربين. ينبغي أيضاً الاهتمام بهذا كله كما ينبغي أن نكون صَبورين ثم استدرك فجأةٌ. شعرتٌ أنّه خائر العزيمة مُنَهّك ومُحبَط تقريباً. إذ غير نبرته كلياً وانتقل بلا تحذير وبشكل مرح - بنبرة فجأةً لم تعد تُشبهه على الإطلاق.

"ما علينا! إنهم رائعون! أصدقاؤنا رائعون دعوناهم إلى لندن. سوف تُقتتح القمّة خلال بضع ساعات وسيكونون هناك. سَوف يُلاقون الحفاوة الرسمية وسيكونون محط كل الأنظار وهم يستحقّون هذا. فهم أناس طيّبُون. ليس هناك مُشكلة ليس هناك مُشكلة على الإطلاق. سوف ننتصر في هذه الحرب!." وأغلق الخط.

نبرته تقول لي شيئاً. لديّ انطباع بأنني سبق أن رأيتّها سبق أن سمعتّها أنا مُتأكٌد أنه ليس صوته. لكنه صوتٌ مَنْ؟ ومن أين أتاه؟ ومن أين حصل على هذا المرح الْمباغِت المبالّغ فيه قليلا وأخال أنه لم يمتلك الوقت لصهره في لُغته وفي صوته الخاصٌ؟ أين راح يبحث عن هذه الطريقة الجانبية تمامآ في التصٌّرف كما لو أن كل شيء يسير على ما يُرام وأنّهِ يُسيطر على الموقف سيطرة تامّة؟ طبعاً... هذا بديهي... فلكي يقاوم لحظة انهيار العزيمة التي ليست من طبيعته استعار من دون أن يدري صوتاً لا يُشبه صوتّه لكنّه لا بُدَ أن يكون قد سمعه؛ في ظروفٍ مُشابهة لهذه الظروف هو صوتٌ مَنْ... صوت... أستطيع أن أتعرّفه من بين ألف صوت... إن صوتٌ برنار كوشنر! يعثر إذاً على صوتٍ وزيره السابق كأثر شبّح هذا المزاج التواًصلي الرائق ونوبات فوّرانه الحماسية الصبيانية وهذا الميل إلى طريقة "كويه" التي طالما اعتمدها المكافح الذي لا يعرف الكلل من أجل حقوق الإنسان في اللحظات الحرجة؛ وأنا واثق من أنه كان يُورّطه! ولا بد أنه ازعجه طبعاً، وأفرغّ صبرّه. الدليل على ذلك أنه صرّفه واستبدله قبل هذا "بليفيت" المعروف بدبلوماسيّته والذي صار وزير خارجيّته الحقيقي. غير أنْ كوشنر كان يُطمئنه بتفاؤله الذي لا يتزحزح وحميّته وجانبه المرح إذ يقول «هيًا بنا أيها الصبيان»» وطبعٌ الطبيب الناجح الذي يود الحل دائماً. وقد وجد الدكتور الوسيلة؛ عن بُعد من دون أن يعلم هو الآخر في أن يصِف له دواءه السحري؛ ويحقنه به فما الذي يبقى من صديق؟ رُبما يبقى هذا...صوت...بضعةٌ من صّوت...طريقة في وشوشة تُشبه الكلام الذي نقوله في الليل لأنفسنا كيف نستمد منه الشجاعة والحيوية...وأحياناً تبقى منه حركة...أو إيماءة... والباقي... أوه الباقي! سُعداء أولئك الذين نحتفظ لهم في داخلنا بهذا الوجود من الظلال.

يتواصل