إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع العربي" ح7

أربعاء, 24/02/2021 - 00:06

لو أن كوشنير ما يزال وزير خارجية..

كوشنر؛ من جهة أخرى قضية جادة..غالباً ما أفكر فيه. أفكر بأنه كان بالإضافة إلى غلوكسمان, وإِلّي لكنْ أكثر منا مُبتدع وجوب التدخل الذي يشهد من دونه أوّل تحقّقه. أظنٌ أنّ خياره في أن يكون وزيراً هنا الآن مع هذا التدخل في ليبيا الذي كان لابْدَ من أن يجد مُبرّره ومنطقه. قلتٌ دائما في تلك الفترة أنه أخطأ حين قبل المنصب. وطالما قلت له عندما طلب رأيي أنه بقبوله وببخس قيمة أسطورته؛ خان سيرته الذاتية. لكن على الأقلّ القضية الليبية التي ستثار في النهاية والتي خلقت من أجله وفُصّلت على قدّه على قدّه وحدّه؛ سوّغت كل شيء. والحال أن ليبيا لم تُسوٌغ شيئاً. لأنه بعد عدّة أسابيع تقريبا فوّتها.

فتجرّع الإهانات ومسح كل الإزعاجات وصمت عن.الصّينَ والدالاي لاما وفي دارفور وقال أمام بوتين عكس ما كان يعتقد ‏ ولحظة شروعه في إثبات أنه كان على حق لحظة كان مَلاك التاريخ على وشكِ التجلي والتوبة عنا عَبْر ليبيا كان مُجبراً على الرحيل وترك مكانه لجوّبيه. يا للسّخرية. يا للْحُزن.

ثّم إن هناك في الوقت نفسه سخرية السخرية سُّخرية مُضاعَفة أتساءل: لو كان ما يزال وزيرا هل كانت ليبيا هي ليبيا. بالتأكيد ما كنت صِرتٌ ضمن اللوحة. لأنه بأقلّ من جوبّيه ما كان سيقبل تدخلا في مجال سلطته. لكنْ رُبماّ هو أيضاً سيكون خارج اللوحة. وربما ما كانت حرب ليبيا قامت أبداً. ورُبّما ما كان كوشنر الوزير سيتمكن من إقناع ساركوزي. ورُبّما ساركوزي في آلية عمله الغريبة الخاصّة به لم يكن ليفعل مع كوشنير ما فعلّه ضدّ جوبيه. مّن يدري؟

الخميس 31 آذار/مارس (نيوزويك وفرنسا)

وصلتٌ إلى نيويورك أمس مساء. فذهبت على الفور إلى تينا براون التي كان يحيط بها فريقها من الصحفيين الشباب أصحاب المبادئ في صحيفتي النيوزويك والديلي بيست. ساركوزي هنا رجُل ممتاز. النوفيل أوبسرفاتور في باريس وضعت عنوان: «انتهت اللّعبة». ما يظهر هنا إِنّما هو حَزْمّه وشجاعته وطريقته في تناول هذه الحرب الجديدة في نوعها من وسَطِها. ومن جهة أخرى حضّرت النيوزويك غلافاً مع مقالة طويلة لكريستوفر ديشي عن موضوع «الفيلسوف ورئيسّه». فقلتٌ لتينا إنني أفضّل العنوان الثاني على العنوان الأوّل لأنّ ساركوزي ليس رئيسي. لكنّني وجدتُ صعوبة في إقناعها وفريقها بأنّ تحالّفاً مؤقتاً ليس انضواءً وأنني لم أصِير بعد ساركوزيا على الرغم من قضية ليبيا. ففهموا الأمر في النهاية.

الجمعة 1 نيسان/أبريل (ماتُ برنار. هنري ليفي)‏

أعلنتٌ موتي كذبةٌ أوّل نيسان في باريس. كما حصل لحظة اندلاع حرب البوسنة حيث أعلن مُفوّض الشرطة في الدائرة السابعة عشرة بعد أن تلقّى الخبر من الصربيّين القيمين في باريس أنني قُتِلْتُ أثناء الليل في بولفار بيري وعندما شاع الخبر كان أمام ماري جويل أوبير ثلاثون دقيقة لا تزيد دقيقة واحدة كي تحمل دليلا أنني على قَيْد الحياة إلى وكالة الصحافة الفرنسية. وكأنّ كون المرء قتيلاً جريمة وعلى المتهم الُمفترض في هذه المحكمة الغريبة التي هي محكمة الفُرجة العظيمة: أن يحمل الدليل الذي لا يملكه، فيها عدا أن هناك اليوم وكالة تويتر وأنّ الخبر لا ينتظر ثلاثين دقيقة ليبدأ في الانتشار أو كا يُقال من الآن وصاعداً في الطنين. حينئذٍ اتصلتٌ بجان ‏ باتيست دوكروا ‏ فيرنييه. كالعادة أتصل على الفور بساحر... على الإنترنت. وكما في كل مرّة يحرك جيشه الهائل من الأقزام؛ ويُرتّب لي الموضوع فورياً تقريباً. كيف يفعل هذا؟ هل يُغرق الخبر؟ هل يحقنه بحساب لعين كما في أشعة الليزر؟

هل يدخل المواقع التي تنشر الخبر بعد تكسير أبوابها كسارق مُهِذْبٍ بأسلوب جديد وُدّي واخوي بأسلوب إنسان مبدئي وفارس؟ هل يقتل الخبر؟ لا أعرف. لكن الجوهري أن هذا فعّال. تماماً كما في معركة «سكينه» التي ما كنت أبداً سأخوضها من دونه. كما في معركة اليونسكو حين تصرّف ووضع سدا أمام تعيين وزير مصري قديم كان قد وعد بإحراق الكتّب الإسرائيلية في مكتبة الإسكندرية؛ الكبيرة. ولم أستطع أن أربح المعركة إلا معه. كما في قضية بولانسكي الذي لا يعرف على ما أعتقد كم هو مَدين لهذا الإنسان الخارق؛ فائض الكرّم الذي في ما عدا بعض الاستثناءات لا يحِبَ الناس إلا عن بُعْد. أجل ألقى بنفسه في معركة انبعاثي من الموت وانتصر طبعاً. وعلى عجَلٍ اكتشفت شخصين أو ثلاثة أشخاص من معارفي أن الخبر لم يكن يُناقض شيئاً أكثر من هذا.

السبت 2 نيسان/ أبريل (يهودي مُحرض على الحرب)

هل هو خبر من أخبار نيوزويك؟ مقالة ستيفن ايرلانجيه في نيويورك تايمز الذي يستأنف ويُطوّر مقالة جيرار في الفيغارو ومقالة سيّد مهران في مجلّة لو بوان؟ جاء في الجريدة النيويوركية ريشار برودي: «هل قاد برنار ‏ هنري ليفي حلف الناتو إلى الحرب؟) لكنني أشعر أنهم يخترعون هنا وفي فرنسا أيضا قصّة كاملة عن الموضوع: «هذه الحرب التي لم يكن أحد يُريدها» ‏ طريقة أنيقة ليقول: «هذه الحرب التي أرادها ساركوزي» وأوحى بها برنار ‏هنري ليفي وأشعلها هؤلاء الشياطين حُلفاء الظرف الراهن ومن أجل الظرف الراهن على ظهر الشعوب.

الأذنٌ الثالثة تسمع شيئين.

هنا في الولايات المتّحدة جنون نظرية المؤامرة الذي استبدٌ بالبلد لحظة اندلاع الحرب في العراق وافتراض سيطرة المثقفين المحافظين الجُدد على دماغ جورج بوش: ساركوزي ليس بوش إطلاقاً: أعود وأكرّر القول إن حرب ليبيا هي العكس الصحيح لحرب العراق وكثيراً ما كنت أنا نفسي ضدّ جماعة أسبوعية "ويكلي ستاندارد" لم ينفع هذا في شيء ولم يكن يمضي يوم إلا وأقرأ مقالة: أو مُدوّنة أو مُدوَّنة فرعيّة تحطم الموقفين أحدهما بالآخر وتخلط بين علاقتي بساركوزي وعلاقة بيل كريستول بجورج بوش.

في فرنسا موضوع "سيلين" القديم الجيّد اْلمفضَّل عند الُمَعلّمين الذين "يُنوّمون" في الخفاء المُعلّمين بالمظهر فقط ويقودون العالم إلى مجزرة لا يُريدها أحدٌّ غيرُهم. فما تكون هذه الكائنات عديمة الذمّة هذه الوحوش الْمتَعطّشة للدماء التي وضعتنا في أجمل الأكفان المحتفلة رسمياً في مدرسة الجثث، والتي لا ترى في مجازر الشعوب البريئة إلا «تفاهةً»؛؟

هجائيات "سيلين" كانت ممنوعة طيلة ستّين عاما لم يُعَد نشرّها أبدأ وقد غرقت في اسمنت الحظر والرقابة الكارثيّة الأمر الخارق هو أن يكونوا هنا أحياء كما في أيامهم الأولى؛ ينفثون سمومهم ‏ أحياناً أقول كان يجب أن تُقرأ ومن المؤسف أنها حُظِرَت وأن وجود هؤلاء كان سيقل لو كانت هذه الكتّب غير محظورة وأننا أخطأنا جداً حين تصرّفنا وكأن الشعوب لا تملك الاوَعيها الخاص.

الأحد 3 نيسان/أبريل (سيلين أم شاتويريان؟)

تعشَّيتٌ مع شارلي روز وأريانا هوفانتون. قلتٌ لهما: لنفرض أنني لعبتٌ هذا الدور لنفرض أنني ضغطتٌ فعلاً للمساعدة على إقرار هذه الحرب فقد سبق أن أشعل كاتب فرنسي الحرب. كاتب وحيد. هو كاتب هائل طبعاً. ولست هنا بصدد المقارنة المهم أن لا علاقة بين هذه الحال وحماقات مُعادي الساميّة التي تنتشر ببط في فرنسا ويجب القول؛ في الولايات المتحدة الأميركية أيضاً. السابقة هي سابقة "شاتوبريان" الذي حين صار وزيراً للخارجية؛ أيّْد قيام الحرب الإسبانية الحرب الأخرى حربه حرب 1823 وإعادة تنصيب فيردينان السابع على العرش. فألا يكون ثمة شيء يدعو للفخر إعادة العرش لحفيد من أحفاد سان لويس ليس تصويراً لواجب التدخل الذي حلِم به، شيء وألآ تكون تعليلات "شاتوبريان" إنقاذ عروش أوروبا وسحق شبح الثورة وبالمرّة الكسب النهائي لقبضته الحديدية مع نابليون جذّابة كثيرآ فهذه بديهة. لكنّ الحقيقة تكمن هنا، فقد أراد "شاتوبريان" هذه الحرب منذ مؤتمر فيرون. وعدّها إنجازاً من إنجازاته، وحين اكتشف "فيلل" الذي يُمثل قليلاً جوبّيه ذلك العصر سِر القضيّة ولاحظ أن وزيره غير مهتم بمشكلة تحويل الأرباح المُحاولة في ذلك الوقت لمُشكلة الديون السيادية في أيَامناالتي تُخاطر فيها حكومته بأن تصير أقليّة والتي يحتاج من أجلها إلى دعم وزرائه كلّهم كان قد فات الأوان إذ انتصر "شاتوبريان" في الحرب وما سوف يدعوه "مورا" ب "الطير الكاسر الوحيد عاشِقٌ الجثث"

أضاف إلى مُذكرات ما بعد القبر بعضاً من أجمل صفحاتها.

الاثنين 4 نيسان/أبريل (اللغز أوباما)

قال لي "كريستوفر هتشنز" الذي غيّر الصراع مع المرض سحنته لكنه لم يمس نقده وحزمه إزاء المبادئ: "ما تُظهره حفنة من الشباب في مُقاومتها لدبّابات القذَّافي من الشجاعة يفوق ما تُظهره إدارتنا مجتمعة" معه حق. فجُبّن الأميركيين غريب.

وغريبٌ أيضاً ( لكن الشيء هو نفسُّه) أن ينطلقوا برعونة في هاتين الحربين الطويلتين باهظتي التكاليف والشاقّتِين للغاية ورُبما الخاسرتين هما الحرب في أفغانستان؛ وفي العراق ‏ ولْتكنْ هذه الحرب التي ليس فيها جيوش على الأرض وليست حرب الألف عام بين السنّة والشيعة هذه الحرب التي استغرقت بعض الوقت ولكنّ الجميع يعرفون أنها رابحة سلفا وباختصار لِتكنْ حرب ليبيا هي الحرب التي يدخلون فيها رغماً عنهم أو بتردّد.

أتكون هذه خطيئة الولايات المتحدة الأميركية الإستراتيجية في بداية القرن؟ أتكونُ العلامة الحقيقية على هذا التراجُع, على هذا الخسوف الذي تحدّثت عنه "أريانا" ذاك المساء والذي سيكون النزعة الثقيلة للحظة الراهنة؟ أم أنها مشكلة أوباما هذا الرئيس المْتردّد غير الواثق من نفسه بالإضافة إلى أنه المذعن بغرابة لدفع حساب الآخرين. في هذه الحال حساب مرحلة بوش وحرب العراق اُلمدمّرة التي لا بْدَ أنه شعر كأنه سدّدها بالامتناع عن المشاركة في حرب ليبيا العادلة هذا على الرغم من أن الُحاجّة قد تكون مُعاكسة تماماً: هذه الحرب هي التي كان ينبغي أن تقوم الحرب التي لا ينبغي تفويتها ولأنّ بوش أخطأ في العراق: كان يجب على أوباما أن يكون على حقٌ في ليبيا؟ على كلّ حال في كل البعثات التلفزيونية اليوم لا أواجه باستثناء فريد زكرياء إلا انعزاليين غاضبين يُلقون في وجهي ثمن التوماهوك...

الأريعاء 6 نيسان/أبريل (الذهاب ثانية)

عدت إلى باريس. ومنها ذهبت ثانيةً إلى ليبيا. هذا مؤسف لأنني أَحبٌ نيويورك؛ وأنا في حاجة كلما عدت إليها إلى ثمانية أيام لأتلاءم مع هذه الحياة فيها. لكن يهب الذهاب إلى ليبيا. لأنني كي أُعبّر ببساطة: أشعر أنَّ ُمعارضةً حيّة تتعاظم ضدّ هذه الحرب؛ وأرى كثيراً من الحماقات تخرج من فَمِ مُشوّهين يعلنون أنهم ُخبراء في الشأن الليبي؛ وقد أزعجني جداً أن أسمعهم يُردَدونَ باستمرار: "هذا المجلس الانتقالي الذي لا نعرف عنه شيئاً... هذا البلد الُمقسم... هذه القبائل المُتحاربة في ما بينها منذ أجيال..." إلى حدّ أن علي الذهاب أوَّلاً لأرى؛ وفي ما بعد أشحن على عجل بطاريّات أجوبتي وحججي.

الخميس 7 نيسان/ أبريل (الذهاب ثانية!)

عُدتٌ إلى باريس. نظمت :جوليا كريستيفا: حلقة بحثية عن الكاتب "سيلين" في جامعة باريس السابعة وكانت قد خصّصت لي مُداخلة. فيها: عدت في مداخلتي إلى مسار الأشباح في هجائيات الأشرطة الصوتية لتلك الفترة.

ثم تناولتٌ طعام الغداء مع الشخص الفريد بوب ووردويرد الذي جاء إلى باريس ليُطلِق كتايّه الممتاز حروب أوباما: لا أستطيع معه الامتناع عن التعبير ثانية عن دهشتي أمام هذه الحرب التي فَوَتها أوباما على نفسه مع أنها لصالحه. أعني الحرب في ليبيا. "قلت له: أميركا تجهز الحرب بتقديم الإسناد والأقمار الصناعية؛ والتغطية التكنولوجية التي من دونها ستكون الطيّارات الفرنسية والإنكليزية والعربية عمياء. لكنها بقيت مُتراجعة بغرابة وبغرابة بدت بمستوى متدنَ وبغرابة يخلي نذير إله الحرب (مارس) إلى جمالية مُبالَغ فيها. لماذا؟".

لم يكن لدى ووردوير أيّ شرح لهذا. لكنْ هناك ثلاثة افتراضات. خطأ تقدير الموقف بصورة طبيعي،. تسميم البيت الأبيض من البنتاغون، وإداراته التي لا بدَ أنها روّجت له أطروحة أنّ القذّافيٍ فائق القوّة وعالي التجهيز ولن تكون العصابات المتَمرّدة غير المنظّمة إلا لقم في فمه. أو لم لا الإدارة الأميركية نفسها التي ينحصر عمّلها في حماية حُلفائها في المنطقة وخصوصاً السعوديين ومن أجل حمايتهم؛ ينبغي إيقاف الوباء الديمقراطي على أبواب طرابلس..  غداً سأذهب ثانية إلى ليبيا..

العودة إلى بنغازي..

أقلعنا في الصباح الباكر. سلكنا مسار المرّة الأولى نفسه. مرسى مطروح ثُمّ السلوم وكنًا نحن أنفسنا: جيل مارك روسيل وفرانك فافري مع مُصوّر جديد فوجتا جانيسكا لأننا قرّرنا الأسبوع الماضي أنه علينا بالمرّة أن نجمع التجهيزات اللازمة بانتظام أكثر لتصوير فيلم مُكتَمل وحارس آخر فرانكو فافوريل وأخيراً صديقيّ الليبيّين المتلازمين اللذين تعرّفتٌ عليهما في فندق رافائيل، عرّفنا مأمورو الشرطة في المطار المصري فعجّلوا لنا بفضله توقيع الأوراق. وقادنا حتى الحدود نفس سائق سيارة "المينيفان" إلى الحدود سائق واحد للمدينة كلّها. أُلِفنا الطريق والحدود هي ذاتها الأمر المختلف الآن هو وجود عدد قليل من الناس. أكيد أن كثيرين نجحوا أخيراً في العبور، ولم تعد هناك كتلة البشر الهائلة العدوانية

التي رأيناها في المرّة الأولى. غير أن الذين بقوا يبدون أكثر إنهاكاً.. عيونهم غائرة أكثر وقاماتهم أكثر تهدّماً. ينبعث منها حُزنٌ بلا غضب وخصوصاً أنها غير قادرة على الوقوف، فهي نفوسُ ميتة. نفوسٌ تُنادي من دون كليات. حيوات لا هدّف ها. حيوات لا شيء.

ولادة فحياة فموت ولا يبقى شيء. وبينما كان علي ينتظر في الطابور تنبّهتٌ إلى وجود حُزْمةٍ من جوازات السفر في المكان نفسه الذي رأيته قبل شهر تظهر اليد نفسها وتختفي بسرعة كبيرة من نفس الفتحة الصغيرة في نفس الكوّة  باستثناء أنه لم يعد هناك من دواع لأن تزعج كتلة البشر البائسة تلك اليد إذ ما عاد حولها إلا مجموعة رجال ونساء مجّعدات الوجه ساهمات وأطفال يقضون الوقت باللعب في تنب حفر الماء الراكد التي حفرتها في الأرض أقدام مجموعات البشر الذين كانوا هنا قبل شهر أو اللّعِب "بحجّر الرّجل" الذي رسموه على الأرض الجافة حيث كوّنوا من أنفسهم أشكالاً غريبة تُشبه شكل النجمة وتنبّهت وأنا أنظر إلى هؤلاء الناس أنه إن كانت هناك معركة سوف تشغلني من بين ما يشغلني فهي هذه المعركة: المعركة من أجل هذه الحيوات الصغيرة الزهيدة التي لا مستقبل لها ولا قيمة.. قال لي كولومباني ذات يوم إن لدي رؤيةٌ ملحميةً عن العالم، لكنْ بشرط أن أضيف أنّ العام الملحمي ليس تمجيداً للشخصيات الملحمية الرسمية بل هو المعاملة الملحمية للشخصيات البسيطة التي لا معالم لها ولا أرشيف والتي لا يُغيّر موتها نظام العالم في شيء.

وعلى المرء أن يبذل جهوداً على نفسه كي يستطيع أن ينظر في عيون إنسان ليس له نظرة، يلزمه الألم الملحمي لَيّقيّم وجوه الذين ليست لهم وجوه حقاً. لِيْقيّمِ هذه الدمدمة المخنوقة الغاضبة البشرية بالكاد، دمدمة أولئك الناس الراقدين في صالة الترانزيت القديمة...أجل! أعرف لماذا لم أحِبٌ أبداً الشعار المتأنّق: "جعل من حياته رائعة فنيّة". إذ ليس علي أن أجعل من حياتي عملا فنيَآ بل من حياة الآخرين أمثال هؤلاء.

هذه المرّة تنتظرنا سيّارات على الجانب الآخر من الحدود. رجال أشِدَاء مُسلّحون بالْمسدّسات بالإضافة إلى بنادق كلاشنكوف وبندقية هجوم بين المقاعد الأمامية في كلّ سيّارة من السيّارات الأربع. في سيّارتي رجل بدين جدأ شعره طويل يرتدي سترةٌ جلدية كبُلغار الستينيات يسحب البطاقة الإلكترونية من هاتفه بعد كل مكالمة مُختصرة دوما مع سائق السيارة الأولى. وإلى الأمام باتجاه بنغازي ينتابنا الشعور دوما بأننا في مكوك فضائي لننطلق صوب كوكب مجهول باستثناء ...نعم باستئناء اختلاف آخر كبير مع الرحلة السابقة، وبحضور علي ومنصور الودودين الاْريحَيينَ لم تعد لدينا مشكلة لّغة وعاملتّنا السلطات مُعاملة طبيعية في كل مرحلةٍ من هذه الطريق التي تكوّن لدينا انطباع بفضلهما أننا نُعيد اكتشافها من جديد بعينيهما، أؤكٌد على كلمة بعينّيها؛ لأنَ ثمّة هذه الحقيقة الأخرى المؤثّرة بصورة خارقة التي جعلتهما

يُكرّران عدّة مرّات، ولم أصدّقهما في البداية إلا بصعوية ولستٌ واثقاً من أنني فهمت؛ لكن هذا حقّاً ما كان هو لا يُصدّق ولكنه صحيح: ترك منصور ليبيا سنة 1969 وتركها علي سنة 1980. وهذه هي المرّة الأولى التي يعودان فيها الأول بعد أربعين عامأ والثاني بعد ثلاثين إلى هذا البلّد العزيز الذي ظنًا أنهما لن يرياه أبداً. يا له من شعور مؤثّر أن أكون أداة هذه العّودة ووكيلها والشاهد عليها وأن أكون الإنسان الذي من خلاله التقى أصدقائي بذويهم من جديد!

عشاء القبائل

منصور وعلي لم يخسرا الوقت. أنا مُتأكٌد تقريباً أنهما رتبا الأمر من باريس وليس كما يحاولان أن يجعلاني أعتقد بلباقة خالصة، حتى لا أَبالِغ في شُكرهما بأنها فعلا ذلك هنا منذ كنًا في تيبستي التي وصلنا إليها في مُنتصف فترة العصر. لكن يا له من أداء عالي المستوى على كل حال!

فمع عِلمهما أن إحدى كبرى المشكلات التي تُنيخ بثقلها على صورة التمرّد هي قضية الانقسام القبَليّ وأنْ واحداً من الأهداف الأساسية لسفرتي الجديدة محاولة أن أرى هذه القضية بوضوح أكثر أكثر قليلاً نظّما بدءاً من هذا المساء في مكان بين بنغازي واجدابيا قمّة غير رسميّة لرؤساء قبائل ليبيا. لا أعرف أين نحن... أخذنا المخرّج الغربي لبنغازي، قطعنا في السيارة حوالي ثلاثين كيلومتراً أوّلاً على الطريق الرئيسة؛ ّثم على طرق فرعيّة.

لكن رُبّما لأنني كنت أقول لنفسي كما أفعل غالبا سيكون لدي الوقت لأستعلم في ما بعد وربما أيضاً لأن علي ومنصور لأسباب أمنيّة لا يرغبان في أن أعرف إلى أين نحن ذاهبون ويتهرّبان من الإجابة عن أسئلتي وربما لأنهما لا يعرفان، هما أيضا وأخيرا ربما لأنني متشبع بالمعلومات ولم أعد أستطيع استيعاب المزيد والحقيقة أنني وصلت إلى المكان وعلمتٌ في الحال أننا مدعوون من طرف الدكتور الميهوب عضو المجلس الوطني الانتقالي ورئيس مجلس الحكماء والأعيان ‏ ولا شيء أكثر من ذلك.

كانت حوالى مائة سيّارة بك آب تركن أمام بوّابة المزرعة حيث توقّفنا، وحولها يقف ثلاثة أضعافها من الرجال المسلّحِين ‏ وأُخمن أن كثيرين غيرهم يكمنون في الأدغال.

عندما تَخطّينا البوّابة على مدخل المبنى الرئيس وهو سُرادقٌ هائل سميك الجدران المطلية بالجبس كان في انتظارنا اثنان وثلاثون زعيم قبيلة أو تمثِل قبيلة يقفون مصفوفين بحسب بروتوكول خمنتّه لكني لم أستطع فك رموزه؛ تُضيئهم من أسفل إلى أعلى فوانيس موضوعة على الأرض بعضهم يرتدي لباساً على الطريقة الغربية وأغلبهم باللباس التقليدي سترة مُطرّزة وفرو على الكتفّين وغندورة بيضاء وذهبية وقفطان كشميري أو معاطف من جلد الثعلب وشاش مُزركش على الرأس وأسلحة للعرض في الحزام وعصيّ خشبية منحوتة.. حييناهم واحدا واحدا... هنا كل رؤساء قبائل برقة من دون استثناء، وأكثر مُمثلي القبائل الأخرى خرجوا سِرّا من فرّانَ أو من مدينة طرابلس.

سلّمنا عليهم واحداً واحدا اثنتان وثلاثون قبضة يد عددئتها قبل أن ندخل معاً في مستودع التبن ونخلّع أحذيتنا وصنادلنا معأ واتّخْذنا معا أماكننا على طول الجدران حيث مدت سجاجيد؛ وحُصر من قصب ووضعت مقاعد واطئة جداً تُعلي الرُكب وتكسر القامات ومساند من صوف أو مُفضضِة وأغطية.

سوف نتعشّى على الأرض من دون ملاعق وشُوّكُ ‏ فثمة قصعة ضخمة من لحم الخروف تُقطّعه باليد ونجعله في كراتٍ مختلطة بكتل من الرُزّ المتشرب بالدّهن اللذيذ الذي يؤخذ من صحنٍ مجاور. لكنّ الجوهريّ قبل العشاء الذي لم يكن سوى التمهيد إن هو حفلٌ الخطابات.. ليست الكلمة قوية جداً مادام كل واحلٍ سيمنح بأسلوبه الخاصٌ أفكاره الرصانة المطلوبة.

اكتفى بعضهم بتحية مُقَتَضِبَة للأصدقاء الفرنسيين الزائرين. وبعضهم كموفّد الجبل الأخضر يخطب كما في المسرح مادحاً موقف فرنسا الذي سوف يبقى في الذاكرة حتى نهاية الأزمان.

وصرّح رئيس القبيلة التي تبسط نفوذّها على منطقة طبرق: "ثمّة جدلٌ في بعض البلدان الإسلامية، بين السّنَةَ والشيعة وهنا نحن مُتَحِدون في شعور مُزدوج ‏ بُغض التطرّف وحبٌّ فرنسا من الآن وصاعداً".

أما موفد مصراتة الذي هو من النادرين الذين يرتدون اللباس المدني؛ والذي حكى أنه وصل عشيّة أمس في سيارة فيري ناقلاً جرحى وباحثاً عن الدواء والأسلحة؛ فقد كلّفنا بنقل رسالة هي: "حين سيصير شعب ليبيا حرا بعون الله لن ينسى ما فعلتموه؛ نحن شعب قليل العدد. لكنه يملك إحساس العرفان بالجميل". وأطلق عبد السلام شريف الموفد الآخر من مصراتة بصوتٍ مبحوح نتيجة الانفعال نداءً لمساعدة مدينته مثلما ساعدنا بنغازي وأنهى خطابه بالبكاء.

وشرح شاب يُمثّل قبيلة المقارحة التي تهيمن على مدينة طرابلس وتتحالف مع قبيلة القذافي أنْ قبيلته تتحرّك؛ وأنها تتخلى عن تأييد "القائد" شيئاً فشيئا والدليل على ذلك حضوره هنا. وكان هناك أيضاً ممثل عن قبيلة القذاذفة قبيلة "القائد" الذي وقف يهتف مُرحباً بحماسة حتى قبل أن ينطق بكلمة. وكان أيضاً مندوب قبيلة ورفله في برقة التي شرح لي منصور أنها كانت دوماً مُواليّة للقذّافي.

أمَا المندوب الثالث القادم من مصراتة الأشقر بوجهه المكتنز وشاله ذي اللون الخبازي: وسترته الذهبية المطرّزة فصرح قائلاً: "نحن بلد متكوّن من قبائل؛ لكنّ قبائلنا متمسّكة بالوحدة الوطنية ولن يقبل أحد بتحطيم هذه الوحدة.

وعرف مندوب اجدابيا الذي يرتدي غندورة من الخام الأبيض معقودة عل شكل توغا فوقها سترة سوداء أننا سوف نزور مدينته فشكرنا بامتنان فائض.

وها هو شريف ابن عمّ منصور الذي تعرّفت عليه قبل قليل في تيبستي في رُكنٍ من البار حيث كان السيد غوقة ينتظر أن أنهي مكالمتي الهاتفية مع ساركوزي: كان يرتدي طقما رمادياً داكا يعطيه هيئة محام أو طبيب صعب علي أن أميزه هنا بعد ثلاث ساعات إذ كان يرتدي اللباس التقليدي كزعيم لقبيلة فزان ‏ كرّر قائلاً: لن يقبل أي ليبيّ أبداً بتقسيم البلّد؛ فكل الحاضرين هنا جاؤوا يشهدون على هذه الحقيقة، فصرخ الحاضرون بصوتٍ واحد هادرٍ بحرارة صوتٍ الحرب والنصر المُحقّق "ليبيا حرّة!"

وها هو أيضاً ممُثّل مدينة الزاوية يقول: "الشعب الفرنسي جزء من ليبيا، كان الشعب الليبي ينتظر مُنْقِذاَ وهذا المنقذ هو فرنسا. أهلاً وسهلاً بكم أنتم إخوتنا".

آو لو استطعتٌ أن أذكر هؤلاء "الفرسان" الليبيين جميعاً وأن أصِف طيبة وجوههم وهم يتحدّثون عن فرنسا ونظرتهم التي تصير مُثيرةٌ للشفقة حين يُذكر اسم القذّافي؛ لو استطعت أن أعكس كثافة هذه اللحظة حيث بدت لي فجأة تفاهة التصوّرات الفرنسية عن القبائلية الليبية.

جاء دوري في الكلام. عبّرت عن شعوري وأقسمت بأنني حال عودتي سأنقل بصدق حقيقة ما سمعته تواً وسمحت لنفسي في النهاية أن أقترح هذا الاقتراح: "ما دُمنا مجتمعين وما دام الوقت مُناسباً يسهّل علينا تنفيذ الأمر حالأ سنكتبُ معا على زاوية هذه الصينية التي سأجعلها مكتبا بياناً من أجل ليبيا الموحّدة التي تهتفون باسمها فهذه هي بالضبط الرسالة التي يجب أن يسمعها الغرب...

لم أكد أنهي كلامي حتى هبّ الجميع واقفا وكانت قامات الأكبر سنا مُعوّجة قليلا وكادت لفة ممثل ورفلة تقع عن رأسه. هبوا وأطلقوا تحت قُبّة السرادق هُتافاً جديداً مُرعِداً "ليبيا حرّة" وردّدوها عدّة مرّاتِ بصوت يُشيه صرخة الحرب وصيحة الفرح.

طلب الدكتور الميهوب من الجميع أن يصمّت. وعانق هؤلاء الأجانب الغربيين الذين يجعلون من أنفسهم أقلام هذا المجلس الحربي الذي لا يعرفون عنه شيئاً، وها نحن من جديد نشرع في العمّل: أنا وجيل في دور الكاتب وإلى جانبنا منصور وعلي والدكتور الميهوب بينما تتجمهر الجماعة حول ضيوفها مستغربة من ديوان قصائد آراغون الذي كان في جيبي إذ أخرجته وسوّدتٌ صفحة الوقاية: وبعد نصف ساعة صار لدينا نصّ فعاد كلّ إلى مكانه ورحت أقرأً.

قلت: ‎"يُمكن أن يكون عنوان هذا البيان "قبائل ليبيا كلّها قبيلةٌ واحدة".

عمّت القاعة دمدمة الموافقة.

والنصٌ تركيب الكلمات التي هي كلماتكم ونحن نُسجّلها.

حل صمتٌ. وتكاثفتٍ النظرات.

"نحن رؤساء قبائل ليبيا أو ممثّليها اجتمعنا اليوم في بنغازي؛ حول الدكتور الميهوب  عضو المجلس الوطني الانتقالي. وأمام التهديدات التي تترّبص بوحدة بلّدنا وأمام مُناورات الدكتاتور وعائلته وآلتهما الدعائية نعلِن الآتي رسميا: لاشي يستطيع تفريقنا، فنحن نتقاسم المثل الأعلى نفسه وهو ليبيا الحرّة؛ الديمقراطية الموحدة. لاشكٌ في أن لكل ليبي أصلاً في هذه القبيلة أو تلك. لكنّه يملك كامل الحقٌّ في أن يُقيم علاقات عائلية وصداقة؛ وجوار وأخوّة مع أيّ عضو من أيّة قبيلة، فنحن الليبيين تُكوّن قبيلة واحدة: قبيلة الليبيّين الأحرار المكافحين ضِدّ الاضطهاد وروح التفرقة. الدكتاتور هو الذي كان يُفرّق القبائل بتأليب بعضها على بعضها الآخر كي يتمكن من الهيمنة عليها، ولا شيء من الحقيقة في أسطورة الخصومة بين الأسلاف التي أججها وفي التصدّع الراهن بين قبائل فزان وقبائل برقة وطرابلس.

 وبعد رحيل الطاغية ستكون ليبيا الغد موحّدة» عاصمتّها طرابلس حيث سنمتلك؛ في النهاية حرية تكوين مجتمع مدني كما نريد ونتمنّى، ونحن نستغل هذه الرسالة التي نبلّغها لفيلسوف فرنسي وفيها نشكر فرنسا ومن خلالها نشكر أوروبا: فهما اللتان منعّتا حصول المجزرة التي هددنا بها القذّافي وبفضلهما ومعهما سوف نبني لينيا الغد الحرّة الموحدة."

كان منصور يُترجم ما أقرأ جملةً إِثر جملة. وفي نهاية القراءة نهض الجميع واقتربوا من دون تصفيق حادٌ هذه المرّة يبصمون على التوالي تواقيعهم على ما بقي في الورقة من بياض ثم على ظهرها.

أخذ الدكتور الميهوبي الورقة. وقال إنّه سيسعى بكلّ الوسائل ليجمع تواقيع أخرى. تواقيع آخرين كثيرين. تواقيع رؤساء القبائل أو ممثَليها من الغائبين كلها إذا أمكن أو على الأقل قبائل طرابلس، وسوف يُرسل لنا مجموع التواقيع إلى باريس كي ننشرها. لا يعرف بعد متى وكيف لكنّه سيجدهما.

نحو اتفافية دايتون ليبية

تناولنا الفطور في تيبستي مع كريس ستيفنز سفير الولايات المتحدة أعتقد أن صفته مبعوث أو ممثل أعلى. هو شابٌ أنيق ابتسامة ناصعة يغلب عليه طابع الساحل الغربي لكن أفضل ما فيه أي طابع سان فرانسيسكو. كان في ما يبدو لي في فندق

ويستين في باريس الشاهد الوحيد على اللقاء بين جبريل ‏ الهائج وهيلاري ‏ اللّغز. تبادلنا أحاديث عادية. إنها طريقة الدبلوماسيين في ألا يقولوا شيئاً لكنّهم يحاولون أن يحصلوا على المعلومات من دون أن يبدو عليهم ذلك بوضوح. لست أدري لماذا شرعنا في لحظة معيّنة في التحدّث عن ريتشارد هولبروك عن وده المعتاد. عن لقائي الأخير به في تبليسي آخر يوم في حرب بوتين وميدفيديف ضدّ ساكشفيلي واللقاء السابق في باريس عند السفير هارييان عشية قصف سراييفو. وأخيراً دايتون الذي كان واحداً من المهندسين المعماريين: وهو في نظري اتفاق لعين.

قال وهو يكشف نفسه لأوّل مرّة: "هل تظنٌ؟ لا أعرف...على الأقل كانت النيّة حسنة.." قلت باختصار: رُبما. لكنّ هذا حل يستسهل الأمور جحيم التسويات. إِنّه على كل حال موت البوسنة الجامعة؛ مُتعدّدة الأعراق التي كانت البلّد الذي جئنا لإنقاذه. بإمكاني أن أشهد عل حُزن بيغوفيتش اُجبَر على أن يُوافق على هذا الاتفاق الرديء؛ والمسدّس الأميركي على صدغه ‏ كان على وشك الانتصار فأرغم بتطرّف وباسم حسابات جيوسياسية مؤسفة على أن يرتدي لباس المهزوم....

وفجأة قال وقد استولى عليه بعض الارتياب: "لكنْ لماذا تَحدَّثني عن دايتون؟ هل تعتقد أن هذا النوع من الحلول مُناسب في ليبيا...؟"

وقال وهو يرسم ابتسامة ذئب على وجهٍ برونزي لدبلوماسيّ شاب واعد ‏ ويُخاطر بإظهار ثغرة صغيرة في سريرته: "لم لا ألم تكن ليبيا إذا فكدرت فيها جيدا هي دوماً ليبيا. كان فيها دوماً جانبان بل ثلاثة مع قبائل فزان والشركات البترولية هي التي حسمت الأمر في لحظة مُعينة وعملت لترتاح ولكي لا يكون لها إلا شريك واحد تتفاوض معه على أن يكون البلد مُوحداً. أما اليوم...فقد تغيّر العالم كثيرا ...أو لا يُمكن أن تعتبر شركات بترولية أخرى ها نفس المصالح أن ليبيا مقسمة إلى دولتين أفضل من ليبيا موحدة أو على الأقل مثلها.."

لا أعرف إن كانت هذه فكرة عابرة أم أمنيّة. وجهة نظره الشخصية أم وجهة نظر إدارته. تحليل حقيقي أم بالون اختبار يُطلِقه لأنه يرفض أن يتحدّث في الموضوع أكثر من ذلك.. للبحث صلّة.

السبت 9 نيسان/أبريل: تتمّة (المجلس الوطني الانتقالي؛ منْ هو مَن؟(

موعد مع عبد الجليل. لأسباب أمنيّة؛ لم يعد في تيبستي ولا على الكورنيش بل في فندق الفاضل غرب المدينة ‏ مظهر مُزيّف لفندق عطلة ومرمر ينم عن ذوق القذافي الحقيقي وحلقة من الرسميين وشبه الرسميين وقليل من المراسم.. سفيرا فرنسا وبريطانيا يصلان على أعقابنا ومُلحق بالطابق الأرضي يُساوم عليه علي وزيدان كي ننتظر بهدوء وصول عبد الجليل ونجري خلال فترة الانتظار مُقابلات أخرى.

لأني صمّمتٌ أن أستغل هذه السّفرة الثانية ساعياً كي أرى بأكبر قِدْرٍ من الوضوح هذا المجلس الوطني الانتقالي المشهور الذي يُثير في أوروبا الانتقادات والشكوك. فلأسباب أمنية واضحة:؛ لم نستطع أن ننشر أسماء أعضائه المنحدرين من المدن التي ما تزال تحت سيطرة القذّافي هذا أمرٌ مشبوه... ومثير للريبة إلى درجة عالية... وبما يكفي على كل حال؛ لكي نرى هذا المجلس كجمعية سريّة ذات بنية مُبهَمة وأهداف خفيّة.. رُبما تكون فرنسا قد تسرّعت جداً في جعلها ممثّلة رسمية للشعب الليبي...فكيف تُفهم الناس أنّ هذه الأوهام عبثيّة؟ وأنَّ المجلس الوطني الانتقالي ليس أنفار الخمير الحُمر ولا حتى جبهة التحرير الوطنية الجزائرية؟ وأنْ أعضاءه مع بعض التحفّظ مرّة أخر ى أي ممثْل اجدابيا والكفرة وغات ونالوط ومصراطة. والزنتان والزاوية وبني وليد وغيرها من المدن الرازحة تحت البوط معروفون تماماً؟ وأنهم يعيشون غير مُتسترين؟ وأن نتمكن من الحديث إليهم إن أردنا وأن

نجعلهم يتحدثون؛ ويحكون رؤيتهم عن العالم وتاريخهم؟ حسناً فلْنفعّل هذا، ولنحاول تقديم المثّل بالذهاب فعلاً للقائهم؛ حتى لو كان ذلك مُنفراً بعض الشيء. هذا ما بدأتُ في فعله أمس في فندق تيبستي إذ أجريتٌ مُقابلة مع عثمان سليمان المقراحي (مْثّل منطقة بوطان) وفتحي محمّد البعجة (أحد ممثلي بنغازي) وقرّرتٌ استغلال نهار اليوم لرؤية الأعضاء السبعة الذين لم أتعرّف عليهم بعد (ومن المفروغ منه أنني لم أتآخر كثيرأ بحسب ما أرى؛ عن عبد الجليل وغوقة ‏ وطبعاً عن جبريل والعيساوي والرجال الذين التقوا بساركوزي لكنّهم ليسوا أعضاء في المجلس.

علي هو الذي أتى بهم إليّ. ويجب القول إِنَهِ هيّأهم لي. فحالما يرى واحداً منهم في بهو الفندق الجديد: يصير نقطة ارتباط حيث يبدو أنه يعرف كل الناس وهذا غريب بالنسبة لإنسان قضى ثلاثين عاماً في المنفى: وهكذا يوقف الشخص وينعطف به فوراً بالقول من هنا إذا سمحت ثمة كاتب فرنسي ومعه مُصور ومع هذا نفسه مُصور آخر الخ.

هكذا قابلتٌ عاشور حامد بورشيد من درنة؛ بوجهه الجميل النحيل الذي يجعله يُشبه روجيه فايان. حدّثته عن عبد الحكيم الحصادي ابن درنة الذي لم أستطع رؤيته لكنّ سمعتّه سيئة جداً. فهل يعلّم؟ هل أخبروه بهذه المقالات المنشورة في الصحافة الفرنسية (سارا دائييل في النوفيل أوبسرفاتور): والصحافة الإيطالية (جريدة 056 ilsol24 اليومية الخاصة بأرباب العمل) والتي تتهمه بأنه قريب من القاعدة؟ قال لي إِنّه يعرف هذا الرجل معرفة عاديّة. ولكِن إذا كان باسم أنه فعلاً مُسلِم تقيّ جدا قد أَغْرِيَ منذ عدة سنوات بشكل من أشكال الأصولي فأوّلاً لا علاقة لهذا بالقاعدة وثانياً هو مؤيّد للمجلس الوطني الانتقالي وهو مُنضبط وثالثاً يُمثّل أقلية في درنة وأغلبية الشعب تجِد فيه نفسّها عاشور حامد بو رشيد شخصية علمانية في المدينة ومحَامٍ مُتخصّص في الحقوق البحرية والمشكلات البيئية.. والباقي كله إشاعات وسوء نيّة.

وأحمد الزهير السنوسي. وعمره سبعة وسبعون عام وهو من أحفاد الملك إدريس الذي انقلب عليه القذَّافي محكوم بالسجن ثلاثين سنة قال لي ببينة مُكتئبة إلى أبعد الحدود: أنا أقدم سجين سيامي في ليبيا... الأقدم هو الذي بقي أطول مُدّة محبوسا والأكبر سنا أيضاً... وهو مسؤول في المجلس الوطني بطبيعة الحال عن ملف السجناء السياسيين. وهذا ملفٌ ضخم نوعاً ما يتضمّن من العائلات ما يكفي ليستحقٌ وزارة كاملة.

وعمر حريري وعمره سبعة وستّون عاما وهو جندي قديم آخر من جنود ثورة 1969 عسكري كان بدوره سجيناً إلى وقت قريب وهو اليوم مسؤول عن قضايا الدفاع في المجلس علماني شعبيته عالية جداً في أوساط الثوّار الشباب وهو من قبيلة الفرجان المهيمنة في منطقة سرت. وأحمد ربوع العبر ممثل آخر لبنغازي رجل أعمال تربطه علاقات تاريخية بعائلة السنوسي الملكيّة مُكلّف بالشؤون الاقتصادية عِلاني.

وفتحي تربل سلوى؛ هذا المحامي ذو الثانية والثلاثين عاما الذكيّ. العصريّ الذي اهتمٌ بالسياسة إثر رؤيته سنة 1986 صورة المشنوقين في بنغازي أولئك الطلاب الذي كان ذنّبهم الوحيد أنهم طالبوا ببعض الحقوق وأخذوا على عاتقهم الدفاع عن عائلات المفقودين في سجن أبو سليم في طرابلس حيث أعدمتهم شرطة القذّافي بعد عشر سنوات كما روى لي محام آخر جاء يراني في تيبستي أوّل مساء. وعددهم 1200 سجيناً لم يفعلوا شيئاً على الإطلاق كانوا فقط من بنغازي حيث كانت تنطلق في اللحظة الأولى بداية ثورة شعبية.. فتحي تربل بوجهه اُلمراهِق الذي أصبح رمز الحركة الثورية في 15 شباط/ فبراير عندما ارتكبت شرطة الديكتاتور حماقة اقتحام مكتبه وتوقيفه هو المسؤول عن الشباب في المجلس.

وعلي الترهوني أفضل الاقتصاديين في المجموعة وهو وزير الاقتصاد فيها الرجُل المكلف بِسَكٌ العُملة وبترحيل الصادرات البترولية من ميناء طبرق: هو مُعارِض تاريخي أيضاً منفي منذ عام 1973 حين كان في الثالثة والعشرين من عمره ومحكوم بالإعدام غيابيا درس في جامعة ميشيغان ثم في المدرسة العليا للتجارة في جامعة واشنطن.

والتقيتٌ إمرأة اسمها سلمى فوزي الدغالي طالبة قديمة في باريس وأستاذة قديمة وهي المرأة الوحيدة في المجلس لكنها مُكلّفة بثلاثة بل بأربعة مجالات من المهمّات: شؤون النساء والقضايا القانونية والأعمال التحضيرية لكتابة الدستور الجديد وبدءاً من هذا التاريخ تحضير ملف الإثبات ضدّ القذّافي استعداداً لليوم الذي سوف تُقَرّر فيه المحكمة الجنائية الدولية إدانته.

وأخيراً التقيتٌ ممُثّل منطقة القَبّة المنحدر من قبيلة العبيدات؛ إحدى أكير القبائل الليبية لأنها تمد من سالوم إلى البيضاء وهو الرجل الذي التقيت به أمس مساء.

القوّة التي دعت إلى عشاء رؤساء القبائل الدكتور الميهوبي الذي يحكي لي هذه المرّة قصّته الشخصية وكيف أن القذّافي يُضمِر له منذ ثلاثين عاما حقداً شخصياً غريباً: طُّرد من الجامعة حيث كان أستاذاً قبل أن يصير عميداً للكليّة ومُنِع من التدريس بكل مستوياته؛ ودعي إحدى عشرة مرّة إلى طرابلس من أجل لقاءات مُضحكة حيث كان القائد يحاول طيلة الليالي أن يقنعه بتبّني «النظرية الثالثة» وحيث كان يرفضها مُعانداً؛ بحجّة أنه يعدّها مُتشربة بالبرودونية وفرضت عليه الإقامة الجبريّة في مدينته الأصلية القَبّه في قلب الجبل الأخضر وقد نجا بالعودة إلى حياة الرّعاة البسيطة؛ حياة أجداده: وهنا في شهر شباط/ فبراير أتى مبعوثون من القبائل البدوية يبحثون عنه؛ كشاوول الملِك أو جدعون ليتوسلّوا إليه كي يكون ملكهم أو على الأقل ممثلهِم في المجلس الانتقالي الذي تتشكل معالمه حيث سيُكلّف بمهمّة في مجال تنسيق الجبهة الوطنية الداخلية وبعبارة أخرى بمهمة الوحدة الوطنية والحوار بين القبائل. ‏

لا أدّعي أنني أجريتٌ مع كل واحدٍ منهم أحاديث كاملة؛ لكنّ لديّ عددا لا بأس به منها

وقد جمعت ما يكفي من القصص يمكنني من القول:

1 تسمية هؤلاء الناس تمت في نهاية عملية غير ديمقراطية كليّا لكن من الصعب إنكار أنها تمت انطلاقاً من القاعدة ‏ قاعدة القبائل والعشائر المتحدة على مستوى القُرى والمدن، والمدن الكبرى قبل أن يُعيّنوا بالإجماع؛ في أغلب الأحيان ذاك أو تلك ممّن ترى الجمعية الأكثر عددا التي تجتمع في ميدان. أنه أو أنها الأكثر حكمةٌ.

2. التشكيل النهائي للمجلس يشهد إجمالاً على بعض النضوج السياسي؛ لأنّه حقق المهمّة الصعبة في أن يُمثّل فيه كل القبائل وكذلك كل المناطق وكل الفئات الاجتماعية والمهنيّة في ليبيا بالإضافة إلى الطيف الكامل تقريباً للحساسيات الروحية والسياسية ‏ ما خملا الاستثناء البارز وهذا هام جداً طبعا ألا وهو "الإسلام الأصولي" الذي بدأت الصحافة الأوروبية بنصب فزّاعته ولكنّي حتى الآن لم أجد له أثراً.

 3. إن كان بينهم حتى في قمّة المؤسّسة بعض الذين كانوا من جماعة القذَّافي وتابوا

فأغلبيتهم مُعارضون تاريخيون مُكوّنون في مدرسة السجن تعلّموا تحت الضرب

والتعذيب معنى حقوق الإنسان؛ والديمقراطية ‏وأكثرُهم خريجو حقوق ومثقّفون وأَحِبُ فكرة شعب بدوي يختار لكي يتجسّد أساتذة جامعات.

على أيّة حال سأتوقّف هنا.

ففي مُنتصّف مُقابلتي الأخيرة جاء مَن يقول لي إن الرئيس عبد الجليل وصل من البيضاء وقد رأى السفيرين الفرنسي والإنكليزي وهو في انتظارنا.

يتواصل