في أصل السياسة أنها التدبير الحكيم للشأن العام بقصد جلب المنافع ودفع المضار. ومن التواتر لدى الساسة التضحية بما قد يبدو مصالح خاصة لجماعات أو أحزاب إذا تحقق تعارضها مع المصالح العامة للوطن. ومما يحمد للنخبة السياسية قدرتها على التوافق، واطراح الخلافات الشخصية والمشاحنات الحزبية كلما لاحت فرصة للتقارب والشراكة والتشاور، دون أن يعني ذلك الاخلال بتوازن العملية الديمقراطية القائم على ثنائية الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة؛ فلكل منهما دورها المقنن ضمن المساطر الديمقراطية، والفرق بينهما ينحصر في الوظيفة التسييرية التي أسندها الشعب للأغلبية بناءً على برنامج سياسي أقنع الناخب، ووظيفة الرقابة التي أوكلها المقترعون إلى المعارضة...
غير أن الممارسة الديمقراطية في مجتمعاتنا لا تزال في مهدها، ولم يتبلور الوعي بأهدافها لدى الكثير من الفاعلين في المجال.. فتجدهم يقفون، في تعريف الحزب السياسي عند فقرة"... بهدف الوصول إلى السلطة." فيختزلون كل " كل عبقريتهم السياسية" في استكشاف أقصر الطرق، وهي في العادة أخطرها، للوصول إلى السلطة والتمسك بها. وقد أظهرت بعض التجارب القريبة أن هذا الدرب قد يفضي إلى تدمير الأوطان فيصل الطامحون إلى أطلال سلطة وسط خراب وطن...
لقد أدركت نخبتنا السياسية؛ أغلبية ومعارضة كل هذه الرهانات فتنادت لإطلاق حوار وطني شامل يؤمل منه حصول إجماع حول قضايا وطنية كبرى تتجاوز بطبيعتها تصنيفات الأغلبية والمعارضة لتعلقها بأمننا القومي، ووحدتنا الوطنية ومستقبل أجيالنا اللاحقة. فهذا الاجماع، الذي لا ينخرم بالواحد، منصة انطلاق لحياة سياسية رشيدة يدار الخلاف فيها بهدوء وروية تنطلق من تقديم المصالح العليا للوطن على ما سواها.
أما الواحد الذي انخرم فذلك ديدنه كلما لاحت فرصة للتقارب بين أحزاب سياسية مهما كان تصنيفها. ذلك أن مشروعه السياسي قائم على "التمكين" الذي لا يحتمل المشاطرة والمشاركة؛ فقد فشلت كل تحالفاته منذ 1924، حتى الإنتخابات الأخيرة... لقد "دخلوا الباب" على كل الأحزاب؛ يسارية وقومية، تقدمية ومحافظة ثم انفصلوا عنها، على حين غرة، في لحظة أسندت ظهورها إليهم!!!
وفي نفس الدرب سار "تواصل" اليوم حين قاطع الاجماع الوطني للتشاور حول القضايا الوطنية الكبرى ليكون عنصر تأزيم في أجواء التوافق والتهدئة!!!
وصدق من قال: " كل شيء له حظ من اسمه إلا تواصل."
د. محمد اسحاق الكنتي