إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح8

خميس, 25/02/2021 - 00:06

اللقاء الثاني مع الرئيس عبد الجليل

بنفس نظرة النسر الفاتنة دوماً. والأنف الحادٌ نفسه. ونفس الطريقة من الاقتراب منك

بخُطىٌّ وئيدة والجلوس على طرف الأريكة. ونفس غياب السلطة الظاهري. أو بعبارة أفضل السلطة الشفافة التي يفرضها حين يبدأ في الكلام. الُمختلِف الآن أنه لا يرتدي معطفه بحُكم أن الجوّ كان مُدفَأ بمهارة وأن حوله نواة تنظيمية وبروتوكوليّة (العيساوي إلى جانبه في حال تُرقب لكنّه صامت؛ وعلي ومنصور بعيدان قليلا ومُفاوضات مُتقدمة للسماح بدخول كاميرات التصوير(.

نقلتُ لعبد الجليل رسالة شفهية كلّفني الرئيس ساركوزي بإيصالها يوم سفري:

أنّه طبعاً لا يأسف على شيء فعّله. وأنّه لو خيّر أن يفعله لفعلّه ثانية بالطريقة نفسها تماما وأنّه يدعوه لزيارته في باريس. وعلى الرغم من أنني لم أذكر له حديثي هذا الصباح مع المبعوث الأميركي عبّرتٌ له عن خشيتي في ما لو استمرّت الحرب من أن تظهر في المجتمع الدولي؛ نزعة فَرْض اتفاقية دايتون عربية: حكيتٌ له عن اتفاقية دايتون الحقيقة اتفاق البوسنة الذي يبدو بوضوح أنه لا يعرف عنها الشيء الكثير وقلت له كيف أنْ تقسيم بلاده سيكون في مصلحة كثيرين -الشركات البترولية بالتأكيد لكن هناك أيضاً جمهور أولئك الذين يريدون أن يُلقَنوا القذّافي درسأ من دون أن يدفعوا بالضرورة أي ثمن (سيامي أو عسكري) لخلعه.

ثم حَدّثته بوجه خاص عن موضوع الورطة التي ستستفيد منها الصحافة الغربية والتي نصحته أن يرد عليها بنصّ قويٌّ التعبير ورصين سيكون أوّل حديث يُدلي به منذ أن استلم مهامه. وسيكون خليقاً بجعله معروفاً بصورة أفضل: أليست المعركة السياسية بدورها معركة رجال؟ معركة أجساد وأسماء؟ أوَ لا يستقِرٌ خصمه في طرابلس هنا، من خلال ضخامة حضوره؛ وأسمه؟

كان عبد الجليل يسمع ومن وقتٍ إلى آخر يستشير بالنظر علي عيساوي عن يساره.

وعلي زيدان مُقابله وحين تأكّد تماماً من أنني أنهيتٌ كلامي، وجّه إلي ابتسامة خجولة ورحب بي في زيارتي الثانية إلى بنغازي شاكراً ساركوزي وفرنسا على التدخل المعجزة في 19 آذار/ مارس: "أجل! لأنّ هذا مُعجزة فقد كانت فِرّق الموت على أبوابنا كانت ليلتنا الأخيرة في الحياة؛ فكل الذين بقوا كانوا يستعدّون للاستشهاد؛ وحينئذٍ قصفتهُم طيّاراتكم."

بقي عدّة لحظات ساهم النظرة في مكان آخر يستنشق الهواء من حوله بطريقة مُضحكة مثلما كان يستنشقه عندما التقيتٌ به أوّل مرّة عير النافذة المفتوحة في الفيلا الحديثة. عاد من شروده وفجأةً تلوّن وجهه الطويل الحزين بغرابة، وراح يُجيبني نقطة نُقطة، التقسيم لن يحصل أبداً. الزيارة إلى باريس بطيب خاطر وبالمقابل سأدعو الرئيس الفرنسي الذي لابد أن يكون؛ بحسب المقتضى أول رئيس دولة أجنبية يحط بطيارته في بنغازي. وحول النقطة الأخيرة المتعلّقة بالخطاب المنتظّر الذي اقترحت عليه أن يكتبه نعم هو موافق، وعلي أن أفكر بمشروع وأعود لأسلّمه إياه غداً أو بعد غد؟

"ليس غداً سيادة الرئيس بل اليوم. فالعالم والعفو إن كررت لكم أن العالم ينتظر حديثكم، ويجب أن تفعلوا هذا بسرعة؛ فلتسمحوا بأن ننفرد ونكتب شيئاً هنا

لكنه في الواقع مشروع سوف يُسلّمكم إياه علي زيدان.

الرئيس يسمح الرئيس ينتظر وها أنا من جديد أبدأ العمل مرّتين خلال يومين. ثلاث مرّات إن حسبتٌ نصٌ جبريل الذي كتبته في شهر آذار/ مارس لجريدة الفيغارو. صار ‎‏عادة هوّساً. أجد أنه عبث تقريباً حين أفكر فيه. فمن أجل من فعلتٌ هذا؟ ومن أجل ‎‏يُمكن أن أفعله؟ فالرئيس مجيب الرحمن في بنغلاديش لم يكن يثق بي إلى هذه الدرجة. بيغوفيتش فكان يثِق بي أجل! لكني؛ في أغلب الأحيان لم أكن أستخدم ثقته. لكنّ هذا الوقت نفسه هام جداً... أريد إلى حدٌّ كبير أن يتيسر هذا... أريد إلى حدٌ كبير أن أتمكن عندما أعود من الإجابة على هؤلاء "الكساندرات" الذين يجولون في كل مكان مُعيبين على المجلس الوطني الانتقالي بأنه غير مُتماسك. لا يملك خطاباً ولا هيئة... ثُمّ البوسنة تحديداً... أكُرر قولي شبح البوسنة... لا يمضي يوم واحد من دون أن أفكر في البوسنة... ولا ينقضي ليل من دون أن يمر في ذاكرتي مشهد من مشاهد احتضارها الرهيب، البوسنة !هذه ال"ليبيا" التي تخلفنا نحن الغربيّين عن نجدتها. فليبيا تعكس ما حاولنا القيام به ف البوسنة ولم ننجح. فكيف لا نخفْق هنا؟ وكيف نستخلص الدروس هذه المرّة ولأوّل مرّة من إخفاقنا هناك كي ننجح هنا؟ بعد ساعة؛ كان المشروع مكتوباً. وسلّمه علي، فصادق عليه الرئيس عبد الجليل. وفي الحال أرسل إلى أوليفييه بيفو ليُنشر في جريدة اللومونده وفي جريدة نيويورك تايمز "سانديكات" أيضاً عنوان المشروع: "الحرية تحتاج إلى زمن". ويُقدّم بوصفه تصريحا من مصطفى عبد الجليل الذي أعلن- ‏ بعد أن نقِل قبل عدّة ساعات من

اجتماع مجموعة الاتصال حول ليبيا المنعقِد في الدوحة- ‏المبادئ التي لن يُساوم عليها الليبيُون الأحرار. وها هو النص:

"في 17 شباط/ فبراير ثار الشعب الليبي بعد أربعة عُقود من الاضطهاد والظّلم وحرّر جزءاً كبيراً من البلاد بتقديم آلاف الشهداء الذين سوف تبقى أسماؤهم في قلوبنا إلى الأبد.

في ليبيا الُحرّة التي هي قُيد التكوّن تنفتح سيادة الحقوق والعدالة.

لقد شكلنا لجانا محليّة ثم مجلساً وطنياً انتقاليًا كي نقود صراعنا الذي لا رجعة فيه إلى نهايته ونولّد دوَلة ديمقراطية وندير بلادنا النازفة منتظرين اليوم الذي يتمكن فيه كل الرجال والنساء في ليبيا من أن يتخلّصوا من القذّافي وعائلته ويُعبروا في النهاية عن رأيهم بحريّة كاملة من خلال انتخابات عامة شفافة وخُرّة.

واليوم؛ ما يزال الطاغية هنا للأسف.

أوَلاً هو في موقع الدفاع. فسرعان ما انسحب.

جيشٌ مُرتزقته أجبر مُقاتلينا على التراجُع أمام مدينة سرت.

مُدرّعاته ومدفعيته وأرتاله الجهنميّة تدكّهم في قلب الصحراء فاضطٌّر شبابنا

الأشاوس الذين انطلقوا من دون دبّابات وأسلحة ثقيلة لتحرير مصراتة المحاصرة

وطرابلس الخاضعة للاستبداد إلى التراجع مُتحمّلين خسائر فادحة.

من دون نجدة الطيّارات الفرنسية التي أنقذت بنغازي من حمام الدمّ الذي توعد به الدكتاتور ومن دون تدخل المجتمع الدولي الذي قاده السيّد ساركوزي وحُلفاؤه كانت ليبيا بكاملها ستكبّل بالأغلال من جديد. لأنّ لا شيء؛ في الصحراء يُمكِن أن يقف في وجه المصفّحات إلا من الجوّ. وقد نجحت الطيّارات الغربية حتى الآن في التصدّي لها ونحن ممتنَونَ كبير الامتنان من هذا.

لكنّ الأسطول الْجوّي لحلف الناتو لا يستطيع تحرير المدن المحتلّة التي يلتجئ إليها رجال القذّافي من الآن وصاعدا ويستخدمون سُكانها دروعاً بشريّة.

ونحن: الليبيين الأحرار ليس بين أيدينا حتى الآن القوّة الكافية المُدرّبة للقيام بهذه المهمّة بالغة الحيوية بالنسبة لكل مُواطنينا المقصوفين أو المستعبّدين.

ستة أسابيع من الحرية لا تجعل من آلاف المواطنين المُسلّحين جيشاً: يلزمهم المزيد من الوقت.

الآن مُقاومتنا جيّدة. ونحن فخورون بهذا.

نحن لا نطلُبٍ أن يخوضوا الحرب عنًا. ولا نطلّب من جنودٍ أجانب أن يأتوا لكي يصدّوا العدوٌ. ولا ننتظر من أصدقاء ليبيا أن يحرّروها لنا. بل نطلب منهم إعطاءنا الوقت الكافي لتشكيل قوّة توقف مُرتزقة الطاغية وحرسه الشخصي عند حدّهم, ثم تحرّر مُدُدنا.. على المجتمع الدولي إلا إذا عدّل عن قراره أن يستمر في دعمنا ليس فقط بالطيّارات بل بمختلّف أشكال التجهيزات والتسليح.|

فليْنحونا الوسائل التي تضمن تحرّرنا وسوف نُذهل العالم؛ فالقذّافي ليس قويا إلا بكوننا أغرارا وبنقاط الضعف التي عانينا منها في البداية؛ فهو نمر من ورق انتظروا وسوف ترون.

إرادة العام في أن يُضحي بنا بذريعة نقاط ضعفنا في البداية على مذبح سلام غير مشروط تقريبأ لن تكون إلا ظَالمة وقاتلة. هل سيكون هذا سلاماً أم بالأحرى, استسلاماً مموّهاً؟

هل يُمكِن أن نفاوض القذافي مُفاوضة عقلانية أن نفاوض هذا الطاغية في حين أنَّ قوّاته فوق ذلك تُهدّد ليبيا الحرّة تهديداً خطيراً؟

وهنا أو هناك؛ وباسم واقعية عمياء باسم هذا التذرّع الأبدي لأنصار الإهمال هل سيختزلون الدعم الذي أنقذنا ويقيسوه ويربطون أيدينا؟

الحرية في حاجة إلى الزمن لكي تنتصر.

انتظرنا أربعين سنة لتدقٌ ساعة النصر: وما نزال في حاجة إلى قليل من الوقت:

أناشِد أصدقاءنا الأجانب ألا يُفسِدوا بدافع السأم؛ ونفاد الصبر معركتنا من أجل ليبيا حرَة وفي ما وراء ذلك من أجل كل الشعوب اُلمتعطّشة للحريّة والعدالة.

هذا الأسلوب المُوشَى. الرصين قليلاً. هذا الأسلوب يُغاير أسلوبي يُغايره كذلك نسقٌ الكلمات وجسدها. ولكنْ المصلحة العليا ضرورة عاجلة."

السبت 9 نيسان/أبريل أيضا (دموع اللواء عبد الفتّاح يونس)

قال جيل للرئيس عبد الجليل: "إذا أردتم أن نُساعدّكم؛ فعليكم أن تُساعدونا بطريقةٍ ماوهذا ما فعله "أليشا إليشا بيغوفيتش" رئيس البوسنة ‏ والهرسك؛ لحظة حصار سرابيفو؛ فقد أوصلنا إلى قُوّاده: إلى خطوطه على الجبهة؛ إلى أرشيفاته العسكرية؛ وإلى بعض أسراره ونحن ننتظر منكم الشيء نفسّه ننتظر الوصول نفسه إلى قوّاتكم الخاصّة؛ إلى معسكراتكم التدريبية إلى مراكزكم الإستراتيجية وإلى قيادتكم العُليا. فهذا في مُنتهى الأهمية."

فيما يتصل بالقوّات الخاصّة ومُعسكرات التدريب وخطوط الجبهة سوف نراها غدأ وبعد غد. لكن فيها يتصل بالقيادة العُليا فقد تم هذا هنا على الفور بعد الحديث مباشرةٌ؛ إذ أجرى الرئيس نفحسه المكالمة الهاتفية اللازمة.

وهكذا اجتمعنا في بداية فترة بعد الظهر في مكتب رجّل طويل يرتدي لباساً عسكرياً مموها غُرَته صهبا تميل إلى الزرقة تُشبه بنيته بنية ممثّل أميركي اسمه عبد الفتّاح يونس الضابط السابق عند القذّافي ووزير الداخلية السابق الذي التحق بالثورة وعيّنه مصطفى عبد الجليل قائداً أعلى لقوّات ليبيا الحرّة.

"حلف الناتو" ليس على ما يُرام؛ رشق عبارتّه في البداية مع هذا الجانب السكران؛ وهو يهزهز برأسه قائلاً: "غالباً ما رأيت قادة الحرب في نهاية الليالي ساهرين يشربون القهوة في الغرف المحصّنة التي ينبعث منها الدخان ويتلقّون البيانات التحذيرية التي تنهال عليهم كل ثلاث دقائق يتلوّون تحت ثقل التحذير لكنهم مع ذلك. يُقرّرون."

غمغمَ‏ بصوت ما يزال ثقيلاً: "قامت فرنسا بعملٍ خارق...خارق...لكن الآن لم يعد الأمر يسير على ما يُرام... منذ تركتم حلف الناتو يأخذ زمام المبادرة لم يَعُد هناك قرار وما عُدنا نشعر بوجود إرادة لم يعُد الوضع ماشيا والأخبار لم تكن جيّدة هذا الصباح"

ذكْرَنيٍ باللواء مسعود في بنشير غداة سقوط طلْقان...وبعمير بيرتز وزير الدفاع الإسرائيلي صبيحة اليوم الذي أسر الفلسطينيون عسكريّين من صفوة عساكره في حضَمَ الحرب الثانية على لبنان... وبديفيجاك خلال الساعات السوداء لحصار سراييفو، حيث نمت كطفل: عشر دقائق ورأسي على الطاولة؛ وبِّلتٌ بلعَابِي ما عليها من تقارير المجلس العسكري غير المكتملة واستيقظتٌ مذعوراً.

وألج قائلآ كما لو أنه هو أيضاً قيد الاستيقاظ ويشقٌ عليه أن يُجمّع أفكاره: "حلف الناتو بطيء التحرّك... نُعطيه الإحداثيات... لكنّه يجلس فوقها... يجلس بهدوء تامّ... وحين يُقرّر أن يتحرّك أفّ أفف! فاتت القُرصة؛ واختفى الهدّف. ..تعالوا ستفهمون ما أعني.

قادنا بخطى مُتثاقلة إلى الطابق الأرضي وأدخلنا "غرفة المراقبة" "غرُفة العمليّات" وهي عبارة عن قاعة واسعة مليئة بالخرائط حيث يعمل ثلاثة ضبّاط قادة من دون لباسهم الرسمي وحيث تصل مبدئيآ كل المعلومات القادمة من أرض المعركة وتُنقل إلى حلف الناتو الذي يُقرّر أن يقصف أو لا. لست مُتأكّداً من أن أجانب آخرين دخلوا هذا المكان شديد السريّة. طلبتٌ من مارك وفوجتا أن يُصوّرا كل شيء فيه.

أخذ كتاباً ضخما مجلّداً يشيه سجّل محاضر مجلس إدارة ويفتحه لا على التعيين قائلا؛ "خذوا مثلا أنتم في صفحة 5 نيسان/ أبريل؛ وترون هنا إشارة إلى هدف أرسله مجموعاتنا إذاً في الخامس من نيسان؛ الساعة السادسة؛ غير أن..." تردّد. مضى إلى الصفحة التالية، ثم عاد.. غير أنه أضاف أحد الضابطين الذي جاء لنجدته وأرانا مُلاحظة في أعلى الصفحة "حلف الناتو لم يُجبّنا إلا في الساعة الحادية عشرة والنصف؛ أي بعد خمس ساعات,؛ سيّدياللواء..."

قال اللواء: "هو ذا" مُزايداً من دون أن يعرف إن كان عليه أن يُبِدِي سحنة آسِفْةٌ بسبب ساعات التأخير الخمس أم سحنةٌ ظافرة لأنْ الملاحظة تجعل الحقٌّ معه؛ فحلف الناتو رُبّما تعمّد السماح بفرار الهدّف حين لم يتصرف بطريقة أخرى.

ثمّ توجّه إلى الكولونيل ثانية وقال: هل تُعطينا مثالا آخر؟

أخذ ورقة مُنفصلة موضوعة على أكبر خريطة ‏ تلك المفتوحة في وسط الطاولة المركزية. وأشار إليه اللواء إشارةٌ سأم وإحباط؛ علامة يبدو أنّه عنى بها "تابع" هذا يؤلمني جدأ والكولونيل هو الذي يتابع: "هذا رتل مُكوّن من دَبَابتّين وثلاث سيّارات مُصفْحة خفيفة وأربع شاحنات تخرج من البريقة. هذه إحداثيات وصلت اليوم الساعة السادسة: إلى ضابط الارتباط..."

قاطعته بالقول: "ضابط ارتباط مَن؟"

ضابط ارتباط حلف الناتو.

لأنّ لحلف الناتو ضبّاطً ارتباطٍ على الأرض؟

طبعاً. ضبّاط بريطانيون وإيطاليون؛ وفرنسي واحد قُبطان بحري وصل معكم ونحن

نعرف أنكم رأيتموه.

هذا صحيح؛ ولكنّي لم أكن متأكداً.

تلقّوا المعلومة الساعة السادسة. والساعة الآن الثالثة؛ وحتى الآن. ونحن نتحدّث؛ لم نتلقٌ أي خبر عن أنّهم قصفوا.

قدّم لنا مع زميله ثماني حالات من نفس النّمَط أخذت كلها في الأيام الأخيرة وهي تُشير إلى الدائرة القرار التي يبدو أن متوسّطها يتراوح؛ في الواقع؛ بين ثلاث وعشر ساعات. فلماذا هذا الزمن؟ ومن دون الدخول في بارانويا نظرية المؤامرة التي إن لم ألاحظها عند عبد الفتّاح يونس  فعلى الأقل عند مُعاونيه الذين قالوا :"ماذا يُريد حلف الناتو؟ وبم يلعب؟ ألا يفعل هذا عن قصد؟ أليس من البديهي أن الأشياء تتم بصورة أفضل حين يتحمّل كل بلّد مسؤوليته الكاملة عن عمليات القصف التي يقوم بها؟.."

بدا اللواء مُنهكاً فصعدنا إلى مكتبه ثانية.

قال مُزايدا وهو يرتمي بتثاقل على أريكته كما لو أن زيارة غرفة العمليات استنفدت قُواه: "وخصوصاً أن هناك شيئاً آخر هو هذا" ومن دون أن ينهض سحب من ملّف مرتب وراءه على رفٌ صُوراً غير واضحة ولكنّها تظهر هياكل دبّابات.

وشوش قائلاً: "هذه دبّاباتنا".

قاطعه جيل قائلاً: لأنْ لديكم دبّابات؟

قال بصوت خفيض جداً يكاد يكون غير مسموع: طبعاً.

ضبطتٌ نظرة مارك. كان قلِقاً من نوعية الصوت في التسجيل رفعتٌ كتفيّ لأقول إننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً وأنني أحسستٌ بواجب ضبطه وأنَّ المهم هو مضمون ما سيقول.

عندنا ثلاثون دبابة ت ‏ 54 وت 55 التي قد لا تُعادل دبّابة ت ‏ 72 التي يمتلكها

القذافي؛ غير أننا أصلحناها وهي تعمل غير أنّ...

توقف عن الكلام مُتأكٌداَ مرّة واحدة من أن الكاميرا تُصوّر.

غير أنْها كانت قبل يومين ضحية ما يُسمّيه عسكريُوكم بالنيران الصديقة. اعتباراً من الآن احسبوا حساباتكم... أنتم الفرنسيين في مهمة؛ وتمَثّلونُ ساركوزي إذاً قوموا بحساب الكلفة وانقلوه...

لم يكن لديّ. الوقت لأقول له إننا لا نمثل أحدأ ولسنا مُتأكّدِين من أننا قادرون على أن ننقّل شيئاً يُذكر. كان قد تناول ورقة بيضاء وجعلها ضمن إطار الكاميرا. رسم عليها

عمودين وشطبّهما وعاد إليهما ثانيةً وتوقف عندهما كأنّ هذا يفوق قُواه.

قلت هذا للوزير جوبّيه مرّتين على الهاتف. لكنّه لم يفعل شيئاً، فمن جهة أنتم بطيئون بطء قرار حلف الناتو حين نشير له إلى تمركز كتائب القذّافي ومن جهة أخرى يجب تسمية الأشياء بأسمائها والقول أنتم مستعجلون استعجاله في قصف آخر رتلٍ بائس من دبّاباتنا مع أننا أعلنًا له عنه بوضوح الحقيقة...

استسلم للغضب. رأسه كرأس الأسد العجوز الذي وصفه الكاتب اكيسيل؛ مستعدا دوماً للاستيقاظ والزئير. لكنّ الصوت ظلّ مختفياً بغرابة.

الحقيقة هي أننا لن نصل...

عفواً؟ .

لم يعد الصوت مخفياً وحسب. بل صار مكسوراً. يرتعش قليلاً. إِنّه صوت أسدٍ عجوز لم يعُد يعرف الزئير وأدرك أنّه كذلك. إِنّه صوت مُتبجّح لم يعد فاعلاً فانهار.

قال بصوت أكثر انخفاضاً أيضا أقرب إلى النحيب: "لقد أنقذتم هذه المدينة" وهذا شييء حسّن. لكن إذا لم يُقدّم أولتك الذين أنقذوا المدينة أنفسّهم وبسرعة كبيرة كل ما تحتاج المدينة إليه فلا أستطيع أن أضمن الدفاع عنها، لم أعد قادراً على التحمّل، هذا هو الواقع"

رأيت في عينيه عيني العسكري. دموعاً تتكلّم؛ لا أستطيع أن أقول إن كانت دموع الاهتياج أم دموع العجز أم دموع العجز والضيق. أو رُبّما دموعاً كوميدية بسبب وجود الكاميرا. ثم إنه لم يعد يفعل شيئاً، إذ تجمّد وجهه وانغلق. أشرت إلى مارك بأن يُوقِف التصوير.

السبت 9 نيسان/أبريل: نهاية (مكان غريب عجيب من أجل اتصال هاتفي مع ساركوزي(

المرآب الذي كان خالياً عند وصولنا يعجّ الآن بالرجال المُسلّحِين وبسيّارات البك ‏ آب التي تذهب في كل الاتجاهات، حتى إِنْ هناك شاحنتّين تعلوهما منصّة صواريخ مُضادة للطيّارات تتهيّا للنصب، في حين أنّ منصة أخرى سبق نصبُها وهي تُشبه كلباً واقفا ينظر صوب السماء وثمّة أيضاً على بوابّة المدخل رشاش ثقيل كأنْ المسلّحين يتوفّعون هجوماً.

وقفنا أما سيّاراتنا مصدومين بصورة جنرال رأى كلّ شيء وعرف الشاردة والواردة وعبّر كل حلقات الجحيم بما فيها الحلقات التي رسمها هو نفسه؛ وعاد هنا تحت أعيننا إنساناً عادياً يبوح بعجزه وهياجه واضطرابه.

أَلَحّ أحدنا لكي يُعقلِن الأشياء على حضور الكاميرا متسائلاً عَما إذا كان الرجل قد تصنع هذه الملامح. ولاحظ آخر أَنّه عندما أجابنا لم يعرف عدد الدبابات التي دمّرتها النيران الصديقة "الناتو" فهل هذا جادٌ حقاً؟

أمَا الثالث فشدد على أن هذه الحرب هي حرب شباب شباب مدنيّين مُتمرّدين إذ لانرى على الجبهة كثيرين ممّن يرتدون اللباس العسكري فهل يكون جنرال مُحترف شَابَ في جيش القذَّافي مصدر المعلومات الأكثر فعاليّة في واقع موازين القُوى؟

لكنْ حسناً. الحقيقة واضحة فنحن جميعاً مصدومون بهذا المشهد غير الطبيعي. وقد احتفظنا في أعيننا من دون أن نصرّح بنظرة هذا الجُنديّ العتيق المُجرّبٍ الذي ينصاع أمام أناس لا يعرفهم: الاعتراف باهظ الثمن بالنسبة لعسكريين من نوعه. وشعرنا جميعاً أن في هذا التصرّف رسالة؛ رسالة بالمعنى الحقيقى ورسالة عاجلة حاول إيصالها بهذه الطريقة أو تلك..

 اليوم هو السبت.. الساعة الثالثة بعد الظهر.

أمام هذا الموقف أمام هذه المعلومة التي هي خطاب جنرال قائد الدفاع عن بنغازي يُصرّح فيه أنّه لا يملك من القّدرات ما يسمح له بالاستمرار في مهمته؛ وأنّ المدينة تجد نفسها في الحالة التي كانت عليها قبل شهر عشية تدمير الطيّارات الفرنسية لأوّل رتل دبّابات كان يدخل ضواحي بنغازي فاستعدت ردّة فعلي آنئذ وهناء في هذا المرآب في قيظ بداية فترة بعد الظهر حاولتٌ من جديد أن أتصل برئيس الجمهورية.

إذا حكيتٌ يوماً هذا المشهد سيقول الناس إِنّهِ يسخر.

سوف يقولون: "ما قصّة هذا الكاتب الذي ما إن يجد نفسّه في بنغازي: حتى يأخذ هاتفه: ويتصل بساركوزي؟" ومع ذلك: هكذا حصلت الأمور.

ما إن شعرتٌ أنني أقل تشوّشا ومُستعيداً توازني بعد لقائي بعبد الجليل في بيت  الاستعمار الجديد بطرازه الإيطالي حتى تصرّفت بالطريقة نفسها.

والذي أثار دهشتي من جديد كما في المرّة الأخرى أنني كنت محظوظاً حين وجدثُ أمانة سر الرئاسة في دوام مُستمرٌ وأمّنت لي الاتصال فورا:

السيّد الرئيس... أنا في بنغازي...

أعرف هل كل شيء على ما يُرام؟

تقريباً نعم. أنا حائر في هذا الاتصال لكنّ عندي خبرين. خبيرٌ مُسلٌ وخبر هام

-ابدأ بالخير الهام.

-لا. سأبدا بالُمسِلي وسيكون قصيراً قبل قليل وُلِد طفل في طبرق؛ سماه أهله باسمك.

-عفواً؟

-سموه انيكولا ساركوزي.

-اسم عائلته: لا أعرف. لكن اسمه الأول هو "نيكولا ساركوزي".

-هذا غير معقول!

ليس بالضرورة. هذا يُشبه ما حدث في الستينيات لحظة صدور كتاب رونيه ديمون حين أطلقتٌ العائلات السنغالية أو عائلات ساحل العاج على جيل كاملٍ من الأطفال أسم "بدأت أفريقيا السوداء بداية سيئة".

-طيّب. وما الخبر المهم؟

لا استطيع أن أجزم بأن قصّتي قد سلَته أو راقت له أو أثرت فيه آم أنه لم يُصِدّقها تماماً.

قال وفي صوته بعضٌّ من الضيق الواخز: هات ما الخبر الآخر؟

-  رأيتٌ توا اللواء الُمكلّف بالدفاع عن بنغازي وأعتقد أننا إذا لم نُقَدّم له المُساعدة...

لكننا نساعده!

- في الظاهر لا نُساعده كفاية.

- نقوم بها ينبغي القيام به. والآن عليهم أن يُكملوا العمل.

'- المشكلة كلها هنا. يبدو كما يقول على كل حال بأنه لا يملك وسائل الدفاع عن المدينة.

- لكنْ مَن يكون هذا اللواء؟

- يونس... عبد الفتّاح يونس...

-عر فته.

بدا الرئيس مُرتاباً. فألححتٌ.

-قال لي إننا إذا لم نُساعده فسوف يتقدّم القذّافي ويستعيد ما فقده من الأرض ولن

يكون لكل ما فعلتّه فرنسا أيّة فائدة.

-يجب النظر في الأمر... لست أدري.

بدا مُستعجلا ليُّنهِي المكالمة. رُبمّا لأنّه لم يفهم ما كنت أريد قوله. ورٌبّما لأنّهِ وجد أن فرنسا قامت بما يلزم. أو ربمّا لأنه بكل بساطة مشغول. فحاولت تحت شك نظراتٍ جيل والآخرين الُمقامرة بكل شيء لأربح كل شيء.

لحظة سأجعله يأتي إلى باريس.

عفواً؟

-نعم. سأقترح عليه بأن ندعوه إلى باريس.

-وماذا نفعل إذ ندعوه؟

آتي به إليك.

ساد صمتٌ على الطرف الآخر من الخط. يجب أن أعترف بأنني مُنزعِج من فكرتي لأنني حتى الآن لم أقترح أيٍّ شيء على يونس. هل أغلق الرئيس الخط؟ لا ما يزال على الخط. وهنا صار الصوت واضحاً (فلا بد أن المنطقة تملك أجهزة اتصال عالية الجودة لأنَّ نوعية الاتصال أفضل بما لا يقاس من نوعيّتها في تيبستي قبل شهر) فأجابني:

لا...

فجعلته يُرَدَّد:

هل ستكون مُستعدًاً لاستقباله؟

نعم. هذه فكرة؛ في الواقع. فقلت بالتالي: لم لا يجب الاتصال بي من باريس وترتيب هذا الأمر مع ليفيت.

وأغلق الخط.

هل فهم تاماً ما طلبته منه؟

وهل هو جاهز بالفعل هذا اللقاء الجديد؟

هل في وسعنا الآن أن نعود ونرى يونس ونتحمّل مسؤولية جعله يُغادر بنغازي ‏

وخصوصاً أنني أعرف خطأ أو صواباً أنه لن يترك بنغازي إلا إذا كان مُتأكداً من أنّه سوف يرى ساركوزي وليس أيّ شخص آخر؟ لم يعد أمامي من خيار.

صعد علي زيدان إلى الطوابق العليا ليُخبر صاحب الشأن.

عاد بعد عشر دقائق بردّة فعله: يقبل طبعا بشرط أن يُوافق مصطفى عبد الجليل (المشكلة الوحيدة؛ كما قال هي أنه يجب أن يُسافر غداً إلى روما ويعود في طيارة عسكرية إيطالية لم سيقضي الليل هناك وفي هذه الحال يكفي أن ننزل ونحن في طريقنا إلى باربس؛ في مطار فيوميتشينو حيث سيكون في انتظارنا(.

اتَصل بعبد الجليل ليضمن موافقتّه ومن جديد أعطى موافقته.

اتصلتٌ بليفيت الذي لم يكن على عِلم بشيء (وليس هذا دليل خير) فبدا مُتحفّظاً على فكرة أن يلتقي الرئيس وحده باللواء (وهذا ما أقلقني بعض الشيء).

لكن لم يعُد في وسعنا أن نفعل شيئاً. فمهما حصل ستكون هذه الزيارة إلى فرنسا بادرة طيبة. لم يبق إلا أن أرجو أن يتذكّر الرئيس وعدّه ‏ وأن يكون الاستقبال مُشرّفاً.

الأحد 10 نيسان/أبريل (رئيس الشباب)

بدأت هذه الثورة وعلى كتفي حاسوب وبعد شهر صار في مكانه بندقية. الرجل الذي يعبر بهذه الطريقة يُدعى مصطفى الساقولي. كان؛ في حياته الماضية رئيس مشروع لبيع الشرائح الإلكتروني وقد صار بعد عدّة أسابيع قائدٌ جيش الشباب قائد هؤلاء المحاربين الفتيان غير النظامّين الذين من جهة أخرى ليسوا جميعهم شباباً فبعضهم ‏ من رأيتهم: عند وصولي في التدريب في الأرض غير واضحة المعالم وأنا واقف بعيداً عن الأسلاك الشائكة ‏ في الأربعين وفي الخمسين. بل أكثر من ذلك لكنهم ليسوا غير مُنظمين إلى الدرجة التي نُريد أن نعتقد بها (يتكون كل عمله كما شرح لنا بالتحديد من محاولة أن يجعل من هؤلاء المحاربين جيشاً فعلياً(.

نحن في معسكر 17 شباط/ فبراير الذي أطلقت عليه هذه التسمية بعدما كان قبل الحرب؛ واحداً من سجون النظام الذي بنى أقسامّه عمره أربعون عاماً نحيل جميل الوجه له سكسوكة، يحمل شالاً بُمربّعات، يحمل رتبة عريف (7) على الكتفين. تظهر عليه ملامح الذكاء والفضول. نظرته مُغريّة، صوته فاتن، إن بطريقة ما الأنا الآخر المدني لعبد اللطيف يونس- ويشكل للمقاومة المدنية ما يشكله الآخر للمقاومة العسكرية.

قُمنا معه بجولة سريعة حول أمكنة التدريب، زرنا مواقع الرمي، ولما لم يكن لدي متّسع من الوقت: كما حصل معي قبل قليل في مُعسكر القوات الخاصة، لم يتوفر لي الوقت الذي يُمكنني من تدوين أية ملاحظة وهو تحت رقابة اللواء يونس وما تبقى من الجيش النظامي في بنغازي؛ وحقول الرمل حيث يُدَرّبٍ الرجال على الجري والقفز والتسلّق على حافة طويلة والصعود على سلّم من الحبال في وقتٍ قياسي التدريبات التقليدية لكل وحدات النخبة في العالم. قضى الوقت معنا في تفقّد مائتي رجل مصفوفين في أربعة أنساق سيشكلون مُستقبلاً وحدة مُقاتلة كانوا يُعلّمونها توَأ تحت شمس حارقة كيفية تنفيذ التحية والنظام المنضم وهتاف: ليبيا حرّة وتقديم السلاح (الذي لم يكن في الواقع إلا عِصيًاً). وكانت دهشتنا كبيرة إذ رأينا مرّة أخرى أن الكتيبة التي يُفتّرض أنها كتيبة شبيبة تضم بالإضافة إلى الشباب؛ عدداً لا بأس به من "اُلمسنّينَ": فيهم من تجاوز الأربعين وأحياناً الخمسين والستين وفيهم مُثقفون وقادمون من الأعمال الحرة شعرهم أبيض يضعون على رؤوسهم عمائم مُزركشة حركاتهم غير مضبوطة ووجوههم مليئة بالنمش أو غير مُعتادة على الشمس - إِنَّه الخليط النموذجي مُتعدّد الأشكال والألوان؛ الذي يُميّزْ كل الجيوش الشعبية وكل جيوش التحرير التي استطعتٌ أن أراها في حياتي، وفى هذه الكنية أربعة أوخمسة سلفّيين مُحتمَلِين تدلّ عليهم لحاهم القصيرة وجّهوا لي التحية من دون تحفظ . إذا قمنا

بهذه الجولة. لكنّنا الآن في البرّاكة الخشبية التي تُستخدّم مكتباً لقائد القاعدة. أمّا ما يهمّني أكثر من أي شخص آخر فهو مصطفي الساقولي.

هيئته الذكيّة كما قُلت. طريقته في شرح أن هذه الثورة بدأت كما في تونس وكما في مصر عبر الإنترنت. وجانبه المباشر. طريقته غير المُعتادة في الإجابة بدقّة على الأسئلة المحدّدة التي نطرحها عليه أكثر دقَةٌ بكثير من طريقة اللواء يونس يوم أمس.

بدأ بالقول إِنّ ألفي رجل دربوا هنا، ثلثْهم أنهوا تدريبهم وعُينّوا في الدفاع عن بنغازي وثلثهم في المواقع المتقدّمة؛ وخصوصاً في اجدابيا، والثلث الأخير وهو ثلث صغير رأيتم عناصره قبل قليل وهم ما يزالون هنا للتدريب...كان كأنه يبحث في ذهنه عن كلماتٍ يقولها. لكن يبدو لي أنْ هذا شيءٌ ما يعرف كيف يصل إليه.

حذار. عليكم أن تعرفوا أيضاً آنّ هناك عدداً كبيراً من المتطوّعين الذين يقدّمون أنفسهم لكننا لا نستطيع استقبالهم. أحياناً لأننا لا نملك بذلاتٍ عسكرية ‏ غير أن هذا ليس هو الأخطر. فأحيانا لانجد سلاحاً نوزعه عليهم: وهذا هو الأكثر إزعاجاً...

واستشار بالنظر ذاك الذي قدّمه لي في بداية الحديث بوصفه الشخص رقم واحد الحقيقي في القاعدة واسمه فوزي بو قاطف. وهو مهندس في صناعة البترول يبدو أن منصور يعرفه ورُبما ظلّ منزوياً إِمَا لأنه لا يتكلّم الإنكليزية جيّداً وإمّا لسبب آخر فالرجل لم يعترض على أي شيء لاحق من حديثنا.

مشكلة الأسلحة مُزعجة للغاية. أعرف ما يُقال في أوروبا عن أن التحالف يُنفذ في الجوّ بشكل كامل ما يجب أن يفعل وأننا نحن على الأرض لا نلحق به. ولكن كيف تُريدون أن نلحق به ونحن نفتقر إلى كل شيء وليس لدينا حتى ما نجهز به المقاتلين؟

ألقى نظرةٌ سريعة على حاسوبه المفتوح؛ على لوحة أرقام.

... مائتان واثنا عشر شابا هذا الصباح فقط حضروا وكان علينا أن نُعيدهم إلى بيوتهم؟ ومع هذا سيكون هذا بسيطاً...

أخرج ربطة أوراق من مُصنّف بلاستيك لاحظتٌ منذ البداية أنه مُعلَّق تحت الحاسوب كأنها لِيثبته، ووجه نظرة جديدة إلى الشخص رقم واحد الذي ظل غير قابل للاختراق.

استأنف يقول والأوراق في يده وكأنه يتردد في أن يُعطيني إيّاها: أعرف أنك تتحدّث مع الرئيس ساركوزي ونحن جميعاً نعرف الدور الذي قُمتَ به ولن ينساه أحدّ هنا. فهل يُمكِن أن تحمل هذه الأوراق؟ وتُسلّمها له؟ كل شيء فيها.

سلّمني الأوراق. أربع صفحات مكتوبة باللغة العربية.

هذه قائمة أسلحة... قائمة صغيرة... لكّنا في حاجة ماسّة إليها... وهناك أيضاً خارطة

طريق مشفوعة بمشروع استراتيجي... انظر.

استعاد الأوراق ووضّعها على الطاولة بيننا وبدأ يقرأ بطريقة المربي اللامع مُشدّداً كل مرّة بإصبعه على عناوين الفصول: "مائة مُصفْحة 4/4... من عيار12,5 ومن عيار 514,... ومواد نقل... مائتا جهاز هاتف تلكي- وكي بالإضافة إلى قاعدتين أو ثلاث إِنْ أمكن... وأقل ما يُمكِن مائة بك آب وبين سبعمائة وثانمائة RPJ7... وألف كلاشينكوف... وأربع وإن أمكن خمس قاذفات صواريخ ميلان".

نظر إلي كأنّما ليقول لي: "وهكذا دواليك؛ أنت ترى الطراز". وختم وهو يطوي الأوراق ويمدّها إليّ من جديد.

-هل تعتقد أنَّ ذلك ممكن؟ أضع هذا بين يدّيك.

التفت بدوري إلى جيل ثم إلى فوجتا الذي أوقف الكاميرا لكني أشرت له بأن يستمرٌ

في التصوير.

-ماذا تقصد بكلمة ممكِن؟ فأنا لا أملك أية كفاءة في معرفة هذه المواد...؟

فقطب تقطيباً معناه: أوه الكفاءات! لم أكن أملك أنا أيضا أيّة كفاءات!.

فالححتٌ بالقول: أنا كاتب، ولستٌ دبلوماسياً، كما أنني على الأخصٌ غير عسكري. وهذا الحديث يتجاوز قدراي. لكني سأكلّف أحداً بترجمة الملف، وسأسلّمه لرئيس الجمهورية. نعم أستطيع أن أقوم بهذا.

أجابني الساقولي بابتسامة مُبتهجة: هو ذا المطلوب، نحن لا نطلب منك أكثر من ذلك. ثُمّ إن هناك شيئاً آخر... ونظر إلى رئيسه من جديد.

-الخطة.

-الخطّة؟

عندي خطّة نعم. سريّة. لكنها سوف تُغير مجرى هذه المعركة إن تَحمّلتُم أنتم الفرنسيين تّبعاتها.

أخرج من مُصنّف آخر خارطة ليبيا ومدّها على الطاولة ‏ وقام. الكاميرا ما تزال تُصوّر.

-هل ترون هذه المنطقة؟ ‎‏

بين بإصبعه المنطقة الساحلية ‏ التي نُحارب حولهًا منذ شهر: اجدابيا والبريقة وسيرت ويجول بإصبعه في عملية ذهاب وإياب لا تتوقّف.

يوم نحن... ويوم هم... لا معنى لهذا. اقرؤوا مُذكرات رومل. كل الناس يعرفون أن

حروب الصحراء هذه: لا أحد أبداً ينتصر فيها حقا ولا أحد ينهزم حقاً. وباُلمّقابل انظروا هنا... وقام بالإصبع نفسه بحركة تحليق فوق ليبيا وبالهبوط في مركز الخارطة جنوب البلاد.

-هنا ماذا تقرؤون؟

قلت بعد أن رفع إصبعه: الكفرة.

صاح بهيئة المنتصر ها هي ذي.

الكفرة! لاداعي لأقول لكم: أنتم الفرنسيين. ما ذا تعني لكم الكفرة!

بالفعل... أوّل انتصار للفرنسيين الأحرار... الثأر للشرف والشجاعة...

انظروا الآن هنا... :

ومن جديد انهال الإصبع على الخارطة ووقع على نقطة أخرى؛ أبعد باتجاه الشمال.

أنتم في تازادا. ومارادا هي منطقة آبار البترول. هل تُتابعوني؟

الكاميرا مُستمرّة في التصوير. وكان يعلم بذلك. فذهب الإصبع في الاتجاه الآخر على الساحل.

كل كتائب القذَّافي هنا. بينها هنا...

ومن جديد أيضاً عاد إلى مركز الخارطة. كأنّه مُشعوذ يقوم بحركات خِفية.

هنا في مَارّادا لا يوجد أحد. هل تسمعوني؟ هذا الغبي جمع كل قوّاته على الساحل وحوالي سرت وفي هذه المنطقة الإستراتيجية جدأ لا يوجد أحد.

وتباهى بمظهر الفوقية والوضوح..‏

هذه هي خطتي السريّة: نُرسِل وحدة من النّخبة إلى الأغاليا بين البريقة وراس لانوف، ومن هناك نتحرّك باتجاه مارادا. ثم يحمل ننقضٌ على الزنتان وعلى مصراتة التي تُحرّرها. لكنْ على الخصوص. على الخصوص نبسط سيطرتنا على آبار النفط في المنطقة. ما رأيكم بذلك؟ هذا الهجوم المُبِاغت هو الشيء الوحيد الذي لا يتوقعه القذّافي. ‏

مرّة أخرى لا أعرف أي شيءٍ من كلّ هذا، لكنني أحِبّ فكرة الهجوم الْمباغت. يبدو لي أن لنا مصلحة دائمة في... قاطعني بينما كان انفعاله يتعاظم وكأنٌ التكلّم معي يُعَزّز وعيه باهميّته الإستراتيجية.

لنا أنصارّنا في مارادا. اتصلنا بهم. وهم معنا 100/. الخطّة جاهزة. نحن فقط بحاجة إلى المساعدة.

أفهم ذلك.

هل ترون الصفقة؟

-آه الصفقة.. لا قل لي.

تُساعدوننا. بعض المروحيّات الُمقاتلة تكفي: وبعض الوحدات الخاصّة على الأرض.

فنسيطر معاً على آبار النفط وأنا أجلِب لكم عل طبَّق رمز الكفرة.

وضع في جيبي الأوراق الأربع المكتوبة باللغة العربية حيث توجد قائمة الأسلحة التي يحتاجها. وردّد عدة مرّات وهو في حال من الاهتياج المتزايد:

" الآن نحن شركاء». وشدّد على هذا بالقول: "فرنسا بالنسبة لنا غير إيطاليا فبيننا وبين فرنسا صفحة بيضاء. ومن ثّمّ وقد بدا بهيئة المفاوض الذي يعتبر أنه قال كل ما عنده وأنّ علينا الآن أن نقبل عرضّه أم لا.. أغلق حاسوبه؛ ونهض وقادنا بخطى مُتثاقلة لنزور أقسام المعسكر التي لم نرّها بعد.

مُراجعة جديدة تفصيلية في طراوة آخر فترة بعد الظهر؛ على أرض مُعسكر تدريب آخر حيث يتمرّن الْمجنّدون على الرمي في سحب من الغبار والدخان رمياً استعراضياً بقدر ما هو خلبي.

مررنا بالمكان الذي أوقف فيه حوالى ثلاثين سجينا قبل تسليمهم إلى الصليب الأحمر إذ تم أسرّهم بين البريقة وراس لانوف وأكّد بأنهم عوملوا كما تقتضي قوانين الحرب:؛ بعدالة ‏أليس هنا المعنى المزدوج للحرب العادلة بحسب رأي فلاسفتكم المسيحيين الذين فكّروا في هذا المفهوم؟ إذا قائد الشباب يعرف فلاسفة مسيحيين...

توقف لبعض الوقت كي يتحدّث بالهاتف مع أحد أعضاء المجلس الوطني الانتقالي قد يكون علي العيساوي؛ في موضوع الخطأ غير المفهوم الذي ارتكبه حلف الناتو منذ ثلاثة أيام والذي ذكره لنا اللواء يونس. قال وقد استشاط غضباً: كيف أمكن أن يحصل مثل هذا الخطأ؟ ترجم لنا منصور بصوتٍ مُنخفض. ونظراً لأننا أعلمنا الحلف بحركتنا أليس علينا ‎أن نتصوّر افتراض خطأ مقصود؟ افتراضّ انتهاك؟ خيانة؟ وبدا أنه يذكر لُمحاوره غير المرئي كما يذكر لنفسه أيضا كلّ الشروح التي يُمكن تصوّرها كلّها. وفي الحديث تكرّر اسم شخص عدة مرّات مع تصاعد نبرة الغضب الُمخيف في كل مرّة هو يوسف منقوش.

علّق بالقول لحظة توقف الحديث -حيث كان ينتظر أن يتصل به الآخر: هذا أحد أفضل قادتنا. عمّره ستون عاماً. كان قائد الوحدة الوحيدة التي حاربت في تشاد ولم تتكبّد أيْة خسائر. وهو من عائلة كبيرة ونبيلة...

قاطعه منصور وأبلغني خفيةٌ: هل تتذكّر تلك الصبيّة الأنيقة جداً التي تعرف كتبك والتي دعتك لتتحدّث أمس مساء في القاعة الكبرى في تيبستي؟ هي من نفس عائلة منقوش...

نعم كان لقاء جميلًا لكنني لم أتمكن من أن أتحدّث مع نساء المدينة ‏ اللواتي يُعَبْرنْ بحر يضعن مناديل لكنْهنٌ غير مُحجّبات يأملن بليبيا علمانية وبضمان حقوق المرأة...

وأردف الساقولي قائلاً: كان يتقدّم رتل الدبابات مسافة أربعين كيلو مرا فتعرّض نفسه للأسر والتعذيب التعذيب الوحشي هل تفهمون؟ وهذا السبب أيضاً أمنى أن يُعجل

المجلس في فتح تحقيق عن سبب خطأ الحلف وكيفية وقوعه.

وددتٌ أن أسأله عن العلاقة بين منقوش والدبّابات بين أسر منقوش وتدمير الدبّابات التي قصفها الحلف عن طريق الخطأ. لكنه كان قد تابع يقول: "أريتكم سجننا قبل قليل

حسنا هنا أيضاً الاختلاف بيننا وبين كتائب القذّافي كبير جداً! فنحن نُسَلّم سُجناء للصليب الأحمر بينما هم عندما أوقفوا منقوش ومعه الكولونيل ناصر من طبرق

عرضوهما على التلفزيون وأجبروهما على مُهاجمة الثورة بعُنف؛ ناصر انصاع لهم وقال إنه التحق بنا لأننا أخذنا أطفالّه رهائن؛ لكنّ منقوش لم يرضخ ولم يستسلم فهل تتخيّلون الصلابة التي لا بُدَ أنه أبداها من أجل هذا؟

لم أجد إلى الآن من الوقت ما يسمح لي بشرح صلابة منقوش وبربرية جلآديه وسرّ لف ودوّران حلف الناتو الذي لا يُمكن اختراقه فقد صرنا في السيارة تُغادر المنطقة ‏ مثلما طلبوا منا لكني فكرتُ بأنه إذ انصرف كليًاً إلى خطَته إلى "صفقته"؛ وإلى انفعاله قد نسي قصّة الحلف، نُغادر باتجاه الخطوط الأولى للدفاع عن المدينة أي حوالى أربعين كيلو متراً إلى الجنوب وأرجو أن نرى خطّ الدفاع عن اجدابيا.

أرانا الساقولي الدبابات المُدمّرة بهياكلها الصّدئة. وآثار الديدان على الأرض قبل قصف الدبّابات التي تبدو محفورة في الوحل اليابس. فثمّة في قلب الصحراء حيث توقّفنا معاقل مُربّعة. وجدنا فيها كتيبة من الشّبان تخرج من معقله فهو مُدرٌبها ويبدو أنّهم جميعاً شاركوا بكل شيء في هذه العزّة الرهيبة التي صنعها لهم بوضعهم هنا في المكان الذي سيُوقفُون منه زحف الدبابات القادمة في ما لو عادت. وجوههم نضرة. . وهذه الأيادي التي تبغي القتل وما فعلت حتى هذه اللحظة غير الحِبٍ والعمل والمداعبة. هذه النظرات التي تتدرّب على الحزم: وتتحدّى عدوا مُتخيّلاً لكننا نشعر أحياناً أنها تُكافح أصلاً ضدّ القلّق. أما الفتى رامي الرشّاش الذي نزل ليُحِيّينا من برج آخر دبّابةٍ بقيت في الكتيبة فكتفاه غريبان غير مُتساويّين ليسا مفتولين تماماً اللَّهُمَ إن لم يكن معطفه القصير قد أعطاه شكل هذه الحدبة الخفيفة.

ظهرت طيّارة تُنَفّذْ مُناوراتٍ خفيفّة. ووراءها خط دخان أبيض يتلبّد في السماء متكوّراً حول نفسه. فشرع رامي الرشّاش الفتى يشيره كالطفل إلى آثار الدخان صارخاً: "طيّارة: طيّارة". وحينئذٍ ثبتوا عيونهم جميعاً هو ورفاقه؛ في السماء . محاوِلِين وقد علّقوا حركاتهم؛ أن يفكوًا رمز رسالة الطيّارة. قال جندي الدبابة: هذه طيارة للحلف. فقال آخر: لا هذه للطاغية. قال ضابط صف خرج فجأة من خيمته: جندي الدبابة على حق؛ إذ لم يعد عند الطاغية طيّارات. فتدخل رابع ليحكم بينهما بالقول: طبعاً عنده طيّارات أكثر تطّوراً تأتي كما سوف يشرح لنا الساقولي لاحقاً من طرابلس: فقد زوّده الجزائريون توا بسرب منها. غير أن الساقولي حسم المسألة وكأن هذه الألعاب كانت تتعبه: "هيّا انتهينا نحن ذاهبون؛ علينا أن نعود إلى بنغازي وسيتأخر الوقت علينا إن أردنا أن نسافر هذا المساء إلى أجدابيا".

في السيارة قال من دون تفكير وفي نظرته بريق أسود غريب: "هل تريدون أن نعقد ميثاقاً؟ أقودكم غداً إلى خطوط الجبهة في اجدابيا. وأنتم, بالمقابل تقودوني إلى رئيسكم كي أعرض له خطتي".

وأخيراً!

يتواصل