إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح 9

جمعة, 26/02/2021 - 00:06

تقلب في بنغازي

مشهد سريالي في تيبستي هذا الصباح.

أُعلِنَ عن وصول بعثة الاتحاد الإفريقي التي كانت أمس في طرابلس والتي أتت إلى هنا لتقترح على المجلس الوطني الانتقالي خطة للخروج من الأزمة؛ زاعِمةً أنه "مُتوازن" لكنّها اتفقت في الواقع؛ مع "الأخ القائد".

من المتوقع أن يصل المالي آمادو توماني توريه، والموريتاني محمد ولد عبد العزيز: ومن الكونغو داتي سوسُو نغوسُو، ووزير خارجية أوغندة وكذلك من حيث المبدأ وزير خارجية جنوب إفريقيا جاكوب زوما ‏ هذا الذي ذكر لي ساركوزي كثيراً من إيجابياته: إلى هذا الحدّ أو ذاك؛ يبدون جميعاً في صف القذّافي فقد سمّمهم واشتراهم (هذا ما قاله لي باتريك ميل هذا الصباح من باريس وللأسف: لديّ شعور بأنه على حقٌ(. .

بدأ الجمهور من الساعة التاسعة يتجمّع أمام الفندق. وفي العاشرة صار العدد عشرة آلاف، ورُبّما أكثر من المتظاهرين الُمغتاظين من حرارة الشمس والمهتاجين من طول الانتظار والغاضبين أشدٌ الغضب من موكب السيّارات الرسمية الُمستعدّة لشقٌّ صفوفهم المتراصّة كي تصل إلى باحة المدخل وتُنزِل رُكباها المرفْهِين وتوسّع الشقٌّ أمامها لتُتيح لها الدخول؛ بين الزحمة الناتجة عن المتظاهرين أنفسهم الذين استطاعوا الوصول إلى مظلّة مدخل الفندق.

كان المتظاهرون يهتفون بشعارات مُضادّة للقذّافي. ويدفعون شيئاً فشيئأ وبقوة؛ الحواجز الموضوعة على مسافة 100 متر عند أسفل السُّلَم كي تتسّع الجمهور الضخم. وحين لم يعودوا قادرين على دفعها أكثر من ذلك حاولوا القفز من فوقها وعندما تحرّكت قوى حفظ النظام كي تُرجعهم إلى الوراء راحوا يهتفون هتافات تتهّمهم بالخيانة؛ ويسخرون من السلطات ويقذفون بالشتائم التي بدت لي كما سمعتها أنها مُعادية لأفريقيا وعنصرية. وفي لحظة مُعيّنةَ عند وصول السيّارة الثالثة الساعة العاشرة والنصف، وهي سيّارة ممثّل مالي راودني شعور بأن الأمور قد تسوء فعلاً فهل من العدل أن يسود هذا الجو الصاخب الذي أثارني أنا أيضاً مما دفعني إلى أن أستعير مُكبّر صوت من أحد قاذفي الشتائم وسحبت منصور من يده وصعدت على سطح إحدى الشاحنات وهنا لستٌ أدري ما الذي أغضبني فاندفعتٌ ومنصور يُترجم ألقي خطاباً غريباً مُلتهباً وعقلانياً في الوقت نفسه وكنت في ذاك المساء ما أزال أجهل إن كان خطابي قادراً حقّاً على تهدئة الخواطر أم إن كان على العكس يصب الزيت على نار الاهتياج السائد: "أنا فرنسي" قلت هذا أمام الأنظار المندهشة للجمهور الذي من الواضح أن ليس لديه أيْةَ فكرة عن هذا الأرعن الذي يتوجّه إليه وأمام المبعوث الأميركي الشاب كريس ستيفنز الذي أخبرني لاحقاً بأنّه كان موجودآ وكان أكثر اندهاشاً أيضاً وهو يُراقب المشهد من نافذة غرفته في الفندق "أنا فرنسي" صديق ليبيا أناشدكم أن تتوقفوا، العالم يُشاهدكم، يُتابعكم وهو مُعجب بكم، وحين تُعطون عن حركتكم صورة وحشية قاسية عنيفة ‏ تفقدون ميزة ثورتكم المحترمة. قدّموا للعالم الصورة المعاكسة واحتجُوا بهدوء وبضبط الأعصاب وعاملوا باحترام هؤلاء الناس غير الشرفاء الذين اشتراهم القَذَافي ويريدون بيعكم معهم، وسوف ترون كم سيعود عليكم هذا النضج وسمو النظرة؛ وهذه العظمة. بالاحترامالْمضاعَف." ومن بعد نزلت عن سطح شاحنتي وعدتٌ إل الفندق مسروراً بالأحرى لحظة انتهائي: من أدائي المتواضع وإن قلت لنفسي بسرعة قد يكون إخراجي لقذائف المثقف الضخمة وإلقائي خطاباً في جمهور من أبناء بنغازي الملتحمين في غير محله  فحاولت

أن أستدرك ذلك في التصريح لأجهزة الإعلام الموجودة في بهو لفندق التي كانت تنتظر نهاية النقاشات بين الُمُفاوّضِين الأفارقة الأربعة والمجلس الوطني الانتقالي بأفكار أكثر ترابطاً: "كيف‏ وصلتٌ أفريقيا إلى هذا الموقف؟ وهل يجب أن تداس مُثل التحرّر المعهودة كي يتمكن واحد مُبتذّل كالقذَافي من أن يأخذها كرهائن؟ هيا هب يا فانون هب يا سنغور فقد صارت مثل التحرّر بائسة! نداء إلى المستشارين الكبار الذين عليهم أن يعرفوا في النهاية بأنْ هنا على هذه الأرض الإفريقية معركة دبلوماسية وسياسية أخرى يجب أن تخوضها ‏وبعجالة. فسارتر ما يزال بعد ثلاثين سنة من موته؛ يحمل برميله كصليب. ولم يبق لي إلا أن أرجو وأطلب من مارك ألا يكون -برميلي الشاحنة- صورة ذاتي التي سوف تبقى من هذه السّفرة.

الاثنين 11 نيسان/أبريل: تتمّة (مع مُقاتلي اجدابيا)

هذا هو المكان الذي تُحارب فيه منذ أسبوعين. يوم لصالح الثوار واليوم الذي بعده لصالح أنصار القذّافي. والمعركة كلها من أجل السيطرة على عدّة كيلومترات من القمامة والغبار التي تفصل الباب الغربي للمدينة (الذي يُسيطر عليه أنصار القذافي) والباب الشرقي حيث المواقع المُتقدّمة للثوّار.

قال لنا الساقزلي بينما كنا ننزل من السيّارات: "هذا ما كنت أشرحه لكم أمس. انتهت هذه اللعبة الصغيرة... هذه الحرب على طريقة رومل بلا رومل... حين استلمتٌ قيادة الشباب اتخذتٌ قراراً...

وصل أحدّهم راكضاً إِنّهِ القائد الشابٌ بلال؛ الذي يضع على رأسه قُبَعة حمراء غريبة تُشبه قلنسوة الحريّة عند الجمهوريين والذي يشرح مقطوعٌ النفّس أنَّ رتلا من آليات القذّافي رُصِد هنا على يسارنا على مسافة عدّة كيلومترات وأنّه جاء شخصياً ليبلغ ضابط الارتباط المتمرّد الذي هو نفسه مُرتبط مع ضابط الارتباط الإيطالي الذي يضمن الاتصال مع حلف الناتو لكن مضت ساعتان على الخبر ولم يحدث شيء...

"دقيقة" قال لنا الساقزلي بغضب بارد مكظوم ‏ مُصدراً من جهازه تلكي ‏ وَلكي أولأ ثم بالهاتف سلسلة من الأوامر الُمقتضّبة ترجمها لي منصور.

من جهاز التلكي ‏ ولكي. يُضاعف المواقع طالباً أن تصعد إلى الخطً الأوّل وحدة جديدة من الشباب الذين التقينا بهم قبل دخول المدينة ينصبون خيامهم ليكونوا في وضع رديف.

وفي الهاتف يتصل بغرفة العمليّات في بنغازي ويطلب استخدام كل الإجراءات العاجلة وأن يتم إعلام حلف الناتو دون تأخير بحضور الآليّات.. يجب أن يتوقّفُوا عن التعامّل معنا على أننا أغبياء قال هذا وهو ينهي كلامه؛ كأنه يريد أن يُسوّغ لنفسه ما يقول. لقد دُمّرت أصلاً آخر الدبّابات التي كانت في حوزتنا. أتمنّى من كل قلبي أن يكون تدميرُها ناتجاً عن خطأ. أنا لا أفهم؛ كما قلت لكم أمس كيف يُمكن أن يحدث خطأ كهذا لكن لِنْسلُّم بالأمر في النهاية. وهنا بالْمقابل الأمر واضح تماماً. تُحدّد لهم رتلاً عدوا لاشكٌ فيه ويجب أن تكون طيّاراتهم هنا في الساعة المُحدّدة.

لفت انتباهه إلى أن حلف الناتو عوّض تقصيره أمس حيث دمر هنا في هذا المكان رتلاً من الدبّابات واصلة من أطراف المدينة؛ منقذا بذلك ما بقي منها.

"نعم" ولكن كان لا بد من القتال. ما استغرق زمناً طويلاً جداً. هذه مشكلة جوهرية.

وأود أن اتحدّث عنها مع السيّد ساركوزي إذا التقيتٌ به. في البداية عندما كان كل بلد يُقرّر, كان تحليق الطيارات قصيرا إذ يستغرق عدّة دقائق وأحيانا يستمر لمدّة ساعة. أما اليوم فالتحليق يستغرق ساعات. وكأنهم يفعلون هذا عمدا وهذا السبب أنا من الداعين في قضية دبابات ذلك اليوم؛ إلى تشكيل لجنة تحقيق تكشف كل جوانب الحادثة لأننا لا يُمكِن أن نظلٌ هكذا في عدّم اليقين والارتياب والظن...

كنت أستعِدٌ لأقول له إننا نعرف كل هذا ويونس قاله لنا أمس تقريباً بالُمفردات نفسها غير أنه ما لبث أن غيّر الموضوع: "حسناً. أين كنتٌ؟ نعم. تغيير إستراتيجيتنا".

ذهبنا في الاتجاه الذي كان حدده القائد الشاب بلال بينها كان الرملٌ ‏ يخمد وقع خطواتنا وثلاثة عناصر من الوحدات الخاصّة يسيرون أمامنا وأصابعهم على زناد بنادقهم الكلاشنكوف. . هبت رياح حارّةٌ خشنة.

كان قراري الأول حين استلمت قيادة هذا البازار أن نحفر خنادق فقط أن نحفر خنادق. لست أدري إن كانوا يُعلّمونكم هذا في المدارس الحربية في فرنسا. أمَا أنا فحين رأيتٌ هذا...

وأشار إلى امتداد الصحراء؛ والريح المحمّلة بالغبار والآثار الطريّة للآليّات التي تسمح بملاحقة ما هو بارز ‏ وهنا وهناك؛ يتمركز رجال صامتون خلف الكثبان يترقبون: "عندما رأيت هذا كل هذا هذا الاتساع الهائل هذه الأرض المكشوفة حيث يسير الناس جميعاً على هواهم أدركت أن هذا هو المكان الذي يجعلنا أكثر تعرّضاً للخطر أمام تقدّم الدبّابات وأمام صواريخ غراد". طبعا قلتُ وأنا في حال من الشرود ففكرة الأرض المكشوفة أثّرت فّي تأثيراً غريبا

كأئها تقرص شيئاً في داخلي بعيدأ في عُمق أعماق ذاكري... في لا مكان حيث يُمكِن الهرب... في لا مكان حيث يُمكن الاختباء... فالتهديد في كل مكان... مهما فعلنا وإلى أي مكان نذهب نحن هدف...

أضاف الساقزلي: "تماماً (ونظر إِلّ بدهشةٍ لأنني كنت أبدو غريب الملامح)؛ لهذا السبب قلت لرجالي: لن ندين الماضي ولن نحاول أن نتساءل لماذا لم يفكر أحد بهذا منذ شهر لكن بدءاً من هذه اللحظة هذا أمر فأوّل شيء ستقومون به هو أن تقبروا أنفسكم؟ .

وبالفعل؛ أرى الآن بعض القنوات التي تكاد تكون غير مرثية لأنها مُلتبسة مع حدود الكثبان: وهي محفورة في الرمل وغير متّصِلة في بينها. طلبتٌ أن ننزل في واحدة منها فوجدتٌ أنْ طولها حوالى عشرة أمتار بعمق يُساوي قامة رجُل مقطوعة على شكل V وقويت حوافها بالحديد وأنزل فيها سلم بشكل مائل وقعرها الضيق جداً مُغطى بالحصى.  ثْمّة رجُلان يتربّعان الواحد في مواجهة الآخر يلعبان لُعبة الدومينو والأكثر ضخامة يوارب كفيه نظراً لضيق المكان. وبعد عدّة أمتار في طرف الأخدود. رجل ثالث ينام في كيس نوم هبّ واقفاً عند ظهورنا. ليس هناك أمكنة كافية لكل الحاضرين. لذا بقِي مارك وفوجتا على السطح وعلى كل حال لن تتوفر لها المسافة الكافية للتصوير. فالجوٌ خانق.

"أمّا قراري الثاني فهو ما كنت أقوله لكم أمس في المكتب. أليس كذّلك يا أحمد؟

وأشار إلى الرجل الذي كان في كيس النوم الخمسيني ذي الشعر الأصهب وعلى عينيه الخامدتين نظارات ويلبس سترة خفيفة مُجْمّدة كتبت عليها "أُحِبكِ يا نيويورك"

"هل تتذكر حين تشاتمنا المرّة الأولى التي صعدتٌ فيها إلى اجدابيا؟"

أجاب الرجل نعم بصوتٍ عميق كأنّه خارجٌ من مغارة وهو نتيجة صدى الرنين. ‏

طيّب احك للسيّد برنار. تعالوا نصعد واحك لهم.

صعدنا من الحفرة. فانتعش الرجل الذي استعاد في الهواء الطلّق لونه ونبرة صوته؛ بأن يحكي لي قصة هذه المُشادة الأولى التي حصلت قبل شهر مع ذاك الذي كان يصير رئيسّه.

قال لي وهو يُريني كثيباً على مبعدة حوالى ستين مترا أبعد باتجاه الجنوب أيضاً: "كنا هناك. كنًا هناك أنا وبعض الرجال من المرافقين ‏ ونظر إلى مصطفى الساقزلي كأنه يُريد أن يتأكد من أن هذا ليس مزحة؛ وأنه مسموح له فعلاً أن يحكي القصّة: "كنّا هناك فوصل مصطفى الذي جاء ليتفقدنا. فقلت حينئذٍ لمصطفى: "عندي أخبار سعيدة يا رئيس؛ رجال الطاغية تراجعوا؛ فقال لي مصطفى: وبعد؟ ماذا تستنتج من هذا؟ فقلت لمصطفى: الطريق مفتوحة؛ والبريقة في متناوّل يدنا ويمكن أن نتقدم".

فقال مصطفى: "لا أبدأء هذا بالتحديد ما لا ينبغي أن نفعله؛ أنتم تظلُون هنا تُعزّزون مواقعكم؛ وتحمون بنغازي فقلتٌ أنا: "أنت تقول هذا لأّنك من بنغازي تحمي مدينتك وهذا منطقي". فقال مصطفى: "أنا أقول هذا لأننا إذا تقدّمنا عشرة كيلومترات من البريقة فسوف نخسرها في اليوم التالي بينما إذا خسرنا بنغازي فلن نربحها أبداً".

نظر الرّجُل من جديد إلى مصطفى الذي دعاه ليُكمل القصّة حتى النهاية وأصرّ عليه.

فأكمل خافضاً صوته: "تمرّدتٌ‏ فربحنا عشرة كيلومترات وما لبثنا أن خسرناها. ومنذئذ أنا من أتباع مصطفى؟."

قهقه مصطفى وفجأةٌ لكز الرَّجُل الذي كان يضحك هو أيضاً. ثْمّ ذهبنا معهما إلى صيدلية مؤقتة أقيمت تحت خيمة مع لفائف مقطعة إلى ضمادات تنتظر الجريح. ثم رحنا في اتجاه واحدة من سيّارات بك آب الّمصلّحة كيفما اتّفق يعلوها أنبوبان كنا قد رأينا نموذجاً منها على مخرج بنغازي؛ ورأينا سائق السيّارة أيضاً وهنا اعترف منصور للسائق قائلاً له قرّرتُ ألا أندهش بعد من هذه السيّارات وعانقه، وبعد مائة متر وصلنا إلى مجمع صغير مكوّن من خمس فتحات قُدور مخفيّة كليّا حيث يقف في كل منها رجل مُسلّح ببندقية هجوم؛ وبعد الُمجمّع مُباشرة باتجاه الأمام مُرتقّع من الرمل مائل ينحدر بزاوية 120 درجة نحو الجنوب تحيط به؛ في بعض الأماكن؛ أسلاك شائكة تُدعم الكثيب وتشكل هذه المرّة خطا أمامياً فعلياً.

كان هناك حوالى عشرين رجلا بعضهم واقف. وبعضهم متمدّد بكامل طوله على الرَّدْم. والأكثر قِصَراً يستلقون على ظهورهم؛ وعيونهم مُتّجهة صوب السماء وهم في حال الراحة. بينما يُواجه الطوال الذين تتجاوز رؤوسهم الردم الصحراءً يترقبون الغارات وعيونهم نصف مُغمضة: ومتصّلبة: كما لو أن من الضروري ادّخار النظرات.. مدّ أحدّهم: الذي قد يكون رئيسهم منظاره الموج إلى مصطفى الذين ركّز طويلاً على شيء أمامه ‏ ثم مدّ المنظار  باتجاهي هامساً: "انظر بسرعة" تذكّرتٌ العسكري الصّربي القصير على تل غرونج على الخط الأمامي في الغابة فوق سراييفو. بدا لي هائلا بل فاحشاً د تقريباً في منظار البندقية التي أعطاني إياها أحد المقاتلين. وخلال لحظة إعادة البندقية وُمحاولتي أن أستعيدها بقوّة يديّ؛ كان قد اختفى. وشقٌ علي بعض الشيء إفهامٌ أصدقائي السبب الذي لم يجعلني أُطلِق النار عليه وأنَّ هذه ليست مهنتي وليس دوري أن الخ. لكنْ هنا لا شيء من هذا. ليس هناك من كائن حيّ. ولا من خندق أمامي يُشبه خندقنا. لكن هناك في موضع بعيد نسبيا على مسافة لا أستطيع تقديرها أجسام  سوداء كبّرها المنظار: لا شك أنه رتل الآليات الذي رُصِد قبلا مطمور هو أيضاء أو ربما يكون هذا هو الستار الطبيعي للكثيب. بقينا هنا زمناً طويلاً في صمت مُطيق في ما عدا صوت الريح والرائحة التي تأتي على دفعات من جهة الرجال المنهَكين؛ غير المغتسلين.. الرائحة التي تنتشر في كل الخنادق الأمامية في العالم وتّسهم رُبما مع الخوف الْمشترك؛ في إشاعة جوٌ الأخوّة الخاص جداً.. بعد عشر دقائق أعاد مصطفى المنظار من دون أن يُقول شيئاً، أمَا أولئك الذين كانوا مُتُكئين على الرَّدْم فعادوا وصعد أحدهم على سلّة من قصب وتسلّق آخر على سطوح خيام مطويّة بينها وقف الثالث على مُنحدر التصويب المحفور في

الرمل المُتراكم وهكذا ومن دون أن يتلقّوا أية أوامر صاروا على مستوى رفاقهم. وكان ثمة خمسة رجال لم يلحظ أحدٌ أبداً وصوكّم. يُقرفِصون وراءنا وبين أرجلهم قاذفات قنابل فقاموا وأحاطوا بنا ومن دون أن ينطقوا كلمة واحدة دعُونا للجري معهم في خط مُتكسّر من دون سّرعة بسبب منصور قاصدين الطريق الرئيسة.

"كل شيء على ما يُرام" قال مصطفى بعد عدّة دقائق وهو يُطلِق النار وبينما كنا نتجه إلى سيّاراتنا انبعث من بعيد (وبدا لي أنه كان قادما من مكان أبعد من المنطقة التي كنا فيها) صوت الانفجار الأصمّ للقنابل الانشطارية التي قيل لي فعلاً إن كتائب القذّافي تمتلكها، في البداية يكون تأثيرها في الخنادق طفيفاً ‏ لكنّ التفجّر التالي تحت الأرض يُقَوّض الخنادق.

"ليست هناك مشكلة. هذه صواريخ غراد أطلقت من مسافة 20 كم. أسرعتٌ كثيراً لأنني لا أريد أن يمضي اليوم هكذا من دون أن تزوروا المدينة... المدينة ميتة. المدينة مُتجمّدة تحوّلت حتى هنا في الأماكن غير الدائرة؛ إلى واجهاتٍ من

زُجاج. مدينة خالية تمامآ أشبه ببومباي حديثة بائسة؛ تحل أكوام القمامة محل صهر بُركانها.

مرّت سيّارة تُزمّر في الشارع الرئيس الذي أطلِق عليه شارع ساركوزي. وبعد دقائق معدودة توقّفت سيّارة أخرى: صحفي من الجزيرة الوحيد الذي بقي هنا يُرافقه المحافظ الذي انبثق كالشبح. هل تُريدون زيارة المستشفى؟ نعم طبعا المستشفى. الوحيد في المدينة. وهو آخر علامة على الحياة وآخر مُفارقة في منظر يوم القيامة. قصدنا المستشفى بالمرور في شوارع أخرى؛ أكثر دماراً من تلك التي وصلنا منها. رأينا أن واجهته كواجهات البنايات المحيطة أصابتها شظايا القنابل والصواريخ. وللبرهان على القتل عرّض أمامنا أحد الأطبّاء؛ بغضب شديد جثة وصلت اليوم؛ لرجل قتل على مسافة مائة متر من هنا. رأينا أيضاً جريحاً حالتّه خطيرة يُنازع الاختناق وينبعث منه صوتٌ كصوت الحيوان وضجة هائلة؛ توسّل وصلوات في وقت واحد شفتاه تنتفخان وتنفّسان كفم سمكة. وجاء رجل لاشكٌ أنه ممَرّض وأرانا مشهد فيديو مُّصوّر على هاتفه المحمول حيث يُخصى طفل لأنّه زوّد الثُوّار بالماء حين كانوا ينصبون كميناً. كان يودٌ البكاء ولا يستطيع. ولا يملك من القوّة ما يكفي لأكثر من النشيج والفوقة التي سرعان ما تتوقّف. كنا في حال من الاشمئزاز أفقدتنا الجرأة على أن نطلّْب منه كيف استطاع الحصول على هذه الصور ومن أعطاه إيّاها وكيف. فبعد ثلاثين سنة أشعلت بطريقة آلية سيجارة قدمها لي مُراسل الجزيرة ونحن نخرج من المستشفى. في الخارج بدت سماء زرقاء رمادية شاحبة تكتسب لون جُدران المستشفى ‏ باستثناء أنّها في البعيد في ما وراء الخطوط الأمامية تصير حمراء من وقتٍ إلى آخر.

الثلاثاء 12 نيسان/أبريل (نقش آثري معاد للساميّة)

الكورنيش. المحكمة العُليا. البناء الضخم الذي كان يجتمع فيه المجلس الوطني الانتقالي خلال فترة إقامتنا السابقة. نحن على موعد هذا الصباح مع أحد مُعاوني عبد الجليل الذي يؤسفني أنني لم أدون اسمّه والذي قضينا معه ساعتّين لكي نحضْر بتوجيه من رئيس المجلس لزيارة عبد الفتّاح يونس إلى الإليزيه. جئنا مشياً على الأقدام أنا وعلي ومنصور وقادم جديد انضمّ إلى مجموعتنا الصغيرة اسمه سليمان فورتيه مُهندس معماري من مصراتة. يُمثْل مدينته في المجلس الوطني ذهبنا ليل أمس لاستقباله في ميناء بنغازي: إذ وصل هو الآخر كمُوفد مصراتة الآخر الذي التقينا به خلال عشاء رؤساء القبائل عن طريق البحر على ظهر مركب حمل بالجرحى؛ واستغرقت رحلة العبور ثلاثين ساعة ‏ وجهه المّدوّر المنعم الشبيه قليلاً بوجو صيني فيه عُقّد عريضة ومُرتفعة حفرها الإنهاك. وها هو في طريقنا وبينما كان «فورتيه» يحكي لنا تفاصيل مُغامرته وبينما كنا تُحاول أن نرى كيف سنتمكن نحن على المركب نفسه. أو على مركب من النوع نفسه من قطع المسافة في الاتجاه المعاكس لنصل إلى مصراتة وقع حادث مُفاجئ حادث بسيط ويبدو أنه لا يُقارن في أية ناحية من نواحيه؛ مع الرعب الذي شهده «فورتيه». وهو لا شيء بجانب موت أخيه الأصغر الذي أصيب بطلقة في رأسه الشهر الماضي. ولا شيء طبعاً بالقياس إلى سماعه بموت أخيه الآخر الذي قتِل بدوره؛ سنة 1996 في مجزرة سجن بو سليم في طرابلس. لكنّ هذا الحادث البسيط يهمِني. وهو محمل على قِلة شأنه بكثير من المعاني التي تحيلني على أن أسجّلها هنا. ذلك أنّ واحداً من إفرازات الزمن التي كان ميشيل فوكو يقول إنها لا مثيل لها يسمح بتركيز الذهن على موقفي...

نحن على مدخل الكورنيش.. على مستوى نقطة الأمن حيث يُحاول عسكريّان غير مُسلْحَين تنظيم حركة المرور. فالمتسكعون في الشوارع كثيرون. كثيرٌ من الشباب. من النساء وإذا بي ألحظٌ؛ أمامي؛ في خط مستقيم صورة القذافي مخربشة على الجدار بأسلوب الكاريكاتير الذي أعجبني في طبرق تُظهر فكيه الهائلين وقرنين نابتّين فوق جبهته في إشارةٍ إلى الإشاعة التي سبق أن سمعتها والتي تزعم أن أصله يهودي. كما بالغ عبارة صهيوني المكتوبة بحروف حمراء؛ في ادّعاء علاقته بإسرائيل. تصرّفتٌ وكأن شيئاً لم يكن. لكنْ اتفقتُ سراً مع جيل كي أتأكّد من أنّه هو أيضاً رأى ما رأيت. ووضعنا سيناريو يُنفّذه حالاً مُستغلاً دقيقة أبتعد عنه خلالها: "إيه أيها الأصدقاء! ما هذا النقش المُعادي للسامية الذي مررنا به توًاً؟ من حسن الحظ أن برنار لم يُلاحِظ شيئاً. لأنَ عليكم أن تعرفوا أن هذا النوع من القذارة قد يكلّفكم خسارة دعمه لكم ‏ وهذا هو النوع من التفاصيل الذي لا يحتمل السماح عندنا في الغرب".

ذُهول الأصدقاء... ذهول البراءة وصفا النيّة... قال علي: "أشياء غير مُراقّبة"... ويُزيد سُليمان: "ولا تحمل أيّة دلالة"... وشدّد منصور قائلاً: "ما البلد الذي لا يوجد فيه بعض العداء للساميّة؟ حتى عندكم في فرنسا؟ ألم يحكي لنا برتار ذلك المساء عن الفاشيّة الفرنسية التي وصفها في واحدٍ من كتبه. على أيّة حال هذا غير مقبول". وبعد ساعتّين خرجنا من المحكمة العليا بعد انتهاء موعدنا مررنا ثانية بالمكان نفسه. لم تعد القذارة موجودة. . كانت بكل بساطة قد محيت وحلّت مكانها مساحة بيضاء طْلِيَتُ بالجبس؛ مثلما طُّليت الجدران في طبرق لإخفاء بقع الدم بلون قريب من الأبيض... وقياساً إلى منفيين منذ ثلاثين أو أربعين عام يُعدَ علي ومنصور نشيطين فعَّالّين جدَاً! أما هذا الحادث فقرّرتٌ أن أدوّنه هنا ليس في سلبيات مدينة تنهال عليها منذ اثنين وأربعين عاماً دعاية بلهاء. بل في إيجابية إدارة قرّرت منذ اليوم أن تَعُدَ معاداة السامية خارجةً عن القانون.

الثلاثاء 12 تيسان/ أبريل: (طيارة شارتير تقل ليبيين إلى باريس)

منتصف النهار.عدتٌ إلى تيبستي.أنا مهيأ بطبعي وعموماً حين يستبدٌ بي الإنهك؛ للتخبّط في هذا النوع من البلبلة. لكنْ اليس مبدأ دفاتر المذكرات هذه أن تقول كل شيء: أو كل شيء تقريباً؟

الحقيقة هنا. ليس إلا هنا في مُنتصّف النهار فحين أطلقت عملية عبد الفتاح يونس وأطلقت تماماً.. انتبهتٌ فجأة إلى تفصيلٍ أزعجني قليلاً: في النهاية.. أنا لا أعرف شيئاً كثيراً عن هذا اللواء الذي أستعِد لجعله يلتقي برئيس الجمهورية الفرنسية وبات من الضروري أن ينشغل بالي.

ليس هناك إنترنت كالعادة. بحثتٌ عن واحدة من تلك "الحقائب" التي توصّل مُباشرة بسعر عالٍ جداً بأقمار صناعية في مدار جغرافي ثابت.

عرض علي صحفي من فرانس أنتير تفاهمتٌ معه أمس رأيته من جديد جالساً يشرب قهوة باردة هي المشروب الوحيد في بار الفندق أن أصعد معه إلى غرفته وأن يتركني أفتح من عنده شبكة الإنترنت عدة دقائق بما يكفي لبحثٍ سريع.

هنا صادفتُ مشكلة بسيطة لكنها ستتعاظم مع مرور الساعات. "الممثّل الأميركي" تدرّب في الجيش. في عهد القذّافي وهذا ما كنت أعرفه، وكنتٌ أعر ف أيضاً أن "ديفيجاك الجديد" البطل ذا القلب الحنون الذي أفضى ما في

داخله؛ بطريقة مؤثّرة جداً أمام عدستنا كان خادماً للنظام القديم.

لكنّ ما اكتشفتّه هو أنّه كان أكثر قليلاً من خادم, وأنَّ سُمعته حتى في ليبيا مخيفة.

"القوّات الخاصّة" كان هو وراءها... فرقة المظليين 36 التي تُسمّى أيضاً الصاعقة والتي طالما روعت بنغازي كان هو وراءها.

دعم الإرهاب الأيرلندي والجيش الجمهوري الأيرلندي؛ مع حمام الدم الذي جعل بريطانيا العُظمى في حداد طيلة عقودٍ من الزمن كان أيضاً وراءه إلى حدٌ مّا.

مساء الأربعاء 12 نيسان/أبريل (خطاب على الكورنيش)

"يا شباب بنغازي... يا شعب ليبيا..". لم أكن أتخيّل أنه يُمكِن أن يكون هناك هذا العدد الكبير من الناس. حتى إنني لم أكن أعتقد بأن يقوم هذا الحفل الخطابي الذي نظمته سلوى بقصيص الُمحامية الجميلة التي التقينا بها خلال فترة إقامتنا الأولى والتي اقترحنا اسمها ليكون في وفد الإليزيه في 10 آذار/ مارس. وبالتالي لم أحضّر شيئاً. هيا شبيبة بنغازي... أيتها القبائل الحرّة في ليبيا الحرّة... الإنسان الذي يتحدّث إليكم هو المنحدر الحرٌ من قبيلة هي واحدة من أقدم القبائل في العالمٌ". أمّا أستاذ اللغة الفرنسية القديم الآخر كعبّاد الشمس الواقف إلى جانبي الذي شاركني في مُكبّر الصوت وكان عليه أن يُترجم ما أقول مقطعاً مقطعاً من كل جمُلة وبالتماشي مع إيقاع خطابي؛ فأبدى تردداً. حينئذٍ كرّرت كلامي: "أتوجّه إلى الآلاف بل إلى عشرات الآلاف من الرجال والنساء المحتشدين هنا واقفين على أقدامهم: في هذه الساحة الُمقابلة لمنصّتنا المرتجلة . حيث يلوّح بعضّهم بعلّم النظام الملكي الليبي القديم وبعضهم الآخر بأعلام فرنسية؛ بينما يرفع آخرون أسلحة يدوية أو بنادق

كلاشنكوف: "اسمي برنار هنري ليفي؛ أنا مثلكم حفيد قبيلة قديمة جدا غير أني فرنسي أيضا جئت أنقل لكم تحيات فرنسا وشعبها ورئيسها...". ولم يكن هناك من داع لذكر اسمه أو لترجمته. فما إن لفظتٌ كلمة "رئيس" حتى هتف الجمهور دُفعة واحدة ومل رئتيه:"ساركوزي ساركوزي". مُوقّعاً مقاطع اسمه مُتلذَذاً بنطقها مُنشِداً إياها وصارخاً أيضاً. فاستأنفتٌ خطابي تاركأ بين كل جزء من الجملة ما يلزم من الوقت للمُترجم: "أنا عائد من اجدابيا من خط الجبهة هناك حيث رُحتٌ أرى شجاعة شباب بنغازي الرائعة, عندما لفظت كلمة شباب علا الهتاف. وحين عبرت عن إعجابي بالمدافعين عن المدينة قائلاً هؤلاء البواسل هؤلاء الأبطال تعاظمت الهْتافات» وتضخمت لتصير صُراخاً. رأيتٌ رئيسكم: صيحاتٌ مُتعالية. رأيتٌ عبد الفتاح يونس: علا الزئير. وتحدّثت مع عدد من النساء هنّ زوجاتكم وأخواتكم ‏ ورأيت أيضاً هنَ محترماتٌ للغاية: ما زال الجمهور يزداد عدداً ويتضخم حتى وصل حشّْد الناس أمامنا إلى البحر وكذلك على جانبّي المنصة من اليمين واليسار على مدّ النظر حتى غدا الهتاف والتصفيق هذيانا وأقرب إلى الهستيريا.

"اسمعوني جيداً لست مبعوثٌ أحدٍ أبدأ". وهنا تموّجٍ الجمهور قليلاً. أعرف أنّه قيل لكم سوف يتكلم سفير هذا المساء؛ لكن لا! لست أنا هذا السفير! أنا إنسان أتصرّف وحدي ولا أمثّل إلا نفسي. فتتراجع الهتافات وتغدو مُترددة. "أنا فيلسوف". فينتظر الجمهور الذي خاب أملّه ولم يَعّد يفهم شيئاً. "جوهر فلسفتي حقوق الإنسان" وهذا الحق إنَماّ هو حقٌّ كل رجل وكلّ امرأة (أكرّر وكل امرأة) فهم مُتساوون في الحقوق كلّها. فاستأنف الجمهور تصفيقه بصورة خجولة. "في أوروبا نظرية تقول إن حقوق كل إنسان تقاس بدينه وعرقه ومكان ولادته؛ والديمقراطية فكرة أوروبية لا يُمكِن أن تجد لها مكاناً في ليبيا. ماج الجمهور من جديد. شعرتُ أن المترجم لا يُتابع أفكاري وأن الجمهور شعر بذلك فلم يَعُد يُتابعني أيضاً. "حسّناً! أمَا فلسفتي فهي عكس هذا. إذ إن مُرافعتها تقوم على أن كون الإنسان أوروبياً أو عربيآ مسيحياً أو يهودياً أو مُسلما لا يُغيّر شيئاً ‏ لأننا إخوة في الإنسانية ولنا جميعاً المستوى نفسه من الحقوق". علا الهتاف بتردّد وكان بالأحرى أقرب إلى الضجيج. تساءلت إن كان المترجم قد ترجم كلمة "يهودي". حاولت. بينما كانت يدي تُعْطّي مكبر الصوت الُمشترك بيننا أن أسأله عن ذلك خفيةٌ: لكنه لم يفهم. أو تظاهر بعدّم الفهم. فعل معي؛ لكن بالمقلوب؛ ما فعله لورانس مع تشرشل في غرّة حين ترجم هتاف الجمهور "يعيش الوزير" أو"تعيش بريطانيا العظمى" لكنّه تناسى بعناية بقية الهُتاف "اذبحوا الصهاينة" ذات الوقع الأقل جودة في اللوحة. استأنفت كلامي بالقول "وما لكم يا شباب بنغازي؟" فعلا الهتاف قويّاً من جديد ومتعاظماً. "ما يحدث هنا يُبرهن على أنني على حقٌ؟ فطريقتكم في إيجاد الأفكار الديمقراطية كما لو أّنها أفكاركم الخاصّة: تُبرهن على أن معركتكم هي معركتي وأنَّ معركتي هي معركتكم". ومن جديد هناك مشكلة في الترجمة. لكن كالصادح الذي كان سيأخذ وقته كي يجد المقام الموسيقي الملائم مُتجنَباً أن يبدأ من جديد يأخذ الجمهور وقعّه بمصادفة تامة ويصرخ بصوتٍ واحد: "ليبيا حرّة.. ليبيا حرّة". وأنا أيضاً تحمّست وجاء دوري بأن أرفع نبرتي قليلاً: "جئت إليكم يا شباب بنغازي ليس لأتحدّث إليكم. بل لأسمعكم؛ وما سمعتّه درسٌ في الفلسفة, درس في الّمقاومة وفي الحياة.." هذه المرّة عاد الجمهور إلى حميّته الأولى. فهدّر بالهتاف الأكثر وضوحا وفرحاً. "ثمة فلسفة خاصة ببنغازي. وهذه الفلسفة هي فلسفة حريّة لا َهرّم". لم أضمن الكليات لأنني أتكلّم ارتجالاً. لكني متيقن من غلّيان الجمهور الفوري، من فرحه، حيث وضعت امرأتان صعدتا إلى المنصّة مع طفليهما الأعلام بين يديّ، ورايات ليبيا الحرّة. وها أنذا أشعر فجأة أنني رُفِعت وعلوت الأكتاف وحُييتٌ ‏ مُتنقّلاً من ذراع إلى ذراع على هذا البحر من البشر الذي مضى حتى البحر وهو يصرخ "ليبيا حرّة". لم أشعر بانفعال كهذا منذ ذاك اليوم من شهر شباط فبراير عام 2000حيث كّنت في فيينا أنا ولوك بوندي وميشيل بوكوللي وآخرون: في ساحة الأبطال؛ أمام مائة ألف مواطن أتوا للتظاهر ضِدّ عودة الفاشية المنسوخة عن نموذج هتلر. لكنّ المتظاهرين في فيينا كانوا يملكون فكرة عنا إذ كنا نتقاسم مرجعياتٍ واحدة وكان بيننا علامات تعارّف. بينما هنا... هؤلاء النسوة المحجّبات لأنّ عندنا مثلّهنَ... وهذه اللحى السلفيّة قليلة العدد لكنْ عندنا مثلها أيضاً... هؤلاء الناس الذين ينظرون إِليّ في رأي بعضهم.؛ كما ينظرون إلى حيوان فضولي والذين في رأي بعضهم الآخر سيهتفون لأيّ فرنسي حل في مكاني..

ينبغي أن يكون المرء رياضياً حتى يستطيع ترك الساحة. نجحتٌ بعد خمس دقائق في أن اضع قدمي على الأرض. لكن هاهو الجمهور يضع في رأسه فكرة مُرافقتي في موكب. ولما كان فرانك مشغولاً تماما قمت بقطع ما تبقّى من الكيلومتر الذي يفصلنا عن تيبستي حاط بي عشرات الفتيان الذي يتنازعون امتياز الإحاطة بإنسانٍ لا يعرفون عنه شيئا ولم يقل لهم شيئاً تقريبا غير أنه يمثل في هذه اللحظة؛ أوروبا التي أنقذتهم . يدفع أحدّهم الآخر مُدَّعِياً أنه يقوم بدوره أفضل من جاره وكل يُبعد الآخر ويضربه إن لم يبتعد فيصطدم بي في طريقه ويحميني من الآخرين ويتعثر بي وهو يحميني أو يمنعني من أن أتقدّم، أمَا شرطي النظام المتواضع الذي أرسلته البلدية بلباسه الرسمي الجديد فقد تبلبلّ وتجاوزه الفتيان فأهمل الأمر كلا . فا الذي يُمكن أن يكون أفضل من جمهور مبسوط؟ وكيف يُمكن أن يقاوّم؟ وما أهمية ذلك إذا فقد هذا الفرنسي الغامض في الزحام فردة حذائه. أو اختنق بالشال المزركش لليبيا الحرّة الذي ربطوه حول رقبتِه بالقوّة؟ قلت "الأساسي"‏ من المسافة لأرى سيّارة وقفت على بُعد 300 م من الفندق في مكانٍ يتّسع فيه الشارع بما يسمح بمرور السيّارات. لكنْ حتى في هذا المكان الموكب لا يتراجع، لأن الفتيان الأكثر تهورأ صعدوا إلى سطح السيّارة وعلى غطاء ُمحرّكها وتعلّقوا بواقياتها ونوافذها‏ ورافقونا حتى الفندق.

يا لها من مُغامرة عظيمة أن أكون صورةً، دالأ، اسما بلا اسم لفرنسا التي يهتفون لها من خلالي! أية غرابة هذه! عبثية طبعاً. لكنه جمال سوء التفاهّم. إي والله.

الثلاثاء 12 نيسان/أبريل» خاتمة (موكبٌ في الليل)

أصرّ مصطفى الساقزلي على أن يُحضر لنا عشاءً في حديقة بيته في ضواحي بنغازي. كان سعيداً بأن يُرينا منزله الجميل وثراءه وخدّمه وأطباقه اُلمترَفة في هذا العوّز وأغطية طاولاته الرائعة؛ وأواني مائدته وجيش حرسه الشخصي الذين يُرابطون على عتبة البيت وفي الزوايا الإستراتيجية وابنه الذي يتكلم إنكليزية ممُتازة وباختصار حياته السابقة التي ستكون حياته القادمة عندما ستتحرّر بلاده حياته التي تُعبّر في وقتٍ واحد عن السبب الذي حارب من أجله والسبب الذي كان من أجله يستطيع كليّا لو أراد ألا يحارب ويتخَفّى كما فعل كثيرٌ من الآخرين. بعد العشاء في وقتٍ مُتأخر بل مُتأخر جدا سلكنا طريق طبرق. سيّارة مُرافَقة عل رأس الموكب على ومنصور في السيّارة الثانية. ثم سيارة مارك وفوجتا. فسيّارة فرانك وفرانكو وأنا وجيل في السيّارة الأخيرة. إنها نفس سيارة الذهاب ونفس السائق بسترته الجلدية السوداء الذي أثار إعجابنا من طريقته في نزع الشريحة الإلكترونية من هاتفه المحمول بعد كل مُكالمة. كانت السيارة الآخيرة للمُرافقة أيضاً.. الليل مُظلِم والضباب كثيف.. هذه حماقة ولكنّي لم أكن أظنَ أن هذا القدر من الضباب يُمكن أن يوجد في الصحراء وبعد أن تجاوزتنا سيّارة المرافقة لسبب لا يعرفه إلا الله أخذنا طريقاً فرعية رديئة وعُدنا على أعقابنا وتردّدنا وأخذنا من جديد الطريق الفرعية الرديئة ووجدنا أنفسنا وحيدين؛ من دون موكب في الظلام ولحقنا بباقي الموكب في طبرق أمام الفندق الكبير الفارغ تماما حيث -حجز لنا علي غرَفاً. لم يبق أمامنا الآن إلا ساعتان كي نستأنف السفر صوب الحدود، على كلّ حال بلغ مني الإنهاك حدّاً لزم عنده؛ كي أنام بعد أن تجمّدت أطرافي وفرغ رأسي, أن آخُذ مغطساً ساخناً في ساعات الفجر الأولى.. سلكنا الطريق باتجاه مصر تم باتجاه مرسى مطروح حيث وصلنا في الساعة المحدّدة تماماً لإقلاع الطيّارة.

الأربعاء 13 تيسان/أبريل (القصة الحقيقية لالتحاق اللواء يونس بالثورة(

مصر.. لم ننس في عمليّة تمويه عبد الفتاح يونس إلا تفصيلاً واحداً: الإجراءات البيروقراطية  المصرية. كان الطيّار الذي ينتظرنا قد قدّم مخطّط رحلة يُمَدّد الانطلاق الساعة التاسعة من أجل قائمة مُحُدّدة من المسافرين.

غير أننا وصلنا مع ثلاثة رُكَاب جُدد ليبيون فوق ذلك لم أُعلِن له عنهم: فورتيه رجل نور وابن عم منصور ‏ وأمير الشباب مع حاسوبه لكن من دون قاذفة الصواريخ... ؛ وهكذا بدأ عامل المهبط بإعلان ساعة انتظار وذلك لتدقيق مجموعة من جوازات السفر.

وصارت ساعة الانتظار ساعتّين لكن مع السماح بصعود الطيّارة والانتظار فيها.

نّم صارت ثلاث ساعات؛ وكان وجه مصطفى مُكفْهّرا أقرب إلى العدوانية وبدا لي ساخراً. عند الظهيرة وقد رأيت أَنّْنا ندخل في المنطقة الحرجة حيث الموعد مع الإليزيه سيتأخر اتصلت بليفيت الذي قال لي إِنْ مُساعِده نيكولا غالاي سوف يُرتّبٍ الأمور. وبعد ساعة اتصل غالاي مُنزعِجاً ‏ "اتصلت بالسفير المصري في باريس وبالسفير الفرنسي في القاهرة وأوصلتٌ أو كلفت آخرين بأن يُوصلوا إلى أعلى مستوى في السلطة الجديدة لكنها سلطة غريبة: وليس لنا معها العلاقات التي كانت تربطنا بالسلطة القديمة، تضاف إلى هذا قوة الجمود الْخاصّة بالبيروقراطية المصرية العائدة إلى آلاف السنين؛ سوف تُحَلّ المشكلة؛ ولكن يجب الانتظار أيضاً".

في الساعة الثانية بعد الظهر بعد ألف اتصال من يونس الذي وقد وصل خلال هذا الانتظار إلى قاعة الشرف في مطار روما لم يفهم وبدأ يشعر بطول الزمن عضِبتٌ وطلبتٌ من قائد الطيّارة أن يُشَغّلها ‏ ضربة قوّة بائسة لم يكن لها من تأثير إلا أنها جعلت سيّارة مدرج طيّارة تنبثق وتركن أمام عجّلات طيّارتنا وسيّارة ثانية وراءنا.

لقد اتّهمنا مصر ذات الحضارة الألفية ظلماً.

انتهيت بالتساؤل عما إذا لم يكن لدينا هنا بوجه خاصٌ شرح ما كنت قد استشعرته منذ البداية عن العلاقة بين الإدارة المصرية الجديدة والربيع الليبي: لماذا لا يهيْبٌ المصريون لنجدة شعب أخ؟ في طرابلس؟ لماذا يبقى جيشهم مكتوف الأيدي مع أنه من أقوى جيوش المنطقة ويستطيع إن أراد أن يكنس قوات القذافي خلال ثاني وأربعين ساعة؟ حسناً هو ذا الأمر...

الجواب هنا من خلال الطريقة التي رأى مصطفى الساقزلي رئيس شباب بنغازي أن موظفاً غامضاً يُعامله بها هناك في القاهرة وبين يديه جواز سفره ويشرع في تأخيره عن موعده مع رئيس الجمهورية الفرنسية.. ذلك كله لأقول: لم يُسمح لنا بالإقلاع إلا في الخامسة عصراً وهي الساعة التي حُدّد فيها الموعد مع ساركوزي وإذا أضفنا ثلاث ساعات طيران للوصول إلى روما والزمن اللازم للقاء اللواء يونس إذا كان ما يزال ينتظرنا ثم ساعتي الطيران بين روما وباريس فسوف نصل إلى مطار بورجيه في أفضل الأحوال الساعة العاشرة ليلاً، فما الذي يُمكِن أن يصير إليه الموعد في الإليزيه؟ هل سيؤجل؟ أم سيّلغى؟ أم سيتحول الآن حيث ينبغي أن يكون حفل

عشاء كاميرون قد بدأ إلى لقاء مع أحد مُستشاريٌ الرئيس؟ وفي حال هذا الافتراض الأخير الأكثر احتمالا الذي يجب أن أقول للُواء عبد الفتّاح يونس. أنني كنت أريد حتى البارحة إلغاءه، وأنني لكي أنتهي قد أضايقه وأجعله ينتظر بلا جدوى؟ استمرٌ الكابوس...

أعترف أنَّ الغضب وقد أخلى مكانه للإحباط والإحباط وقد أخلى مكانه للخضوع. أفقدني في هذه اللحظة القدرة على أن أتنبّه للأشياء. وإذا كانت في رأسي فكرة فهي عند الضرورة فكرة السفر إلى مصراتة التي أقلعتٌ عنها بسبب هذه الخطة المشؤومة.

أجبتٌ على أسئلة مُرافقيّ إجابة غامضة: "أَجُل الموعد؛ سَتُرتّبِ الأمر عند وصولنا لكنّي مُتأكّد من أنْ الموعد سيؤجل ‏وكان جوابي نُشداناً للخلاص. نام علي حالما أقلعت الطيّارة. وراح حسّن يُقَلّب صفحات مجلآت مصورة بنما كان مارك يلتقط الصّور في كلل مناسية.

شرعت أمام منصور الذي كان يُدقق لي النقاط التي تنقصني في كتابة هذه الملاحظات.

لم يبق إلا جيل ليُتابع مع الساقزلي نقاشاً حاداً حول الخطة المعجزة التي ستُقدّم للفرنسيين رمز الكفرة. لن تبدأ المشكل إلا خلال هبوطنا في مطار روما حيث ينتظرنا يونس الذي أتخيّلهِ يتململ غاضباً نافِدَ الصّبر.

أولا وفي ما يتٌصل بالقصة البسيطة سنقترب من جديد من الحادث حين يصعد رجال شرطة المطار إلى الطيّارة لتفحص جوازات سفرنا: فحين رأى مصطفى عبر الكوّة سيّارة تقترب ولم تكن هي سيّارة عبد الفتّاح انتفض باتجاهي؛ شاحباً وأخبرني أنه لم يحصل عل تأشيرة دخول تشينغن ‏ وكان أمامي بالضبط الوقت الكافي لأحبسه في المرحاض، داعيا الله أن لا ينتبه رجال الشرطة إلى أنَّ هناك راكباً ناقصاً بالقياس إلى وثيقة الرحلة التي بين أيديهم. لكنْ المهم على نحو خاص وصول عبد الفتّاح يونس بذقنه المحلوقة توَآ وأناقته وكونه مرحاً بصورة مُدهِشة على الرغم من ستّ ساعات انتظار: يرتدي طقما تفصيلة رائعة؛ استبدل به بزته العسكرية التي كان يلبسها في بنغازي فأكسبته مظهراً أفضل وعلى جانبه ابنه طارق ورجل الأعمال أحمد الشركسي الذي تزوّج ابن يونس الثاني من أخته ورجل الأعمال الثاني عصام السويحلي الذي هو إلى هذا الحد أو ذاك في عمر ابنه.

أوّل سؤال طرحه علي بطبيعة الحال:"وماذا عن ساركوزي؟ في أية ساعة بالضبط سيكون موعدي مع ساركوزي؟"

وإذ اكتشفتٌ أنه الوحيد بيننا الذي لا يعرف شيئاً عن الاضطراب الذي حصل (أو أنّه إن علم به لم يعٌد يتذكّره) ولا عن أن الموعد كان في الساعة الخامسة وأنّنا بالتالي تأخرنا عنه، فكدرتٌ في أن هناك متّسعاً من الوقت لإخباره بذلك في باريس ورحتٌ أُغمغِم على الطريقة الليبية أن كل شيء مُراقّب.

ولما لم يُقنعه جوابي الغامض ولما كان يُريد مكانا وساعة؛ وتقريباً جدول أعمال بالإضافة إلى أنه من جهة ثانية سبق أن حضّر كما فعل الساقزلي خطّة كاملة للقاء "هناء في محفظتي" يوجد هذا الملّف الموجّه شخصياً إلى رئيس الجمهورية الفرنسية» اقرأ...؟. بعثت رسالة نصيّة إلى غالاي قبل الإقلاع تمامآ وأنا أعلّم بأنه لن يقرأها لأن الجميع الآن يحضرون حفل عشاء رئيس الوزراء البريطاني.

والحقيقة أنني أمضيت الرحلة في تجنب الحديث في الموضوع. ولحسن الحظ أن بين مصطفى وعبد الفتاح معرفة. ماذا أقول؟ تعانقا. لأنّ ما حصل أن مصطفى هو أوّل من فاوض في شهر شباط/ فبراير باسم الثوار على انضام الثاني إليهم. لم يضنا بأن يحكيا بالتفصيل؛ مع الشركسي الذي لعب هو الآخر دوراً في القصّة مجريات الأحداث المجنونة لتلك الأيام الثلاثة التي حولت مصير ليبيا ومصيرهما. وكان منصور يُترجم كالعادة قصة الشركسي الذي جاء في 17 شباط/ فبراير يطلب من مصطفى أن يذهب للقاء عبد الفتّاح قائد حامية بنغازي التابعة للنظام.

وقصّة مصطفى الذي ذهب إلى الكورنيش لرؤية رجال القضاء الذين سيصيرون أعضاء في المجلس الوطني الانتقالي وحيئنذٍ أسرّوا له بمُذكرة مضمونها هو الآتي تقريباً: "التحق بنا يا عبد الفتّاح؛ جنب شعبّك حمام الدم؛ سنبقيك على رأس الجيش" وسوف تنقذ شرفك."

تتمّة قصّة مصطفى الذي حضر إلى معسكر القوّات الخاصّة؛ وهو نفس المعسكر الذي تعرّفنا فيه على مصطفى لكنه كان في تلك الفترة مقرّاً عامًا لعبد الفتّاح وطلب لقاءً على انفراد من دون عبد الله السنوسي ممثل نفُس القذّافي الملعونة الذي كان يومئذ في المكتب.

تردّد عبد الفتّاح حين عرّف بالمذكّرة: "أود تماما نعم آلا أوجّه بإطلاق النار" أريد أن أتجنب حمام الدم لكنني لا يُمكن أن أقبل بأن يشتم المتظاهرون اسم القائد أمام الثكنة".

لم يتوقّف الهاتف عن الرنين خلال الحديث. حتى ذلك اليوم, لم يكن مصطفى مُتأكٌداً من أنه عرّف الذي يتصل به. هذا الصوت الحاد... صورة عبد الفتّاح الُمحترّمة بصورة غريبة...

هذه الطريقة في إعطاء صوت "سيّدي" هل تحقد عليه هو ذا ويُردّد باستمرار كل‏ شيء على ما يُرام سيّدي" كل شيء تحت السيطرة سيّدي"... ويجيب عبد الفتّاح مُقهقهاً: : طبعا كان هو! "أستطيع أن أقول لك اليوم كان هذا صوت القذّافي"!

وهذا الموعد الثاني في اليوم نفسه. حيث طلب من عبد الفتّاح أن يقر باتفاق مُعدّل يُضمّنه نواياه إزاء القذافي: "هذه شريحة إلكترونية هاتفية مضمونة سوف أتصل بك غدا في الحادية عشرة سأعتمد عليك في إيجاد فكرة".

ومصطفي على الكورنيش عند رجال القضاء الذين يكتبون مُذكّرة تفاهم جديدة أقسى ولا تتضمّن أمنية عبد الفتاح: "وقف إطلاق النار وتسليم رجالكم الذين قتلوا مُتظاهرين وإطلاق سراح غوقة والسماح بالمظاهرات"، وأضاف مصطفى (لكنّه لم يتوجّه إلي بقدر ما توجّه إلى عبد الفتاح والشركسي اللذين كانا يكتشفان؛ بولّع الجانب الآخر لقصّتهما مشهدها المخبوء: "ما كدت في صبيحة اليوم التالي الساعة الحادية عشرة أضع الشريحة الإلكترونية في الهاتف حتى جاءني اتصال وكنتّ أنت يا

شركسي إذ حدّدتٌ لي موعدي الثالث في اليوم نفسه الساعة الثانية بعد الظهر معك يا عبد الفتّاح؛ لم أقلق ويُمكنني أن أقول لك الآن ذلك فما الضمان الذي كان معي حين دخلت مكتبك لتسليمك مُذكّرة التفاهُم الجديدة؟ ومّن يضمن لي أنك لن تأمر بتوقيفي؟ هل تتذكر كيف دخل عبد الله السنوسي على أعقابي فأخرجتني وأعدت إدخالي بعد عشر دقائق؟"

وحكى مصطفى أيضا متوجٌهاً إليّ هذه المرّة بينما كان عبد الفتّاح الشركسي يُصغي إليه كما يصغي الأطفال إلى حكاية تحكي هم فيها بنغمة القصّة حكايتهم الخاصّة: عبد الفتاح وافق على كل شيء تقريباً في ذلك اليوم ففي النهاية تخلى عن طلبه بوجوب احترام القائد وتمَنَى فقط ألا يدخل الشباب إلى الثكنة فقلتٌ له: حسنا اتركني أخرج. لأعود إليهم كي أشاورهم؛ وما كِدتُ أخرج من عنده؛ وأعود إلى الكورنيش وأنقل إليهم أمنيته، حتى اتصل بي ولما أبلغتّه أنهّم للأسف رفضوا ما طلبه. ولا شيء سيمنعهم من السيطرة على الثكنة صرخ قائلاً: "إذاً ما العمل ؟" فرددتٌ عليه ورجال الكورنيش يتجمّعون حولي في الحُجرة نفسها يُلقنونني الجمل التي أقوها: "أنت تعرف الحل وهو في الورقة التي تركتها لك أمس ووضعتها في جيبك أمامي هذه كلمتنا الأخيرة..."

والتفت مصطفى نفسه إلى عبد الفتّاح وإذ الرجلان مُتحدان الآن يضحكان بتحفظ يضربان كفّهما علامةٌ على تواطؤ كامل: "أنت الذي نجوت بنفسك ذلك اليوم يا عبد الفتّاح؛ فقد خطر على بالي أيضاً أن أطلب منك وأنا في مكتبك؛ أن تعتقل ذلك الكلب السنوسي ولست أدري اذا لماذا لم أقل لك هذا؛ فقد جرت الأحداث بسرعة فائقة وأعلنتٌ لي انضمامك إلينا فلم أفكر بأن أطرح عليك هذا الشرط النهائي؛ فكيف كنت ستتصرّف؟ هل كنت ستقدّم هذه الهدية للثورة...؟

أَسَرمْهم القصّة.. نعم.. وأسرتنا جميعاً بقوّة خلال فترة الرحلة الجويّة.

والميزة المحسنة أيضا أن الموضوع المحرج موضوع الموعد في الإليزيه ‏اختفى.

 حين حطّت بنا الطيّارة في مطار بورجيه كانت الساعة الحادية عشرة. وهناء حصلت معجزة..

يتواصل