دأبت تركيا على استثمار الأزمات الاقتصادية والنعرات الطائفية التي تواجه عددا من البلدان الأفريقية لتكريس موطئ قدم داخلها عبر عناوين مختلفة أهمها المساعدات الإنسانية والخيرية. ومع انحسار نفوذ الجماعات الإسلامية الموالية لها في موريتانيا منذ 2018 وجدت أنقرة في التعاون الديني منفذا جديدا لإعادة تدوير عناصر جماعاتها والتنفيس عنهم خدمة لأجنداتها.
نواكشوط- تثير مساعي تركيا لتدريب الأئمة والخطباء في موريتانيا تساؤلات بشأن الأهداف الحقيقية التي تتخفى وراء هذه الخطوة، خاصة أن أنقرة تبحث باستمرار عن منافذ لاختراق أفريقيا عبر أكثر من بوابة بعد أن بات وجودها في ليبيا مثيرا للقلق وبعد تعثر مشروعها للتمدد من بوابة السودان.
وبحثت موريتانيا وتركيا، الثلاثاء، تعزيز التعاون بينهما في مجال تدريب الأئمة والخطباء. وجاء ذلك خلال لقاء جمع وزير الشؤون الإسلامية الداه ولد سيدي ولد أعمر مع السفير التركي جيم كاهايا أوغلو في مقر الوزارة بنواكشوط.
وقالت الوزارة “بحث اللقاء علاقات التعاون بين البلدين وخاصة في مجال تكوين الأئمة والخطباء وفقا لرؤية مركز تكوين الأئمة الذي يعمل قطاع الشؤون الإسلامية على إطلاق أنشطته قريبا”.
ويرى مراقبون في الخطوة التركية محاولة لاستعادة نفوذها عبر تحريك الجماعات الإسلامية بعد حملة أمنية قادتها السلطة الموريتانية بقيادة الرئيس السابق محمد ولد عبدالعزيز أسفرت عن اعتقال العديد من القيادات الإخوانية وإغلاق عدد من مقراتها.
ويشير هؤلاء إلى أن أنقرة تسعى للتنفيس عن جماعة الإخوان مع قدوم الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني الذي تجمعه علاقات جيدة مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان وفي نفس الوقت استثمار الموقع الاستراتيجي الهام الذي تحظى به نواكشوط.
ويحظى الموقع الجغرافي لموريتانيا التي تعرف رسميا بالجمهورية الإسلامية الموريتانية، بأهمية خاصة لتركيا، فهي تقع شمال غرب أفريقيا وعلى شاطئ المحيط الأطلسي وتعدّ نقطة وصل بين شمال أفريقيا وجنوبها ويعتنق جميع سكانها البالغ عددهم قرابة 3.5 مليون نسمة الديانة الإسلامية، ما يجعلها مطمعا لتركيا التي تعدّ إحدى أكبر الدول الراعية للإسلام السياسي في المنطقة، للتنشّط فيها وتشكيل تنظيمات موالية لها.
أنقرة تبحث باستمرار عن منافذ لاختراق أفريقيا عبر تقديم المساعدات
وفي أحدث تحرك تركي في أفريقيا في سياق مسار تمدد لا يهدأ، دشنت أنقرة في العاصمة الموريتانية نواكشوط حلقة جديدة من محاولات بسط النفوذ من بوابة التعاون الديني وهي لا تختلف كثيرا عن منافذ أخرى تخترقها تحت عنوان المساعدات الإنسانية والإغاثية.
وتدريب الأئمة أو العمل الإنساني الإغاثي وافتتاح المدارس الدينية والتعليمية أقرب وأسهل طريق للتسلل إلى النسيج الاجتماعي في موريتانيا المثقلة بأزمات اجتماعية واقتصادية وتكابد لإرساء السلم الأهلي.
وتعود تركيا إلى الساحة الموريتانية من هذه البوابة على أمل ترسيخ أقدامها وفتح منفذ جديد للتغلغل في واحدة من الساحات الأفريقية التي تشهد تجاذبات سياسية بين السلطة والإسلاميين. وسعى إسلاميو موريتانيا في السنوات الأخيرة إلى العودة للساحة السياسية عبر تحالفات بعضها يرفض مدنية الدولة.
وتقوم تركيا بتعزيز تواجدها في موريتانيا عبر مدارس ومن خلال منظمات خيرية، لكنها بدأت تركز منذ سنوات على قطاع التعليم للتسلل إلى الساحة الموريتانية وعملت كذلك على استقطاب الطلاب الموريتانيين للدراسة في الجامعات التركية.
وفي 2018 بدأت السلطات الموريتانية في تطويق أنشطة قيادات الإخوان المسلمين، بعد قيامها بإغلاق أكبر المراكز التابعة لهم، على خلفية شبهات تحيط بممارسات هذا التنظيم ومصادر تمويله واتهامات تلاحقه بالتحريض على العنف ونشر التطرف بما من شأنه المساس باستقرار وأمن البلاد. وأغلقت موريتانيا جامعة “عبدالله بن ياسين” الخاصة المملوكة للإسلاميين والتي يديرها القيادي في جماعة الإخوان المسلمين الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وقامت بسحب الترخيص منها، وذلك بعد أيام على إغلاق مركز “تكوين العلماء” وهو أكبر مركز تابع لجماعة الإخوان بموريتانيا.
تركيا استغلّت ما تواجهه موريتانيا من تحديات بيئية وتقدّمت للمساعدة على اعتبار أن لديها خبرة في هذا المجال سيتم وضعها في إطار مشروع مكافحة التصحر في موريتانيا
وأرجعت الحكومة الموريتانية آنذاك اتخاذها لهذه الإجراءات إلى وجود ملاحظات تتعلق بالتمويل والمناهج والارتباطات السياسية لهذه المؤسسات.
وأوضح الناطق الرسمي باسم الحكومة وقتها محمد الأمين ولد الشيخ أن المتابعة الأمنية لعمل هذه المؤسسات والتحقيقات قادت إلى وجود “شبهات في ما يتعلق بتمويل المركز والجامعة وحول أوجه الصرف”، مضيفا أن مركز تكوين العلماء “خالف المنهجية الدينية المعتمدة في البلاد”.
وقال ولد الشيخ إن الحملة الانتخابية “انكشفت فيها الأوراق بعد ظهور فتاوى للقيادة العلمية المشرفة على المؤسستين لصالح حزب سياسي معين”، وذلك في إشارة إلى التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (حزب التواصل الإسلامي).
وتأتي هذه التطورات عقب تحذيرات أطلقها الرئيس الموريتاني حينها ولد عبدالعزيز حذر خلالها من خطر أحزاب الإسلام السياسي في بلاده، التي اتهمها بـ”الوقوف وراء دمار عدة دول عربية”.
وفي الانتخابات الأخيرة التي شهدتها موريتانيا في 2019، تعرّض حزب “التواصل الإسلامي” إلى نكسة قوية بعدما تلقى هزيمة غير متوقعة من حزب “الاتحاد من أجل الجمهورية” الحاكم في أغلب الدوائر المحلية والجهوية وفشل في الحصول على مقاعد برلمانية. وتعمل تركيا على التسلّل إلى عدد من دول القارة السمراء من خلال تبنيها سياسة الانفتاح عليها، وفق ما تقترحه من مبدأ “رابح رابح”، بحيث توحي بأنّ الدول الأفريقية أصبحت بشكل عام شريكا أساسيا لها في الوقت الذي تقوم فيه بممارسة تغلغلها الهادئ في ثنايا مجتمعاتها وإنشاء كيانات تابعة لها سواء كان من خلال الجمعيات الإسلامية أو الشركات الاستثمارية.
وتستثمر تركيا في الدول الأفريقية التي تعاني أوضاعا قاسية وتمرّ بظروف اقتصادية صعبة وتحتاج إلى المساعدة من أجل مجابهة التحديات الاقتصادية والبيئية التي تواجهها.
تدريب الأئمة أسهل طريق للتسلل إلى النسيج الاجتماعي في موريتانيا التي تكابد لإرساء السلم الأهلي
وفي 2018 استقبل الرئيس الموريتاني السابق نظيره التركي في نواكشوط وتم خلال اللقاء توقيع 7 اتفاقيات ومذكرات تعاون شملت اتفاقية تعاون في مجال صيد الأسماك والاقتصاد البحري وأخرى حول تشجيع وحماية الاستثمارات بشكل متبادل وثالثة للتعاون بقطاع السياحة، فضلا عن مذكرة تفاهم للتعاون بمجال الزراعة، إضافة إلى مذكرة تفاهم للتعاون بمجال الهيدروكربون والمناجم والمعادن.
وساهم وقف الديانة التركي في العام 2018 في حفر 11 بئرا للمياه بموريتانيا. واستغلّت تركيا ما تواجهه موريتانيا من تحديات بيئية وتقدّمت للمساعدة على اعتبار أن لديها خبرة في هذا المجال سيتم وضعها في إطار مشروع مكافحة التصحر في موريتانيا.
ويهدف المشروع إلى تأهيل نحو 5 آلاف هكتار في كل من موريتانيا والسودان وإريتريا بغلاف مالي يصل إلى 3 ملايين دولار، بتمويل من تركيا عن طريق وزارة الغابات وشؤون المياه.