إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي: " يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح10

سبت, 27/02/2021 - 00:06

نهاية منتصف الليل في الاليزيه

كانت تنتظرنا ثلاث سيّارات رسمية. لم يُطلّب منًا أي إجراء رسميّ. لا جمارك: ولا شرطة... إقلاع مُباشر صوب ما اعتدناه أنا وجيل ونحن نتذكر زيارات الرئيس بيغوفيتش إلى باريس والاتصال بالبوسنو ‏ روديو المعالم الثقافية والأضواء والإشارات الحمراء التي نتجاوزها بانتظام وركلات سائقي الدراجات النارية المرافِقة لأبواب السيّارات التي لا تفتح الطريق فوراً.

وبعد عشرين دقيقة من هذا السباق المجنون. من دون أيّ شرح وبينما كنا نفكر بأنهم ذاهبون بنا إلى فندق رافاييل وجدنا أننا وصلنا إلى شارع الإليزيه وفي مدخل جانبي إلى القصر الرئاسي حيث ولج موكبنا.

لا بدَ أن حفل عشاء كاميرون انتهى. لأنّ القصر خال. وبدل الحُجَاب المعتادين كان بانتظارنا مُستشار مُناوب مُتذمّر في أسفل السُلّم الجانبي كي يُصعدنا أربعة أربعة ويُمرّرنا في غرف انتظار لم أكن أشك في وجودها ويقودنا وعددنا عشرة: إذا حسبنا ابن عبد الفتّاح الذي كان ينتظرنا في مطار بورجيه وأنا شخصياً حتى قاعة الاجتماعات نفسها التي اسُتقبل فيها جبريل والعيساويء؛ وعلي قبل شهر لكن باحتفاء باهر أكثر يوم الاعتراف الرسمي بالمجلس الوطني الانتقالي.

دخل جان ‏ دافيد ليفيت من باب آخر ونيكولا غالاي وقائد مستشاري الرئيس الخاصين الجنرال بوغا ثم تركزّت العيون على نيكولا ساركوزي الذي جاء من دون أي مراسيم.

وهكذا في هذا القصر النائم المجمّد الشبيه بقاعة أعياد بعد إطفاء الفوانيس في هذا الجوٌ الغريب حيث يتَخِذ كَّل مكانه تلقائياً الفرنسيون من جانب والليبيون ثُمّ أنا من الجانب الآخر ‏ كان عددنا كبيراً علي كل حال ما أوجب أن ينهض غالاي ليذهب إلى غرفة الانتظار وياتي بكرسيّين إضافيين بينما ظل ابن اللواء يونس واقفاً طيلة المحادثات... ؛ في هذا الجوٌ الغريب جو الأشباح حيث تبدو منظورات الحجرة نفسها مُتغيرَةٌ وحيث ينعقد الحوار غير المُتَوقع الذي كنت شاهداً عليه في باريس كما في بنغازي؛ منذ بداية هذه المغامرة.  بدأ الرئيس يتحدّث بالفرنسية وقام بالترجمة المترجم نفسّه الذي تولّى هذه الهمة صبيحة الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي.

"دافيد كاميرون في باريس. قرّرنا أن نكثّف الضربات الجويّة: والانتقال إلى السّرعة القصوى. إذ لا ينبغي أن يشك القذافي في قوة تصميمنا. لا توجد ذرة ريبة بينا في هذه النقطة حتى ذرّة واحدة "...

قاطعته عبد الفتاح الذي لم يكن باللباس العسكري بل يرتدي طقما رماديا فاتحا بتفصيلة ممتازة وجهه مُنفرج الملامح ولا تنقصه اللباقة طبعاً ولا قوّة الانتباه.

بدأ كلامّه بالإنكليزية بصوتٍ لا تفخيم فيه كأنه يحاول ولا يستطيع أن يُبدي النغمة العاطفية التي أظهرها في مكتبه بعد عودتنا من غرفة العمليّات: "السيّد الرئيس يعرف شعب بنغازي. ومواطنوها وقوّات الدفاع التي أتشرّف بقيادتها ما يدينون به لفرنسا...

أومأ ساركوزي برأسه علامة "نعم" .لم يستأ من طريقة هذا الضابط ذي الملامح الجسيمة الشبيهة بملامح كلينت ايستوود في مُقاطعة كلامه؛ ولكنّه يُجِسّد الرجل الذي يعرف هذا ويود الدخول في الموضوع.

"السيّد الرئيس سيدوم اعترافنا بجميلكم عبر توالي الأجيال. سيبقى أبناؤنا (والتفت إلى ابنه)؛ وأبناؤكم وكذلك أولاد أحفادنا مرتبطين بهذه الأخوّة التي توحٌدنا حين سيرفع شبابنا (وألقى نظرة على الساقزلي ليس ليجعله شاهداً بل ليطمئنٌ إلى أنه لن يستغل التلميح ليختطف منه الكلام بدوره) أعلام فرنسا إلى جانب الأعلام الليبية على خطوط الجبهة. كانت تربطنا علاقات تاريخية. وبيننا من الآن وصاعدا روابط دم"...

قام بحركة رفع كمّه وإظهار أوردة معصمه لكنّه جهد في شد زُرٌ حاشية القميص ولم ينجح في فكه؛ وساركوزي هو الذي هرّ رأسه علامة على موافقته ويستعجله كي يُكمل حديثه.

"سيادة الرئيس نحن في حاجة إلى مساعدة. وبفضل طياراتكم؛ تسمّرت طيّارات القذافي في الأرض. لكنّه ما يزال يحتفظ بقوّات. بينما مُقاتلونا لا يملكون شيئاً. بحيث... هذه المرّة قاطعّه الرئيس. إذ لا بُدَ أن يكون هذا الرجل قد ذكره بأحد الأشخاص أو بشيء أو رُبما أثّر في مشاعره. لأنني وجدتٌ أنه صَبر صبراً مُدهشاً. لكنه انتهى أخيراً بمقاطعته: "لقد سبق أن قدّمنا لكم المساعدة. إذ اعترفنا هنا في هذه القاعة نفسها بمجلسكم الوطني الانتقالي..."

والتفت إلى الجنرال بوغا الجالس على يمينه ثّمّ أضاف: "عندكم أصدقاء آخرون يُقدّمون لكم أشياء كثيرة، ويتمّ ذلك كما تعرفون جيداً بتفاهم المجتمع الدولي. وهل يُمكن أن يتخيّل أحدّ من بينكم؛ ثانية واحدة أن قطر عندما تدعمكم؛ يمكِن أن تفعل ذلك من دون موافقة باقي أطراف التحالّف؟"

التفت هذه المرّة صوبنا متظاهراً بأنه يتحقّق من خلال استعراض بلاغي ساركوزي بامتياز. ثم قال من دون تمهيد والقلّق يُساوره: "إذاً معنا حُلَفاء بالتأكيد. وعلينا أن نعمل مع هؤلاء الحلفاء؟."

ازدادت دُكْنةٌ سحنة ذاك الذي لا يستطيع حتى أن يُعبّر عن مدى صعوبة العمل مع هؤلاء الحلفاء: "عندكم اليونانيون مثلاً ينبغي تعليمهم العيش وسيتوجّب أن نشرح للسيّد باباندريو بأنّه يُعرِقلنا قليلاً، فلا يُمكننا أن نمنع عملية من دون أن تُشارك فيها. وليس بإمكاننا أن نرجو تخريب سفينة في حين أننا لسنا فيها..."

ثمّ أخذني شاهداً من دون أن أعرف لماذا: "كالأتراك. يتحمّلون مسؤولية كبيرة في نظر التاريخ الأتراك...".. رفع إصبعه وكرّر متوجّهاً دوما إلي كما لو أن المهدَّد هو أنا: "مسؤولية كبيرة! يا إلهي كم أهنيء نفسي على أنّي أوقفتهم إبّان نقاش دخولهم في أوروبا" ثم قال؛ بنبرة أكثر خطورة متوجّهاً هذه المرّة إلى الليبيين: "إئّهم كالأميركيين. يؤسفني أن يفقد الأميركيون روح الُمبادرة. لكن كونوا مُطمئنين:

سوف أعيدهم. أنا وكاميرون إلى صفُّنا وليس من الُممكِن ألا يسمع صديقّنا باراك أوباما حُججّنا وينأى بنفسه عن هذه العمليّة."

سأل علي؛ الذي لم يكن قد تحدث بعد إن كانت فرنسا وإنكلترا في حال ساءت الأمور,

قادرتّين على المتابعة من دون الولايات المتحدة الأميركية. فأجابه الرئيس: "أجبّت عل هذا السؤال في لقائنا الأوّل. وتعرف في علي على واحد من الأعضاء الثلاثة الذين التقى بهم في 10 آذار/ مارس؛ لذلك لم يكن سؤاله مُفاجناً كثيراً. فأكثر ما يُميّزه أنه يتذكر تفاصيل أفكاره في ذلك اللقاء.

"هناك وسائل لا يملكها أحد غير أميركا. ونحن في حاجة إلى تلك الوسائل على الأقل من الناحية الفنية أما في ما يتصل بالباقي فنعم, يُمكننا كما قلت لكم أن تُحارب من

دونهم؟".

صمت عدّة لحظات. يبدو أنه فكر خلالها. ثم حدّد فكرته بالقول: "هذه مسألة أقرب إلى أن تكون نظرية؛ لأنْ بإمكان باراك أوباما أن يحكي ما يُريد: ولا أرى أن الأميركيين يأتون ليشرحوا للعالم أنهم غير مُشاركين في الحرب. والآن إذا كان سؤالك هو "هل ستبقى هذه الحرب أوروبية؟"؛ فالجواب هو: نعم؛ ستبقى؛ في مجموعها حرباً أوروبية".

وكرّر كأنه يخاطب نفسه: "حرب أوروبية".

وبعد أن رسم على ورقة أمامه بداية شكل غريب جدّد القول: "نحن بحسب كل احتمال ظاهر الذين نسهرٌ في التزويد بالوسائل الأساسية وبتنفيذ الضربات الجوية"

ثم أكمل بلهجة من انتهى من المْقدّمات ويُريد الوصول إلى الأشياء الملموسة: "إذا الوسائل تحديداً... اطلب منكم التكتم إلى أقصى حدّ في هذا الأمر طبعاً..."

وكرّر كأنه يبغي أن يطمئنٌ إلى أننا فهمنا قصدّه: "التكتّم إلى أقصى حدّ..."

وبعد أن مسح الطاولة بنظرته كما لو أنه يُشدَّد على أن الحض على التكتّم موجّه إلى كل فرد: "المُّدرّبون المتوفّرون أصلاً، كم مُدرّباً فرنسياً بالضبط يوجد على الأرض الليبية؟". التفت صوب ليفيت الذي بدا مُتضايقأ وأجاب إجابة غير مسموعة: "لا أهمية لمعرفة العدد بالضبط. لكننا أرسلنا إليكم عدداً من الفرنسيين الذين يتكلّمون

اللغة العربية. وسوف نُرسل منهم عدداً إضافياً أيضاً في الأيام أو في الأسابيع القادمة. ولا أحد يستطيع حينئذٍ أن يقول إننا لم نتحمّل مسؤوليّاتنا. لا فالمسألة الحقيقية هي مسألة المعدات التي يحملونها معهم. أنتم في حاجة إلى أيّ شيء بالتحديد؟"

هنا أخرج مصطفى الساقزلي من جيبه القائمة التي قدّمها لنا في بنغازي ونهض ليدفعها من دون تمهيد عبر الطاولة أمام الرئيس سابقاً هذه المرّة عبد الفتّاح: "نحن في حاجة إلى هذه يا سيادة الرئيس. هذه هي قائمة ما نحتاج إليه على جناح  السرعة".

بعد هذا بقي واقفآ وبدا أقصر من عبد الفتاح لكنّه ازداد طولاً نتيجة توازّنه ولباسه الموحّد كرئيس للشباب (شال مُخطّط وقميص أزرق بمرّبعات وسروال جنز...) كان يلبسه عندما أتينا لنأخذه من بنغازي ولم يُبدّله بعد ذلك وانطلق بدوره؛ في خطاب غنائي شعرتُ أنه حضره سابقا مثلما فعل عبد الفتّاح. اعتراف بالجميل أيضاً... وقضية ملعب بنغازي الذي كان اسمه تشافيز وأطلق عليه اسم ملعب ساركوزي... ثّم أعاد سرد قصّتي كلمة كلمة كما سبق أن حكيتُها له في الطيّارة (لكني شوّهتٌ ملامحها مُتأكّداً من أنه سيحكيها كما هي للرئيس) فقال كم يحب شعب بنغازي فكرة رئيس فرنسي وهو يتناول آخر لقمة في غداء رؤساء الدوّل نهار السبت ولم يأخذ وقتاً حتى ليشرب «فنجان قهوة» ولا ليطوي منديله؛ يتَصل بالمجلس العسكري ُيعلِن ساعة الصّفْر وبدء العمليّات.

ابتسم ساركوزي وصحح في حكايته: "هذا أعقد من ذلك قليلاً. وأنت تعرف جيداً أن الطيّارات لكي تقصف في الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر يجب أن تكون في الجو منذ التاسعة صباحاً ولا يُدَ أن يكون الأمر قد أعطيّ في اليوم السابق مساءً. ولكي تُعطي الأمر قبل يوم لابُدٌ أن نكون مُستعدّين منذ عدّة أيام سابقة. وبعبارة أخرى لكي أتمكن من القصف. وأنا أبتلع آخر لقمة كما تقول كان علي أن أتصرّف ‏ وأتمنى أن يبقى هذا بيننا ‏ مع القانون الدولي".

ساد صمتٌ حول الطاولة. نظرة الُمستشارين قلقة، لكنّ الرئيس أراد أن يختم حديثه فتناول قائمة الساقزلي ولما اكتشف أنها مكتوبة باللغة العربية أعادها وكرّر سؤاله: "ماذا تحتاجون بالتحديد؟"

أمَا مصطفى الذي مرّرتٌ إليه خفية ورقة أطلب منه فيها أن يختصر فقد لخص قائمته في خمس دقائق وعرض الخطوط العريضة لخُطّتهِ في قصف ليبيا من الوسط.

لكنّ عبد الفتّاح وجد أنه لا يستطيع في المجال العسكري أن يسمح لمدني بتجاوزه وربما من يدري؟ وخصوصاً هذا المدني الذي استغل لحظة صمت ليشرح أنه في حاجة إلى أسلحة مضادة للدروع من أجل بنغازي غير أن الفكرة الأخرى أي الخطة التي لم يفكّر بها أحده لكن هو الاستراتيجي أمام الخالد والعارف الخبير بنفسية العدو إِنه جاء يعرض فكرة تسليح القاتلين في جبل نفوسة في هذه المناطق الجبلية؛ جنوب طرابلس حيث يُقاوم العرب والبربر جنباً إلى جنب هذا الطاغية.

لاحظ أنه سجّل نقطة؛ لاحظ نوعية من الصمت الجديد حول الطاولة فأضاف وفي صوته قليل من الحماسة: "سنضرب عصفورّين بحجر واحد يا سيادة الرئيس بل ثلاثة ولم لا نضرب أربعة بحجر واحد. أوّلاً في جبل نفوسة؛ نحن فوق العاصمة. ثانيا إنّ لدينا هناك مُقاتلين أشدّاء أعرفهم جيّداَ ولا يَهزمون إذا تمّ تسليحُهم وثالثا القذّافي يتوقّع كل شيء إلا هذا وبالتالي سيؤخذ بالمفاجأة، وأخيراً سوف تُبدّد بنيران المعركة المشتركة الْتنافسّ القديم بين القبائل العربية وقبائل البربر".

الليبيُون يُنصتون واُلمستشارون يُسجّلون الملاحظات.

الرئيس لم يُسجّل شيئاً غير أنَّ في نظرته رصانة تدل على أن الفكرة راقت له بعد أن انتهى عبد الفتّاح.

أما أنا فلاحظت أنه سجّل الفكرة في ذهنه لاحظت هذا النوع من الرصانة التي تصل حدّ الوقار الذي غمر وجهه حتى بدا فرحاً تقريباً؟ ورُبما بسبب الطابع الضبابي للمشهد؛ وربّما بسبب التعب الذي ألم بي وبدأ يُشوش أفكاري وأفكار الرئيس أيضاً التي لاحظتها أعني الملامح التي بدأت تتراءى على مسرح وجهه، والأقنعة المتتالية التي رأيته يضعها منذ تعرّفت عليه والتي تُلخْص سيرته الذاتية (الذئب الفتيّ سنة 1983 والشيراكي الْمقلّد ووصيف بالادور وذئب الأوروبيين المهزوم سنة 1994 والظافر بالرئاسة سنة 2007 ( هنا فجأة وفي نهاية هذه الصّوّر التي تنزلق كصفحات كتاب حياة ظهرت هذه الهيئة الحازمة الجديدة التي لا أعتقد أنها قناع.

قال أخيراً: "هذا واضح واضح جداً".

ثم التفت صوب بوغا باطمئنانٍ من لم يَعد يُساوِرُه أي شكٌ: "سوف ترى ذلك كله غداً. سترى نفسك بين مُحترفين بين رجال مختصّين، وسترى هذا بالتفصيل لكنّه واضح من حيث المبدأ".

بعد ذلك نهض بخطوة مُتردّدة قليلاً وأومأ إلى مُرافقيه بعلامة نهاية الجلسة.

وهنا طلب ابن عبد الفتّاح الذي قال له أبوه في الطيّارة إِنّه يشبه ساركوزي؛ لحظةً لكي يلتقط صورة مع الرئيس: ما إن وافق الرئيس حتى سارع الشركسي لالتقاط الصورة من كاميرا هاتفه المحمول.

احتشدت المجموعة أمام شاشة الهاتف المحمول لتتأمّل بشغف الصورة التاريخية؛ وصرخ أحدهم مُتعجّباً (رُبَما علي) أو منصور أو عبد الفتّاح تحديداً: "طبعاً! غير معقول هذا الشّبّه بينكما" فاقترب الرئيس أيضا ونظر إلى الصورة؛ ودُيًّا لكي يُلطّف الجو الذي شعر هو أيضاً أنه مكفٌر وأجاب: "لستم لطيفين مع هذا الفتى فهو أجمل مني بكثير".

أمّا الفتى الذي تشجّع بكثير من الألفة وربها تأسَف لأنه لم يتحدّث في الجلسة؛ فردّد؛ بينما كنا نتخطى عتبة القاعة أن الشعب الليبي لن ينسى أبداً حركة الرأي العام التي تعبّر عن الشعب الفرنسي وتُقرّبه من الشعب الليبي. فأجاب الرئيس من جديد بروح الدعابة وكأنه أراد بإصرار أن يقطع النغمة المأساوية التي تركها تُخيّم على الجلسة: «الرأي العام الفرنسي علينا ألا نبالِغ في أمره؛ ثُمَ أشار إلي قائلاً: «لم يَعُّد هناك؛ في هذا البلد غيره يدعمُني ‏أمَا الباقي ف...»

وحين أجابه منصور بالقول: "نعرف هذا ولهذا السبب له شعبية كبيرة في بنغازي" انفجر ضاحكا ولكزني مُجيباً: "حسناً خذوه من عندنا وسوف يرشح للانتخابات ويفوز فيها وهكذا ستكون بيني وبينه علاقات دبلوماسية طبيعية".

افترقنا بعد هذا مباشرة. هذه المرّة افترقنا جدياً.

كانت السيّارات تنتظرنا لتنقلنا في نفس قطار الجحيم. إلى فندق رافاييل حيث ينبغي أن أحل مشكله الغُرف التي يجب حجزها للشّرطيين شُرطي وشُرطِيّة: لم أكن أعرف أنهما يجب أن يناما في الفندق مع الوفد. الساعة الواحدة صباحا.

استمرٌ الاجتماع حوالى ساعة.

الخميس 14 ‎‏ نيسان/أبريل؛ (بانهار آنتيرميزيو)

بعد الوقار جاءت السّخرية وحتى التهريج. اعتقاداً ما أن هذا في إيقاع هذه الحرب تناوبٌ لا بد منه. إنها ساعة الظهيرة، وكنا جميعاً في فندق رافاييل. وكان الليبيّون قد عادوا توا من موعدهم مع نُظرائهم من «رجال الفنّ» وقد حصلوا بسريّة مُطلقة: على تأكيد القرار الفرنسي بمُساعدتهم على فتح هذه الجبهة في جنوب طرابلس،إئّهم سُعداء، وينبغي أن يأتي سائقون في الخامسة عصراً ليأخذوهم إلى "فيللاكوبلي" حيث تنتظرهم طيارة نقل من سلاح الجو ستنقلهم؛ بحسب الموعد إلى بنغازي وبقيت أمامهم عدّة ساعات كي يكتشف أحدّهما باريس ويكتشفها الثاني من جديد ويذهب الثالث إلى محلأت عطور هيغو بوسٌ وإلى جادّة الشانزيليزيه ليتموّن بالقُّمصان. ويستقبل الرابع وهو مصطفى في بهو الفندق الذي يتَخِذ أجواء العيد بعض أولاد عمومته القادمين من ضاحية أوبرفيلييه ‏أمَا عبد الفتاح يونس فراح يستقبل على التوالي كما في جلسات الاعتراف سفيراً قديماً في باريس أو في اليونسكو أو واحداً من أنصار القذَّافي فعل مثله وأعلن انشقاقّه عنه وأصدقاء ابنه ورجال أعمال.

سرعان ما دخل وتوجّه نحوي فرنسيٌ في الخمسين من عمُّره أصلع يُعلّق على كتفه حقيبة ضخمة: يُجِسّد شكلاً زائفاً لبرنار بلييه في دور الْفنّس مورفانديو في فيلم "مائدة باردة؛" وفي يده بطاقة تعريف ورأسه أنيق: "أنت برنار ‏ هنري ليفي؟ اسمي كريستيان مونس أنا رئيس بانهار."

قلت له: أتشرّف أتشرف حقاً.

دُهِشتٌ قليلاً من اكتشافي أن سيارات بانهار ما تزال تُصنّع، وبحُكم أنني لم أقّد سيارة بانهار أبدآ ولا أعرف عنها شيئا لم أندهش من اندهاشي وصحيح بالإضافة إلى تشرِّفي بمعرفة الرجل أن كلمة «بانهار»؛ تُذْكّرنِ ككلمتي آروند وسيمكا بسيارات عرفتها في طفولتي.

قال الرجل وفي صوته شيء من التواطؤ: "لديّ انطباع بأن كل شيء جرى على نحو جيد".. قلت له بحماسة: أوه! أفضل من جيّد وكل الناس سعداء.

- وهل نجح اجتماع هذا الصباح نجاح اجتماع الليل الماضي؟

- طبعاً توليف كل ما قُرّر. لاشيء أكثر من هذا لكن لا شيء أقلّ منه.

- تمام تمام

يبدو سعيداً حقّاً. ويتلذّذ المرء برؤية مدى سعادة هذا الرجل، قلت لنفسي لا بُد أن يكون صديقاً ليونس الذي يقلق لكنْه يفرح من أعماق قلبه؛ بنجاح المهمّة. اللّهم إلا إذا كان لبانهار مصالح في ليبيا؟ ماركة مُرخصة الثمّن؟ مصنع؟

كرّر قائلاً: إذأ كل شيء على ما يُرام. كان ثقيل الظل قليلاً لكنّه دائم السعادة.

في اعتقادي نعم.

تعتقد أم أنّك مُتأكٌد؟

هيًا! أنا مُتأكٌد. لم أكن في اجتماع هذا الصباح لكنْ لا شك عندي في أن كل شيء يسير كما ينبغي.

والتفاصيل؟

لفظ كلمة «تفاصيل» مع حركة من ذراعه كنست مكتب الاستقبال وفي طريقها كنست مكتب موظفي الاستقبال والصندوق. فأدركتٌ فجأةً أن هذا الصديق هو أيضاً فاعل خير وداعم للقضية الليبية؛ دفع للتوّ حسابها فعلاً.

"التفاصيل أيضاً" قلت هذا مع الإيماءة التي نقوم بها في المطعم حين نُريد القول للمدعوٌ إنّنا نحن الذين سندفع الحساب والدعوة ليست موضوع تفاوض.

قال بإلحاح: منذ متى أيها المعاند؟

أجبته مُقرراً ألا أستسلم: مذ أمس مساء.

أنت مُتأكّد من حُسْنِ سير الأمور؛ لأنّ هذا مُهِم بالنسبة لي أليس كذلك؟

أفهم ذلك طبعا ولكنه مُهم بالنسبة لي أيضاً. هذا يُسعِدني.

كرّر قائلا ببينة المنزعِج طبعا حسنا طيّب...

كُمَّ قال وهو مُتضايق بالفعل ومُمتقع: "كلامك يكفيني بطبيعة الحال."

أرجو ذلك!

لا أحد يشك بكلام برنار ‏هنري ليفي لكنْ قد تستطيع...

نعم؟

لا أعلم... أن تؤكّد لي هذا كتابياً...

في النهاية بدأتٌ أجد هذا الرجل وهذا الحديث؛ غريبين. لكنْ بما أنني كنت أتأخر في إجابته عد صمتي علامة على الموافقة وضرب ضربته: "توقيع فقط. توقيع بسيط يُمكن أن يطلبه من يهمّه الأمر يجب أن تكون الاستمارة هنا في حقيبتي ...

وضع حقيبته الجلدية على طاولة البوّابين وحين فتح لاحظتٌ أنه رتّب في عمقها كرّاسات صُوّر فنسيت لحظة تضايقي ولم تُفارق عينيّ هذه الكرّاسات الجميلة التي رغبتٌ في أن أرى نوع السيّارة الذي يُمكِن أن تُشبهه سيّارة بانهار اليوم. لكن لمَا كان الرجل يقرأ أفكاري ويُريد إدامة اللذّة توقف... وفي عينيه بريق خبيث وغمغم:

"هذا لأننا نملك السيّارات الجميلة كما تعلم."

قلت والفضول يفترسني: لا أشكٌ في هذا.

سيارات جميلة جدا.

نعم أتحرّق لِتّريني إياها.

لأنّ عليك أن تعرف أن الأمور تسير بسرعة إذا أُعطِيتٌ الضوء الأخضر.

الأمور؟

-نعم. الطلبات لأنني سأبوح لك بسرٌ...

بدا هنا بهيئة داعرة تماما وبدأ الموقف كله يظهر لي معتوهاً. طلبيّات بانهار لبنغازي؟ هذا لا معنى له. خفّض صوته وهمس في أذني تقريباً: "في الحقيقة شُحنة السيّارات جاهزة في المنطقة وهي سيّارات رائعة وبما أن الشاري لم يدفع ثمنها فيمكننا إرسالها بسرعة..."

أدركتٌ في هذه اللحظة أن بيننا سوء تفاهّم كبيراً وأنّ بانهار لم يعد يصنع سيّارات منذ زمن بعيد وسيارة أبويّ «DINA X» ومُنتِج شبيهتها برنار بلييه يبيع؛ في الواقع سيّارات عسكرية وأنّ الورقة التي تنقصه وهو في حاجة إليها والتي أفترض أنه كان يُريدني أن أسرّع توقيعها إِنّما هي الموافقة على تصديرها كمواد حسّاسة مطلوبة في هذه السيّارات... فانفجرتٌ ضاحكاً. وبينما كنت أسكر حقيبته بعنف كما لو أنّ شيطاناً سيخرج منها وبعد أن فقدت أدنى رغبة حقاً أدنى رغبة؛ في أن أرى بضاعته شرحتٌ له أنني لا علاقة لي لا من قريب ولا من بعيد بكلّ هذا وقُدتّه فوراً إلى طرف اللوبي حيث يشغل يونس كرسي الاعتراف والصالون. فهم يونس فوراً. فهو لا يُريد أن يعرف شيئاً لذا ذهب لينعزل كما اقترحتٌ عليه؛ في الصالون الأصفر الذي حجزته قبل قليل من أجل مُقابلة ستجريها لوس أنجلس تايمز مع سليمان فورتيه (شعرتٌ أنّه يرى هذا الصالون عقوبة تحرمه من سعادة أن يقوم بمُشترياته العسكرية وهو يرى في الوقت نفسه أصدقاءه الليبيين في باريس خارجين وداخلين يُحيّونه

ويُعانقونه). لكنّه سيفهّم حين يقتضي الأمر أن يفهم وهكذا فالقائد العام عبد الفتّاح يونس الرجل الذي كان شديد الإخلاص للقذَّافي وهو من الآن وصاعداً قائد قوّات الدفاع عن بنغازي والقوات الليبية الحرّة يشرع هنا وأمام البوابين المذهولين في تقليب أوراق كرّاس صوّر بعنوان "تشكيلة كاملة من القذائف ذات الدواليب لدعم معارك السلاح الأبيض وأمنها وفي الشراء منها ‏ كما يشتري سليمان فورتيه أو الشركسي من محلات عطور هيغو بوس.

خلال الحديث بين الرجلين استرقت رغماً عني بعضّ حوارهما.

إنه برنار بليه المزيف الذي يشرح للواء وهو يفتتح الكرّاس اُلمصوّر على ورقة مزدوجة يظهر فيها نموذجان من الدبّابات مُتطابقة في الظاهر أنَّ الاختلاف بين النموذجين هو الدواليب المصفّحة التي ستُكلّفه إذا اختار شراها سعراً أغلى بما لا أدري من عشرات الآلاف من الدولارات الإضافية عن كل دولاب.

فأجاب عبد الفتاح كسيّد كبير وبلهجة "هيّا هذه جولتي" بأنّه يختار هذه الدبابات

وأنّه جاهز إذا كان هذا يُفيد ويُسرّع إرسال الدبّابات أن يدفع بالطريقة التي يُريدوها ‏تحويل مصرفي أو شيك أو نقدأ وفورا فكل شيء ممكن..

الجمعة 15 نيسان/أيريل: (مع رئيس الطيّارين الفرنسيين)

باريس. الجنرال جان ‏ بول بالوميرو رئيس هيئة أركان سلاح الجو هو الذي طلب أن يراني. ماذا؟ لست أدري. لأنَ الرجل لبق لكنّه مُتحفظ . لطيف غير أنّهِ قليل الكلام. وقد قضيتٌ معه ساعة في مكتبه في البورت دو فيرساي من دون أن يُعبرٌ لي بوضوح عن سبب دعوته لي ربما أراد فقط أن يشكرني على «مواقفي التي اتخذتها» وعلى الدور الذي لعِبته.

ورُبها لفكرته أن يحمني رسالة من خلف حجّة صدأ الأجهزة, والانقطاع الوشيك

لمخزون التموين أو إنهاك الطيّارين..  صحيح أن عند بعض البُلدان مثل هذه المشاكل وهذا من جهة أخرى شيء جيّد أن يخوضوا تجربة عظيمة تسمح لهم أن ينتبّهوا إلى هذه المشاكل؛ لكن نحن في فرنسا لا تُعاني من هذا فأداتنا العسكرية كما نكتشف كل يوم عالية الأداء إلى حدٌ أقصى وهذا ما ندين به لإصرار مسؤولينا السياسيين ورؤسائنا منذ عشرات السنين.

أو رُبَمَا كان يرغب فقط في أن يعرف هذا المدني الغريب الذي لا يمتلك الارتباط الشعوري الخاص بمؤسّسته والذي لم يؤد خدمة العلّم لكنّه دافع عن التدخل والذي يُدين اليوم خفة الحسٌ الجمهوري وتهتكه وإفلاسه كما يُدين النساء والرجال ممن يستنكرون "التورّط" ويتمنون إيقاف كل شيء.

كان لي من الجانب نفسه؛ هدف أوْل هو أن أسأله عن مصراتة التي كنتٌ أنوي بإصرار منذ عدتٌ منها أن أذهب إليها.

والهدف الثاني: أن أسلّمه مهما حصل تسليم اليد خارطة ليبيا والآن وقد مرّت خطة

يونس أتى دور "خطّة كفرة" لمصطفى الساقزلي. للأسف لم يُقدّم لي معلومات لا أعرفها مسبقاً.

حول النقطة الثانية أصغى إلِي من المفروغ منه أنه وجّه إلي أسئلة سديدة (بدءاً من تلك التي لا أعرف الإجابة عنها) وافترقتا على فكرة أن القذّافي سواء بدأنا من الكفرة أم لا وسواء اعتمدنا خطة القصف من وسط ليبيا أم لا قد انهزم وفي كل الأحوال هو مهزوم . ونحن نصل إلى نقطة القطيعة النقطة الحقيقية حيث سيكون مُضطراً للاستسلام أو للاستقالة.

الخميس 16 نيسان/أبريل (عم يُجيد الرّمي اسمه لانزمان)

نشر لانزمان مقالة في جريدة اللوموند، ونبهني خلال الليل من خلال رسالة إلكترونية غريبة: "عزيزي برنار سوف تقرأ غداً في جريدة "الوموند" (بل اليوم؛ لأنْ الساعة الآن الواحدة والرّبع صباحاً) مقالاً بتوقيعي سيُسبّب لك إزعاجاً. وعلى الرغم من التوقيع الذي انزع مني انتزاعا فأنا غير موافق عل شيء من أفعالك في ليبيا وعن الابتزاز الذي تمُارسه على سياسات سريعة الانفعال (وأنت تُسرْع انفعالها بالتأكيد). أنت لست سيّد العالم وإذا كنت تعتقد ذلك. فسوف تهشم نفسَك وتفقد صوابك؛ وتوازّنك وهذا يُحزنني إلى أعلى حدّ. رأيتك على قناة شارلي روز شو. أنت

تتكلم إنجليزية ممتازة لكنّك لا تسمع أيّة حجة مُضادة لحججك لن أنسى شيئاً ما فعلتّه من أجلي؛ لن أنسى كرّمك معي وأنا أحتفظ لك بمشاعر الصداقة ولا أعتقد أنك تُبادلني نفس الشعور. سوف أكون آسفاً على هذا وأنا آسف سلفاً. عليك أن تعرف أن أسباباً صائبة وعميقة جداً أوجبت أن أقوم بهذه الوثبة. قبُلاتي. كلود".

ما هذه الأسباب الصائبة والعميقة؟ ضغط؟ توصيّة؟ رؤيته الشخصيّة التي يعيشها قسراً لمصالح إسرائيل أمام موجة الثورات العربية؟ أم مزاجه الخاص وحسب؟ أم هذا الحسد الذي يستهدف كل مُعاصريه من دون استثناء وعلى الجبهات كلّها من أكثرها رصانةٌ إلى أكثرها عبثيّة (لم أجد على الإطلاق واحداً من زملائه نجح في رأيه؛ في كتابة نصّ أو في تأليف كتاب أو نجح في بطولة رياضية في السباحة أو في الغطس أو تشرّف بصداقة أحد غيره من دون أن يدعي بأنّه قادر على أن يقوم بمثل ما يقومون به وأَنّْه في هذا المجال» كما في مجال السينما ليس ترتيبه أقل من الأوّل)؟ أم أنه كما قالت لي إحدى صديقاته. لا بُدَ أن يكون إنساناً من عصر آخر تحديداً من عصر آخر وأن مبدأ هذه الحرب الجويّة قد يُثيره؟

أتذكر في رواية "عمق الهواء أحمر" غيظ كريس ماركر الشديد على هذه الطيّارات الأميركية بفُسيفسائها الناعمة التي توافق فيها المشهد الأنيق مع قصف فيتنام بقنابل النايلم. ربما فكر لانزمان هكذا ورّبّما يكون في الموقف ذاته وقد يشهد على هذا تقريظه الغريب المؤرّخ بالفعل من الحرب عن قُرب، الحرب المباشرة . الفكرة القديمة المصطبغة جداً بأفكار دريو أو مونتيرلان وبارايس وأن قيمة الحرب الرجولية بالتلاحم أفضل من الحرب المجرّدة، الحرب من الجوٌ. أنا لا أَحِبّ التفكير بهذه الطريقة، فما أكنّه لكلود من الصداقة والحنان يمنعني من أضعه في هذه الخانة. لكنْ من يدري؟ على كلٌّ حال؛ الحرب الإيديولوجية بدأت.

ويْزّحٌ بمجد مُنتِج فيلم المحرقة كله في المعركة لكنّه زُجّ من الجانب الآخر الجانب الرديء؛ جانب السياديّين ومُعارضي التدخل وهذا مزعج.

القلاثاء 19 نيسان/ أبريل: (لانزمان أيضأ)

نشرت مقالتي في عدد البارحة من جريدة اللوموند حيث وجهتُ أوّل كلامي الجارح لكلود آخذاً في الحسبان إقامتي الثانية في بنغازي. ولن تتأخر زاويتي عن الظهور في "اللوبوان" ومقالة جيل «وداعاً لانزمان» المنشورة هذا الصباح في جريدة ليبيراسيون. هذا كثير جدا وأنا لا أُحِبٌ ذلك. لكنْ ماذا في وُسعي أن أفعل غير ما فعل؟ وخصوصاً أنني تلقيت تلقيت للتو خبراً أذهلني، كنت أتناول طعام العشاء. بعثتٌ رسالة نصيّة إلى الرئيس وقلت له إني سأكون سعيداً في أن أتكلّم معه، إذا رغِب في ذلك عن زيارة الرئيس عبد الجليل إلى باريس غداً، فاتصل بي، ولكن قبل أن يفتح موضوع الزيارة حكى لي هذه القصّة التي لو لم تكن قد حدثت لأثارت الخلاف بيني وبين كلود. إذ بدأ هذا الأخير يوم الأربعاء بعد الغداء بإمطار مكتب أمانة سرّه بالمكالمات العاجلة، وبعد ثلاثة أيام من الحرب المضجرة اتصلت به أمانة السرٌ ووصلته بالرئيس. فسأله كلود: «هل قرأت مقالتي؟ فسأله ساركوزي الذي أصيب بالذهول: أيّة مقالة؟ وحينئذٍ شرع كلود ينتقدني انتقاداً حادّا وينتقد "طرائقي"

في تسخير مؤسّسات بلادي لأغراضي ومصا حي الشخصيّة، ما أدهش الرئيس ‏ وأرعبني من هذه الطريقة الُمبتكرة من المواجهة الثقافية.

الأربعاء 20 نيسان /أبريل (ليبي في باريس)

قام مصطفى عبد الجليل بزيارة رسمية إلى باريس. كنت أحِبُ أن أشارك في المحادثات. لكنّ ليفيت اتصل بي ليقترح علي ما يُسميّه "قاعدة لعبتنا" من أجل الفصول القادمة: "بما أنك أنت من أتى بالثؤار إلينا فقد كان طبيعياً أن تحضر معهم ولكن حين تدعوهم الجمهورية فعليك أن تتنحى وتترك المكان لممثليها المعتَمّدين". لا شيء يُمكِن أن أعترض عليه وبالتالي تابعتٌ عن بُعْد هذا اليوم الخالِد بكلّ المعايير. وسأوجز القول في هذا..

الساعة العاشرة. مطار بورجيه. كنتُ هناك مع علي زيدان لاستقبال الرئيس الليبي وإعطائه؛ إذا أراد توضيحين أو ثلاثة توضيحات. هل يودّ؟ حسناً. ما حدث في ساحل

العاج حاضر سلفاً. أهمية الطريقة التي تمت بها إزاحة الرئيس غباغبو في فرنسا عامَةٌ وبالنسبة لتيكولا ساركوزي خاصّة، وحقيقة أن يتصرّف القذّافي على طريقة غباغبوة وأن هناك بالتأكيد بالنسبة لسقوط القذّافي القادم دروساً يجب استخلاصها من سيناريو سقوط غباغبو. ومن القضية الإفريقية بوجه عام. قضية رؤساء أفريقيا أصدقاء فرنسا وحلفاؤها الذين اشتراهم القذَّافي وعاملهم كأنهم خدّم عنده وهم يشكلون له مُنحدّراً واقيا من الضروري في نظري تحطيمٌه، ونصحته طبعاً بأن يُذكر نيكولا ساركوزي بدعوته للمجيء إلى بنغازي وبوعده للواء يونس في 13 نيسان/ أبريل؛ الذي تأخر تنفيذه؛ وهو وعد بتسليح بربر الجبل،ونصحتّه في النهاية بأن يطلب ثلاثمائة عنصر من الوحدات الخاصّة؛ تتقاسمها فرنسا وبريطانيا لتوجيه الضربات الجويّة وتدريب مظليي النخبة الليبييّن واحتلال الكفرة في اللحظة المناسبة. كان مصطفى عبد الجليل يُصِغي إليّ لا يجيب بشيء لكنه يُصغي.

اتصل الرئيس الفرنسي بعد أن انتهى اللقاء في الثانية عشرة والنصف ‏ قال لي إِنّهِ كان سعيداً بالطريقة التي تمت بها الأحداث. لم يكن يعرف عبد الجليل فوجد أنه صادق؛ مُتّزن مُرهَف سياسياً ومنزه عن الغرض، لذا أخذ على عاتقه في حضوره. عدّة التزامات قويّة!: تكثيف الضربات الجويّة في محيط بنغازي ومصبّاتها النفطية؛ وعمليّات خاصّة في مصراطة لفك الخناق الذي يسحق سكانها المدنيّين؛ وتكثيف الضغط على البُلدان الإفريقية التي لن تسمح لها فرنسا بعد الآن أن تكون مُزوٌداً بالمرتزقة وتودّ أن ينكسر تَحالّفَها؛ وفي النهاية رضى جُزئي بالطلبّين أو بالطلبات الثلاثة التي وشوشتٌ بهما عبد الجليل وطلبّها بدوره؛ بما فيها مظليُو النخبة، ومرّة أخرى أدهشني حَزْمُه. مرّة أخرى أسرني هذا الثبات الذي لا شيء يخدشه. هذه الإرادة في المْضِيٌ إلى النهاية. يا لها من طريق مختلفة سلكها منذ الأشهر الأولى لرئاسته حيث بدت التفاتاته السياسيّة أنها أدوات سُرعان ما يملّها إلى حدّ أنها تستولي عليه )إحياء ذكرى جوريس... وذكرى غي موكيه ...(. ويا له من اختلاف حتى مع الفترة البعيدة جداً التي كان مفتوناً بها لكن كي ينساها حالآ أعني تبني أطفال المدارس الفرنسية لأطفال موتى المحرقة النازية -لم أُحِبٌ هذه المبادرة وحاربتها مثل كثيرين- لكنّ أكثر ما أدهشني هو اليّسر الذي حيّد معه اقتراحه أمام موجة الاحتجاج التي أثارها. هنا العكس تماماً. لا شييء يُمكِن فعله. غياب لكل طيش ظاهرياً على الأقلّ. وذهنية مُتابَعة يجب القول إِنّه من خلالها يفرض الاحترام، فما الذي حصل؟ تُرى هل تغب ؟

الساعة الواحدة بعد الظهر التقيت من جديد عبد الجليل والعيساوي في جناحهما في فندق موريس حيث حكيا لي القصّة ‏ المرآة للقاء في سلسلة من الانقطاع الناتج عن رنين هاتفيهما المحمولين اللذين تُركا مفتوحين. معنا قليل من الوقت. عبد الجليل مبسوط. مما جعلني أستغل الفرصة لأسأله للمرّة الأولى؛ عن قضية الُممرّضات البلغاريات. الخبر السعيد أنه لم يُصبح وزيراً للعدل إلا سئة 2007 أي في نهاية القضيّة، والخبر السيئ آنه ترأس طبعاً المحكمة العُليا التي أكّدت بالاستئناف إدانة الْممرّضات البائسات. والخبر الأسوأ أيضاً أن بنغازي بدت بحسب ما روى بمُواطناتها ومُواطنيها وأصدقائي الذين تعرّفت عليهم على الكورنيش وشباب الثوّار النابهين مُقتنعة بارتكاب الذَّنْبِ. طبعاً. لم أكن أعتقد أنه سَيُعبرٌ عن ذلك جيداً. فالحرية بحاجة إلى الوقت، ولن نطرد القذَّافي من رؤوس الناس بين عشيّة وضَحاها.

الساعة الثامنة مساء الطابق السادس في فندق رافاييل. أقمتٌ من أجله؛ مع بعض الصحفيين (وكذلك مع ليونيل جوسان الذي فكرتٌ؛ مع أني لست مُتبصراً كثيرا في أن بإمكانه أن يكون مُفيداً ذات يوم قادم حيث يدخل بعض الاشتراكيين في حرب ضد هذه الحرب) حفل عشاء من نوع الحفلات التي كنت أقيمها لأولئك الذين يمرّون بباريس أو لبيغوفيتش، ولكنّ العشاء لم يكن مُوفَقاً كما كنت أرجو ‏ بل كان على كل حال أقل توفيقاً بكثير من حفل العشاء مع عزيزي الرئيس البوسني. فما الذي حصل؟ لاشيء كبير الأهمية سوى أن عبد الجليل احتفظ ببعض ردود أفعاله على مرحلة عمله مع القذّافي. إذ كان الحديث ينتعش حين يشرع ديديبه فرانسوا وايتيين جيرنيل ومارك سيمو وهيرفيه رواش من وكالة الصحافة الفرنسية وسيلفي كوفان من جريدة اللوموند في سؤاله عن مُحادثاته مع ساركوزي وحين تبدأ الأسئلة في أن تصير ضاغطة وكثيرة وأكثر انهماراً ودقة يتوقّف فجأة ويتخِذ مظهر الطفل الحردان ويقول إِنّه مل الأمر ويُعطي الكلام للعيساوي الذي يجيب من الآن وصاعداً بالنيابة عنه. أمَا جوسبّان الذي أجلسْتّه في مركز الطاولة مُقابل عبد الجليل فشعر بالمأساة المتعاظمة وفهم كل شيء فضحك مُبدِياً رد فعل إيجابية. وقال: "السيّد الرئيس الصحفيّون مُرعِبون لَطالمًا اعتدتٌ؛ أنا أيضا على طرائق أصدقائنا، ولستٌ مجبرا على الإجابة على أسئلتهم لا داعي للحرّج. ضحك الجميع بما فيهم عبد الجليل الذي غالب ضحكّه. إذ شعرت تماماً أنه مُغتاظ. شعرتٌ بما لم أشعر به أبداً في بنغازي؛ شعرت بأن لهذين الرجلّين عبد الجليل والعيساوي علاقة بالصحافة ما تزال بعيدة عما تكتسبه ثقافة ديمقراطية ناجحة، وشعرت على نحو خاصٌ أن التوقّف عن الأسئلة هذا المساء سيكون قصيرا وأن أصدقائي الفرنسيين.لا ينوون التخليٌ عن القيام بمهمّتهم: وأنّ عبد الجليل لا يجد أيّ داع لأن ينفتح ويَلِين خلال السهرة وأننا سنُخفق. والأسوأ من هذا: لست أدري العلامة التي أدْت إلى اقشعرار الجو وإلى إيماءة من هذا أو ذاك إلى نظرة غريبة فأحسستُ بان الصحفيين يوشكون على طرح السؤالين الأكثر إحراجا السؤالين الذّين كان يتحدّث في أمرهما المدعوّون قبل وصول الرئيس؛ وهم يضحكون في رُدهة المطعم  أحسستٌ أن أحدا ربما جيرنيل أو جوفران أو روسلان سينتهك العُرف ويسألهما أوّلاً عن قضية إسرائيل ‏ وأحسستُ أن الجواب قد يكون وخيم العواقب فأشرتٌ إلى جيل الذي سُرعان ما فهم قصدي فسأله عن النظام العسكري في صفوف مُقاتلي المجلس الوطني الانتقالي. وخلال فترة الإجابة قمت بجولة حول الطاولة وتوجهتٌ صوب علي زيدان ووشوشتّه أن الساعة

صارت التاسعة والنصف. وأنْ الرئيس لا يحِبَ التحليّة بعد الطعام وأنّه سيستيقظ باكراً صباح الغد؛ وأنّ لا أحد يُمكِن أن يستاء من الراحة. فهل فهم علّي؟ يبقى أنه نهض؛ بدوره واقترب من الرئيس ووشوش في أذنه شيئا فقام الآخر أيضاً ‏ ليس من دون نظرة تحسر على الحلويات التي كانت توضّع على الطاولة.. انسحاب ناجح... لقد تَجنبتٌ الأسوأ.

الاثنين 21 نيسان/أبريل (القَذافي مُزيف عملة)

اتصل بي مصطفى عبد الجليل قُبيل مُغادرته قال لي: هل يُمكن أن توصل من جانبي

رسالة شخصية إلى الرئيس نيكولا ساركوزي؟ قلت له: "طبعاً" وهاهي الرسالة التي نقلتُها فوراً إلى الرئيس الفرنسي.. رسالة شخصية من رئيس المجلس الوطني الانتقالي إلى نيكولا ساركوزي.. تلقّى المجلس الوطني الانتقالي وتحرّى توَاً الخبر الآتي: "وصل إلى تونس:

1) كمية هائلة من مخزون الأوراق؛

2) مطبعة مجهولة المصدر؛ وذلك كله لطباعة عملة ليبية في تونس بأسرع ما يُمكن.

 يبدو الخبر جدياً... بريد؛ ضابط الارتباط ساعي البريد ‏ سأقوم بكل ما يلزم.

يتواصل