إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح13

ثلاثاء, 02/03/2021 - 00:06

أول مكالمة هاتفية مع عبد الله واد رئيس السنغال

نعم وجدتٌ الفكرة. وأعتقد أن هذا تمام.

إذا حكيتٌ هذه القصة ذات يوم؛ فيجب أن أقول كل شيء؛ حتمّاً كل شيء وأن أعطيها إن تجاسرتٌ على القول عُمقها الكامل بوصفها سيرة.

هذا العشاء مع "فرانسواز فيرني" منذ عشر سنوات وربما أكثر قبل وفاتها. عكفتٌ على أن أحكي لها عن سارتر(ي) وكأنها ما تزال ناشرة كتّبي، كانت قد حدّثتني عن كتاب جديد عن قائد الحب اليهودي المسيحي التي قالت إِنَّ لديها مشروعه، استحضرنا معاً ذكريات فترة عملها في دار غراسيه وخلال الحديث انبثقت صورة جاك فرئسيس رولان الستاليني السابق كانت قد تعرّفتْ عليه في فترة انتمائها إلى الستالينية أمّا أنا التقيت به في بيتها في شارع تابوي؛ في أثناء واحدة من حفلات العشاء الأسطورية المحزنة إذ فارقت الحياة لحظة تناول البّلات وهي سكرانة فانكبٌ وجهُها في صحن السّلّطة المقدونية النجسة وهي تُحشرها بالمايونيز السلطة التي كان يُرسلها إليها دائمأ بائع الأطعمة الجاهزة في الشارع أسفل شّقتها.

فحملها ابنها الذي ساعده أصغر المدعوّين سنا الذي هو أنا إلى سريرها. فحُكم علىضيوفها في ذلك اليوم أن يتعارفوا من دونها رأيت في حفلات العشاء هذه "جيسكار دو ستان؛ وميتران وموديانو وروب ‏غريبه ومدير جريدة اللوموند ومدير جريدة الفيغارو وأكاديميّين وكرادلة" وفي ذلك اليوم كنتٌ أنا ورولان.

فهمتُ أو اعتقدتٌ أنني فهمت أنْ كاتبة السيناريو اللامعة كانت تحلّم ‏وهو آخر حلم في حياتها ‏ بأن تُعِدّ للتلفزيون رواية الكابتن العظيم الذي قدّمه لنا رولان في ساعة مُتأخرة الرواية التي تحكي قصّة حملة النقيبّين "فوليه ‏ شانوان" هذه الوحدة من العساكر التائهين الذين مضوا عام 1900 للبحث عن تشاد لكنهم صاروا مجانين وأفلتوا من رقابة باريس وأنهوا مُغامرتهم في الرّعب والدم. ونظراً لأنني أوّلا كنت أُحِبُّ فرانسوازي؛ ولم أنجح ثانياً في الاعتقاد بأن الناس الذين أُحِبهم يشيخون ويصيرون أقلّ مقدرةً على تجسيد أحلامهم قرّرتٌ أن أُقدّم من المساعدة ما يسمح لهذا الفيلم بأن يرى النور وذهبت بجسارة لأرى عبد الله واد رئيس السنغال لاكتشاف إمكانيات أن تُصوٌر الفيلم في بلاده.

لم يُنجّر الفيلم أبداً. لكنْ بالأحرى أجل! أنجز، لكنّه بسبب أن فرانسواز هوت؛ في الواقع: خلال هذه الفترة في السنّ الطاعن أنجز من دونها وبالتالي من دوني لكنْ بالمقابل وهنا سخرية هذه القصّة؛ أُعدَّ مع صهري باتريك ميل؛ إنما للمسرح وأخرجه

سيرج مواتي صهري الذي لعب دور أحد الضباط الخوّنة، بقيت لي من تلك الفترة علاقة مع واد هذا الرئيس الاستثنائي الذي أشكٌ في أنه صار رئيس دولة لأنه لم ينجح في أن يكون اقتصادياً والذي اقترح علِي منذ هذا اللقاء الأوّل قبل عشر سنوات بصورة فوضوية أن آتي لإلقاء محاضرات في داكار وأن أفكر بتأسيس أكاديمية سنغالية ومسرح وطني وأن أناقش معه خطابه إلى الأمّة الإفريقية الذي صاغه على طريقة خطاب إلى الأمة الأوروبية لجوليان بندا ‏هذه الأشياء كلّها التي أعترف بجل كبير أنني لم أجد لها الوقت أبداً.  إذا كان يجب أن أحكي هذا كلّه وبالتفصيل. وذلك كي أفهم الآخرين بأنني استندتٌ إلى هذا الماضي في اتخاذ قراري هذا الصباح في طنجة حيث أنا منذ أمس مساء بأن أتصل بهذا الرجل لأطلب منه من دون أية مواربة أخرى لماذا لا يكون أوْل رئيس أفريقي يستقبل أصدقائي من المجلس الوطني الانتقالي.

حالما أجابني قال: لم لا؟ هذا مُمكن لَطالما استقبلتٌ المعارضين. وأنا نفسي كنتُ مُعارضاً.

- لم يعودوا مُعارضين سيادة الرئيس. ‎٠‏

-حسناً. لا أهمية للاسم الذي تُطلقه عليهم. أريد أن أقول إنني جاهز إن كان هذا ما تفكر فيه لمهمّة التوسّط.

-أخشى أن يكون الوضع قد تجاوز مرحلة التوسّط ‏ فقد كنتٌ في بنغازي ذلك الصباح المشهود حيث وصل الوفد الإفريقي من طرابلس لتسليم خطة ال...

-هل نقول مبروك إذاً. إذا كنت لا تحب التوسّط فقّل مبروك. فنحن في حاجة دائمة إلى التهانئ للخروج من خصومة.

-لم نعّد في هذه المرحلة أبداً أبدا سيادة الرئيس. فموقف أصدقائي لا لَبْس فيه: لن يكون هناك حديث ممكن ولا نهاني من دون الرحيل المطلّق لذاك الذي لم يَعْد يُسمى بالقذّافي بل بالديكتاتور...

سكت الرئيس. خلال ثوانٍ طويلة؛ طويلة جدا ولم يقّل شيئاً. ثم استأنف كلامه:

أنا لا أدين بشيء للقذافي لاحظ جيداً، لا شيء.

-أعرف يا سيادة الرئيس؟ فقد أعطاني ماري لوك شرابورسكي نسخة عن ذلك الحديث الهاتفي غير المعقول بتاريخ 9 آذار/ مارس الذي أجريتموه معه حيث قال لكم حقائقه الأربع: وأنا مُتأكّد بأنكم لستم مدينون له بشيء إلى حد...

-آه حصلت على هذه الوثيقة...

-شعرتٌ أن الفكرة راقت له وبصورة مّا شجّعته.

-لست مديناً له بشيء؛ لكنّي على اتصالٍ به، وأنا من النادرين ورُبّما أكون الوحيد؛ الذي ما أزال أتصل به.

-شخصياً؟ أم عبر وُسطاء؟

وهنا أيضاً أخذ وقتّه قبل أن يُجيب. رُبّما تساءل إن كان في إمكانه ومن واجبه أن يقول لي الحقيقة.

انتهى بالقول: "معه طبعاً" لكن من خلال مبعوث أيضا هو السيد عافي عنان. كان سفيراً في باريس وفي لندن وأنا أُحِبّهِ كثيراً فدائماً ما يِرسل لي هذا الرجل حين تكون هناك مُشكلة يحلها معي ."

-حسناً. وهل تحادثتما مؤخراً؟

-هذا الصباح.

-هذا الصباح!

لم أستطع أن أكبح هذه الحركة من عدّم التصديق ومن الدهشة.

-نعم تحدّثنا قبل ساعات أنت تعلم أنني أعرفه جيداً. قال لي إن القائد يتمنى أن يُكلّمني وأنه يعتمد عل حل هذه الأزمة.

-ليس هناك إلا حل واحد تُمكن: رحيله.

-تدور في رأسه أيضاً فكرة أن يدعو إلى قمّة استثنائية للاتحاد الإفريقي عن ليبيا.

-يجب تجنب هذه الكارثة يا سيادة الرئيس.

قلت لعنان لقد فات الأوان والقذّافي واهم والأفارقة لم يعودوا مُستعدّين لمساعدته كما ذي قبل.

ثّم أضاف وكأنه كان يتحدّث مع نفسه.

لدي انطباع بأنَّ مشكلات تُعيق اتصاله الآن لأنه مُراقبِ جداً.

كرّرت؛ وجعلت كلامي موقّعاً:

-لا يُمكن أن يكون هناك إلا حل واحد: رحيله هو وعائلته.

سمعني هذه المرة فقال:

-أنتَ مُتأكد؟

لستٌ أنا المتأكد بل الشعب الليبي فهذه أمنيته.

- ليس كل الشعب الليبي فالبلد منقسم إلى قسمين ألا تعتقد بهذا؟

-لا لا أعتقد. يبدو أن القذافي يُسيطر بالفعل في الجزء الغربي لكنْ من خلال الخوف.

حتى داخل قبيلته.

قاطعني قائلاً:

-في هذه الحال لماذا لا يتقدّم الُمعارضون بسرعة أكبر؟ لماذا هذه الورطة؟

-هناك مُشكلتان: الشباب الذين ليسوا في الواقع مُدرّبين كما ينبغي وليسوا مُنظمين.

والتحالف الذي يُمكن أن يُسرع أكثر في عمليّاته طبعاً. لكن بأيّ ثمن؟

-نعم...؟

كانت "نعمته" شاكة فاستأنفت بالقول:

أجل ! طبعاً كل شيء يتِمّ كي لا يكون هناك ضحايا من المدنيّين.

-كما تعلم القذّافي ماكر. ماكر جداً أنا أعرفه جيداً ومنذ زمن طويل.

-لا أشكٌ في هذا. أنا فقط بصدد أن أقول لكم إِنْ التحالّف يأخذ وقته. لا يريد أن تكون هناك أضرار جانبية. لا يُريد أن يصدم الرأي العام العالمي وخصوصاً العربي. هل تعرفون ماذا قال لي ساركوزي ذات يوم:

- تفضّل قُل لي.

-قال إِنّه كان في موقف نازع ألغام يعرف أن أمامه قنبلة مطمورة وأنّ عليه أن ينزّع صاعِقّها، وأمامه حلان: إمَا أن يتسرّع ويُفَجّر كلّ شيء، وإمًا أن يمضي معالجة اللّغم بهدوء شديد نكشة نكشة حابساً أنفاسه حتى لو استغرق هذا ساعات. وهذا ما تفعله فرنسا.

-أفهم ذلك...

لم يبدٌ أنه مقتنع تماماً، لكنّ الصورة راقت له، فردّد عدّة مرّات "نكشة‏ نكشة". وردّد أيضاً أنه وحده القادر على «التحدّث مع القذَّافي». شعرتٌ؛ كما شعرتٌ في فترة توقيف "كلوتيلدرايس" الفتاة الفرنسية في طهران وفي فترة اعتقال سكينة حيث اتصل شخصياً بأحمدي نجاد، بأنّه لا يعاف أبداً أن يقوم بهذا الدور بأن يؤدّي خدمة. سألني: أين أنا أين أصدقائي وكم يستغرقون من الزمن للوصول إلى باريس ثُمْ إلى داكار. كذلك سألني عن مستوى الوفد التمثيلي في حال استقبل وفدا وإذا كنت أستطيع في حال لم يكن عبد الجليل قادراً على أن يترك أرض المعركة أن أجيب أنا شخصياً بحُكم أنَّ الوفد المزعوم لابُد أن يحمل رسالة منه. وعندئذ قال بغتة كأنما الأجوبة التي أقدّمها له تكنس تحفُظاته: "حسناً يابرنار" يبدو لي هذا كله محبوكاً بشكل مُتقّن. ثّم إني سأكون سعيداً برؤيتك من جديد. تفضّل مع أصدقائك إلى داكار بعد غد'

لا أفي الأمر حقّه إن قلتٌ وأنا أغلِق الخط إنني كنت سعيداً: بل ابتهجت؛ وفضتٌ

حماسةٌ؛ واقتنعتٌ أننا بدءاً من اليوم... لكنْ علينا ألا نستبق شيئاً. سأتصل الآن بعلي ومنصور اللذين هما في ذهني الوفد ذاته.

الثلاثاء 17 أيّار/مايو (مكالمة هاتفية ثانية مع عيد الله واد)

هذه المرّة هو الذي اتصل بي: هل موعد بعدّ غدٍ ما يزال مُناسباً؟

طبعاً أصدقائي في طريقهم إِليّ. انطلقوا من بنغازي؛ وسيكونون في باريس عصر هذا اليوم.

بدا مُتردّداً من جديد أو حائراً.

- عندي أيضاً سؤال أودٌ أن أسألك إيّاه.

- نعم أي سؤال؟

-هل هذه هي رغبة ساركوزي؟

-عفواً؟

-هل يرغب ساركوزي حقاً في أن يرحل القذّافي عن ليبيا؟

-أفعاله تجيبكم. فقد اعترف بالمجلس الوطني الانتقالي كمُمثّل شرعي وحيد للشعب

الليبي وحرّك ...قاطعني بجفاف وعلى نحو مُفاجئ: "أعرف هذا أعرف أن هذا موقفه. أن أحدثكم عن رغبته...رغبته العميقة..."

قُلتٌ مجيباً: رغبته لا أعرف...لا أستطيع أن أعرف حقيقة رغبته العميقة...أعرف فقط ما أرى؛ وما...

-نعم نعم

كان يبدو حالما. فكرر القول: "نعم نعم فهمت..."

نّم أضاف وكأنّه يُفكر الآن بسرعة فائقة: "هل أستطيع أن أطلب منك التحقّق من هذه النقطة؟"

-لا أعتقد يا سيادة الرئيس. إذ لا يربطني هذا النوع من العلاقة مع نيكولا ساركوزي

لكنْ أنتم... أنتم تعرفونه جيداً...وهو يحترمكم...فلماذا لا تتصلون به لتطرحوا عليه السؤال مباشرة؟

- ربما...لست أدري.. سأفكر في الأمر. وأتصل بكم بعد حين.

ولعلمي بأنه كما تدل كل الاحتمالات: سوف يتصل بساركوزي بعثت إلى أمانة سرٌ هذا الأخير الرسالة الإلكترونية الآتية: «بعد غدٍ الخميس سأقود أصدقاءنا من أعضاء المجلس الوطني الانتقالي الليبي إلى داكار للقاء الرئيس واد». هذه مُبادرة شخصية. لكنها قد تُفضي إلى اعترافٍ بالمجلس. وبالتالي تحدث ثغرة في الدرع الإفريقي للقدّافي. وددتٌ فقط إعلام الرئيس بهذه الخطوة. وأرسلت لساركوزي نفسه. على هاتفه الشخصي الذي سمح لي باستخدامه في الحالات الُمستعجلة: هذه الرسالة النصيّة: "عبد الله واد سيتصل بكم بالتأكيد وهو جاهز ليقطع علاقتّه بالقذَّافي رُبما يجب تشجيعه قليلاً." مضت ساعتان. فاتصل واد.‏

كنتٌ مع ليفيت على الهاتف لأنْ ساركوزي مشغول ولم يتمكن من استقبال مكالمتي.

لكني تكلّمتٌ مع ليفيت: قتّل القذّافي ليس وارداً.

-طبعاً! لم أقل لكم أبداً عكس ذلك!

-لا أعلّم هذا. لكني أعتقد أنكم على حق ولم يعد أمامه كثير من الخيارات...

حلت فترة صمت سمعتُ خلاها لهاث الرئيس في جهاز الهاتف.

-أيّ شكل تقترحون؟

-عفواً؟

-هل تعتقدون أنَّ علي أن أعلن اعترافاً رسميًاً بالمجلس كما فعل ساركوزي؟ أم أكتفي باعتراف واقعي باستقبالهم فقط؟ ْ

الأفضل سيكون الأكثر من ذلك إذ ينبغي أن يكون لالتفاتتك أقوى دوي ممكن.

وخاصة أن الكلام عن ليبيا قليل الآن. فالواقع الراهن ينعطف.. إنه متقلُب.. سيتوجب إذاً التصريح بقوّة كي يكون كلامك مسموعاً.  

-أفهم...سوف أرى...عل كل حال أنا في انتظاركم هذا العصر. حاولوا أن تكونوا هنا وفتَ الغداء. سوف نناقش آخر التفاصيل وسوف أستقبل أصدقاءك على الفور.

الخميس 19 أيار/مايو (ليبيا الحرة في داكار)

قد لا يفطن أحد إلى الحدث في الصحافة الأوروبية. لكن هذا هو النصر الفعلي الثاني بعد اعتراف فرنسا بالمجلس الوطني الانتقالي.

وصلتٌ من طنجة قُبيل مُنتصف النهار. كان أمامي ساعة لأستمتع؛ على شاطئ فندق

سوفوتيل بروائح البحر الإفريقية التي طالما أحببتها. كان علي ومنصور اللذان وصلا من باريس قبل الموعد بقليل يرتاحان في فندق آخر من فنادق المدينة. جاء سائق ليقودني إلى قصر الرئاسة..

شعرتٌ منذ تناول المقبل أن الرئيس «واد» مُطْمئِنّ. وبدا لي ابنه كريم الذي كان هناك؛ خبيراً. حكيت لهما عن عشاء القبائل في بنغازي. وشرحت لهما حالة حسّان دروّيه من قبيلة ورفلة الذي يهلل له أهل اجدابيا، والححتٌ إذ لم يبد لي أنه على علم بهذا، على الالتزام غير الطبيعي الذي أخذه أعضاء المجلس الوطني الانتقالي على عاتقهم بعدم اللجوء في حال سقط القذّافي وتمٌ انتقال السلطة بسلام إلى الاستحقاقات الانتخابية الكبرى. اعترف واد بالقول هذا جيّد ... لأنه يُبرهن في حدّه الأدنى. على أن ليس لديهم طموحات، وأئْهم ليسوا مُستعدّين للقيام بأي شيء في سبيل الوصول إلى السّلطة... وأضاف طبعاً شيئاً ماكرا بوصفه مُحنكاً في السياسة التي لم يُعَلّمه إيّاها أحد: ينبغي بالضبط ألا يستنتج أحد بأنهم هم أنفسهم لا يؤمنون بثورتهم!؟

سألته إن قرّر الحجم الذي سوف يُعطيه هذا الاعتراف؟ فأجابني: "حجم متوسّط" لأنّه يُريد من أجل «مصلحة أصدقائنا» أن يحتفظ لنفسه "بهامش‏ للمُناورة" ويعمل على أن يتمكن القذافي إذا أراد أن يكون على «اتصال» معه. لذا أمر من جانب آخر بتحضير مشروع بيان، طلب إلي إن كنت أريد أن ألقي عليه نظرة؟ فأجبت: نعم طبعاً! والحقيقة أن البيان لا بأس به. حتى إِنّه باستثناء بعض الأشياء الطفيفة التي نصحت بتصويبها قبل وصول علي ومنصور بانه جريء، أَرِسِلٌ البيان إلى الطباعة. وأعيد. وخلال ذلك شرح لي الرئيس بأنّه فكر من أجل الليبيين بجدول زمني للانتقال إلى الديمقراطية المستوحاة مما عاش من تجارب أو من تجارب لاحقّها عن قُرب وستكون مراحل هذا الانتقال: الدعوة برعاية المجلس الوطني الانتقالي إلى مؤتمر وطني موسّع مُمثّل القوى الحيّة في المجتمع الليبي وحل المجلس الوطني الانتقالي والدعوة إلى انعقاد جمعية تأسيسية يُصار بعدّه إلى أن تضع الجمعية المعنية برنامج عمل بهدف خلق مؤسسات جمهورية وتسجيل الليبيين الذين يحقٌ لهم الانتخاب في لوائح وتحديد موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية وتشكيل حكومة وحدة وطنية ...

إنها الثالثة بعد الظهر وصل علي ومنصور وبدأت مفاوضاتٌ كان ينبغي ألا تستمرٌ أكثر من ساعة, لكنّها امتدّت حتى الليل فالليبيون لا يفوّتون شيئاً وكذلك الرئيس واد. لذا كان النص يُرسَل من جديد للتعديل وأخيراً التحقت بنا أمينة السرٌ توفيراً للوقت وفي لحظة مُعيّنة أخذ الرئيسٌ نفسه حاسوب العمل كي يُدخل تعديلاً طويلاً ومُعقداً أعدّه علي ومنصور معي خلال الاستراحة حيث كنا نقف معاً في الجانب الآخر من القاعة.

أنجزنا البيان الساعة السابعة مساء. وحصل علي على ضمان أن تُحذّف أية إشارة إلى توسّط تمكن بين «الأطراف» ولكنّه وافق على الاحتفاظ بعبارة تُشير إلى أن الرئيس واد جاهز للمساهمة في البحث عن السلام والمصالحة الوطنية. وتمسك بأن يتضمّن النصّ فكرة أن أي حل مستقبلي؛ في نظر المجلس الوطني الانتقالي يبدأ برحيل السيّد مُعمّر القذافي وطلب الرئيس واد أن يُضاف في هذه الحال جزء من جملة يُشير إلى أن هذا الرحيل هو ما سبق أن نصح به هو نفسّه القذَافي مُعتبراً أنّ مسار الأمور وصل إلى خط اللاعودة.

وتمسّك الرئيس واد بأن يُثبت مقطعاً غريباً يقول إِنّه «منذ التاسع من شهر آذار/ مارس على اتصال مع السيد مُعمّر القذافي وإنّه لم يتوقف عن إسداء النصائح له، لكنّ علي تمسّك بضرورة حذف كلمة «مُعارضون» من توصيف المجلس الوطني الانتقالي والمفاوضات الأطول تركزّت على عبارة الاعتراف بحصر المعنى: هل يعترف الرئيس واد بمصطفى عبد الجليل والقُوى السياسية التي يرأسها «كمكوّنات مُعارّضة تاريخية وشرعية» أو كقوّة مستقبلية مُكلّفة‏ بشكل طبيعي بالتحضير لإقامة مؤسّسات جمهورية في ليبيا؟ أم الاعتراف بالأمرين! كنت سأرتئي لو شاركتٌ شخصياً في هذا النقاش الغريب الإبقاء على جزأي العبارة في حملة واحدة!

حضر الصحفيون الساعة السابعة مساء. قرأ الناطق باسم رئاسة الجمهورية بثلاث لغات العربية والفرنسية والولفية البيان الذي تمت الموافقة عليه من سيّادة الرئيس المعلّم عبد الله واد ووزير الدولة مدير مكتب الرئيس حبيب سي ومن الوفد رفيع المستوى؛ الذي أتيت به المتكوّن من علي زيدان وهكذا كانت السنغال أوّل دولة إفريقية تقطع علاقتها بالقذّافي.

الجمعة 20 أيّار/مايو (وصل ساركوزي الجديد)

أنا الذي طلبتٌ هذا الموعد لكي أُطلِعه على ما جرى في لقاء داكار. الشمس حارقة والحرارة صيفيّة. على شرفة الإليزيه المُطلّ على الحديقة. تفصل بيننا طاولة حديقة؛ من خشب أبييض . ‎

‏-يمكن أن تُبقِي نظاراتك فأشعة الشمس قويّة.

-كم معنا من الوقت؟

-ساعة. يجب أن يتصل بي كاميرون قبيل الساعة الواحدة بعد الظهر.

حدثته أوّلاً وبسرعة عن غدائي ذات أسبوع مع الطيّارين «الطيّارين الأربعة» الذين قاموا بالضربات الجوية الأولى. فأجابني: «أوه! كان عددهم أكثر من ذلك بكثير!» حينئٍذ قلت له: «إذاً وسام الشرف؛ فإذا كان في فرنسا أناسٌ يستحقّون وسام الشرف» أليسوا هم من يستحقونه؟؟

وحدثته عن فكرة أننا خلقنا ذلك اليوم في بنغازي؛ أوعلى الأفضل في مصراطة

بالتعاون مع فرنسيس بويب مُعادلاً لمركز آندريه مالرو في سراييفو. ويبدو لي أنْ هذه الفكرة تروقه فخربش كلمة على طرف ورقة.

بعد ذلك حكيتٌ له قصة لقاء داكار وركّزتُ خاصّة على أهمّ جملتين في البيان. الجملة المتصلة بشبه اعتراف السنغال بالمجلس الوطني الانتقالي وتلك المتصلة بإشارة الرئيس واد إلى أن الحلّ في ليبيا غير ممكن إلا مع رحيل القذَّافي. هزّ رأسه. ينبغي الاعتراف هنا إذاً بحقيقة تحوّل سياسي جدّي إذا التزم واد بكلامه «وماذا لو لم يلتزم؟" ‏

-لا أنا لم أقل هذا...

-الرئيس واد شخص ممتاز... جادٌ للغاية... لكن... بدا حالما وأردف قائلاً: "لا ليس هناك لكنْ؛ سوف يلتزم؛ مرحى له" ثم جاء دورّه في الكلام وإعطائي؛ كما يقول دوما مُستشعراً بشكل سافر بعضّ اللذّة، أخباراً من الجبهة عن غرق أسطول القذّافي. والضربات المستمرّة والمرور الوشيك لمروحيّتي الهجوم الغزال والنمر الْمزَوّدة بصواريخ مُضادّة للدروع وهما نفس المروحيّتين اللتين استّخدمتا في أبيدجان لتحييد آخر القوى الُمناصرة للرئيس غباغبو.

حذر قائلاً لاينبغي عدم الحديث في ذلك. هذا سر عسكري. لأن وقع المفاجأة يجب أن يكون مُطْلَقاً. سوف يُغيّر هذا وجه الحرب...

سبق أن لاحظتٌ عدّة مرّاتِ هذا العناد وروح المتابعة وَالْندّيّة والرغبة في المتابعة حتى النهاية التي نادراً ما تُشبهه؛ بل ظهرت فيه بمناسبة هذه الحرب.

كذلك لاحظتٌ عدة مرّات هذه الكفاءة وهذا الجاب من حنكته في القضايا العسكرية الذين لا يُشكٌ فيهما والذين يجعلانه يُحدْثنِي عن قصص الضربات ومروحيّتي الغزال والنمر والصواريخ المضَادّة للدروع بدقة لا أتوصّل إلى أن أعزوها إلى الاكتشاف الوحيد للعبة الخشخشة الحربية المألوفة عند كلّ الرؤساء.

واليوم يلفت نظري مُستجدٌ ثالث يتعيّن علي أن أضيفه إلى ملف التحوّل الذي أحدثته ليبيا في ساركوزي يتّصل هذا الْمستجدٌ بصواريخ HOH ودعوته إلى سريّة الأمر. هذا الحضٌ على الرصانة. فهل كان ساركوزي الآخر القديم قادراً على أن يفعل هذا؟ ما كتبته في السيرة الشخصية التي طلبتْها مني جريدة النيويورك تايمز بعد الانتخابات؛ أنَّ ساركوزي هو الرجل الوحيد الذي أعرف أنّه بلا ضمير (أوّلاً بلا «أنا أعلى»  لكنّه على الأخصٌ بلا ضميره بلا احتياط باطني النمّط الدقيق للشخصية السارترية المُختزلة إلى حُزمة من المقاصد, إلى نقطة.. فهل كان سيستطيع أن يفرض على نفسه قاعدة الصّمت هذه؟ ليس أكيداً.

الأحد 22 أيار/مايو (القذافي يخسر أفريقيا)

اتصال هاتفي من داكار. كان عبد الجليل قد اتصل توا بالرئيس «واد» وشكره على استقباله لمبعوثيه وكرّر له أن ليبيا الغد ستعكف على خلق علاقاتها الجديدة مع إفريقيا وإرسائها على مبادئ المساواة وعدّم الانحياز في قضايا الآخرين؛ والتنمية المُشتركة. وقال له أيضاً ‏ أفترض أنْ هذه طريقة للإجابة على الاتهامات باستخدام العنف ضدٌ المهاجرين الأفارقة الذي تُضْخٌّمه الصحافة في الولايات المتحدة وفي أوروبا ‏ وأنَّ ليبيا ستكون مفتوحة أمام «الإخوة الأفارقة» الراغبين في المجيء للعمل فيها بطريقة شرعية، وبالمقابل وعده الرئيس «واد» بأنّه سيكون محاميه في قمّة الاتحاد الأفريقي التي نجح القذافي طبعاً في الدعوة إلى انعقادها والتي ستنعقد خلال ثمانية أيّام، أعتقد أن القضية رابحة. فالخط الإفريقي للقذّافي انقطع في الواقع. وبدءاً من الآن؛ لا ينبغي أن تطول الحرب إذا أردتٌ الذهاب إلى مصراتة وأنا أريد ذلك أكثر من أيّ وقتٍ مضى فعليّ أن أذهب بسرعة.

الأحد 25 أيار/مايو (السَفرٌ الثاني إلى ليبيا)

جزيرة مالطا.

بداية فترة بعد الظهر الانطلاق بعد قليل خلال الليل إلى مصراطة المدينة الشهيدة؛ المقطوعة عن العالم التي يحاصرها كلاب حرب القذافي.

لديّ انطباع بأنني أجد نفسي من جديد منذ تسعة عشر عاماً في أشبيلية في بداية عام  1992 أستعد لسفري الطويل إلى سراييفو.

الاختلاف بين الرحلتين أنْنا بعد ثلاث سنوات كنا ما نزال في سراييفو. أمَا هنا ف...

مصراطة... من جهة طبعا أنني حين رأيتٌ من جديد عصر هذا اليوم الملف الصحفي الذي جمعه جيل وحزمة الاعتداءات الشرسة التي ارتكبتها كتائبٌ القذافي وما تزال ترتكبها اليوم استبدٌ بي الإحباط. لكن من جهة أخرى؛ لا أستطيع الامتناع عن الاعتراف في داخلي بأنّ الأمر لم يعُد هو نفسه؛ فالدروس البوسنية أفادتنا قليلا ورُبما سنتجنّب في مصراتة صلب سراييفو اللانهائي بشرط التصرّف بسرعة؛ والشهادة على الأحداث بقوّة وبشرط أن يصمد المجتمع الدولي وفرنسا خاصّة ويتذكر نكبة البوسنة.

وصل سليمان أمس مساء. سليمان فورتيه؛ رجّل مصراتة وممثلها في المجلس الوطني الانتقالي الذي لم أرَ منذ عودتنا الليليّة من بنغازي؛ باتجاه الإليزيه برفقة عبد الفتاح يونس وقد وصل مصطفى الساقزلي من الدوحة ليُرافقني إلى مصراتة.

ذهبنا معاً لُقابلة دولانويه في المكتب الكبير في بلديّة باريس حيث جئته زائرا منذ عشر سنوات إبان حرب الشيشان.

وذهبنا معاً لنطلب توأمة بين عاصمة فرنسا والعاصمة العالمية للألم: أجاب دولانويه لن نوقّع علاقة توأمة لأنّ هناك اتفاقاً حصريّاً مع روما بهذا الشأن؛ لكننا سوف نقوم بأقصى ما يُمكِن ونساعد قدر الْمستطاع؛ ونُساهم في الوقت الُمناسب في إعادة تعميرها بالإضافة إلى الرسالة التي لا بْدَ أن أتلقاها بين لحظة وأخرى من المجلس البلدي ستّضاف إلى الرسائل التي سبق أن تلقيتُها من مدينة ستراسبورغ وتولوز وليون وليل تقترح توأمةٌ كاملة بحسب الأصول (مارتين أوبري طبعا تقود تحرّكاً عاما للمُدن الُمناصرة لها حقاً إِنّ الأمينة العامة للحزب الاشتراكي كانت كاملة: منسجمة مع نفسها ومستقيمة بنزاهة.

ونحن هنا معا في مالطة على رصيف الفاليت في الميناء أمام مقهى ‏ ننتظر ساعة الإقلاع. معنا علي ومنصور الذين قررا مرافقتنا مرّة أخرى.

بشير صباح الهاوي هو الذي جهّر لنا هذه الرحلة البسيطة.

كان معنا ابن سليمان عبد الحميد عمّره اثنان وعشرون عاما وهو طالب في كوفنتري لم يعُد إلى مدينته منذ بداية الحرب.

وكان معنا صديقان ليبيّان من أصدقاء بشير وهما منفيّان الأوّل اسمه عاطف القصير منفي إلى الميسوري والثاني اسمه محمد حمزة منفيّ إلى دوندي في اسكتلندا كلاهما طبيب وكلاهما يستغْل الظرف ليرى من جديد مدينته المعبودة. وكان جيل طبعاً ومارك طبعاً وفرانك.

بالإضافة إلى مُصوّر جديد في أول شبابه مُراهق تقريبا اسمه توما لوبون لأنْ فكرة تصوير فيلم عن ذلك كله تتخمّر شيئاً فشيئاً في ذهننا ‏ فكرة التقاط هذه الصّوّر والشخصيات واللحظات والمشاهد الفريدة التي كانت تنهال على رؤوسنا بقدر ما نبحث عنها... إنه زمنٌ مُعلّق.

الجمعة 27 أيار/مايو (قارب إلى مصراتة)

لم يكن الانطلاق بالسهولة التي ضمنها الأصدقاء الليبيُون بقولهم الدائم والحلو "لا مشكلة".

أوَلاً لأن قاع قاربنا الوحيد الذي وجدنا في مالطة والذي قبل أن يقوم بهذا العبور المعقد مليء بالسجائر الْمرسَلة إلى المّقاتلين التي كلفتنا نقاشاتٍ طويلة مع رجال الجمارك المالطيين.

ولكنْ على الأخصٌّ لأنّ بشير صباح لم يجد بديلاً للقبطان المتوقع الذي خانته شجاعته في آخر لحظة إلا قبل ساعاتٍ من الإبحار في الساعة الخامسة مساء. اسم القبطان الجديد "يان بّاس" وهو رجل مالطي بالغ الرشاقة شُقِرته غامقة في الخمسين من عمُّره منظره الجانبي شبيه برأس العصفور قامته عالية محدودبة تعوم في سترةٍ زرقاء باهتة اللون تكاد تكون بيضاء وأناقة جافة ‏ولأنّ هذا القبطان الجديد لا يعرف الطريق ولا القارب الذي مضى أول ساعيّين محاولا استكشاف أدوات لوحة القيادة ومقابضها وفهم وظيفتها وتشغيلها.

بدأ بالقول «يجب ألا يكون هذا صعباً» بينما لم نغادر رصيف الفاليت إلا بُعيد مُنتصّف الليل.

هذا قارب صغير بسيط جداً في الواقع كان يُستخدّم في زمن آخر لتقل العُمال والمعدّات إلى المنصّة البترولية في البحرين.

إنه قارب عادي قعره مُسطّح طوله خمسة وعشرون متراً أحواضه غير صحّية. وقوارب النجاة المطّاطية نصف منفوخة والمحرّكان يبعثان دخان جهنّم وضجيجها ولكنّهم شرحوا لنا أنهما متينان جداً.

فقط الهمكل مدهون بالبرتقالي الفاقع الذي نتوجّس من أنه ليس لوناً مثالياً تخطئه في الوقت المناسب زوارقٌ القذّافي التي تتحرّى منافذ الشواطئ الليبية ‏ لكن ليس هذا ما يُقلقه بأكثر من الباقي وهو مُقتَنْع في نهاية المطاف بأنّه قادر على أن يُدبّر نفسه.

المشكلة أن في هذا المركب جهاز مُوضْعٍ رديء؛ فلا دليل ملاحة آلي ولا مقود دقة؛ وهو مُعطل قليلآ يجب تصحيح المسار باستمرار حسب التقدير والشاشة التي يُفرَ يُفترض أن تُحدّد  دوماً مكاننا والمسافة الَباقيّة أمامنا غير صحيحة، وقد لاحظنا بعد انطلاقنا لكنّ هذا بالُمقابل لا يُدهِش أحداً لأنَ هذه هي القاعدة التي كانت في عهد القذّافي أن الخرائط البحرية الموجودة على متن المركب ليست ضخمة وغير كاملة مع مناطق واسعة لا تبدو بحاراً مجهولة وحسب بل تُعطي معلومات وعلى الأخصّ. تعطي مسافات عن عمد غير صحيحة أو خياليّة.

كلّ هذا لأقول كان يتعيّن على يان ياس ودانييل آثار (مُساعده المالطي؛ في الخامسة والعشرين من عمره؛ قصير جدآ قامته تُظهره كالطفل) أن يبحرا ساعيّن بسرعة مُنخفضة يترصّدان أقل عقبة أو صخرة؛ أو جُرّفٍ رملي أو حشفة صخرية أو مركب آخر قد نراه أو يرانا مُتأخراً جدآ وفجأة يُمَ! الكارثة! فقد استغرقا ساعتّين لا تنتهيان وعيونه مُثبتة على الموج وأحياناً على بصيص نور النجوم, كي يخرجا من المنطقة الشاطئية ويتنفّسا الصّعَداء ويستريحا في النهاية ‏ ونستريح معهما.

توجّه بعضّنا إلى المطبخ القريب من قاع المركب ليتقاسم شطيرة من سمك التونة مع أفراد الطاقم الثلاثة أسودان أحدهما بقامة ضخمة كهرّم هما عاملا الصيانة؛ ورجل طويل جدا وهو مالطي أيضأ نظرته زرقاء شديدة الشحوب يرتدي صدّارة برتقالية مُتناسبة مع لون المركب لم أعرف دوره. وانزلّق الآخرون في أكياس نومهم مُتقاسمين المقصورتين؛ الأولى على الجسر الأعلى والثانية على مستوى القاع؛ وفي كل منهما ستة مقاعد سيّارات بينها احتفظ ابن سليمان بمعطفه واستلقى على الجسر الخلفي في زورق الإنقاذ وأنا وجيل قبل أن نذهب لننطوي عل أنفسنا في كيسّي نومنا على آخر مقاعد الجسر الأعلى؛ نعرض القبطان يان بّاس على آلة الأسئلة.

هو في الحياة الواقعية رئيس شركات صغيرة ومتوسّطة لاستيراد المواد الغذائية إلى الجزيرة.

وإذا قبل هذه المهمّة؛ فلأن ظروفه صعبة حيث خسر في القمار ويلزمه مبلغ عشرة آلاف دولار لكي يُكمل ميزانية زواج ابنته يوم الخميس القادم.

لكن ما اكتشفناه بوجه خاص هو أنه يعرف عائلة القذّافي؛ بل يعرف أفرادّها معرفة لا بأس بها نظراً لأنّه قبل أقل من ثلاث سنوات كان يُرافق سيف الابن الرجل الذي أرسل لي مبعوثه إلى سان بول في جولة بحرية على طول الشواطئ الفاتنة في الجزء الشرقي من ليبيا.

أسرٌ لنا بأنَ سيف كان غريب الأطوار وهيئته هيئة من يقبل أن يتكلّم حين نكون بصدد استجوابه مع أن هذا ليس من عادته. كان غريباً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. كان يقضي أوقاته عارياً. كان المركب؛ وهو يِخْتٌ جميل طوله أربعون مترا يعجُ بالفتيات وهو يتمشّى أمامهُنٌ عارياً تماما وطول الوقت. أفهم أن المرء يتعرّى حين يأخذ حماماً شمسيا أو حين يستحمّ. لكنْ هنا ليس كذلك أبداً كان عارياً دوماً. كان على اليخت بنات وشباب البنات جميلات رُبّْما من آخر طراز. كان يختلي في حُجرة ثلاث إلى أربع مرّات يومياً وفي كل مرّة مع بنت مختلفة. وحين يخرج، يخرج عاريا تماماً بنفس حركات نزوة أبيه لاحظ أنه كان رياضياً. كان قادراً على أن يقفز من المركب ويُكمل سباحةً حتى الشاطئ مسافة كيلومتر؛ اثنين ولا يتعب. لم أفهم أبداً كيف أن رجلاً كهذا رياضي كهذا استطاع أن يضع نفسه في قضية وسخة كهذه.

انتهينا إلى الخروج من ميناء مالطة. تعشينا عشاء خفيفاً وارتحنا قليلاً. واستيقظنا بعد عِذَة ساعات على صوت المركب يمخر العٌباب في ضوء الشمس الصباحية الساطعة في سماء معدنية في بحر فاتن. وهنا وحوالى منتصّف النهار؛ علا الموج؛ وبدأت موجة عرضانية تحملنا فاجتمعنا للتشاور في القمريّة الأمامية حول موقف حرج لم يشهّد أحدّ قدومه.

طلب ما المالطيُون رسميّاً أن نغلق قبل وصولنا إلى مصراتة نظام التعريف الآلي الذي يسمح لأيٌّ كان حتى للعدوٌ أن يحَدّد موقعنا. .

غير أن القائد تلقى توآ على القناة 16 وهي التردّد المحجوز للاتصالات البحرية المعلومة التي بموجبها كل من يدخل المياه الخاضعة لرقابة الناتو يُعرّض نفسَّه للتفتيش وللكشف عن هويته، وموقعه؛ والغرض من عبوره.

لسنا في هذه الحالة بالتأكيد فأمامنا عشر ساعات على الأقل من الإبحار قبل أن تُواجهنا هذه المشكلة حقيقة، لكن مهما يكن، إذ يُستحسّن أن تُعالّج هذه التعليمات المُتضاربة بتؤدة لاعلى عجّل، ومن الأفضل أن نأخذ وقتنا في التشاور حول الخطر الذي نفضّل مواجهته: "أن تقصفنا قوّات القذافي أو نُخَالِف قواعد الناتو التي ستعدّنا حينئذ وبالعكس سفينة ممنوعة يظهر أنها للقذافي تكسر الحظر".

حللتٌ المسألة قائماً بما كان ينبغي أن أقوم به قبل هذا بكثير منذ كنت في باريس: الاتصال من هواتف الثريا التي معنا وهي وحدّها التي تعمل؛ مع الجنرال بوغا رئيس المجلس العسكري الخاص لساركوزي. بدأ بوغا يُطالبني بأن نقضي الليل على متن المركب؛ على حدود مياه الناتو والوصول غداً صباحاً بهدو إلى مصراطة ولما أدرك أنني لا أرغب في قضاء ليلةٍ إضافية في هذه الحُجرة المتشرّبة بالبخار والبنزين وضجيج الحرّكات على هذا البحر المضطرب الآن حيث يُهِدّد اثنان منّا بنوبة عنيفة من دُوار البحر (انطباق جفون وشحوب وعرّق باردلا يقويان إلا على جرجرة جسديها إلى المرحاض النتن برائحة البُراز والتجشؤ) طلب مني اسم المركب (نمر البحر) ولونه برتقالي لامع سيّدي الجنرال، يمكِن أن يُرى حتى في جُنْح الظلام... وكذلك الساعة الُمحتمّلة لوصولنا (بين العاشرة ليلاً ومنتصّف الليل بحسب تقديرات "بّاس وأثار" غير الدقيقة أبدء اللذين أكرّر اللذين م يقوما بمثل هذه الرحلة البحرية ولا يعرفان أحداً قام بها ‏ وقبل أن يِخْتم المكالمة وبعد أن أجرى حديثاً مختصراً مع أحد الأشخاص على هاتف آخر لم أفهم منه إلا نتفا قال له إِنّه سيرتب الأمر المتأخر أصلاً لكنه سيعمل ما في وسعه من أجل حلّه.

قضيتٌ النهار على الجسر الخلفي المغسول بالشمس لكتابة هذه السطور. نمت قليلاً.

وقضمتٌ بعض البسكويت. وكنتٌ أحياناً أتدحرّج حتى مقدّمة المركبٍ مارّاً بسلالم ظهر السفينة. وها نحن نتقدّم ساعة أو ساعتين على المواعيد المُحدّدة؛ تحت شمس لا تزال ساطعة؛ على مسافة أربعين ميلاً من مصراتة ‏ حيث عندنا موعد مع واحد من هذه الَمشاهِد الهزليّة التي يبدو ظهورها في نظري واحداً من قوانين هذا الزمن الليبي.

 يتواصل