إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح14

أربعاء, 03/03/2021 - 00:06

هنا مروحيًّات الناتو

الساعة السابعة مساء إذ ظهرت على الأفق على يميننا فرقاطة حربية ثُمّ طيارة فوقنا تطير على ارتفاع مُنخفض. . وبعد ربع ساعة وعلى ارتفاع أكثر انخفاضا ظهرت مروحية حربية، فمروحيّة أخرى حطّت على يميننا ة ثّمّ على يسارنا وأخيراً أمامنا دارت عدّة دورات كي لا تبتعد عنا. وفجأة وعلى جهاز استقبال قمرية القبطان حيث أتيت أسأل عما يحدث في  الجزء الذي يُغطيه ضجيج المروحيات القريبة جداً الآن علا صوتٌ تميّز مع ذلك: "أنت نمر البحر؟ أنا أتحدّث من مروحيّة حلف الناتو..

"يان بّاس" قبطان المركب في القمريّة الشّفْل يأخذ قسطاً من الراحة.

ألح الصوت: أنتٌ نمر البحر! أنا أتحدّث من مروحيّة حلف الناتو...

نزل ييل آثار الُمساعِد الذي يأخذ النوبة خلال فترة استراحة قبطانه؛ سُلّمِ الفتحة بسرعة لكي يوقظ اقبطان: هنا مروحية الناتو. لماذا لا تجِيب؟

هنا نمر البحر نحن نجيبكم يا سيّد! ها نحن نُجيبكم.

-لا يا نمر البحر. نحاول أن نتكلّم معكم منذ خمس عشرة دقيقة كان جهازٌكم مُطفأ.

لماذا؟

-لم يكن مُطفا يا سيّد.

-كان مُطفا يا نمر البحر. هنا مروحية حلف الناتو جهازكم كانت مطفأ.

تبادل القبطان ومُساعِده النظرات أوقفا المكالمة وتبادّلا بعض الكلياتٍ باللغة المالطية.

وهذه المرّة آثار هو الذي أخذ المكالمة:

هنا نمر البحر. لا بدّ َ أن جهاز الاستقبال كان مُنخفضاً جدا وبالتالي لم نسمع.

بدا الصوت مُقتنعاً بالجواب فتابع:

جهاز التعريف الآلي مُطفأ عندكم يا نمر البحر لماذا هو مُطفأ؟

تنهّد بّاس وأثّار. فهما في مجال معروف ظهّرا بهيئة تلميذين يُسألان سؤالاً راجعاه.

-لأسباب أمنية يا مروحية الناتو. بالاتفاق مع السلطات في ميناء مصراطة.

-أي نوع من الأسباب؟

التحق بنا سليمان في القمرية: فقطع الخط وتنهّد قائلاً:

-لا تقولا أكثر من ذلك. كرّرا فقط لأسباب أمنية.

-كرّر أثّار لأسباب أمنية. من نمر البحر إلى مروحيّة الناتو: لأسباب أمنيّة.

حل صمتٌ جديد لكن في الحقيقة: لا. إذ عاود الصوت:

-هنا مروحية الناتو. هل يُمكن أن تُعطيني رقم تسجيل المركب يا نمر البحر؟

استعداد للمعركة في القمرية. بّاس وأثار عانيا كثيرأ أمس مساء في العثور على عدّة المركب. والآن تأتي مشكلة رقم التسجيل...

-ألو استأنف الصوت بنفاد صبّْر متوعّداً من جديد.. ألو؟ هنا مروحية الناتو رقم

تسجيل مركبكم من فضلكم!

تناول باس من ورائه ُرزمة من الأوراق. راجعها رسمياً. وناوّلها لأثار فأخذها تاركاً

المقود الذي نزل تحت حزامه ووجّد رقما وأجاب. :

-هنا نمر البحر. رقمنا هو 249858000

فأجاب الصوت: لا يا نمر البحر. . ‎٠‏

فانتفض بّاس وتناول ورقتّه ‏ وببطء راح يقرأ الرقم من جديد:

-يا مروحية الناتو أكرّر 249858000

أنت تُعطيني رقم تعريف جهاز استقبال مركبك استأنف الصوت قائلاً الذي أعتقد

أنني ميّزتُ فيه (ولكن من دون شك هذه فكرة اختلقُها لنفسي) ظلاً من السّخرية بينما

طلبتٌ منك رقم التسجيل. هل تسمعني يا نمر البحر؟ أطلب منك رقم cal sing وليس رقم تعريف جهاز الاستقبال البحري...

تبادل البحّاران النظرات وأعادا البحث بعصبية. وفجأة استدار بّاس وعاين جزءاً من

ورقة مُلبّسة بالبلاستيك كانت هناك وراءه. مُعلّقة بدبّوس على الحاtة, منذ البداية.

صرخ قائلاً: ها هو الرقم! ثم أخذ حزمة الأوراق في حضنه وقال بصوت قصير:

ألو يا مروحيّة الناتو؟ ألو؟

نعم يانمر البحر أنا أسمعك.

رقم شهادة تسجيل مركبنا هو 119 H95. أكرّر H9 مثل مالطة. ثم 1195 تميزنا.

. أجاب الصوت الذي عذَّبٍ قليلاً: هو ذا الرقم.

والآن» اسم المالك؟ بحث جديد وارتباك جديد.

Casar ship

واسم الوسيط؟

هرعنا إلى الجسر الأسفل لإيقاظ بشير الذي هو وحدّه مَن يعرف اسم الوسيط. نحن الآن ثمانية أشخاص في القمرية الصغيرة مُقابل الصوت تساءلت عمّن يكون صاحب الصوت ومن أية جنسيّة وبأية لُكنة يتكلّم.. للوهلة الأولى حسبتُه يتحدّث بلّكنة إسبانية أو إيطالية.

وفي لحظات أخرى (ربما كان في المروحيّة شخصان...) كنت أكثر ميلاً للقول إِّنها لكنة نرويجيّة. حاولتٌ أن أتخيّل في الأعلى داخل المروحيّة رأس أخينا الأكبر الناتو عمّره وحالته الذهنية ولأطمئنٌ أكثر تمرّنتُ على أن أراه في ملامح أحد الطيّارين الفرنسيين الشباب الذين دعاني وإيّاه رئيس المجلس العسكري بال ميروس إلى الغداء.

«أسمه بيتر سيلفيان» قال بشير الذي كان قد وصل توأ أشعث الشعر استيقظ مُعكر المزاج فوضع سروال جوغينغ كيفما اتفق مُغْضَّن الوجه: هذا هو اسم الوسيط.

كرر بّاس: بيتر سيلفيان.

قال الصوت: حسَّنا هذا جيّد. اسم الضامن, الآن؟ من هو ضامن المركب يا نمر البحر؟

كانت مفكرة بشير الإلكترونية في الحجرة في الأسفل. فنزل ثانية بسرعة فسمعناه يتعثّر بالسلّم. لم يكن ينقصه إلا أن يكسر وجهه ثُّمَ صعد ثانية ومعه الجهاز الذي بدأ يستعرض فيه الأسماء. لم يعد يعرف في أيّ مدخل وضع اسم الضامن يعتقد أنه وجده ويخطئ وأخيراً وجده.

شكراً يا نمر البحر... وشحنكم؟

هنا لم يكن عند قائد المركب مُشكلة فهو يعرف: "مسافرون"

‏كرّر.‎

تحوّل الصوت من جديد إلى التسلّط. واقتربت المروحية أكثر كأنما لتدعم أهميتها

وراحت ترسم دورات مُتقاربة في السماء.

-غير القناة يا نمر البحر. اذهب إلى 069.

وغدا الصوت أقرب وأكثر تبديداً على القناة الجديدة» فدقّق سؤاله:

-جنسية المسافرين ...

ستّة فرنسيين أمها السيّد وثلاثة بريطانيين وثلاثة أميركيين...

والتفت إلى بشير الذي أكُد له بصوت منخفض. أنْ أحد أصدقائه لا يحمل إلا جواز سفر ليبي.

-... وليبي يا سيّد. أكرّر وليبي.

الهدف من زيارتهم؟

التفت بّاس صوبي هذه المرّة. وكان مُتردّداً من جديد. وقلقا بوضوح من المسار الذي تتخذه الأشياء فكرّر الصوت:

-هدف رحلة المسافرين؟

همست له:

- صحافة.

فردّد باس:

فألحَ الصوت:

72 ساعة من أجل اثني عشر صحفياً؟

فأكّد باس إشارتي وأجاب بصوت غدا شيئاً فشيئا أقلّ اطمئناناً اثنا عشر صحفي 72

ساعة.

حلّت دقيقتان من الصمت. التحق بنا ابن سُلِيمان بعد أن نبّهه الاضطراب الطبيبان وعلي زيدان ظلُوا فاترين. بينها كان مارك وتوما يُصِوّران. الجميع هنا الآن ماعدا منصور. عددنا اثنا عشر في القمريّة التى لا تهوية فيها نحبس الأنفاس فعاد الصوت.

هنا مروحية الناتو. في أيّة صحف يعمل الصحفيّون الاثنا عشر؟

نظر إل بّاس وأثار من جديد مذهولّين

قُلت: الصحافة العالمية.

فكرّر الصحافة العالمية.

-لا يا نمر البحر لدينا معلومات أخرى.

رفع القبطان بصره نحو السماء كأنّما كان يبحث عن اتصال مُباشر واستأنف الكلام

بصوتٍ خفيض:

أَيّةَ معلومات يا مروحيّة حلف الناتو؟

لدينا اسم محمد حمزة. أكرّر يا نمر البحر: محمّد حمزة. ليس صحفياً.

أخذت المكالمة بدوري.

هنا نمر البحر أنا فرنسي. السيّد محمد حمزة طبيب. يُرافقني إلى مصراتة في مهمّة.

أي نوع من المهمات يا نمر البحر؟

- رسائل يا مروحية الناتو. نحن نحمل لمدينة مصراطة رسائل من مدن فرنسية كبرى.

- كرّر يا نمر البحر. لم نفهم.

أخذ سُليمان الهاتف من يدي قطعه لحظةٌ وقال لي:

لا تُعقدوا الأمور صحافة تكفي.

ثم قال على الهاتف: "مهمّة صحفية يا مروحية الناتو مدّن فرنسية وصحافة."

ارتفعت المروحية وبدا أنها تتركنا وشأننا لكنّها تعود.

- لدينا سؤال آخر يا نمر البحر. لماذا أخفيتّم أمر قدومكم من البحرين؟ '

تبادل الجميع النظرات.

أكرّر يا نمر البحر. لماذا أخفيتُم أمر قدومكم من البحرين؟

فهم بشير. إذ تذكّر أنّ مركبنا وصل بالفعل من البحرين؛ منذ ثلاثة أسابيع محمَلاً على مركب آخر. ولا بد أننا نسينا أن نُشير إلى هذه الحركة لدى السلطات المالطية وبالتالي لدى الناتو.

هذا خطأ يا مروحية الناتو. المركب قادم من مالطة.

نحن مُتأكدون يا نمر البحر. فالوثائق تقول: المركب قادم من البحرين وليس من

مالطة.

نعم يا سيد. لم يكن للمركب من وقت لتغيير رقم تسجيله لكنْه قادم من مالطة فأسفل الهيكل مالطي وهو مسجل في سجلات الجزيرة وبإمكانكم التأكد من ذلك.

ساد صمت طويل.

تكوّن لديّ انطباع لا أستطيع أن أبيّن سببه بأنّ الطيّار في المروحية ملّ.

ونش الصوت بالفعل للمرّة الأخيرة قائلاً: حسّناً بإمكانكم أن تمضوا.

بقيت أمامنا ثلاث ساعات من الإبحار حتى نصل إلى مشارف مصراتة. ثمّ ساعتان

أيضاً وسيكون الجميع؛ مع هبوط الليل؛ على متراس المركب لتفحص الظلام كما في رحلة الذهاب لكنْ بحثاً عن لَّغْمٍ عائم. وقُبيل مُنتصّف الليل انبثق خط السواحل وبدا قريباً جداً. فهبّت ريح رطبة غير مُتوقّعة، وبعد أن تردّد القبطان بضعة دقائق بين الميناءين اللذين كلّموه عنهما وحزرهما بغموض (ميناء مصنع الفولاذ والميناء العام)؛ انتهى بالمُصادفة إلى قرار الإرساء في الميناء الثاني وها هو يظهر أمامنا رصيف خالٍ حيث ميزنا مستودعات مهجورة. أرسينا قفز اثنان من أفراد الطاقم على اليابسة كي يُرِسيا المركب على مربوط الرسو وهنا كانت الُمفاجأة الأخيرة.

دوّت رشّات رصاص من الكلاشنكوف في اتجاهنا. فانبطح الجميع على الأرض بدءاً بأفراد الطاقم. ألقى فرانك بنفسه علّي، بينها سّليمان الذي جعل من يديه مُكبّر صوت راح يصرخ شيئاً بالعربية وهو مُنبطح. فتوقّف إطلاق الرصاص وظهر رجال في إشعاعات المصابيح التي أضاءت فجأة. ظهر منهم أسفل الجسم أولا وبقدر ما كانوا يقتربون راح يبدو شبح الجسم بأكمله يضعون أيديهم في جيوب ستّرهم الأنورات أو الغبردين. وفي النهاية بدت وجوه نحيلة التهمتها اللُحى مُنهكة لكنّها مُبتسمة. كانت لجنة أصدقائنا بأكملها في استقبالنا: المجلس البلدي بالإضافة إلى مُدافعيه العسكريين ومفرزة الإقلاع.

ما الذي حصل؟ من الذي أطلق النار؟ ومن أين؟ وإذا كان قنّاصا هل تم تحييده؟

طرحت السؤال عدّة مرّات. لكن لم يجبني أحد فالجميع مشغول جداً بالمُعانقة واستعادة اللقاء والسؤال اُلمتبادل عن الأخبار والتعريف بالضيوف الفرنسيين وتبادل التهاني ويجب أن أعترف بأنني شخصياً كنت أسعد بإمكانية أن أتحرّك في النهاية؛ وأنفض وعَث السفر وأَحمي عضلاتي التي يبّستها ست وعشرون ساعة من الإبحار من أن أطالب بما تركتٌ ورائي وألح في الطلّب. سوف نرى جيّداً.

الأحد 29 أيّار/مايو (أربعون يومأ في الجحيم)

مصراتة. قضينا ليلآ ّثم نهارا ثم ليلا أيضاً في مصراتة نذرع الأنقاض نمنا ليلتّين ونهاراً في فندق قديم أعادوا فتحه من أجلنا لم نأكل شيئأ أو لاشيء تقريباً ‏ وإذا لم يكن فيه كهرباء، فوجود الغاز أقلّ أيضاً فلا أحد يطبخ والناس جياع. كان معنا جنرال بلباس مدني هو رمضان زرموح اللطيف بقامته القصيرة وشكله الشبيه بحانوتي بلا تاريخ أو رُبَّما بفلاح إذ نشعر أن الإمبراطور سينسيناتوس الليبي لا ينتظر إلا لحظة عودته إلى عرّبته وكان برّفقته رائدان سأوجز القصّة.

أولا الذي يصدم هنا إنّما هو هول عمليات التدمير. حجمُها مُذهل. فشارع طرابلس شريان المدينة الرئيس تحوّل إلى أكوام من الخرائب والأنقاض. مبنى البلدية مُدمْرِ ومُعظم أبنيته منسوفة مُنهارة على بعضها غير مأهولة تملؤها ثقوب شظايا القنابل الانشطارية. أو أن ثمّة أحيانا كما في هذا المكان في مبنى من المباني النادرة التي لم يأتِ عليها القصف كليا ثقب هائل في الجدار على ارتفاع الطابق الخامس والأخير: قيل لي قُصِف الطابق بمدفع دبّابة مُستهدفاً العائلة التي كانت تسكن فيه ولا بْدَ من امتلاك الإرادة للقيام بذلك لا بُّدَ من عمليّات تقنية وبالتالي من الإرادة لا بُدٌ من حساب الزاوية والرجوع إلى المسافة اللازمة وتصويب المدفع وعقف الرقبة للتصويب من دون أيّ سبب (نعم طبعا كان أحد الشباب قد ألقى زجاجة مولوتوف عن السطح. لكنّْ حتى لو لم يفعل كانوا سيقصفون فهذا فعل مجاني وفعل سادي خالص) ؛ هكذا على هذا البيت الذي كانت تسكن فيه فاطمة مع أطفالها الخمسة؛ وكان قد سبق أن قتل ابنها البكر عن كثب عشية القصف، على مدخل البناية المّقابلة قنَاصٌ كان يُراقِبه منذ عدّة أيّام؛ ومن الواضح أنّهم أرادوا أن ينتهوا باجتثاث العائلة أو أيضاً هذه البناية.. على زاوية شريان المدينة؛ شارعي طرابلس وبنغازي: أمضيت وقتاً حتى وجدثٌ هذه البناية بحثت عنها وقتا طويلاً كما أمضيت بعض الوقت لأتأكد من أنها هي البناية التي أعرفها البناية التي قُتِل على مدخلها المُصِوّران في قناة كوراج تيم هيثيرنتون وكريس هوندروس في 20 نيسان/ أبريل؛ يوم موعدي الخيالي مع وزير النفط العٌماني الذي أرسله إِليّ ابن القذّافي ‏ أهُوَ حادث؟ ليس مؤكداً قال لي محسن الجار وهو يحاول أن يُنعش "تِيم" تحت وابل القذائف المتساقطة قبل أن نقله إلى المستشفى! لا ليس أكيداً أبدأ ألح محسن بالقول بنية الُموافق وهو يُريني الثغرة في أسفل واجهة البناية حيث كان "تيم" يتهيّأ لدخولها وأصابته شظايا القذيفة ليس أكيداً بالنسبة له أيضاً كما بالنسبة لشهدائنا ألا تكون إرادة لعينة أشرفت على قتله.

كان يجب في مكان أبعد؛ اهتياج ضمني فظيع لتدمير المقهى المركزي الكبير الكراسي والطاولات المتفحّمة؛ ومعدن معقوف وبلاستيك مُنصهر وصندوق جوك والموزّع الآلي المنفجرّين؛ هذا المكان من الألفة والفرح هذا الفضاء من الحرية وهو أحد الأماكن النادرة كما قال لنا ابن سُليمان التي كان يتمكن الشباب من الاجتماع فيها ويتمازحون ويحلمون بمستقبلٍ أفضل من دون القذّافيِ وهذا ما لم يُغتفر لم والآن هذا الصرح الجنائزي ضريح لشبيبة فقيدة وأنشودة لأحلامها الذبيحة، صلاة على روح أحلامها الممنوعة.

ومحطة الكهرباء المركزية في المدينة رأيتها مُحطّمة هي أيضاً قُصفْت حتى أتى بعد الموت حريق خرّانات البترول التي تُغذَي المولّدات إذ بقيت النار مُشتعلة فيها طيلة ثمانية أيَام ولا شيء كان يُمكن؛ أو يوقف النيران ولا سلسلة التفجيرات التي تُسَبّبها وخيّمت على المدينة سحب من الدخان أياماً ولياليّ وأحياناً حجبت الشمس في بعض الأماكن وفي الليل الذي توقّفت فيه الحرائق انطفأت آخر أضواء المدينة ووجد أهل مصراتة أنفسهم في العتمة وغرقت المدينة في الظلّام. وفي مكان هذا المصنع الرائع وساحته الذين كانوا يعتزُون بها اعتزاز الباريسيين ببرج ايفل رُكام من الحديد المعقوف ودعامات الفولاذ المُنصهرة المُعلّقة بسلك؛ وصفائح مُتفحّمة ومُتكمشة وأنابيب مفغورة وصفائح معدنية مُجْعّدة عثرنا عليها حين خمدت ألسنة اللّهب وتحوّلت إلى أكورديون وأسلاك عالقة في الفراغ شبيهة بعنقود زهر أو مُتشابكة كمعكرونة رفيعة عملاقة وفي أعلى المبنى في طرف السّطح الذي بقي لكنّ ألسنة اللهب شاطته إلى حدٌّ تحسّبه إفريز الذهب في قمّة معبد أزتيكي.

رأيتُ مدنا مُهدّمة، رأيتٌ هوامبو في أنغولا وأببي في جنوب السودان، عشت غرق سراييفو البطيء، مررتٌ بفوكوفار في شهر أيار/ مايو عام 1992 بعد عدة أشهر من عملية إفراغها على يد الميليشيات الصربية شارعاً شارعاً وبناية بناية من سكانها ‏ لم يبقّ فيها إلا بعض الكلاب. رأيت هذه المدن كلّها وغيرها أيضاً وفي كل مرّة قلت لنفسي "هنا القمّة"؛ فما سبق أن ذهب مُشعلو الحرائق أبداً إلى أبعد من هذا الحدّ في تعمٌّد التخريب وهوّس التدمير ولم يتّسِع أبداً بمثل هذا الاتساع نوعٌ آخر من الجريمة جريمة إبادة المدّن إصابة روح المدن وهندستها. لكنْ لا كان الأسوأ قادماً، إِنّه هنا اليوم تحت ناظري، فحين كنت أمشي في الشارع المتعامد مع شارع طرابلس رأيتٌ على أنوار سيارات الدورية الأربع التي تُضيء المشهد كديكور في مسرحية رديئة سلسلة أخرى من المباني المحروقة التي تحوّلت إلى لا شيء أو عادت إلى حالة «كومة حجارة» ولاحظتٌ هذا المنزل المنسوف وكأنه مضغوط بمكبس والمنزل الثاني الذي لم يبقّ منه سوى سلَّمُه (وكلّ شيء حوله مُنهار) أو المنزل الآخر مُقابله الذي ما يزال قائما غير أن واجهته مُخرّقة بثقوب الرصاص الذي يُحتمل أن يكون من قد أطلقه تعيّن عليه أن ينتظر أياماً وليالي؛ ولياليّ وأياما وينقضّ ليقتل واحداً واحدآ قتلا ممنْهَجَا هؤلاء الموتى المطلوبين على القائمة (لمسة؛ كما قال عبد الله حارس المتحف الارتجالي حيث أرانا على مدخل بيته اُلمهِدَّم؛ الذخيرة من كل القياسات؛ من العاديّة 712 حتى قذائف الدبّابات الضخمة التي لم تنفجر في رأي بعضهم) ولا بُدَ أنه حين أنهى مهمّته استمر في إطلاق الرصاص (قال خليفة عزواوي رئيس مجلس المدينة الذي التحق بنا في منتصّف النهار: لم نعُد قادرين على إيقافه وكأنّه قناص محترف مهووس وربمّا كان مجنونا، مجنون تحديدا وكاد سكان البناية الذين انقضّ عليهم يصيرون مجانين فلماذا لا يُصيبه الجنون المُحيط هو أيضاً؟). ‏ قلت لنفسي بعد أن لاحظتٌ ذلك كله وأخذت في حُسباني هذه المتعة الخالصة في القتّل المتعة الخالصة في التكسير: "هناء في مصراتة بلغ هَوْلُ إبادة المدُن ذُروته. أجل إبادة المدن، هذه الكلمة التي ابتدعها بوغدان بوغدوقيتش عٌمدة بلغراد السابق خلال حرب البوسنة، هذا المصطلح؛ على غرار المصطلح الآخر الإبادة الجماعية يفترض القصّد والنيّة المبيتة والبرنامج، هذا هو الذي كان لا بد أن يحصل كي تُشَقّ المدينة بذلك إلى شِقَّينَ وتُقرض ونبقُرها وننتوي بعد بقر بطنها إفراغ أحشائها منهجياً، لم يكن ممكِناً هنا في مصراطة تصوّر هذه اللحظة في إفراغ الأحشاء؛ وإبادة مدينة متمرّدة وتفريغها بل في مكانٍ أعلى أعلى بكثير في تلك المدينة التي تجرّأ هذا الشارع أن يحمل اسمها ربما تحت خيمة هذا «القائد» الذي كصّريبي سراييفو كرادوفان كرافيتش الذي أطلق الرصاص على الأطباء النفسيين، أمر بإطلاق الرصاص على المدرسة التي كان تلميذاً فيها أو على قصر المؤتمرات حيث كان يأتي ليُلقي خطاباته. فهل يبقى لديّ من شك في إبادة المدن المّنسّقة التي لا بُدَ أنه رفعها عندما أراني موظّف في البلدية خائف وهو آخر الأوفياء لوظيفته نوع المتحف الذي ارتجل حيث علّق على الجدران في ُحجرة من مبنى البلدية المهدّم؛ نجت بأعجوبة من القصف لكن لا يُمكن دخولهًا إلا بإطلاق سيل من الأنقاض والغبار ما يُشبه كنزاً صُوّر شهداء الحيّ با فيها صور الُمصوّرَين الأنجلوسكسونيّين اللذين قتلا في 20 نيسان/ أبريل؛ وحوالي مائة جواز سفر لنيجيريين وماليّين وتشاديّين قتلهم الثوار أو أسروهم، وأوراق نقدية مُزيّفة من فئة مائة دولار التي دفعها لهم القذَّافي ووسط ذلك كله قطعة ورق مُصفْرّة رسميّة مع أنَها مكتوبة ومرسومة باليد حيث نكتشف خطة دخول المدينة عَبْر شارع طرابلس ومحاصرتها يا له من اعتراف!

الأحد 29 أيّار/مايو (كيف دمروا الدبّابات)

الشيء الثاني الذي يجب أن أراه كي أصدّقه هو ما شاهدته من إقدام المدينة غير معقول ومن روح مُقاومتها.

هنا حيث توجد سلطة توحد مقاومة هذا ما كان يقال في شبابي مع ميشيل فوكووآخرين، حسنا وأنا سأقول اليوم هنا حيث يوجد فيض السلطة، يوجد فيض الُّمقاومة ‏ وحتى ما هو أفضل من المقاومة، لأن سكان مصراتة غير المكتفين بالمقاومة وبعدّم ترك مدينتهم، وبالصمود استطاعوا أن يصدّوا المهاجمين ويرغموا الدبّابات على التراجّع ويطردوها من قلب مدينتهم. أين؟ لا أعرف تماماً. لكنّ كل ما أعرف هو أن بإمكاننا هذه الليلة، الليلة الثانية بمرافقة الموكب الصغير الذي وضعه المجلس البلدي الانتقالي تحت تصرفنا قائلاً لنا إنّ المدينة «مُنظّفة» لكن قد يحصل كل شيء وأنَّ أمننا يقع على عاتقه بإمكاننا أن نتجرّل من دون أن تُطلق النار علينا في أغلب شوارع المدينة الخالية تقريباً لا وجود لأي إنسان بل هناك بعض القطط وأحياناً بعض الجرذان؛ وعلى بعض الحيطان بُقع الدم الجاف نفسها التي كانت في شهر آذار/ مارس بعد البيضاء قُرب مطار لبرق حيث كان القرويّون أعادوا تنظيم معركتهم ضدّ اُلمرتزقة ‏ باستثناء أن بقع الدم هنا تبدو تحت أضواء مصابيح سيارتنا فاتحة لونها وردي.

قاومت وارسو لكنّها انتهت بالسقوط. المدّن الإسبانية قاومت وبعضها قاومَ طويلاً لكن جاءت الساعة التي كان لا بُدَ لها أن تُلقي سلاحها بعد حرب مملّة.. سراييفو صمدتُ، صمدت حتى النهاية غير أنْ الدبّابات لم تكن في المدينة بل في لوكافيكا مع القنّاصة, على المرتفعات التي منها يجعلونها تحت نيرأنهم.

باريس قاتلت وببطولة ضدّ الدبّابات الألمانية التي كانت في الجدران ‏ لكن كان لا بْدَ من قوّة خارجية، الجنرال لوكليره والكتيبة المدرّعة كي تأتي لنجدة الباريسيين وإجلاء المحتل.

أمّا هنا في مصراتة فالدبّابات في قلب المدينة. كانت على مداخل المباني، على مقرّبة من موارد الماء حيث كان الأهالي يأتون للتزود به، وحيث كانت تنتظر حتى يكثر عددهم كي تقصفهم. والحال أن المواطنين هم الذين جابهوها، وهم الذين جعلوها تتراجع؛ واحدة واحدة؛ بأيدٍ عارية تقريباً، وهم الذين نجحوا في تدميرها إذ هاجموها بإلقاء قنابل على أبراجها كما فعلوا هنا على هذه الدبّابة التي تُحاصر الشارع الموازي لشارع بنغازي حيث لاحظنا وجود ظنبوب ساق بشرية محروق حديثاً ورٌبّما ظنبوين، بقايا مُتفحّمة من إنسان.

الناتو ساعد طبعاً. كان له حسابه مع آلات الموت التي موّتّها، فطيّاراته هي التي دمرت أربع مصفّحات ضخمة كانت مخبأة في سوق المدينة الكبير، غير أن الدبّابات التي تمركزت قُرب الجامع وتلك التي وّضِعت على مدخل المستشفى وحتى في داخله كان تدميرها أصعب، وكانت الأكثر تبديدا فدمّرها المواطنون ببسالتهم وبزجاجات المولوتوف التي ألقوها في فُوهات المدافع وبقذائفهم RPG7 التي أطلقوها عن قُرْب مُلتصقين بها تقريبا جسّداً بجسّد مع الآلة رقصاً مع الوحش الفولاذي وبفضل خبثهم أيضاً ومكرهم غير المعقول.

أعجوبة مهارة الطالب والمهندس أو العسكري المتقاعد ولست أدري من وجد هذه الفكرة؛ لأن ملمّح هذه العبقرية سوف يبقى إلى الأبد من دون مؤلّف: السجاجيد المشرّبة بالزيت التي يأتون بها ليلا يستفيدون من الظّلمة ويخدعون الحرّاس ويضعونها أمام الجنازير حتى لا تستجيب حين يُقلِع سائق الدبابة "تتزحلق" فتصير مجنونة وفي الوقت نفسه هدفاً لمستهدفي الدبابات.

ملمح العبقريّة الآخر بما أنني بصدد الموضوع الذي سيظفر بحظ أن أحداً لن يعرف عنه شيئاً أبداً؛ ولا هو أيضا ولا من أيّ دماغ خصب خرج يرتكز الملمح على أن الثوار حين لا تتوفر لهم التغطيّة الجويّة والناتو ليس موجوداً لتأمينها لهم أو حين تكون قوّاتهم أضعف من أن تصمد على جبهة مما يجعل القذّافي يستغل الوضع ليتقدم يُرسلون عبر مُكبرات الصوت في الجوامع بدل الأذان هدير طيّارات مُسجّل وسجاجيد خادعة بالتناوب مع سجاجيد الزيت وغيوم صوتية تبعث على الاعتقاد بأنّ طيّارات التحاف ستصل توآ وتجعلهم أحياناً يكسبون وقتاً ثميناً.

ثم اكتشفتٌ؛ في الجزء الغربي من المدينة سرادق أقيمت فيها على ضوء مصابيح لا يعلّم إلا الله كيف تنار أو تُنقَل إنارتها من أقواها إلى أضعفها مسابك حديد مُرتجلة ومشاغل صناعية بل استرداد أسلحة الثوّار وتصليحها. أسلحة مستولى عليها من العدو ومُعدَّلة، بنادق رصاص قديمة تركب عليها سبطانات من عِيار 12 ملم. مجموعة من القذائف مُرتبة على دبّابة أو على طيّارة تفكك أجزاؤها كي تُعالّج؛ على آلات مُشحّمة وبوساطة جهاز لحام هائل من دون نظارات واقية وطقطقاته تهزهز الأرض تحت أقدامنا، ثم تركب على رشاشات هي نفسها مُركبة على شاحنات بيك آب. والعمل على شاحنات البك ‏ آب! هذه الشاحنات الصغيرة التي صُفحَت مُقدّماتها بصفائح مزدوجة من السّبك وضع بينها رمل أو اسمنت فتتخِذ أشكال كباش مُخيفة. .. أو بالعكس مُصفحة من الخلف: الصفيحة نصف الدائرية التي لحمت بطريقة تجعل المقاتلين قادرين على الوقوف على سُلَّم صغير مُصمّم تجعل الآلة شبيهة حينئذٍ بدبّابة على شكل دبابة بن هور... أو مُصفّحة أيضاً على الجوانب

حيث تُلحّم صفائح الفولاذ الُمسقَى هذه المرّة على الرفراف كما لو أنّ الآلة مزوّدة بدروع عملاقة يُمِكِن أن يحتمي خلفها في وضع القرفصة راميان أو ثلاثة وأحياناً أربعة رُماة، وعندما يُصبحون في مرمى الهدّف ينبثقون كالشياطين ويخرجون مكشوفين لكن في آخر ثانية تماماً بما يكفي لمهاجمة الدبابة الْمستهدّفة أو محاصرة الموقع المُعادي... أو أيضاً هذه الشاحنة الصغيرة الزرقاء التي حسبتها في البداية شاحنة موزّع الخضار الذي نقلنا في أوّل زيارة قُمنا بها لليبيا من الحدود المصرية وأوصلنا حتى طبرق، مُصفّحة من جهاتها الأربع ومحُوّلة إلى قلعة مُتحرّكة مُبطنة بدبّابة هجوم مُرعبة، التقطت لها صورةٌ من أجل رئيس شركة بانهار!

كنت قد رأيت مع «جيل» مصنعاً وحشياً من هذا النوع في البوسنة الوسطى في كونيك وأتذكّر أنه يعود خلال تلك اللحظة ليس إلى التاريخ الذي رأيته فيه بل إلى ذاك الذي تصوّره بيغوفيتش الذي صار على مرّ الشهور أمير حرب ممتاز وعودته بعد أن جعل من شعب من الضحايا جيشاً من الُمقاتلين المْتيقَظين والمجهزين. حسنا وفي مصراتة ينتابني الشعور نفسه. باستثناء أنْني لم أعرف لهذا الشعور مثيلاً في هذا الانتصار على عدوٌ كان، وأكرر كان في الجدران لهذه الحملة خطوة خطوة، زنقة زئقة؛ على فصيلة محُارية استغرقت أربعين يوماً للانسحاب، لهذا الزحف الظافر لكن المتواضع الذي كان يُقَوّي؛ على كل مُفترّق طرّق محرر مكاسبّه برفع سُوْرِ من الشاحنات المقلوبة بحفاراتٍ أو بحافلاتٍ مملوءة  بالرمل والحطام من كل نوع الذي يسدّ منفذ آخر تقدّم وهي كالأسوار الداخلية للمدينة.

وباستثناء أنني أستنتج منها حقيقة تفقأ العيون، هؤلاء الرجال الذين عاشوا محنة النار وتخطّوها هؤلاء المقاتلون الفولاذيون؛ في عيونهم بريق الإنهاك, لكنهم قاوموا العدو ومع أسلحتهم البدائية جعلوه يتراجع، هؤلاء الُمقاتلون انتهوا بتشكيل جيش فعلّي مُنظّم ومُتمرّس في حرب الشوارع؛ هم أفضل مُحَاربي ليبيا الحّرّة؛ وهم الذين ينبغي التعويل عليهم بعد يوم النصر.

على جبهة برقة رأيتُ شُجعاناً. أثار إعجابي شبابٌ بواسل جاهزون لركوب كل الأخطار للدفاع عن روح بنغازي وأهلها الأحياء. لكنّ الطيّارات هي التي أنقذت بنغازي قبل أن تغزوها الدبّابات، إذ أتت من فرنسا وبريطانيا ومنعت حمّام الدم، بينما هنا في مصراتة كانت الدبّابات قد دخلت، والمواطنون هم الذين قاموا بعمل الطيّارات، وبالتصدّي لها مُباشرة جسّداً بجسّد، حتى أجبروها على الانسحاب.

فمّن سوف يزحف على طرابلس حين يحين الموعد المواتي! وحين ستفتح المروحيّات الفرنسية الطريق، من سوف يوجّه الضربة القاضية إلى النظام المقيت؟ هو ذا، هذا واضح، مُحرّرو مصراتة.

الأحد 29 أيار/مايو خاتمة (على جبهة عبد الرؤوف)

أين المروحيّات؟ الرجل الذي يطرح علي هذا السؤال هو أحد قادة الخط الأول في منطقة عبد الرؤوف التي تقع على مسافة 15 كم من مصراتة غير بعيدة عن مواقع القذَّافي.

كرّر قائلاً: أين المروحيّات ونحن تحت خيمة القيادة المصنوعة من غطاء ممدود على أربع عصي حيث استقبلّنا في قلب الصحراء كسلطان شابٌ بلحيته السوداء وشعره كث كثيف متأهّب الأعصاب. عيناه رماديّتان وأضاف: نحن مُمتنُون من ساركوزي ولن ننسى أبداً ما فعله وما فعلته فرنسا من أجلنا، لكنّه وعدّنا بمروحيّات. والسؤال الذي يطرحه الجميع هنا: أين المروحيّات؟ ولما شرحت له أنّها في طريقها إليهم وأن مروحية النمر الفرنسية ستصل ومروحيّات الأباتشي كذلك لكن ينبغي إعطاؤهم الوقت، وأنّ هذا كله آلات ثقيلة مما يتوجب فوق ذلك تحضير الأمور كما ينبغي فتخيّلوا أن نتسرّع وافرضوا أننا فقدنا مروحيّة افرضوا أن مروحية واحدة تسقط مع طاقمها والآراء العامة شرسة أعني أنّها تتغيّر بشراسة وهي تتغيّر أيضاً رأساً على عقّب وتنقلِب كرأي رجل واحد ضدّ مبدأ التدخل فاختصر وقادنا إلى الخارج: "أعتقد أنكم لم تفهموا."

مرّت نقّالة وكوكبة خيام يحملها ثلاثة شباب واحد من الأمام واثنان من الخلف مع جريح ملتو على نفسه يئنّ؛ لمحت رأسه الملفوف بضمادة ضخمة ووجهه المتورّم.

فقط هذا الصباح؛ سقط قتيل وأسعفنا أحد عشر جريحاً، ومع هذا الجريح الذي ترونه يرتفع عددهم إلى اثني عشر، والحال أننا نفتقر إلى كل شيء...

وصل عقب النقّالة شابان شعرهما أشعث مليء بالرمل وقميصاهما مُعفّران بالتراب يحمل كلّ منهما بطرف يده بندقية الكلاشنكوف‏ بقِيا جانبا زائغي النظرات شاحبّي الوجوه؛ لا يجرؤان على مُقاطعة الرجل ذي العينين الرماديّتين.

قال هذا الرجل وهو بالكاد ينظر صوبهما ليس لدينا أسلحة ثقيلة ولا نصف ثقيلة.

وهذا الجريح الذي مرّ قبل قليل... ستقولون لي لا علاقة له بذلك وكان سيّصاب على أيّة حال، لكنّ رشّاشه تعطّل فجأة... فهل تجدون هذا طبيعياً؟

التفت صوب الشابّين الذين لم ينظر إليهما وقال مَّفخماً نبرته؛ كأنه يوجّه إليهما الكلام: "هل تجدان هذا طبيعياً؟"

لم يجب الشابان اللذان لا يفهمان الإنجليزية. نظراتهما ما تزال ساهمة: قليلة الثبات. علامة انفعال واحدة تلوح على أصغرهما سناً تُفاحة آدم البارزة جدأً تصعد وتنزل بسرعة كبيرة.

استأنف الرجل كلامه متوجّهاً إلينا من جديد:«الحقيقة أنَّ كتائب القذافي تستطيع أن تهاجمنا عندما تُقرّر وتأخذنا عل حين غرة؛ لأننا لا نملك وخصوصاً في الليل أية وسيلة للرؤية عن بُعد. تعالوا شاهدوا...

قطع حديثه المتصل لكي يستعلم طبعا باللغة العربية ومنصور ترجم لي كالعادة عن سبب مجيء الشابّين إليه، جاءا من الجبهة حيث ذهب أحد رفاقهم في مهمة استطلاع ول يعٌد، فهل سُّجِن؟ أم أصيب بجروح وحوصر بين خطوط التماسٌ؟ قُتِل؟ إنها التاسعة صباحاً؛ ورئيس المجموعة يقول علينا أن ننتظر منتصف فترة العصر كي نتبصّر أمره واحتمال الانطلاق للبحث عنه. قادنا باتجاه تل رملي على بُعد مائة متر بعد حائط الاسمنت المعد ليكون حاجزاً ضدٌ هجوم الدبّابات. التحقنا هناك بحوالى عشرة رجال يبدو أنهم تجمّعوا على قمة كومة الرمل حول منظار مزدوج مثبّت على قوائم؛ مُركُزِين صامتين مُنشْدَّين بمجامع حواسّهم نحو نقطة غير مرئية على الأفق وبالكاد يُعيرون انتباههم لرئيسهم الذي يصل.

أمرني بنفس حركة الساقزلي في اجدابيا وهو يُبعِد الجندي الذي كان يثبت المنظار على الأفق. بالقول: انظر ماذا ترى؟

لا أعرف. كثبان... أشجار..

تمام قال بلهجة اُلمنتصِر! الدليل هنا! أنت ترى عناصر مُتقدّمة من جيش القذّافي.  هم على مسافة عدّة كيلومترات، نحن في وضّح النهار ولانراهم. تخيّلوا الليل إذاً؟ بإمكانهم أن يكونوا على مسافة 500 متر منا ولن نراهم يقتربون. أين المروحيّات؟ أين مناظير الرؤية الليلية التي تعمل بالأشعة الحمراء والتي وعدت بها فرنسا؟

التفت إلى سليمان الذي كان يستعد لإجابته؛ وليُزايد عليه من دون شكٌ. لكنْ سمعنا صوت انفجار. ثم صوتٌ انفجار ثانِ بعيد غير أنه قويّ أطار على قمّة تل آخر تُرى بالمنظار شيئا يشبه الفزاعة.

قال وهو يُبعِدني ويأخذ مكاناً بدوره وراء عدسّتي المنظار: "اتركوني أرَ".

ثم توجّه إلى المجموعة بعد أن أعاد المنظار إلى الجندي الذي أعطاني إِيّاه وحينئذٍ فقط لاحظت احمرار عينيه لكثرة حملقته بالمنظار: "أربعة كيلومترات، قصف العدو على مسافة أقل من أربعة كيلومترات، يجب عدّم التحرّك، لكنّ عبدول كان على حقّ".

ثم توجّه إليّ بلهجة مُربي بينه اتخذ الرجال مواقعهم السابقة ثلاثة من بينهم تحت المنظار والآخرون جلسوا عل الرّمل.

"عبدول مزارع القرية المجاورة، صادرت مزرعّته، أمس صباحاً إحدى وحدات مرتزقة القذّافي، توفر الوقت الكافي لزوجته وأطفاله الثلاثة كي يهربوا بفضل الله. لكنه بقيّ لأنه ‏لم يشأ أن يترك مواشيه للعساكر، وهذا لم ينفعه في شيء لأنهم قتلوها طبعاً. تك تك... تك تك..." وقام بحركة إطلاق الرصاص بالرشاش.

"أطلقوا على بطونها ورؤوسها وبدا أن الدم كان يتطاير من كل مكان. حتى إنَّ الحيوانات الأكثر ضخامة طارت في الهواء..." رسم بشفتّيه علامة الاشمئزاز.

"أوقفوه خلال الليل. ثم في الصباح، لكنّه استغل فرصة هجومهم، صباح اليوم التالي على بقرة لم يجدوها عشيّة أمس فاختبأً وهرب وركض حتى موقعنا الْمتقدّم".

أشار لنا على مسافة مائتي متر على يميننا إلى كثيب آخر وعلى الكثيب سطح من خشب ككوخ من القشٌ لم أنتبه إليه.

"وهنا شرح لعساكرنا ما رآه. كان المرتزقة تشاديين ونيجيريين وقائد جزائري هم محترفو حرب شرحوا أمامه؛ بالعربية أنهم كانوا ينتظرون الإيعاز بالهجوم، رُبَّما هذا المساء، ورُبما غداً، أي اليوم".

اتخذ هيئة اشمئزاز جديدة. فبصق على الأرض خليطاً من الازدراء والتطيّر.

"ما أردتٌ أن أقول لكم هو أنّهم إِنْ هاجمونا فليس لدينا أَيّة وسيلة للرد. عندنا على مسافة كيلو متر من هنا قليل من الصواريخ الُمضادّة للدبابات، وألغام مزروعة حيث يجب، وخنادق حفرناها سوف تؤخر تقدّم الْمصفحات، لكن على افتراض أنَّ القذّافي قرّر هجوماً فعلياً، سوف نوجعه ولكننا لسنا مُجَهزين بما يجعله يتراجع".

انفجرت قنبلة ثالثة أقل قوّة تناهى إلينا صوت انفجارها كأنه خفقان أجنحة. بقيّ الرجال جالسين يترصّدون يُراقبون الرجل ذا العينين الرماديّتين لكننا نشعر أنهم لن

يتحرّكوا ولن يُفَجّروا ما داموا لم يتلقّوا الأوامر على خلاف الفوضى المرحة في البريقة خلال شهر آذار/ مارس وحتى في اجدابيا الشهر الماضي. .

"والآن عندي سؤال لك يا سيّد برنار..."

قلت له: نعم وسمعي مشدود صوب الكثبان؛ الأكثر قُرباً هذه المرّة كثيب الكوخ.

حيث بدالي أنني أسمع إطلاق نار.

"بما أنك سفير ساركوزي..."

"لست سفير ساركوزي أنا كاتب".

هز رأسه كما لو أنني كنت أزعجه بتمييزي الدقيق ما هو خارج الموضوع.

"أريد أن أحملك رسالة إليه."

أهملت الدخول في التفاصيل.

"أستطيع إذا استقبلني؛ أن أحاول إيصالها إليه."

"حسنا هي ذي."..

التقط عن الرمل أمامه ظرف طلقة فارغ صغير للغاية؛ قطره نصف سنتمتر وطوله ثلاث سنتمترات.

قال: هذا هو هي الرسالة، هذا ما أريد أن تُسلّمه إياه، ظرف طلقة سقط من كلاشنكوف أحد شباب الثورة الليبية لكن يجب أن تُضيف...

أشار بيديه كما لو أنه يقوم بعملية حسابية، ثمّ رفع ذراعيه المتقاطعين على شكل صليب؛ نحو السماء وولى وجهه في الاتجاه نفسه، بشكل استعراضي يظهر عليه التعبير عن التوسّل والغضب.

"يجب أن تُضيف أنْ الأسلحة التي يستخدمها ضدّنا ضخمة مثل هذه... ألف مرّة أضخم من حجم ما أعطيُك إيّاه توَاً... ولهذا السبب المروحيّات وحدها تستطيع أن تُنقذنا..."

مضت ساعتان قمنا باستغلالها بمُقابلته ومقابلة اثنين من ضُبَاطه برتبة مُلازِم

أوّل،الجبهة هادئة الآن وتشكلت جماعة أخرى في أعلى تلّ آخر مكشوف وراءنا. إنهم حوالي عشرين مُقاتلا يُغنُون بأعلى صوتهم وهم يُلوّحون بعلّمين: علّم ليبي مثقوب في عدّة مواضع وعلّم فرنسي.

قال القائد ذو العينين الرماديتين: "جاءت اللحظة المواتية تعالوا يجب أن تلتقطوا صورة من أجل السيّد ساركوزي".

صعدنا على هذا التل الجديد معه ومع علي وسليمان ومنصور الذي تسلّق بصعوبة وهو يلهث. كان الفتيان يصرخون بصوت راح يعلو أكثر "ليبيا حُرّة وشكراً فرنسا".'

قال لي وهو يضع العلّم الفرنسي بين يديّ ويتراجع ليضمن جودة التأثير: «هي ذي الصورة".

قلتُ: لا هم يحملون العلّم الفرنسي وأنا أحمل العلّم الليبي. هذا أفضل.

- حسّنا لكنْ. من فضلك؛ احكِ لساركوزي ما رأيته هنا واطرح عليه سؤالي: أين

المروحيّات؟ أين المروحيات؟ فهي وحدها القادرة على تغيير قناعة القذَّافي بالتقدّم وجعله يفكٌ قبضتّه عن خنّاق مصراتة.

بعد أن التقطنا صورة جماعية نزلنا عن التلّ. دعُونا إلى أكل اللحم المشوي الذي كان علينا للأسف أن نفوّته. وليست الشهية هي التي تنقصنا لكن أشياء كثيرة كان يجب أن نراها أيضاً وأن نفعلها. سوف نتناول طعام الغداء في الفندق في حساء يعوم فيه بعض فتات اللحم وصحن رُزٌ وتفاحة. وسوف نمضي لالتقاط صُوّر الشوارع المسدودة بركام الدمار.

الاثنين 30 أيار/مايو (عطل كبير في عرض البحر مُقابل ليبيا)

أثناء العودة مع طلوع النهار وعلى نفس قارب الذهاب وكما يقتضي الأمر كانت عودة مجنونة، أبحرنا طيلة الليل. ولما وصلنا إلى هذه النقطة في عرض البحر وفي منتصف المسافة بين الشواطئ الليبية والمالطيّة: تعطل بنا القارب.

استعدّينا لخوض معركة على متّن القارب. كنا جميعاً في قعر القارب؛ لا على ظهره؛ وذلك لنرى مصدر المشكلة، القبطان ومُساعده، عامل الصيانة ببزّته البرتقالية، فاتر عيناه ذابلتان بدا لي أنّه كان نائماً خلال رحلة الذهاب على ظهر المركب فتساءلت ماذا يُمكن أن يُفيدنا، ومُساعده الأسود مفتول الذراعين، والأسود الآخر الذي يبدو لي أنه عين ليقوم بأعمال التنظيف لكنّه كان أوّل من نزل من فتحة ظهر المركب إلى أعماقه. كلهم هنا الآن كلّهم يحاولون أن يفهموا يدفعون غطاء الفتحة كلّ بدوره وينزل كما فعل الأسود الثاني من أجل أن يصل سلكاً مقطوعاً ويُنظّف واحدة من المصافي ويفتح صمّاماً. يتصبّب العرّق منهم جميعاً حين يصعدون, وتتلطخ أيديهم ووجوههم وشعرهم أيضاً بالشحم الأسود. كذلك يتناوبون جميعاً في كل مرّة يعتقدون أنهم وجدوا العطل لينفخوا بأفواههم أنبوباً بلاستيكياً وسخاً لضخ البنزين ومحاولة تدوير أحد المُحرّكين. إنها أخوّة السّفر والمساواة أمام العطل إذ لم يعّد هناك أسود مفتول الذراعَين ولا رجل بصدرية برتقالية، بل فقط رفاق يُبحرون معاً على مركب تلعب به بعد أن تعطّل تيّارات الموج وتحمله قوّتها المقلقة التي لا توجد قوة آلية تعاكسها وفوق الرؤوس تحَوّم أسراب من الطيور البيضاء؛ تبدو أكثر هزالا وإثارة للشفقة..

قال الرجل الذي كنت أحسب أنه عين للتنظيف على سبيل المزاح: "نحن نجنح باتجاه طرابلس." ففكر القبطان باس وهو يربت على كفه برفق: "ذلك لأنْ معك حق!"ووجه إلينا بصوتٍ مزّقه ضجيجٌ ترنّح المركب:

ليوفر لنا هذا النظام ساعة إضافية وسيكون أمامنا أحد حلَّين: توجيه نداء النجدة كي يُرسلوا لنا قطرةً تُعيدنا إلى مالطة أو نعود إلى طرابلس حيث سوف يحضْر لنا صديقكم القذّافي لجنة استقبال بالمدفعية.

تقبّل بشير كلامه باعتدال أمّا الصديقان الليبيّان المُخْتلِفان عن الصديقين اللذين رافقانا في رحلة الذهاب اللذّين قبل القبطان بأن يُسافرا معنا ولاحظنا حين صعدا المركب أنمها لا يحوزان أوراقاً صالحة للسفر فشعرا بالامتعاض الواضح.

لكن في الموعد الْمحَدّد بعد ساعة تماماً نزل الأسود مفتول الذراعين مرّة أخيرة إلى أعماق المركب، وصعد منها برأس عرّاف وأتى أخيرا بالطالع الحسّن؛ فبدأنا نسمع سُعالاً صادراً من القاع تلاه بُصاقٌ بدا أنه يُريد أن يتوقف ويموت، لكن لا استمرٌ وقاوم وصار مُنتظماً وكاد يحجب صخَّبٍ البحر.

كل من كان على ظهر المركب التقط أنفاسّه وأصاخ الجميع: من حول القبطان سمعهم باتجاه صوت المحرٌّك. نعم! إِنّه أحد المحرّكين الذي دار بعد أن توصّل الأسود مفتول الذراعَين إلى إصلاح صّمامه. ترك واحد نعم والسرعة مُنخفضة: هذا صحيح ورائحة المازوت الرهيبة التي تنتشر على الجسر كلما هبت الريح لكنْ هذا أفضل من العودة إلى طرابلس، وها أنتم تستأنفون الإبحار كيفما كان وسبع عُقد غير كافية لامتصاص ترنح المركب ولكن هيا نبحر على الأقل أما أثار والأسود مفتول الذراعين فذهبا إلى قاع المركب ليسترقا غفوة بينما بقي الأسود الثاني في المقدّمة ليُراقب البحر وظل القبطان في القمريّة وعيناه نصف: مُغمَضْتَينَ يتظاهر بالنوم؛ وفي الحقيقة هذه مُجرْد خدعة وأنا على الجسر أجلس على زورق نجاة الجسر الخلفي وحاسوبي على ركبتيٌ أستغل آخر خيوط الشمس محاولا أن أسجّل انطباعاتي عن مصراتة قبل غياب الشمس.

يتواصل