ترحيل مُحرري مصراتة
اتصلتٌ بمالك السفينة بشير صبّاح كي أخيره.ثم اتصلتٌ بمنصور وعلي وبجيل طبعاً كما اتصلتٌ بمارك ويان بّاس الكابتن المالطي الذي زوج ابنته أخيراً ولكنه
يتميّز بأنه يعرف الطريق. شرعتٌ في انطلاق العمليّة.
الأربعاء 8 حزيران (كلاوزفيتش)
قال كلاوزفيتش في كتابه عن الحرب مُتحدّثاً عن نابليون: "غالباً ما يُعَدّ طريق الخلاص الوحيد مجازفة و بالتالي قمّة الحذّر."
الخميس 9 حزيران (عاش كلاوزفيتش)
بدأ سريان المشروع بالتأكيد أصدقاؤنا في وزارة الخارجية بوجه خاص يطلبون النجدة ويشعلون مضادات الحرائق. ودائماً بحسب كلاوزفيتش: "أعلى درجات المخاطر تتوافق مع أعلى درجات الحكمة".
لم أعد أعتقد أنّ الرئيس سيتخلى عني أنا واثق وخصوصاً أنْ حدثاً تاريخياً حصل في نفس الوقت: عبد الله واد رئيس السينغال توقف في بنغازي وهو أوّل رئيس دولة يزور معقل الثوّار هذه المرة هي بحق بداية نهاية القذّافي.
الجمعة 10 حزيران (رهاني على مصراتة)
وجد جيل منظاراً ليلياً مُزوّداً بأشعة فوق بنفسجية ثمنها 4000 يورو وقد وصل مع علي ذاك الذي لم نعد ندعوه في ما بيننا منذ حرب البوسنة إلا ب «التركي» والذي أنزل بشكل سيئ أسلحة في مقاطعة البوسنة الوسطى، سوف أتركه يفعل ذلك، فأنا لا أفكر إلا بضربة مصراتة التي أزداد ثقة بأنها يمكن أن تغير وجه هذه الحرب.
الاثنين 13 حزيران ( عندما عبر الرئيس عن استعجاله ليستطيع تسليح مصراتة(
باريس خالية. إنّها أوّل موجات القيظ. يان باس لا يستطيع؛ في نهاية المطاف, أن يُعيد العملية.. قضيتٌ نهاري في العراك مع إدارة مرفأ مالطة مع السماسرة. ومُجْهّزِي السفن, محاولا إيجاد قبطان جديد. رن هاتفي:
ألو؟ هنا أمانة سرَ مكتب رئيس الجمهورية، أُمرّر لك الرئيس..
مرّت لحظات. سمعتٌ خلالها سيمفونية برليوز المعهودة الرائعة ومن ثم جاء الصوت الذي غدا أكثر ألفة، إنها المرّة الأولى التي يبدو أنني تجاوزت فيها بعض الرهبة المُعتادة.
-ألو؟ هل رأيت الأمور تتزحزح.
-لا.
- بلى. زد على ذلك أن الأمور تسير نحو الأفضل في الغرب.
-في مصراتة؟
-لا في الجبال. في جبل نفوسة، تلقوا 40 طناً من الأسلحة من الإماراتيين هذه المرّة.
-أسلحة جديدة أخرى؟ بالإضافة إلى الأربعين طناً التي تحدثنا عنها سابقا قدّمها الإماراتيون هذه المرة.
- لا هي الأسلحة نفسها. لكن أضفنا الآن رجالا إماراتيين لتأهيلهم؛ وتدربيهم على ااستعمال الأسلحة؛ وعلى تنظيمهم أيضاً.
- أنا أبقى عند تحليلي جيش مصراتة هو الذي سوف يزحف إلى طرابلس ويطرد القذّافي منها.
-أعرف. دونت ذلك جيدا وأنا بانتظارهم. من جانبنا بدأنا التحرك وأرسلنا المروحيّات.
-رأيت ذلك كما رأوه خاصّة وهم مدينون لفرنسا بجميل أبدي أكثر من أي وقت مضى.
-سوف نغيّر إستراتيجيتنا. لقد اعتاد القذّافي عليها وهو بالتالي يحتمي منها، يجب أن نستعيد عنصر المفاجأة.
-ما المتغيرات؟ منظومة مُقاربة الأجهزة؟ لحظة القصف؟ والارتفاع؟
-نحن بصدد التفكير في ذلك... الارتفاع؛ لا شك في أن الإنكليز يستخدمون مروحيّاتهم كما لو كانت طيّارات عادية... أعتقد أن بإمكاننا ا هبوط إلى مسافة 50 متراً... وهذا يستدعي فقط أن نخرج في الليل فقط، في أحلك حالات الظلام...
-رأيتٌ ذلك في أفغانستان... طيّارات تُحلّقَ على مقربة من الأرض تتلبس تضاريس الوديان تلقي انطباعاً بأنها ستتحطم... ولكن لا... إنَّ طيّارينا استثنائيون...
-حسنا هم الذين سلمناهم طيّارات الميسترال إنهم قادة طيّاراتنا.
أضاف بعد لحظة صمت:
- وبالتالي مصراتة؟
- ذلك أنني فكرت: سأكون سعيداً، سأسعد حقاً لو رأيتهم.
- سوف أفعل كل شيء من أجل ذلك، كل يعمل ما في وسْعه وزيادة.
- أنا بانتظارهم.
نستطيع أن نلوم هذا الرجل على أشياء كثيرة. باستثناء قدرته على التشبّث بأفكاره.
الثلاثاء 14 حزيران (كيف أرسل لي القَذَافي مبعوثاً جديدا)
عودة إلى الخانة الهزلية. في فندق رافائيل أيضاً.
قاعة صفراء؛ في الطابق الأرضي تماماً خلف مكتب الاستقبال هنا حيث حاولت أن أجمع على انفراد عبد الفتاح يونس ورئيس شركة بانهار للآليات الحربية لكي يتحدثا سِرَا عن تسليم المعدات الثقيلة للثوار.
حضّر اللقاء رونيه جيرارد خريج المدرسة العليا والمراسل الحربي. أما الرجل الذي اصطحبني فهو شاب أنيق. يتكلم الإنكليزية بطلاقة وله طريقة غريبة بمناداتي: "سعادتك" في كل لحظة غير أن نظرته بالأحرى واضحة. له هيئة ولد طيّب بكر هو مدير مكتب رئيس الوزراء الليبي بغدادي محمودي وقد وصل من تونس.
-اسمك إذا؟
أخذ حزمة الأوراق الموضوعة أمامي على الطاولة. كتب عليها اسمه, بعناية وبخط جميل ومدها لي.
-هل وصلت منذ مدّة طويلة؟
-وصلتٌ البارحة.
-كيف؟
قال متعجبا وفي صوته بعض اختناق "عبر الطريق البريّ".
طبعاً بسبب منطقة حظرنا الجويٌ. ونتيجة تدمير الناتو لأسطول القذّافي الجوي كان سؤالي عبثياً.
ألح بلهجة مجاملة لكنْي استشعرت نقطة الغضب فيها، "أخذت الطريق حتى الحدود في جربا طيّارة صغيرة إلى تونس العاصمة ثم إلى باريس."
طرحتٌ عدّة أسئلة عبثية بطريقةٍ ما أيضاً: (هل هذه هي أول مرّة تزور باريس؟ في أي فندق تنزل؟ وإلى متى؟) لكنها سمحت لي أن «أنسجم» أمام هذا الموقف غير العادي فأمامي هناء كائن لطيف بشحمه ولحمه. يحتسي كأساً من المياه الغازية هو أحد الذين يمثلون رسمياً هذا النظام المجرم الذي يلعنّه كل العالم وأفترض أنه يكن لي عداء صريحا)
وأدخل في صلب الموضوع. حسناً ما حقيقة الموقف على الأرض؟
أجابني بصوت سلس صوت من لا يريد أن يكشف عن نفسه أولاً: "ما الموقف على الأرض فأنتَ سعادتك. قادم من ليبيا أيضاً..."
-نعم لقد وصلت من مصراتة.
حدّد بالقول: وصلت منها يوم 28 كما لو أنَّ للمعلومة أهميتها؛ كنت هناك يوم 28
-هذا صحيح ولكن هذا اللقاء اليوم...أنت الذي طلبته من صديقي رونيه جيرار، فلماذا؟
بدا عليه التفكير والنظرة المترددة أو المتظاهرة بالتردد لا أستبعد أن يخفي هذا الولد الطيب ممثلا محترفاً.
قال: "معك حق" كما لو أنْ ثواني التردّد تلك سمحت له بالمبادرة.
-أردتٌ أن أراك لأنه حان الوقت لنتكلّم معا أن نجلس حول طاولة وأن نتكلم. قاطعه رونيه جيرار؛ أمير المراسلين الحربيين وأحد أقلام جريدة الفيغارو شارحاً بمهابة تافهة ونبرة تحمل طابع الفيغارو: "سوف تفضي الحرب حتما إلى نهايتها. ومن المهم بمكان أن نتكلم معاً لكي نبدأ بالتحضير للمستقبل بعيداً عن المعارك".
بعد ذلك قال مُوجهاً إلى القليوشي هذه المقارنة الغريبة:
- في فرنسا أيضاً وفي الأشهر الأخيرة من الحرب بدأ الديغوليون وغير الديغوليين ولكن من لم ينخرطوا في التحالف بالتحدٌّث في ما بينهم."
-بالضبط رد القليوشي؛ هناك دولة في طرابلس. هناك إدارة الموظّفون يعملون والناس يديرون أعمالهم؛ مباريات كرة القدم تقام، هناك مياه هذا ما يجب أن نتحدث عنه؛ هل السيد ليفي موافق على ذلك؟
أضحكني هذا الرجل لا أدري بحق حتى الآن كيف قبلت أن أستقبله ولكن فجأة أثار ضحكي ولكن يجب ألا يلحظ ذلك بالطبع.
ولكي لا يُلاحظ ذلك دَسَسْتٌ أنفي في أوراقي على الورقة الأولى حيث كِتب اسمه.
وبدأت أرسم: كما كنت أفعل في المدرسة عندما كنت أضجر حصى مستديرة مُكدّسة جيداً بعضها ضخْم والبعض الآخر صغير يتلاحم في الفراغ بين الحصى الضخمة. تحزّز جميعها باسم القليوشي وقد ذُّهِل وهو يرى اسمه يتلاشى شيئاً فشيئاً في تراص رسمي الصبياني.
انتهيت بالقول: "نعم ولكن نتكلم عن ماذا؟ عن مباريات كرة القدم هذا شيء لطيف ولكن في هذه اللحظات جيشكم يقتل الناس في مصراتة، في زليطن، وفي الزاوية..."
"هذا صحيح" قال بهيئة منافق كبير يرتدي ثوب المتأثر "معك حق لقد سال الدم كثيراً."
نفس الكلمات التي قالها شخص عمان في سان بول الشهر الماضي. لهذه النماذج من الناس وقاحة جهنمية.
-نحن مُتّفقان هذا ما يجب أن نتكلم عنه وقبل ذلك في الموضوع الذي تعرفه وهو الشرط المطلق قبل أن يتكلّم أحدٌّ مع أي أحد.
-لا أعلم قال بنفاق يتزايد شيئاً فشيئاً؟ عن أي موضوع تتكلّم؟
-رحيل القذّافي.. ليس القذّافي فقط بل عائلته أيضاً.
-نعم سعادتك.
قال «نعم سعادتك» بصوت واثق ولكن دون أن يتوصل إلى أن يكبّتٌ ابتسامة مُرّة مؤلمة اللهم إن لم تكن تلك الابتسامة مُنافقة أيضاً.
-وهل أنت موافق على ذلك قلت بقسوة مشاعر أن هنا أيضاً مشهداً مسرحيّا يتكرر؟
جاء دوره ليدس أنفه في أوراقه قلمه الدائر فوق الصفحة كالمروحيّة التي تبحث دون جدوى عن نقطة الهبوط.
وأخيراً أجاب بصوتٍ خفيض والقلم في الهواء "لن نسمي الأشياء بمُسمّياتها وأسمائها من فضلك إن اللبيب من الإشارة يفهم"
لا أدري إذا كنا نفهم على بعضنا إلى هذه الدرجة.
قبل كل شيء. من يعلّم بزيارتك؛ لباريس؟ ومن على دراية بخطوتك اليوم؟
- رئيس الوزراء.
- ومن بعد؟
-فقط رئيس الوزراء.
-هل يجب أن أفهم أنْ القذّافي ليس على علم بالزيارة؟
من جديد دس أنفه في أوراقه؛ صانعاً مُعيداً بإصبعه حركة المروحيّة. وبعد لحظة صمت جديد واضطراب بدا غير مصطنع. قال بصوت أكثر انخفاضاً هذه المرّة: "أعتقد أننا يجب أن نتكلّم واضعين مشكلة العقيد بين قوسين."
- ليكن ولكن كيف نضعها بين قوسين؟ هل لأنك سَتخرجها بعد حين من القوسين في اللحظة القادمة؟ أو لأنّك فهمتٌ بأنّ مستقبل الشعب الليبي سيبنى من دونه؟
-لن نسمي الأشياء بأسمائها..ردد أقول فقط ما يلي: لقد فتحت صفحة تاريخ جديدة لليبيا.
تدّخل جيرار صانيه متوجّهاً إليّ هذه المرّة بموالاة وبدبلوماسية شديدين.
-يجب أن تعلم أن السيد خاطر بحياته بمجيئه معي إلى هذه القاعة.
قضم السيد إصبعه هذه المرّة وأدلى بدلوه: "معه حقٌ إذاً يجب أن نترك بعض المواضيع في الظِل. ماذا بشأن الأيام التي ستّليٍ؟ أنت السبب في هذه الحرب؛ وعليك المساعدة على التفكير في ما سيحدث بعد إحلال السلام؛ لهذا أراد السيّد أن يراك.
عبّر الرجل عن رأيه أيضاً. وقد تجرأ بدوره هذه المرّة بفعل كلمات جيرار ليطرح علي سؤاله بنبرة مختلفة كلياً؛ مُستعيداً بعض السّلطة: "هل تعتقد وهذا بالطبع السؤال الأول الذي طرحه أنَّ الأطراف على الجانب الآخر جاهزون للّقاء؟"
-لا أدري فهم الآن بصدد الانتصار في الحرب. وليس من المؤكد على الإطلاق أن يكون من صالحهم أن يقطعوا مسار اندفاعها.
-انحنى فوق الطاولة؛ ويداه الصغيرتان ممدودتان باتجاهي محاكيتين أسلوب الترجّي.
-ربحتم الحرب حسنا ولكن بأي ثمن؟ بتدمير البلاد؟
-بالفعل هناك ثمن؛ ولا يمكن تجنب التدمير. ولكنّ هذا أقل مما فعله القذّافي خلال الاثنين والأربعين عاماً من الديكتاتورية.
عاد إلى نفاد الصبر. سحب يديه إليه بسرعة كبيرة كملاكم في وضعية الاحتماء
استشعرتٌ خلف المجاملة خصماً جاهزاً ليكشف عن وجهه: "قلنا إننا لن نخوض في المواضيع الساخنة!"
- لنقبل بذلك.
- هيا بنا
-أنتٌ تعرف عبد الجليل أليس كذلك؟
-بالطبع أعرف الرئيس عبد الجليل.
-حسناً! ولكن على كاهله حمل ثقيل.
-هل اشترى لنفسه بدلات جديدة؟ هل يعيش الحياة بالطول والعرض؟
-هل هذا سؤالك؟
- نعم تخيّل فوز السيد عبد الجليل.
قال: "السيد عبد الجليل" كما لو كان يبصق باحتقار ما لا يطيق الاحتفاظ به.
-تخيّل أن السيد عبد الجليل يستولي على السلطة مع أصدقائه من القاعدة كيف ستعالجون ما سوف يحدث؟
لم أتبيّن فوراً معنى السؤال. أحسٌ بذلك فوضّح بالقول لا أحد في ليبيا يريده أن يحكم.
-ليس هذا انطباعي.
-هذا بلدي. وأنا أعرف بلدي.
-أيضاً لن نخوض في ذلك. وخصوصاً أنّ من محاسن الصدف كون مصطفى عبد الجليل ورجال المجلس الوطني الانتقالي ليس لديهم كما تعلمون دون شك أية طموحات شخصية ولانية في أن يحكموا هم أنفسهم، وقد أعلنوا ذلك: سوف يؤمنون انتقال السلطة وسيقودون البلد إلى عتبة الديمقراطية وبعدها سوف ينسحبون أمام قادةٍ منتخبين.
تبدّثْ على وجهه هيئة الكفر بعينه وبهيئة الساذج الذي كنت أبدو أمام ناظريه مثيراً للشفقة المؤسفة؛ تظاهرتٌ بعدم رؤيته فتابع يقول: "خذ مثلاً ليس فقط عبد الجليل بل عبد الفتاح يونس."
هناء لم يعد يستطيع أن يملك نفسه. وما كنت أملك؛ من جهتي إلا أن أسمعه.
"نعرف عبد الفتاح! نحن نعرف هؤلاء الأشخاص الذين كانوا معنا خلال سنين عديدة ثم خانونا."
-لماذا خانوا؟ لا تستطيعون أن تتخيلوا أن أشخاصاً يجٍدون في لحظة معينة في لحظة وعي أن السيل قد بلغ الزّبى وأنهم لا يستطيعون أن يضمنوا نظاماً غدا مجنوناً؟
هزّ كتفيه كما لو أن سؤالي لم يكن يستحق الإجابة.
-خذ مثلآ عبد الفتاح يونس. ينضم إلى الثوّار في لحظة جد محددة, عندما يعطيه القذّافي أمرأ ليس بأقل دقّة من قراره، أمراً بأن يطلق النار على جموع المتظاهرين العُزّل.
قاطعني بالقول: كنت آنذاك في بنغازي.
- في 17 شباط/ فبراير أي كنتٌ في بنغازي يوم حسم عبد الفتّاح أمره؟
- قفز كما لو أنني وخزته وصحّح وأعترف أنني لم الحظ أهميّة الفارق الطفيف.
يوم 15! كنت هناك منذ 15! كنت آتي غالباً إلى بنغازي لحل المشاكل والتجهيزات والإدارة. كنا عشرين شخصاً ذلك اليوم؛ وأيضاً عشرين في اليوم التالي في مكتب عبد الفتاح. .
-وإذا؟
-إذا كان ذلك يوم توقيف فتحي طربيل، وكانت هناك مظاهرات عارمة للمطالبة بالتحرير.
-حررناهم، لكن المتظاهرين واصلوا التظاهر بحقد وانتقام. لم نعد نعرف ما يريدون. إنها الفوضى.
أتذكر فتحي طربيل هذا المحامي البطل المدافع عن عائلات المقتولين في سجن طرابلس لقد غدا أيقونة الحركة الديمقراطية.
تابعت أسأله: "وهل عدت إلى طرابلس؟"
-بالضبط.
- وعبد الفتاح انضم إلى الثوار.
-تماماً.
- وأنت لا تفهم ذلك أنّ ضابطاً يستطيع بالمحصّلة أن يتمرّد؟
-لا يا سيدي.
مع أنه هناك سوابق مشهورة. ديغول مثلاً...
عادت نظرة الكراهية من جديد التي تزيد من حدة عذوبة صوته المبالغ فيها على نحو مُفارق: "هل تعتقد أن ديغول فعل هذا؟ هل تقارن حقاً عبد الفتاح بديغول؟"
-أكلمك عن ردود أفعال الجنود الذين يُواجهون؛ في لحظة معينة أمراً أو موقفاً يُناقض... أرسل لي ابتسامة أراد أن تكون سمحة.
فالححتٌ بالقول: ألم يحصل لك أبدا لك أنتَ؟ ألم تستبد بك أبداً الرغبة مثله ومثل موسى كوسا وكآخرين في أن تقطع مع نظام يقتل ش...
تغيّر جديد في مستوى الخطاب. من جديد وضع أنفه بين أوراقه خافضاً النبرة.
-لا أبدآ يا سيد.
-لماذا؟
-لأنّ ذلك يتعارض مع قِيّمي.
-أن تطلق النار على أبناء شعبك هذه هي قيمك.
-لقد ولدت عام 1979. أول شيء رأته عيناي هو صورة معمر القذّافي من بين الكلمات الأولى التي سمعتها كان اسم القذّافي. لا أستطيع أن أخون هذا.
-وبالمقابل إذا كنت قد فهمتك جيداً يمكنك أن تتصور ليبيا من دون الحاكم معمر القذَّافي.
بقي مُطأطأ الرأس. فتولّد عندي إحساس أنه احمرٌ قليلاً غدا صوته ضعيفاً فتنهّد.
-لو كانت هذه إرادة الشعب الليبي لَقُلتُ نعم.
ومع ذلك؛ كم هي خرقاء الطريقة التي يمتلكها هذا الرجل بعدم قدرته على لفظ اسم مُعلّمه ولا على سماعه، كم هو مذهل استبطانه للطاغية لصورته واستحالة تقبل العالم من دونه، استحالة أن يطرد الشرطي من رأسه، كما كان يقول ثوار 1968. أردفتٌ قائلاً: "هؤلاء الليبيون بعيدون عن هذا".
كنت أقول قبل أن تقاطعني إن أشخاصاً مثل عبد الجليل؛ أو مثل عبد الفتاح؛ ليس لهم طموحات شخصية وليسوا بصدد تحضير أنفسهم لاستلام السلطة...
مدّ يديه من جديد لكنّ كفيه اتجها نحو السماء؛ في حركة عجز ملعوبة بمهارة كمن يريد أن يقول: وماذا بعد؟ جميل ألا تريد السلطة ولكن ماذا نفعل؟ عملياً ماذا نفعل؟
قلت: "المخطط بسيط، مؤتمر وطني يجمع القوى الحيّة في الوطن والقبائل والمجتمع المدني والأشخاص في الإدارة العامة من أمثالك الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء وتجري انتخابات بعد ذلك برعاية الأسرة الدولية التي لم تفعل كل ذلك لترك البلد وسط المأزِق لتتدبّر أمرها بمفردها.
قال بريبة: لنأمل أن يكون ذلك ممكناً.
-بل سيكون ممكنا ليبيا بلد صغير...
انتفض، فصِححتٌ: "هو بلد كبير بتاريخه؛ ولكنه صغير بعدد سكانه."
بدا مرتاحاً أكثر..
-إنه بلد شاسع غني لكن ليس فيه إلا ستة ملايين مواطن ينرطون فوق ذلك ضمن قبائل قوية مشدودة البنيان.
-هذه حسنة وسيئة سعادتك.
هذه ميزة على وجه الخصوص. انظر إلى رجال المجلس الوطني الانتقالي انظر إلى طريقة تحديد أسمائهم وظهروهم؛ وفرض أنفسهم عبر مجالس قبلية.
-لم يُنتخّبوا
-بالطبع. ولكنهم لم يعترضوا رغم ذلك.
-هذا صحيح.
-منطقي بسيط. عندما يكون لديك الإحساس بشرعية أناس ينحدرون من قبائل واحدة يمكنك أن تتخيل عندما تأتي شرعية انتخابية أخرى هذه المرّة لتنضاف إلى الشرعية الأولى؟
قاطعني فجأة وبقسوة؛ كما لو كنا ما نزال في المرحلة التمهيدية وكما لو أن تلك المرحلة دامت طويلا.
-هل أنت مستعد نعم أو لا لترعى لقَاءً بين أشخاص من جانبي ومن جانبهم؟
-إذا طلب مني أصدقائي ذلك؛ بالطبع أفعل.
-أين؟
استأنف جيرار الكلام:
يلزمنا مكان سري بيت.. بيتك ربما.
ثم توجّه إلى الليبي:
لأنَ السرية مهمة بالنسبة لك أليس كذلك؟
-بالطبع.
-من يعلّم بوجودك في باريس اليوم على سبيل المثال؟
قلت ذلك للسيد ليفي: لا أحد باستثناء رئيس الوزراء.
- نعم ولكن من الجانب الفرنسي؟
-لا أحد أبداً.
-هذا غير ممكن لابْدٌّ أن يكون الضباط على علم ...
هزّ رأسّه علامةً على أنّه لا يعرف.
المخابرات ووزارة الخارجية... على الأقل للحصول على تأشيرة دول تشينغن...
احتج شاعراً بوخزة، لكنها معي! معي فيزا التشينغن منذ مدّة طويلة! أردف..
-لنهدأ يجب أن تعلم على كل حال. أنني لن أقوم بأيّة خطوة من دون استشارة الرئيس ساركوزي.
قال بهدو: طبعا كما لو أن سماع اسم رئيس الجمهورية؛ يضعه في حالة استعداد.
-ومن جانبكم...من يأتي من جانبكم؟
-رئيس الوزراء.
-شخصياً؟
-ومن دون عِلْم القذّافي؟
لم يجب. ومن جديد راح يتأمّل أوراقه.
فغمغم جيرار: لاتُلِح لك إجابتك.
ولكن محمد القليوشي هو من أردف:
-ومن جانبكم مَن؟ ٠
-لا أعرف...لم أفكر في ذلك ...علي زيدان...عل ما أعتقد...
-سجّل الاسم.
-ألا تعرفه؟
-لا أعرفه شخصياً. ولكن يجب أن أسأل عنه.
-بالتأكيد. وغير زيدان أيضاًء لا أدري مَن، شخص مثل العيساوي...
-هنا قهقه بشدة ومن كل قلبه على ما يبدو.
- الحلال؟ لأنكم تعلمون: أليسّ كذلك تعلمون أنه حلال؟
-اتجه إلى جيرار الذي كان يُترجم: "إخوان مسلمون".
قهقهتٌ بدوري: مهلا نحن وسط ناس جادُون ما دمت تتكلّم هكذا لما ذا لا تقول إنه من القاعدة؟
"ومع ذلك بلى" قال هذا بلهجة من يعتبر أن البراهين في هذا المجال ترهق الحقيقة.
وتظاهر بأنه مُتردّد بعد تفكير بأن يرمي نفسّه في الِيمّ.
-هل ذهبتم إلى درنة ؟
- بالطبع.
-حسناً عندكم هناك الإمام عاشور شكري العسّى؛ ربما كان عليكم رؤيته.
- لم أره؛ أو على الأقل ليس بعد؛ ولكنني جلتٌ في المدينة سألت الناس وقلتٌ لهم من أنا؛ ولم أشعر...
-هؤلاء الناس ُخبثاء. لا يكشفون عن أنفسهم حالاً. يفعلون ذلك حسب برنامجهم وعندما يشعرون أن اللحظة المناسبة قد أتت.
-تكلّمتٌ في بنغازي أمام آلاف الشبّان؛ ولم يكن بينهم غير سلفي واحد...
-ماذا؟ لم يفعل لك شيئاً؛ لم يكن ذلك من مصلحته. وبالمقابل...
كان ينتظر أن أدعوه ليتابع كلامه، خائب الأمل لأنني لم أقل شيئا تابع كلامه.
وبالمقابل قلقنا عليكم في طرابلس. كنا نراقبكم من بعيد. لأننا كنا خائفين أن تحصل لكم نفس الحادثة المؤلمة التي حصلت لذلك الصحفي الأميركي... بالمناسبة ماذا كان يُدعَى؟
-دانيال بيرل؟
- نعم دانيال بيرل. آه هذا هو هل تعرفه؟
-لا ولكني ألفت عنه كتاباً، أنا على علم بالقصة.
خشيتنا كانت من أن يضرب مُناصرو القاعدة عنقك كما فعلوا بالأميركي دانيل بيرل.
قهقهت.
-لماذا تضحك؟
-هذه قصة يطول شرحها. لكن لديّ سؤال.
-نعم؟
-تبدو على علم أنني كنت في مصراطة يومي 28 و29...
-نعم فزوجتي من مصراتة.
-لماذا لم تحاولوا قصفي يومذاك؟
بحث طويلاً عن إجابة، ومرّة أخرى دس أنفه بين أوراقه، وفي النهاية رفع عينيه راسما على شفتيه ابتسامة عريضة:
-ربما لأنني لم أكن هناك.
-تريد أن تقول لو كنت في المكان هناك على الأرض...
- هذه مزحة لم نقتلك لأنك فيلسوف ومكان الفيلسوف حول طاولة مثل هذه. كي يُعالِج المواضيع العميقة وليس مكانه في ساحات المعارك. وبهذه المناسبة...
فعل كما لو أنه نسي سؤالاً أساسياً.
-الطاولة!
-نعم؟
-تلزمنا طاولة مستديرة.
-وكيف هذا؟
-رسم بيديه شكل طاولة مستديرة.
-في غاية الأهمية أن تكون الطاولة التي سوف نتحدث حولها مستديرة. هذا كل ما في الأمر.
- قلت بذهول: موافق.
ويجب ألا نكون أكثر من ستة أشخاص، شخصان أو ثلاثة من كل وفد، بالإضافة إليك "إلى سعادتك" لو منحتنا شرف ترؤس الاجتماع.
-ممتاز.
-من طرف أصدقائك من سَيُرافقك يا سيد...
-بحث عن الاسم بين أوراقه.
- زيدان؟
-لا أعرف فورتيه مثلا.
-عفواً؟
-سليمان فورتيه ممثل مصراتة في المجلس الوطني الانتقالي.
-آه فور. تيه؛ قال فاصلاً المقاطع بوضوح.
- نعم فور تا يه...
-يبدو أنه لم يبتلعها.
-بسبب مصراطة، قلت لي إن لديك صلات في مصراتة.
-زوجتي من هناك نعم.
-لهذا اقترحت عليك فورتيه...
-قال مُقطباً مرّة أخرى: يلزمنا سياسيون...
-فورتيه ليس سياسياً.
-حسنا جبريل؟
هنا أضاء وجهه.
نحن نعرف بعضنا أنا وجبريل. عملنا معا كانت لديه مهمات في السنوات الأخيرة
الماضية، مشاريع للتحديث، بهذه الطريقة تم تعارفنا.
جاء دوري في التدوين.
-جبريل ردّد كصبيّ صغير. أعرف جبريل جيّداً.
-لحسن الحظ. لحسن الحظ. ولكن لدي سؤال أيضاًء قبل أن نفترق.
-نعم؟
-هو بالأحرى طلب، وسيكون طلبي الوحيد.
بدا محتاراً، وجيرار أيضاً.
-قلت إِنّْ مصراتة مدينة غالية على قلبك.
-على قلب زوجتي وبالتالي على قلبي.
-طلبي بسيط. أريد أن تفتح الإنترنت وترى؛ وترى الصور التي أحضرتها من المدينة العزيزة عليك وأنتم؛ أو تحديدا رئيس وزرائكم, أو على كل حال الجيش الذي يقوده
اختزلوها إلى حطام.
هذا شيء يهمّني. هذه المرة أخاطب فيك الإنسان، متوجهاً إلى شعورك وإلى قلبك لو قُدّر لنا أن نلتقي من جديد، أريد أن تُعطيني رأيك بهذه الصور.
-بدا مُتفاجَئا ولكن ليس كثيراً. ختم كلامّه وهو ينهض قبل أن ينهض جيرار لمرافقته من جديد: "وعد شرف سأْطَّلِع عليها."
الأربعاء 15 حزيران ( عندما أعدت أنا وعلي زيدان المبعوث إلى أسياده(
فندق رافائيل أيضاً… تسارعتٍ الأحداث.
اتصلت بعلي في ميونخ؛ حكيت له كلّ ما حدث؛ قال لي علينا ألا نهمل أية إمكانية؛ أو فرصة للحوار وبأنه جاهز للقائه. لو كان الرجل مازال هنا.
وها نحن؛ جيرار من جديد وأنا وعلي ومحمد القليوشي في نفس القاعة الصفراء حيث كنا البارحة كانت الأبواب موصدة. وعل العموم لم ننتظر كثيراً لنلتقي من جديد...
بدأ الليبيان كما فعلنا البارحة بتصريحات مازحة.
طرح علي على القليوشي أسئلة أحسستٌ أن المقصود منها ليس كسر الجليد بينهما بل أن يُظهر للطرف الآخر أنه يعرف مع من يتعامل (مِن أين أنتّ؟ مِن أي مدينة؟ من أيّة قبيلة أنت؟ هل تنحدر من تلك القبيلة الكبيرة أو من أفخاذ هذه القبيلة؟ وأبوك؟
أعتقد أن أباك كان سفيراً في الصين؟ سمعتٌ أنه متقاعد وهو الآن في طرابلس...نعم أم لا؟ وبالمقابل لم يكن متأكداً من هذا السؤال...فأجاب الآخر بعقلانية وتهذيب كما لو أنهما في محضر استجواب محاولاً أن يرد الصاع صاعَين ولكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلا والواقع أن علي كان سيّد الموقف (تمت الأمور بمنتهى الصفاء؛ ولكنني لاحظتٌ عند صديقي حِسٌ التهرّب ومهارة في فن عدم سماع السؤال أو إبعاده بابتسامة ملطّفة وإدراك ميزان القوى وحرب التفوّق التي لم أشكٌ بامتلاكه لها(.
في ما يتعلّق بقصة حديث التعارف كان المشهد المسرحي يتصاعد بِبُعدِ هزلي طفيف, لأن بداية تبادل أطراف الحديث كانت بحضور النادل الذي جاء كي يضع الطاولة المستديرة التي وُضِعتُ حولها كراسينا والواقع أن الطاولة كانت صغيرة إلى حدٌّ ُتثير للسخرية فهي تشبه طاولة سرير غرفة النوم وكان من المستحيل أن تَتّسِع لكل المرطبات؛ لذا استغرقت هذه العملية عدّة دقائق وأنّه في هذه الدقائق الطويلة حيث كان يتوجّب أن يكشفوا كنوزاً من البراعة كي يضعوا ويرفعوا ويحتفظوا بزجاجات الكوكا كولا وأكواب الشاي والكاجو. وعلبة السكر. وقف النادل بين الرجلين تماما حاجباً أحدهما عن الآخر حيث جعلَها
يتكلمّان عبر شاشة كوميدية كان يجب أن يرفعا صوتيها أن يُكرّرا كلامهما وأن يُضاعِفا عدد المرّات التي يقولان خلاها كلمة عَفواً؟ وعبارة هلم أسمعك بينما كان النادل؛ كما لو أنه يفعل ذلك عن قصد ولكنه ربما يفعلها عن قصد لأنه أدرك أنه يتطفّل على لقاءِ من النوع الثالث بين أناس بصحبة سيئة وقد أسعدته الفكرة فيسحب كأسا ويشكره. ويعيد الأمر مرّة أخرى واضعاً مِنْفضة بشكل متوازن على طرف صحن ثم يضع زجاجة في المنفضة. ويُقدّر أن العمل قد أنجز ويُمعِن في التلكؤ باحثاً عن حل مُراجعاً الأشياء وهكذا دواليك.
ذهب النادل أخيرا فاستلمتٌ الحديث حينذاك. قلتٌ "أَذَكّر بن لا أحد باستثناء الرئيس ساركوزي على علم بهذا اللقاء."
زايد جيرار ليس بدون مبالغة حول الضرورة المطلقة للسرية نظراً لأنَّ واحداً منا على الأقل كما ردّد البارحة هو محمد القليوشي؛ يخاطر بحياته.
أردف علي بلهجة «المحترف» معتقداً أنّ الجولة دامت طويلا وطرح السؤال الأول البسيط جدا الأبسط ما يكون ولكنه ببساطة انتهى إلى تضليل الرجل الذي هو الآن قبالته.
-من أنتّ؟
-ما معنى هذا "المن أنا»؟
- نعم: من أَنَتَ؟
-أنا محمد القليوشي.
-نعم؛ أعرف شكراً. سؤالي هو: من يتكلم اليوم؟ أنت؟ رئيس الوزراء محمودي الذي تعمل كرئيس مكتب عنده؟ أم القذّافي؟
وبما أن الآخر كان يرتجف مُتخْبطاً في أفكاره عاد إلى الكلام بالعربية ثم بالإنكليزية وجانب السؤال فقد طرح عليه إذاك السؤال الثاني:
-سأكون مباشراً أكثر: "هل معمر على عِلمْ بهذا اللقاء؟"
-هذا ليس موضوعنا؟ أجاب مدير المكتب وهو يتقوقع أكثر في كرسيّه مع ذعر خفيف في عينيه. قلنا (ملتفتاً ِإلي) بأننا لن نتكلم عن مُعمّر...
-خمنت ذلك أيضا وقع علِي من دون أن يترك لي الوقت للإجابة وثّبت عينيه بالأرض.
-ولكن هذا لا يمنعني من أن أسألك كتمهيد لما سنقوله. وليكن واضحاً بأن ما سوف نتحدّث به ليس مصير مُعمّر لو كان مُعمّر على عِلْم بذلك.
-كنا قد اتفقنا (وهو يتجه دوماً نحوي مُتصدٌعأ باحثاً عمّن يُدعمه) على أن نترك مسألة معمّر خارج إطار النقاش.
-واضح: كرّر علي أيضا دون أن يترك لي وقتاً للإجابة. ولكن هذا لا يمنع من أن الحديث لن يكون بنفس اللهجة؛ ولا بنفس المعنى لو قلت لي: نعم أو لا مُعمّر على علم بما نقوم به.
حسناًء أجاب القليوشى أيضاً بهيئة كتيبة أحلّها محل هيئة الذعر التي بدا بها منذ قليل: "حسنا هو على علم بالتأكيد".
أخذني علي شاهداً على انتصاره الأوّل:
-هه هو ذا إِنّه تحصيل حاصل. ولكن من الأفضل أن تقوله.
ثم أضاف مُتوجّهاً إلى مدير المكتب: "لا يمكنني حتى أن أتصوّر كيف يمكن أن يِتِمَ الأمر بغير هذه الطريقة."
احتج الآخر بلهجة مُخفّفة: "نحن ندرِك اللعبة إدراكاً تاما ونعرف قواعد هذه اللعبة جيدا إذ لا يمكنك أن تكون هنا من دون موافقة مُعمّر. إلى درجة أنُ... رفع عينيه أخيراً ولكن كي يتوجّه إلى جيرار.
-لا أحد هناء يُغامِر بحياته.
ثم التفتّ باتجاه المدير القليوشي وقال لكن بلهجة غدت أبوية تقريباً: "لكنْ دعونا لا تُضيّع الوقت من فضلكم عن أيٍّ شيء تريدون أن تتحدّثوا؟"
حاول القليوشى أن يصنع لنفسه هالة من التماسك وبدا أنه من النموذج الذي يقاتل في معركة الفر بعد أن ينهزم في أرض مكشوفة وأخيراً يجد في هزيمته مقاومةٌ طبيعية أو عثرةٌ وموحلةٌ يتعلّق بها.
-مسألة طرابلس هي: هل تحب بلدك كفاية للتحدّث معنا بالمسائل الإدارية التي ستطرح بعد الحرب؟ وهل ستتحدث عنها مع المحمودي؟
- بدون أدنى مشكلة نعم؛ مع محمودي إذا أتى محمودي إليّ هنا.
-بدون إشعار مسبق؟
-من دون إشعار مسبق.
- ودون أن نطرح مسألة معمر هل أنت واثق؟
هناء انفجر علي ضاحكاً.
-قطعا هذا هوّس!
-لا هذا هام بالنسبة لنا، يجب أن أؤكد لمحمودي بأنّ الموضوع لن يُطرّح.
ضحك علي بِقَوَةٍ أكبر.
- بإمكانك أن تُطمئنه. نعم وأكرّر لك أنَّ هذا مفروغ منه. فأنا أعرف محمودي: هل تعلم ذلك؟
-لا لا أعلّم.
-أعرفه منذ سني الدراسة في القاهرة. كنت أعرف أخاه؛ الذي توفي منذ مدّة قصيرة وأعرف عائلته. أعرف وضعه، وأعرف بناتٍ أفكاره، أعرف حتى الطريقة التي يقطب بهاء وكيف يقف باستعداد عندما يسمع في التلفزيون وهو في بيته اسم مُعمّر...؟
فقد القليوشي تماسّكه وذعِر من جديد وأطلق سؤاله: "كيف يُمكنك أنْ تعلم ذلك؟"
ذكاء.. أجاب علي ضاحكاً دائما وبطيب خاطر مخابرات ذكائي الخاصة هل تعتقد أن غيركم لا يملك استعلامات خاصة؟
-لا.. تمتم القليوشي دائماً بنفس الآلية الدفاعية ولكن ربا أقل بقليل؛ لأنه أحسٌ مع مزحة المخابرات بأنه على أرض أكثر انكشافاً.
- وزايد علي بالقول: وأعرف مُعمّر! أي نعم أيها الشاب أعرف معمر عرفته على الدوام! أنا أعرفه يوم لم تكن قد وَلِدَت بعد. لذلك أكرر لك نحن نعرف كل قواعد اللعبة.
-حسنا قال مدير المكتب وقد هُزْم بشكل نهائي أفهم.
-شكرا ماذا تقرّر إذا؟ كيف تريد أن تتِم الإجراءات؟
-سوف أحضر ملفا لوجاء مُعلّمي إلى باريس فمّن سوف يُقابل؟
-سيُقابلني من دون شك، أو يُقابل أحداً آخر. لا يهمّ.
- أنت سيكون ذلك أفضل. لأنه... هل تعرف ماذا يقول مُعلّمي؟
- تمايل القليوشي بينما بقِيّ علي ساخراً: لا لا أعلم.
- يقول: علي زيدان مُختلف؛ علي زيدان ليس كالآخرين.
تعجب علي في الوقت المناسب مأخوذاً بنوبة سعال ثم بسلسلة من المخط لا أدري إن كانت من أثر الزُكام أم من نوبة ضحك أم أنه تكتيك جديد.
لنختصر إذن قال جيرار ممسكاً بزمام الموضوع: ...سيأتي المحمودي إلى باريس يلخص القليوشي الجوهري. سيلتقي علي زيدان. لن يلفظ اسم العقيد لكنه سيتطرق كما بين رجلين وطنيين إلى ليبيا ما بعد الحرب.
لخص علي الذي غدا جدياً فجأة: هناك شيء يجب ألا تُغفِله، رحيل القذافي وعائلته أقول بوضوح رحيله. لأننا يمكن أن نتحدّث بكلّ ما تريده، ولكن على محمودي أن يعرف أن رحيل القذّافي وعائلته نقطة لن يساوم الشعب الليبيّ عليها.
شيء آخر أيضا أقوله بدوري نقطة أخيرة قبل أن نفترق. وقلت للقليوشي وهي رسالة لك شخصياً أنت مازلت شاباً والحياة أمامك ويجب أن تعرف:
1. أن الرئيس الفرنسي سيمضي في الحرب حتى النهاية؛
2. أن التحالف الذي تشكل كمبادرة؛ هو تحالف متين وليس مُستعداً للتفكك؛
3. أن للقذّافي ومن حوله نافذة صغيرة جداً ليفهم ذلك وعليه أن يلوذ بها وبعد ذلك
سيكون قد سبق السيف العذل.
استمع القليوشي أخذ عدّة ملاحظات وبدا لي مُنتكساً استعاد النظرة التي لا يمكن اختراقها نظرة الموظف النموذجي كأنه عاد إلى هيئة البارحة عندما لمحته أول مرّة. تكلّم جيرار بدوره قائلاً إن من الجيد أن هذا اللقاء قد حصل لأننا حاولنا على الأقل.
ثم عمل القليوشي من جهته ولكي يصيب منّا تصريحاً لمدة ثلاث دقائق كان معدا سابقاً على ما يظهر؛ حول الشعب الليبي الذي لا يطلب إلا الوحدة، وفجأة غيّر اللهجة
ليضيف بلهجة بالغة الرقة متوجّها إلي ثم إلى علي: "هل أستطيع قول شيء آخر؟ "
وعندما كان علي يشير بنعم بهزة من رأسه، أخرج من جيبه ورقة مطوية طيّتين حينما كتبت البارحة عنوان الموقع الإلكتروني الذي يمكن أن يرى فيه صورنا حول مصراتة المدمّرة.
-آه قل لي... إذاً رأيت... قل لنا نعم: بالتأكيد...
- أجاب: كلا.... ليس بهذا الأسلوب. رأساً لرأس.. إذا كان السيد علي يريد ذلك.
وبما أن علي أشار برأسه أَنّه موافق نهض وسلَّم وخرج معي إلى نفس المدخل. حيث كان قد جلس قبله في الأريكتين الكبيرتين اللتّين أشرت له بالجلوس عليهما عبد الفتاح يونس ومصطفى السافزلي وفيٍ اليوم التالي لاستقبالهم في الاليزيه؟ وعلي ومنصور في اليوم الذي تعارفنا فيه وعبد الجليل عشيّة العشاء الصحفي الذي كاد أن ينتهي بشكل سيء وكثيرون غيرهم؛ كثيرون من الليبيّين الأحرار.
لا. لا لن نبقى هنا قال كما لو أنه يقرأ أفكاري وأن تلك الأرائك قد استهلكت كثيرا، في الخارج عندما انعطفنا في شارع البرتغاليين المعتم أخذت هذا المحادثة طابعاً سرياليا فتساءلت وأنا أفكر فيها إذا لم تكن الهدف الحقيقي لتلك الكوميديا.
قال لي القليوشي: يؤلمني أن أراك مع أناس كهؤلاء.
-عفواً؟
-هل رأيت ما كان يفعله علي عندما كنت تتكلّم؟
-لا
-هكذا...راقبته جيدا، كان يتمخّط بالضبط هكذا، وسأقول لسعادتك شيئاً.
- ليس منْ اللباقة أن يتمخّط عندما يتكلّم برنار هئري ليفي...
كان ذلك رغماً عني، انفجرت ضاحكاً لكنه تابع رافعاً عينيه إلى السماء: "عدا عن ذلك هل تسكن هنا؟"
-لا نستطيع أن نخفي عنك شيئاً.
-في الطابق السادس الأفضل، مع إطلالة على باريس...أجمل مدن العالم... أنا أحسدك. ..
-هل هذا تهديد؟ ودون أن يترك لي الوقت للإجابة وهذه المرّة وهو يحدق بعينيَ جيدا بقسوة في النظرة لم تكن موجودة في الصالة الصفراء أمام الآخرين.
-مع ذلك: أريد أن أقول لك شيئاً.
-نعم؟
-يجب أن تلتقي السيد محمودي.
سأكون هنا عندما يأتي لأنْ ذلك سيتم تحت رعايتي؛ هذا إذا حصل هذا الاجتماع الذي تتحدث عنه.
-ليس هذا ما أقصد. يجب أن تراه نعم ولكن وحدك وعلى انفراد.
رفعتٌ صوتي: هذا بالمقابل مستحيل أولاً لأنَّ قنزعته تُذهلني ولأنَّ فكرةً راودتني فجأة بأني لم أتحقّق ىما حدث مع رجل سان بول من أنه كان يحمل جهاز تسجيل معه؛ ولن أخطو خطوة في هذه القضية هل تسمعني ولا خطوة من دون أصدقائي في المجلس الوطني الانتقالي ومن دون علي زيدان على وجه الخصوص.
-إذا هيا نتصل.
-كيف ذلك؟
-محمودي رئيس الوزراء هيا نتصل به حالا هنا عبر الهاتف.
-قلت لك قبل قليل: لن أُقدِم على خطوة من دون...
-فقط ألو... سوف أكلّمه.
- فتح غطاء هاتفه المحمول من ماركة نوكيا موديل قديم ويبدأ بالمحاولة.
- أنا أتصل وأنت تقول ألو فقط ألو ألو صغيرة لا تُكلّف شيئاً.
استعاد هيئته الطفولية التي اتَخذّها أمام زيدان. إعتقدتٌ أن مصيره وحياته يتعلقان بتلك اللحظة، بتلك الألو التي يتسول مني.
هذا غير وارد. قلت ودائماً بنفس الصوت القوي القاطع مُغْلقاً بإصرار عُلبة هاتفه.
بالتأكيد لن أكلم هنا معك؛ رجلاً يداه مُلوثتانَ بدماء ال...
-لا تتكلّم من دون دراية يا سيدي رجائي بنفس الهيئة الفظيعة المثيرة للشفقة؛ أرجوك لا تتكلّم من دون أن تعلم.
ثم إنَ: في وُسعِك أن تُصلح ما عملتّه وحدك.
وأضاف أيضاً برجاء وخنوع: "يُمكنك إيقاف هذه المجزرة سيكون حدثاً تاريخيآ وسيبقى الشعبُ الليبي مديناً لك إلى الأبد..
كرّرتٌ له أن القذافي وحده برحيله يمكن أن يُوقف المجزرة وأضاف شيئاً أخيرا
كمن يلقي بورقته الرابحة: "أبي شيء آخر..."
كان يتراقص من قدم إلى أخرى ليطيل التمتّع؛ يرسل لي ابتسامة مُتملقة:
نحن جاهزون لنقيم؛ من خلالك علاقات مع بعض أصدقائك هل فَهِمتٌ ما أريد قوله؟
هناء بالطبع وجدتٌ أنّ هذا كثير. هذا الإيحاء الوقح بإسرائيل على لسان أحد ممثلٍي الدولة التي حاربَتُها باطراد مستمر أشعرني بالغثيان. تركتّه هنا وعدت لأحكي لعلي الفصل الأخير من هذه المسرحية الهزلية، هذا الرجل؛ الذي يُقدّم لي النصيحة هذا المفاوض المفترّض نائب هتلر الليبي ضيق الأفق لم يقل لي طبعا أيّة كلمة عن مصراتة.
الأربعاء 15 حزيران (ومصراتة؟)
مُكالمة مختصرة مع الرئيس قصصت عليه حكاية القليوشي. كان قلقاً من وصول بعض الضبّاط من مصراتة.
يتواصل