إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنر ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح18

أحد, 07/03/2021 - 00:06

أنا اليهودي في ليبيا

المشكلة بسيطة. أقول دائما، كان يتعيّن أن نكون في مُنتهى القسوة من الإسلام الفاشي.وقلت دائما حرب الحضارات الوحيدة القائمة في الإسلام؛ هي التعارض بين الإسلاميّين الفاشيّين والمعتدلين، بين أعداء الديمقراطية وأصدقائها، هذه هي الحرب التي ألاحقها.

المشكلة بسيطة ‏وهي ليست مشكلة. طالما ناضلتٌ من أجل يهودية منفتحة وشاملة يهودية الآخر التي أورثني إياها ليفيناس والذي لم يكن يوماً منسجماً مع ذاته إلا عندما يمد يده يواجه نظرة الآخر ويواجهه وجهاً لوجه. هذه هي المعركة التي أقودها: «عبقرية اليهودية» تلك التي أحاول؛ من جديد أن أتمثّلها، أيرفض الآخر، يدي الممدودة إليه؟ ربما. سوف نرى جيداً أضعف الإيمان أني فعلت ذلك أضعف الإيمان أني فعلته.

الأربعاء 6 تموز/يوليو تتمّة (إسرائيل أيضاً)

مشكلة إسرائيل. لا توجد مشكلة اسمها إسرائيل، إذن ماذا يُمكن أن تكون المشكلة؟ على ماذا ألام؟ على مساندتي للثورة الليبية دون أن أنسى مع ذلك وفائي لإسرائيل؟ الأدهى من هذا أنني وضعت نصب عينيّ ليبيا حرّة تُعلن القطيعة مع العصبية الدينية السابقة وتُقيم أواصر العلاقات الطبيعية مع إسرائيل؟ أي نعم أنا أتحمّل المسؤولية. أنا مناضل من أجل السلام، ولن أَذّخر وسعاً في التذكير بذلك في كل المناسبات، هاهي الحقيقة.

الأربعاء 6 تموز خاتمة (المخرج الأخير للقذافي)

تناولتٌ طعام الغداء مع بيتر ويستماكوت سفير بريطانيا العظمى في فرنسا، أخبرني بشيء لم أقرأه في أي مكان. أنه في باب العزيزية "مدينة تحصّن القذَّاني" هناك موقع واحد واحد فقط تَجنَّبت بعناية قوى التحالف قصفه حتى الآن مدرج المطار الخاص للعقيد؛ المكان الذي تحط فيه طيّارته الخاصة حيث لم يضربها أي صاروخ بعد؛ وهو في النتيجة؛ المكان المتوقع أن يهرب منه في اللحظة القادمة، قال لي ويستماكوت ضاحكاً: الرسالة مضاعفة. أولاً: هناك باب للخروج؛ هو هنا؛ ينتظرك؟ كلمة منك؛ أو بالأحرى حركة واحدة وتتوقف المعارك. وبعدها انتبه لنفسك؛ التقدير الصالح من جهة يصلح تماماً في الاتجاه المعاكس؛ لو استيقظت في صباح جميل وعلمت أن قنبلة انكليزية أو فرنسية أتلفت مدرج طيّارتك الخاص وإذاً هذا يعني أنك انتهيت وأن الفخ قد أغلق وبدأ العد التنازلي.

الخميس 7 تموز/يوليو (هل من مبعوث إلى طرابلس)

فكارتٌ كثيرا منذ البارحة بحديثي مع ويستياكوت، بعثت رسالة نصيّة إلى نيكولا ساركوزي كي أقترح عليه إرسال مبعوث خاصٌ مكلّف بأن يتحدّث بخطابين:

1 انتهت جولة اللعب، مهما تخيّل وتحديدا، ومهما جهدت في تنشيط خياله وكالاتٌ تشويه الأخبار التي يدفع لها أجوراً هائلة لجعلها تقول ما يريد أن يسمع؛ فالتحالف متماسك ولن يتفكك وما دام كاميرون وساركوزي غير قادرّين على التراجُع ‏ فهما محكومان بالانتصار.

2. هناك من ناحية أخرى عرض حازم. هناك بلد، مكان في هذا البلد مستعد لاستقبالكم؛ أنت وعائلتك. هذا العرض قائم لمدة محددة من الأيام. أنت تعرفني يا سيادة العقيد أنا لا أخدعك: هذا العرض حازم وغير قابل للنقاش الكرّة في ملعبك. سوف يُكلّف هذا المبعوث الخاص في النهاية أن يوصل للقذَّافي الحقيقة في يده والحل في اليد الأخرى ولا ينبغي أن يكون فرنسياً، ولا إنكليزياً، ولا ألمانياً بالتأكيد، لأنني لا أرى لماذا يجب أن نعطي هذه الهدية للألمان، وماذا نقول إذاً عن الإسبان؟ وهناك؛ بين الأسبانيين أزنار الذي يعرف القذافي جيداً ويثق فيه كما قيل لي وسوف أجس نبضه من خلال صديقي مايكل انجل كورتز. أجاب ساركوزي بالقول: "الفكرة جيدة؛ لكنها عندنا من قبل؛ لا تتحرك؛"

الجمعة 8 تموز/يونيو (انتصار!)

سوف يُقلِع مقاتلو مصراتة يوم الأحد. سوف يذهب سليمان:؛ شخصيا لاسقبالهم.

أخيراً! سيكون ذلك شيئاً آخر غير كل تلك «المفاوضات» المحزنة!

السبت 9 تموز/يوليو ( نحو بوسنة! ليبيّة)

اتخذ القرار، سيكون هناك فيلم "فيرونيك كايلا" هو الذي أقنعني ووجدت أنَّ فرانسوا مارجولين ‏ هل كان هذا لازماً! ‏ هو الّْمنتج المثالي له، صديق قديم؛ كنت قد التقيتٌ به مند  ثلاثين عاما أعتقد أن ذلك تمّ عن طريق "لوران ديبو" لم يكن عمره يتخطى العشرين، كان عائداً للتو من إثيوبيا وكان يحضر فيلمه الكبير عن اوديسّة يهود بيت إسرائيل (الفلاشا) ولم ننقطع عن بعض منذ ذلك الحين، أنجز فيلمَين وثائقيين الأول عن الأطفال الجنود والآخر عن طالبان. كنت أتمنى لو أخرجته، وقد أنتجنا معأ في نهاية الثمانينات فيليا من قصص قصيرة ضد لويّان، أحب فيه كثيراً جانب السخرية المريرة والجانب الأنيق والحساس فهو مشّاء في باريس أشقر هامد وغامض. أحب فيه أيضا شجاعته؛ وإقدامه اللذين ستكون بحاجة إليهما وبعد ذلك هناك؛ من جديد, هذا التوافق الرائع بيننا أكلّمه عن المشروع كما أراه، أستعرض دور الواحد تلو الآخر، أقص عليه «الخيط الإسباني» الذي يربطني بجيل ومارك روسيل. يجيبني بنبرة مُتأخرة كثيراً عن يده التي يستخدمها عندما يريد أن يقول شيئاً

مهماً: "هذا غريب... هل تعرف أنْ جدي روبير لانتز كان أحد مصرفي توريد الأسلحة لأسبانية الجمهورية كان متحالفاً مع بلوم."

كان شاهداً على ضياعه عندماً يكون محشوراً أو عندما يحشر نفسه؛ بعدم التدخل... و... وقد وضع بلوم وهو مغمض العينين سلسلة من الإمدادات عبر عقود كانت تمر عبر ليتوانيا التي كانت بدورها تعيد إرسالها في مراكب حتى برشلونة... الإمدادات عبارة عن بنادق... ومدافع... ولم أعرف على وجه الدقة إذا كان هناك قطع طيّارات للتركيب أم لا ولكنني اعتقد جازما أنه إذن.. الا يشبه هذا إلى حد كبير توريد السلاح الفرنسي اليوم عبر قطر؟

طرح الكاهن في نهاية رواية السلاح سؤالا على الراوي هو: هل تؤمن بالله فأجابه الراوي: أحيانا في الليل وأحيانا في النهار في ظروف شبيهة بهذه الظروف..

الأحد 10 تموز/ يوليو ( رجال مصراتة)

نيكاولاي ساركوزي على الهاتف في فودوبريانسون، الساعة العاشرة صباحا، محادثة مختصرة أعلن لي عن هجوم كاسح يقول الليبيون إنه دفع قوي منتصف الأسبوع، اليوم الخميس من دون شك، قلت له " وأخيرا صار رجالي في المركب الآن". أكد لي أنه سوف يستقبلهم ليس يوم الثلاثاء لأنه سيكون في أفغانستان بل يوم الأربعاء، سيكون الوفد مؤلفا من الجنرال رمضان رزموح وهو الذي قادنا في مصراتة وفتح لنا الطريق في المرفأ لحظة المغادرة، ومن معاونيه الكولونيكل أحمد هاشم، الذي قال لي علي إنه كان حاضرا أيضا، وإنني أعرفه من دون شك، وسأتعرف عليه حالما أراه، ومن خليفة الزواوي رئيس مجلس المدينة الذي جعل مني مواطن شرفي، وطبعا من سليمان فورتيه الذي ذهب شخصيا لإحضارهم..

الأحد, 10 تموز يتبع ( القارب كان فارغاً)

نحن بالأحرى في الحادي عشر من شهر تموز/ يوليو؛ لأنّْ الساعة الثانية بعد منتصف الليل. كل شيء جاهز انطلق القارب من مالطة وكان قد وصل البارحة أي يوم السبت إلى الرصيف الذي أعرفه في مرفأ مصراتة هناك حيث استقبلنا برشّات من بنادق الكلاشنكوف، دانييل روندو؛ صديقي القديم دانييل روندو ماو السابق أصبح سفيراً في مالطة كان قد تلقى صور جوازات السفر وحل جميع المشاكل المتعلقة بدخولهم دول التشينغن، وكان بوغا قد حدّد لهم موعداً يوم غد الاثنين في الساعة الخامسة بعد الظهر, في الإليزيه يجب أن يستقبلهم الرئيس كما هو مخطَّط بعد الغد. وعلٌي أن أذهب بنفسي في الفجر لاستقبالهم في مالطة ومن هنالك أصطحبهم إلى باريس، في الساعة الواحدة ليلا تلقَيتُ رسالة إلكترونية من ابن سليمان يخبرني إِنْه تلقّى مخابرة للتو من كابتن المركب؛ يخبره فيها بأنه حال وصوله إلى المياه الإقليمية المالطية» انتظر وانتظر ولكن لا الجنرال زمروح ولا الكولونيل ولا أحد حضر إلى المكان المحدّد ولذلك انتهى بالإبحار من دوهم هذا الصباح. ماذا حصل؟ لا أحد يعلم شيئاً ولا أحد لديه أية وسيلة ليعرف نظراً لعدّم وجود هواتف في مصراطة. لا شك في أن السبب هو عودة المعارك، ربما يكون هجومٌ رجال القذّافي على جبهة راس لانوف التي أعلن عنها موقع جريدة ليبيراسيون قبل قليل، وقد يكون أصدقاؤنا مُحتجّزين على الحدود، لا أدري ولكنني بالطبع منكوب، كل شيء ينتظر الإجابة.. كل شيئ.

الاثتين 11 نموز/يوليو (إستراتيجية رفيعة)

رسالة نصيّة جديدة من ابن سليمان يُعلِمني فيها باستئجار مركب جديد وهذه المرّة استأجره بشير صباح وسيّغادر مصراتة صبيحة يوم الثلاثاء ولكن باتجاه تونس فهل يمكنني استقبال أصدقائي من تونس حيث سيصلون مساء يوم الأربعاء؟ واللقاءات الُمنتظرة مع الرئيس ومن ثم مع العسكريين أو العكس هل ستتم اللقاءات في هذه الأحوال؟ نعم بالتأكيد! لم أتردّد لحظة في أن أقول له نعم! ولكن ستأتي المشكلة هذه المرّة من جانب الإليزيه. وفي الواقع اتصلت ببوغا أعلنت له وأنا أطير من الفرح, "الخبر السعيد" ولكن... «الدفع القويٌ» الذي أعلنه لي ساركوزي الخميس مساءً...ويوضح أنه...مع هذا الدفع القويٌّ سوف يدخل وصول أصدقائنا في تصادم ومنافسة وتضادٌ معهم...اعترضت ودافعتٌ قلت له إنني لم أفهم؛ وليس هناك من تصادم قائم؛ وإنْ هذا من الغباء؛ ولا معنى له؛ وعلى العكس فالأشياء تسير معاً وبالتوازي؛ وهذا ما هو متفق عليه؛ الخ. ولكنه جامد لا يُثنى. شعرتٌ أنه لم يقل لي كلّ شيء، ربما هناك اعتبارات عسكرية وربما هناك تحويل للهجوم على الجبهة وزيارة جماعة مصراتة قد تُضعف منه مجال الرؤية، هكذا إذا نعم. هذا هو الأكثر إراحةً في تلك اللحظة لنفترض في الواقع أن الهجوم الُمعلّن على جبهة البريقة فخ نحاول من خلاله جذب القذّافي لجعله يجمّع هنا الحد الأقصى من قوّاته هل

زيارة المقاتلين المتوقعة يمكن أن تفتح جبهة جديدة حاسمة على أبواب طرابلس ألن تجعل الرسالة ضبابية وتعقد كل شيء؟ علّي هذه المرّة أن ألغي الموعد بنفسي أحس بموتٍ روحي ولكن الإلغاء. أنا على درجة من الإحباط تمنعني من تهدئة أعصابي أكثر من ذلك.

الأربعاء 13 تموز/يوليو ( لننتهي من أمر السيادية)

البارحة مساءً بثت القناة البرلمانية برنامجاً على هامش النقاش الذي دار حول التمديد للحرب بين النائب عن التجمع من أجل الجمهورية فيليب فيتيل؛ وثلاثة مُعارضين للتدخل في ليبيا بينهم روني برومان.

يستطيع هؤلاء الناس أن يقولوا ما يُريدون، يستطيع هؤلاء أن يُقسِموا بأكبر آلهتهم بأن المشكلة ليست في مبدأ التدخل ولكنها في إمكانيته كما يستطيعون أن يقولوا إنّه محكوم بالإخفاق الذّريع.

بإمكانهم أن يردّدوا بطيب خاطرء أنهم لو فكروا ثانية واحدة؛ في إمكانية أن يسير ويُسرّع مجيء الديمقراطية لكانوا من أوائل المدافعين عنه.

يمكن أن يسكرونا باعتبارات ادّعاءاتهم الخيّرة حول التقسيم القبّليٍ لليبيا وحساباتهم المراهنة حول ال66000 قتيل؛ أو بالأحرى؛ حول قمع القذّافي إبان أيام آخر شباط/ فبراير وما بعدها.

أساس المشكلة بسيط.

لنفترض أن شعباً تحت البوط. وليكن هناك طاغية وهو موضع إجماع كل الناس, كما نُجمع عل تكرار كلمة سِرَ أو تعويذة ولنفرض أن الناس ليسوا مشبوهين إزاءه، لا بالتعاطف ولا بالتسامح، هل تمتلك الديمقراطية الحق نعم أو لا في أن يكون لها رأي في الموضوع؟ لو كان الجواب نعم فهل لها الحق في أن تُساهم إِنِ استطاعت في حماية وحتى لو تطلب الأمر في تحرير الشعب المعني؟ أم أنْ هذا التحرير يجب أن يكون فقط قضية الشعب موضوع الاضطهاد ‏ بينما يُشارك باقي الناس مكتوفي الأيدي قي مشهد جهودهم في مشهد موتاهم ورُبَّما طبعا في مشهد دمارهم؟

ثمّة من جهة جملة «بأيّ حقٌ!» التي أطلقها برومان عدّة مرّات» مغتاظا في وجه النائب؛ تلك الطريقة في تكرار بأيّ حقٌ ولكن بلى بأيّ حقٌّ نحن المستعمرين القدامى نمنح أنفسنا القدرة على أن نقرّر من يجب أن يحكم داخل الحدود الليبية، ومّن لم يعد يستطيع أن يحكم؛ وبعبارة أخرى فكرة أن القدر إن جعلكم تُولّدون ضمن هذه الحدود أو تلك فكرة مُحزِنة وغير عادلة ولكنّ الأمر كذلك وهذا المكان هو قدَركم.

وثمّة  من جهة أخرى فكرة أنَّ الحدود ليست كلّ شيء؟ وأنَّ الفضاء ليس الكلمة الأولى ولا الأخيرة للنوع البشري؛ وأن الدّوَل هي منبع السيادة طبعاً ولكنّها ليست منبعها الوحيد؛ وأنها هي التي تضمّن الحق حسّنا ولكن للأفراد حقوقاً أخرى‏ سوف نُسمِّيها "حقوقاً طبيعية" أو «عابرة للدول» ‏ غير الحقوق التي تعترف لهم الدُوّل بها وبعبارة أخرى »فكرة أنه لو أبيد جزء من الإنسانية» وذُل وقتل فعلى القسم الآخر من الإنسانية أن يتدخل.. نعم.

تُسمى النظرية الأولى بالسيادية وهي نظرية لواحد يُدعى غوبلس وقد احتكرها وحطّم الأرقام القياسية في ذلك ونتيجته المنطقية هي أن الدول لديها سلطة غير محدودة؛ وأنّ الحد الوحيد الذي يحدّها إنّما هو حدّها الجغرافي؛ وأنَّ الأفراد ضمن هذه الحدود؛ لا يستطيعون أنّ يطالبوا إلا بالحقوق التي تضمنها السلطة.

النظرية الثانية تُدعى بالنظرية الدولية؛ وهي أفضل الإرث قرين المذهب الإنساني لعصر ألانوار والماركسية السابقة؛ وهي تنهل أيضاً من إرث اليهودية ‏ المسيحية طالبة خلافاً لكل الوثنيات بوحدة الجنس البشري ومتوافقة بشكل طبيعيّ مع الرسالة الشاملة التي يحملها أيضا الإسلام؛ وهي الوحيدة التي وهي تُفضي إلى هذا الواجب الأخلاقي من التضامن مع كلّ الشعوب الُمستعبّدة على الأرض، تستمر بإرادة إعطاء معنى للكلمة الجميلة أخوة.

الأربعاء 13 تموز: تتمة (السفرة الرابعة إلى ليبيا)

في عز الصيف.. رقة الجنوب.

هذه القراءة العامّة لألتوسر التي تمتَعتٌ بها هذا المساء في آفينيون مع سامي فري.

أردت القيام بها تخليداً لذكرى التوسر الذي علمني؛ في العمق تلك الفضيلة وهي النظريّة الدوليّة.

وأردت أن أقوم بها من أجل كوربيه أوليفيه كوربيه مرافقي في هذه المغامرة وناشر رسائل إلى هيلانة هذه التي كان يفرح بها فرحاً كهذا.

ثم إِنَّ هذا الثنائي مع فري كان يروقني منذ ذلك الوقت الذي كنت أسمعهم يتكلّمون عن موجة الشبه العائلي الذي قد يكون بيننا! كانت وجبة العشاء هذه؛ في بورتو مع "شوهل وكافين وأريبل" حول تصوير فيلم "دانييل شميد"؛ كان هناك "ديلفين سيريغ" الذي التقيتٌ به في نفس السنوات وربما قبل ذلك بقليل؛ وكان من جانبه ذلك الشخص الذي لكمه في وجهه في إحدى الأمسيات عند ليب لأنه أعتقد أَنّه أنا.

لقد غيرت رأيي.

أولآ لأنني لم أعد أستطيع التعويل على قادة مصراتة؛ تقوضني هذه التأخيرات؛ وهذه المواعيد الخائبة تجتاحني؟ وفكرة أن أكون هنا في قريتي في عز الشمس بينما الناس يموتون في مصراتة؛ مدينتي الأخرى؛ تلك التي شرّفتني وهي تشرّفني باختيارها لي هذه الفكرة لا تُطاق؛ وإذا كان كل وقتي انتظاراً في انتظار فالأفضل أن أنتظر في ليبيا.

وبعد ذلك؛ وقد يبدو هذا غريبا ولكنّ هذا ما حصل، قرأت أيضاً هذا الصباح مقالاً عن العمليات التي تتعثّر، حرب الناتو القذرة، والفوضى التي وضعنا فيها برنارهنري ليفي وعن القذّافي الذي لا يهزم وقوانين العشائر التي لا يُّمكن تجاوّزها؛ وهذا ما أزعجني وبلبلني، لقد سئمت كثيراً من أن أسمع؛ فجأة تكرار نفس الديباجة، ولهذا قرّرت أن ألغي كلّ شيء وأن أبعد الجميع كي أعود إلى ليبيا وفي ليبيا ليس فقط في مصراتة حيث استعدتٌ كل شيء هذا الصباح من نقطة الصفر (ولم يبق لي من جديد إلا الانتظار) ولكن في تلك المنطقة التي لا أعرفها والتي أتى عبد الفتاح يونس ومصطفى الساقزلي يُكلَمان ساركوزي عنها والتي أعلم أن كل شيء يمكن أن يُفعل هناك أيضا يُفعل -يُفعل ‏ في الشمال ‏ الغربي من البلد على مسافة ساعة في السيارة عن طرابلس الهضبة العليا الوعرة لجبل نفوسة.

اتصلتٌ بمنصور الذي ردٌّ عل بجملته الأبدية «حسناًء موافق» ما من مشكلة.

ثم اتصلتٌ بعلي المتنقل بين بروكسيل ولا أدري أي عاصمة أفريقية؛ ولم أعد أستطيع ملاحقته، أضيع في أمكنته ويحصل لي أن أتساءل: كيف يفعل ذلك كيف يُدير دولةً له

وحده أو على الأقل وزارة خارجية إنه نوع من القمر الصناعي الدبلوماسي يدور في فلك دائم حول الأرض يجولٌ من عاصمة إلى عاصمة من أجل التفاوض اعتراف بالمجلس هنا وتوريد أسلحة هناك أيضاً، ودائماً بمزاج لطيف وبتلك الحماسة الُمعدية وضحكته المراهقة ‏ هنا فقط أجد تردٌّداً؛ نقطة قلق؛ ربما للمرّة الأولى تلقَى اتصالات أقل مما يقول؛ وربما لم يكن يعرف المنطقة، هو أيضاً وربما كان مقاتلوه في الجبل ونصفهم من العرب والنصف الثاني من البربر ليسوا بعد تماماً في المدار السياسي للمجلس الوطني الانتقالي. قلت له: "هناك حل وحيد استغِل وجودي استغل هذه الرحلة؛ هيا بنا لننصب معا علم المجلس الوطني الانتقالي...

هاتف. أيضا إلى كل الطاقم المعتاد: جيل بالطبع الذي التقطه في اللحظة أو أنه كان يختفي في مركبه؛ فرانك الذي ذهب قبلاً في مهمة وسيحل محله واحد آخر؛ ومارك الذي يعيد توماس لوبون من عطلة وكميل لوتو أحد مهندسي الصوت المفضَلِين لراوول رييز؛ وبما أنه سيكون هناك فيلم فسيكون معنا فرانسوا مارجولان من الآن وصاعداً.

تقرّر السفر بعد غد، إلى جربة أولاً، ثم نأخذ الطريق إلى الحدود التونسية، وبعدها إلى الجبل الليبي ستكون إقامتي الرابعة في ليبيا.

الجمعة 15 تموز/يوليو (عفريت السفر)

جربة.. مطار خال. لاسيّاح أو ثمّة قليل منهم رجال شرطة تونسيّون يعطّلوننا.. حد أقصى من الإزعاج ومن الروتين قبل أن يدفع فرانك رسوم سلاحه. نماذج غريبة من الأشخاص تروح وتجيء مثلنا في صالة الإقلاع الفارغة وتراقبنا دون توقّف.

هم ليييون؛ على ما أعتقد.

نعم هم ليبيون أكّد علي ذلك.

ولكنهم ليسوا بالتحديد أصدقاء ليبيا الحرّة.

أدركتٌ أن هذه الطريق التي سنسلكها لنذهب إلى جبل نفوسة:؛ ما دامت موجودة؛ فلا بدَ أن تكون هناك طريق أخرى. غير بعيدة هي الطريق الساحلي؛ وستكون سالكة في الاتّجاه الآخر.

وبدقة أكثر أعي أنه مثلما كان القذّافي عنده مدرج الطيران الذي كلمني عنه ذلك اليوم سفير بريطانيا فقد بقي لديه هذا الممرّ الأرضي الذي لم يقصفه الناتو والذي يسمح لرجاله:

1- أن يأتوا كما أتى الولد محمد القليوشي «ليفاوض» في باريس أو في مكان آخر؛

2 - أن يعود مثل أولئك الأشخاص الذين وجدناهم يمرون خلال عطلة نهاية الأسبوع, بعيداً عن أبخرة الحرب.

-لماذا لا يقصف حلف الناتو هذه الطريق؟

-لماذا لا يُباشّر هجوم مشترك بين الثوار والناتو لوضع هذه الطريق تحت رقابتهما؟

-لانهم لا يريدون.

لأنهم يتركون باب المخرج للقذّافي مرّة أخرى.

للقذّافي دائماً الخيار بين أن يستمرٌ في الحرب ويمدّد معاناة شعبه أو أن يستسلم.

وبالعكس يجب. بمنطق جيد في الأيام أو الأسابيع القادمة أن تبقى هذه الطريق نصب أعيننا لأن الإشارات التي كانت يمكن أن تدل على أنْ التحالف قد فقد صبره والإشارة الأكثر تأكيداً للهجوم النهائي والبرهان على أننا لن نفاوض بعد وبأننا سنمارس على القذافي الضغط الأقصى سيكون ذلك بإغلاق مدرج (الطيران)؛ وهذه الطريق (الأرضية).

كانت أربع سيارات في انتظارنا.

واحدة رباعية الدفع يقودها رجل يناديه الجميع ب «الدكتور»: طبيب مارس مهنته في دوبلن لكنه عندما اندلعت الحرب آلى على نفسه العودة مثل آخرين كثيرين وقد صعدت معه برفقة جيل وفرنك، وسيارتان بمحركات ضخمة؛ واحدة يقودها الأخ الأصغر للدكتور والأخرى يقودها مُتطوّع ليبي كلَّفه الأطباء المناوبون للعمل الإنساني من أجل اللاجئين في تونس وفيها ركب باقي الطاقم.

ثم كانت هناك على رأس الموكب. سيارة يسمونها «سيارة الأمن» مع أن الركاب غير مُسلّحِين يبدو أن التونسيين يحظرون حمل الأسلحة؛ وقد قدرت ذلك من عدد حواجز التفتيش ومن المزاج العكر للرجال الذين يديرون التفتيش وبأنه في كل مرّة وبالطريقة التي يفتّشُون بها تحت كل طبقات الثياب رُخصة حمل سلاح العائدة لفرانك وأن يعزلوا أنفسهم في نقطة حراسة مغلقة كي يُرجعوا إلى ما لا يعلمه إلا الله بغية تعقيد حياتنا وأرى أنهم قد أخذوا هذا الحظر على محمل كبير من الجد.

وصلنا بعد حوالى الساعة إلى تطوان المدينة الأخيرة قبل دخول ليبيا حيث يلتقط الأنفاس القليلٌ النادر من الصحفيين الذين يُغامِرون في جيل نفوسة حيث سنذهب للعشاء والنوم بضع ساعات..

السبت 16 تموز/يوليو (على الطريق مرة أخرى)

أكملنا طريقنا في الساعة الثانية والنصف فجرأ وبقيت الأمتعة في الصندوق الخلفي للسيارة لكيّ لا نضيع الوقت.

بعد ساعة وكنتٌ ما أزال شبه نائم وصلنا إلى الحدود التي وجدناها لدهشتنا الشديدة أكثر إراحة من الحدود الأخرى المصرية ممّا رأيناها عندما مررنا في المرتين السابقتين.

لم نجد من اللاجئين إلا النزر اليسير، هل لأنهم استقرّوا في المخيمات التي تكلّم عنها البارحة أخو الدكتور خريج دبلن؟ أم لأنّ مقاتلي الجبل سيطروا على غالبية مدنهم وبدأ الجميع بالعودة؟.

قلة  قليلة أو معدومة من السيارات سواء في اتجاهنا (لا يُدهِشْني ذلك أبداً لأن هناك قليلٌ من الصحافيين مرّة أخرى في الجبل أو حتى معدومين ولا يوجد حتى ناشطون إنسانيون) أو في الاتجاه المعاكس (وهو ما يؤكد بالمناسبة أن تدفق اللاجئين قد توقف وأنّ الحياة في الجانب الآخر بدأت تعود إلى طبيعتها(.

وبالمقابل وجدنا على الفور آثار معارك.

منذ وصولنا إلى وازن ‏ ذهيبا المدينة الليبية الأولى التي نجتازها وجدنا هياكل بيوت محروقة وآثار لطلقات من بنادق 7،12 على المنازل التي لا تزال مُتماسكة؛ وحفريات خلّفتها القنابل وحتى قبل ذلك؛ على الحدود؛ تماماً خلف البناية الجميلة المدهونة ليكتب باللغة الفرنسية (أثبتها كما وردت)  bienvenue en Libya libre (أهلاً بكم في ليبيا الحرّة)» حيث تبدو صورة كبيرة عملاقة لخليفة عسكر بطل الحرب ضد الإيطاليين وحيث هذه الحفرة في منتصف الطريق المليئة بالحجارة والحصى؛ والحفرة الأخرى على بعد ستين مترا بعيداً عن الطريق وفي عمق الصحراء خلفها صارخا غراد سقطا قبل يومين.

من هذا الجانب أيضا لم يحتط الليبيون في تأمين الحراسة ولكنّ فرانك اقتيد وراء كومة من الحجارة المحطّمّة التي كانت ربما بيتاً ولم يبق منه إلا قسم من الواجهة كتب عليها: "اليس أخي ابن أبي وأمي بل هو الذي يحمل السلاح معي"؛ عاد منها بعد بضع دقائق مع بندقية قتال يعاينها بارتياب يبدو أنها لم تُناسبه ‏ فوضع فيها رامي رمانات أوتوماتيكي جعلها ثقيلة جداً يصعُب التحكم بها توقفنا على بعد 100 متر في مزرعة مهجورة حيث توجد خيارات أخرى وقد سَلّم بندقية كلاشينكوف.

بقيت أمامنا ساعة لنصل على طريق مستقيمة تطل على السهل وكأنها من بعيد شرفة على طرابلس مزروعة بالمواقع المحصّنة جيداً إلى مدينة كاباو في منطقة الجبل الغربي؛ في بلاد البربر.

وكان علينا أن نقضي ساعة أخرى كي نصل إلى تمزان على بعد 50 كم من الحدود؛ في منتصف الطريق بين المدينة العربية زنتان والمدينة البربرية نالوت؛ وقعنا في ثكنة جوببيا على مشهد مائتي دبابة أهملها عساكر القذّافي في أثناء انسحابهم.

الأكثر غرابة أن لهذه الدبابات خصوصية أغرقت الثوار في «الحيرة» حين استولوا عليها ينقصها كلها نفس «الصاعق» الذي يسمح بالإطلاق؛ ماذا حدث، سألنا قائد الثوار الذي استولى على المكان؟ ربما خرّبتها زُمرة من أنصار القذّافي الذين يتّبعون كما في كل مكان من الجبل سياسة الأرض المحروقة، ورْبمّا وجدوا الوقت قبل الانسحاب لتفكيك مائتي صاعِق (وقد أرونا عشرين واحداً منها استرجعوها من حوض مما يُعزّزْ هذه الفرضية)

أو أنَّ الدبابات كانت دائماً هكذا، القذّافي الذي كان يتوجّس من جنوده ويُكدّس الأسلحة المتقدّمة ككثير من ألعاب رائعة ولكنها مكسورة (أو ككثير من الخدع والأسلحة الوهمية المهربة وهي غير صالحة للاستعمال)؟

في طريقنا تحقّقنا مرّة أخرى كما في كل مكان من هذه «الأرض المحروقة» من أنّ خرائطنا كلها خاطئة؛ كلها تلك التي جلبناها معنا من باريس وتلك التي وجدها

مارجولان في لندن مسافات عبثية؛ ارتفاعات غير قابلة للتصديق؛ إشارات اتّجاه الطريق موجودة لكنها ذائبة في الصخور أو غائصة في الرّمال؛ أسماء النجوم أو المدن غير الموجودة مكتوبة بخط كبير؛ أما أسماء المدن المدن الحقيقية فمكتوبة بحروف صغيرة أو بأحرف ماثلة؛ كما لو أنها أمكنة معينة.

بعد حوالى 10 ساعات وبعد أن أضعنا الطريق مرتين وكدنا في المرّة الثانية بسبب خطأ دفعتنا إليه خياليّة الخارطة أن ننزل تماماً في الوادي على خطوط القذَافي الأولى وصلنا إلى زنتان عاصمة جبل نفوسة والمقرٌ العام للقوات الدفاعية فيه.

هل بلّغُوا بوصولنا؟

كان علي قد أكد لي أنهم لم يبلغوا ( لأسباب أمنيّة. الخ).

لكن الواقع هو أن لواء من نمط اللواء عبد الفتاح يونس استقبلنا حالاً في مبنى البلدية.

نفس الشعر الرّمادي المفضض نفس السحنة المغامرة نفس اللباس العسكري للجيش الليبي القديم بلون الخاكي ونفس الطبّع المتوعد المازح.

بعد حوالى نصف ساعة من الأحاديث الشكلية أتى رجل يرتدي سترة؛ وسروالاً فضفاضاً أبيض وجيليه سوداء؛ وعلى رأسه طربوش أبيض ناصع فجلس قرب اللواء عل مقعد صغير منخفض القرآن في يده والمسدَّس في اليد الأخرى وضعهما على المكتب الكبير الخشبي اللامع؛ اسمه مختار خليفة، وهو أيضاً رغم لباسه المدني؛ ضابط ولكن بعد سلسلة من المؤشّرات، الاحترام الذي أحاطه به اللواء؛ وتخيّر نبرة صوته فلم يعد يمزح أبدا منذ أن أطل بنظرته السوداء غير المريحة التي عاملنا بها هذا الضابط الجديد القادم؛ وطريقته. بألا يقول شيئاً خلال دقائق طويلة لاشيء على الإطلاق وحين باشرتٌ الكلام جعل يتفحصني ويفصّلنا كلّنا تفصيلاً بعين الصّقر الذي يأخذ كل وقته؛ وإلى جانبه مُسدّسه طبعا والطاولة الصغيرة الشبيهة بالمقعد الخلفي القابل للثني الذي يرتاح عليه كما يفعل المرء عندما يكون واثقاً من سلطته إضافة إلى هذه الدفعات من المؤشّرات لاحظنا تماماً أن له سيطرة على الضابط الأول مع أنه أدنى رُتبةَ منه ربها هو عقيد؛ كما لاحظنا سيطرة الساقزلي على يونس في بنغازي؛ ولكنْ قبل أن ينهي العقيد تفحصه قرّر بإيماءة غير ملحوظة من ذقنه إلى الجنرال الذي انبسطت أساريره فسمج لنفسه من جديد بالابتسام.

أنا الذي كنتٌ أتكلّم حتى الآن.

عبّرتٌ عن فرحي بقدومي إلى هناء مع علي زيدان ممثل المجلس الوطني الانتقالي الممثل الشرعي الوحيد لليبيا الجديدة هذا مع عِلمي بأنَّ أي ممثل رفيع الدرجة مثله لم يجد الفرصة حتى اليوم كي يقوم بمثل هذه الرحلة إلى الجبل ومن حسن الحظ أن تسمح هذه المهمة بهذا الاتصال؛ ومن حُسن الحظّ أن تعمل على التذكير «بالسلطة البارزة» للمجلس الوطني الانتقالي.

تكلّمتٌ عن شهرة علي العالمية عن هالته في فرنسا وفي أوروبا‏ ألححتٌ بطريقة ثقيلة على أن لعلي زيدان ولفرنسا بالطبع ولكن له أيضا الفضل بأن الجبل تلقى أربعين طناً من الأسلحة الجيدة سمحت بطرد القذَّافي خارج المنطقة وسوف توفر في الوقت المناسب وبالتزامٌن مع تقدّم مقاتلي مصراتة فُرصة الزحف على طرابلس.

شرحت أيضاً أن ذلك الامتياز بتلقي أسلحة ومعدات أكثر من كل المناطق الأخرى في ليبيا الحرة يوجب بعض الالتزامات: ماذا عن سجونكم مثلاً؟ وكيف تعاملون سجناءكم الحربيين؟ إذ يحكم على جيش تحرير من الطريقة التي يعامل فيها أعداءه أليس من الممكن مساءلة بعض منهم بعيداً عن حضوركم؛ بحرية؟

وأضاف "جيل" وماذا عن الاتهامات التي ساقتها ضدكم منظمة حقوق الإنسان؟. لقد صدر عدد من جريدة الليبيراسيون؛ بشأن تشخيص الوضع الإنساني، قام الرجل ذو اللباس المدني بحركة من يطرد ذبابة بسرعة كبيرة كما لو أنها ردّة فعل طبيعية ودعم حركة يده بتكشيرة استياء وقرّف، ولكنّه لما انتبه إلى أنَ هذه الحركة لا تليق بضابط يرتدي اللباس المدني في جيش يتوجّه نحو الديمقراطية؛ استأنف حركته بشكل عكسي تمامأ أي حركة مّن يصطاد الذبابة لا من يطردها ثم هذا كما لو أنه يسحق ذبابة حقيقية ضارباً بيديه على الطاولة؛ بقوة شديدة مما جعل الضابط «الذي من نوع يونس» ينتفض.

ألحّ جيل بالقول: "منظمة حقوق الإنسان تتّهمكم بالنهب والابتزاز يبدو أنه ليس عندكم إعدام بالجملة ولكن هناك عودة إلى الضرب القاسي؛ وإلى نهب الُمستشفيات والتمييز بين المدنيين من أعضاء القبيلة المعروفة بموالاتها للقذَّافي كقبيلة المشاشيّة. ماردٌكم على هذه الاتهامات؟ ولو كذبتم ذلك هل لكم أن تعطونا عناصر وبراهين مضادة‏ وهل تستطيعون إثبات أن المنظمة غير الحكومية مخطئة؟"

واسترسل فرانسوا مارجوليان ومارك روسيل بالقول: "عدا عن ذلك نريد أخيراً أن نصعد إلى الجبهة لأننا أوَلأَ بصدد تصوير فيلم عن ملحمة ليبيا الحرّة ونحن بحاجة إلى صور عن مُقاتليكم، ولكن أيضاً لأنْ هناك سؤالاً آخر لا يزال يُطرّح في فرنسا ولن نستطيع الإجابة عليه إلا بالذهاب لرؤية المقاتلين: العلاقات بين البرير والعرب ‏ هذه المنافسة منذ عهد الأجداد التي لعب عليها القذَافي والتي نريد أن نعرف إذا كان التمرد والنضال ضد القذّافي وأخوّة السلاح سيمتصّونها أم لا، من يقاتل في غواليش. مثلاً؟ هل هم عرب أم بربر؟ هل أنتم جاهزون لاصطحابنا كي تعطونا البرهان وهنا أيضاً أليست قوات التحالف وهي تمدّكم بالأسلحة؛ بصدد أن تصبٌ الزيت على نار حرب قبلية مستقبلية؟"

ها قد قلنا كل شيء, أخرجنا كلل ما عندنا لعبنا كل الأوراق.

وانطلاقاً من ذلك؛: هناك واحد من خيارّين: إما أنَّ يستمر هذا العقيد الرديء بمزاجه العكِر، وَإمًا...

كان الخيار الثاني هو الصحيح.

لا أدري لماذا أصبح وجهه أكثر انفراجا وبدا محبا بصورة مُفاجئة وقبل طلبنا ‏ واقترح: في هذه اللحظة أن يُرافقنا بنفسه إلى الحدود إلى غواليش آخر قرية بيد الثوّار الذين يواجهون كتائب القذّافي. ‏

‏السبت 16 تموز/يوليو؛ تتمة (على جبهة غواليش)

طريق الشمال.

سيّارة بك آب رُكّبٍ عليها رشاش أيضاً حصلنا عليه في نقطة التفتيش الثانية بعد زنتان وهي التي ستكون في آخر الموكب.

ركب العقيد في البك‏ آب الخاصّة به من دون أيّ سلاح آخر غير مسدّسه الكولت

وبدون رشاش أيضاً على سطح السيّارة، الجنرال المازح قام بدور سائقه الخاص فركب في البك ‏ آب الأول وركبت أنا معه أمَا السيارتان الاثنتان أي سيارة علي منصور ثُمّ سيارة مارك وطاقمه فسارتا بعدنا لم أمل من مُراقبة العقيد من مكاني خلفه حيث أجلس فهو جامد بغرابة؛ بالكاد يهتز عنقه عند المطبات زجاج السيارة مفتوح ويده موضوعة على حافة الباب كما في أفلام "الدولشي فيتا" يدخن باليد الأخرى السيجارة تلو الأخرى وهي الحركة الوحيدة التي تكسر جموده. إِنّه حاسم أو حالم لا أعلم ‏ فكرثٌ للحظة بمسعود, الجامد هو أيضاً الغارق في أفكاره يجلس في المقعد الأمامي في المروحيّة الضخمة العائدة إلى العهد السوفييتي وكانت هذه آخر صلة لنا معه؛ عبر العالم الخارجي في دوشانب للالتحاق بولاية بانشير.

مررنا بقرى مدمرة، مناظر من الأرض المحروقة: محروقة بكلّ ما للكلمة من معنى وقد رأينا بقايا القطعان التي حرقها رجال القذّافي حيّة أثناء انسحابهم.

بعد حوالى 60 كم وصلنا إلى اللسان الأرضي الممتدٌ على طول كيلو متر ونصف. مشكلاً خط الجبهة حيث يتتابع عدد كبير من الحصون ومن صفوف المنازل الخشبية والطينية أو المصنوعة من قرميد الخرسانة.

ذهبنا إلى البيت الأخير.

وتعرّجنا بسرعة كبيرة عبر الرمال لأننا كنا في مكان مكشوف فاخترقنا المسافة التي تفصلنا عنه وهكذا وصلنا إلى المعقل الأخير المعقل الذي احتفظ به قرويو بلدة "غواليش" طوال الليلة السابقة مابين كتائب القذَّافي المنسحبة.

ثمَة هنا حوالي ستين رجلا . معظمهم مدنيون كالعادة لم يلمسوا السلاح في حياتهم قبل هذه الحرب.

كانوا قد دُرّبوا في معسكرات مجاورة لجادو وبالإضافة إلى الّمدافِع الثلاثة التي رأيناها مؤمّنة في القسم المحصن تحت الأرض من الحصن, وجدنا أن كلاً منهم مُجهّز ببندقية هجوم وأحيانا بواحدة أو باثنتين من الرّمانات اليدويّة المعلّقة في الحزام.

 أحسَسنا أنهم مُنهكون من معارك البارحة يرتدون لباساً موحّدا لونه الرملي حصلوا عليه من القذافيين السجناء وأجسادهم مُغْطَاة بالعرق والغبار.

يُغْطُونَ رؤوسهم بكوفيّات تقيهم حرٌ الشمس ومن نظراتهم؛ تنبعث شعلة اضطراب لا يمكن لأية صورة أو فيلم أن يحيط بها.

ثمّة جريج مضمد القدمين على نقالة يتجمّع عليه الذباب وآخر قربه ولكنني لست واثقاً بأنه جريح؛ ربما هو فقط منهك ينام على الأرض مباشرة وفمه مفتوح متكوراً في علّم يجعل منه غطاءً له..

وثمّة زمرة صغيرة من رجال يلعبون بالعظيمات؛ جالسين بصمت على الأرض؛ يشربون الشاي ويبدون كأنهم يحرسون النائم أو الجريح وبالكاد يروننا.

من الأشياء التي تصدمني هذا الصمت؛ هذه القسوة في الوجوه؛ هذا التصنع؛ هذا الغياب الغريب جدأً حتى في حالة الرّاحة للفرح والخفة؛ هذه القلة في التعاطي ليس فقط معنا ولكن فيما بينهم؛ فجأةٌ يظهر اختلاف كبير في التعامل بين المدينة وجبهات الشرق في بنغازي ومصراتة.. الجبهة هادئة في هذه اللحظة؟

إنها ساعة الصلاة وبعد الصلاة وجب أن نُشاركهم في تناول وجبة خفيفة قُدمت »بصمت أيضاً كما لو أننا في دير سماؤه مفتوحة» مطبقيات من الألمنيوم والطعام هو قطع من اللحم المقدّد المغطّس بالبصل المطحون ولكنّه للاسف أثار صدودي ولكنّ هذا لم يمنع جيل من أن يجد كل ذلك «لذيذأً» حتى إِنَّه عندما أنهى حصته تبادل معي الطبق بشكل سري.

أخذ علي زيدان الوقت؛: ليجمع الرجال؛ بعد أنَّ ذهب كل بدوره؛ إلى نبع ماء خلفنا ليجلي طبقه يتعامل بسهولة أمام هؤلاء الجبليين كما يتعامل مع رؤساء الدول

والدبلوماسيين الذين يشكلون جزءاً من حياته العادية وخطب بهم خطاباً عسكرياً وسياسيا كان نموذجاً عن "جان مولان" وهو يدعو إلى وحدة مجموعات المقاومة والجبهات.

وضعتٌ الصدرية الواقية من الرصاص لأوّل مرّة؛ فلبستها تحت قميصي ولو على مضّض مبادراً بالكلام بدوري ومتعهدا تحت عيون مُعظمهم الشاكة أو الحذرة أو غير المكترثة أن أكون صدىّ, مثله أي مثل علي عند عودتي أمام الرأي العام وأمام مؤسسات بلدي وصدى ليقظة هؤلاء الرجال وتصميمهم على النصر وصدى وحدتهم أيضاً.

ذهبنا بعد ذلك لكن لنعود بعد ساعتين لأنَّ لدى العقيد خليفة أثناء ذلك موعداً على جبهة أخرى وقد رجانا أن ننتظره؛ بعيداً عن نقاط التفتيش المجاورة (حيث انتهزتٌ فرصة هذا «الوقت اُستقطّع» في الحديث مع الصحافيين) وهنا مع حلول المساء بدأت عملية لهو، فمن عربات مدفع متحركة لم أرّها لأنها كانت مخبأة إلى اليمين في الجهة الأخرى من المكان راح الثوار يطلقون القذائف دفعة واحدة تعبيراً عن تكريمنا.

وقد أرعبتهم تسديدة بالغة القوة لكنّها ذهبت بعيداً جداً وسقطت خلف خطوطنا.

ثم أطلقوا سلسلة من القذائف. كانت واحدة منها وهي الأولى على ما أظنٌ «مهداة» لنا  كي يُصوّرها مارك فردّ عليها أولئك الذين في الجهة المقابلة بقذيفتين دقيقتين أكثر

أجبرتانا على الانبطاح أرضاً في الغبار مما جعلني أعاني عند انبطاحي, من الدرع الواقي من الْرّصاص.

عندما غادرنا في المرّة الثانية تأكّدتٌ من أمرّين.

شجاعة هؤلاء الرّجال ودمهم البارد أثناء القصف المعادي لم يعد هناك من مجال للمقارنة بين ما يجري هنا وما كان يجري في مصراتة مع الرعب والاهتياج ومع روح الهواية الرائعة في بداية الحرب على جبهات بريقة وراس لانوف أو اجدابيا.

والأمر الثاني مُتصِل بمسألة العلاقات بين العرب والبربر: "هناك توازن شبة تام بين الشعبين"

طلبتٌ أن نُحصيهم عند العشاء؛ فتركوني أفعل ذلك على مضض؛ هنا أيضا وبكل الأحوال في غواليش يوجد ثلاثة وعشرون عربياً وثمانية وعشرون بربرياً ولا أثر بكل صراحة, لذلك الاحتقان العرقي الذي كنت قلقاً حياله والذي نقول في أوروبا إنه يمكن أن يكون عائقاً أمام النصر. '

وهذه شهادة على ذلك.

يتواصل