إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح19

اثنين, 08/03/2021 - 00:06

أشياء رأيناها في جبل نفوسة

كاباو.. ليلة ثانية في بيت محمود وهو تاجر قديم؛ في المدينة الخاوية كاباو.

عشاء حقيقي ورائع (طبق من اللحم, والرزٌ والعنب ومشروبات غازية وفيرة).

حصر ممدودة على الأرض مثل ليلة البارحة نمنا كل اثنين في غرفة واحدة عتمة كاملة وتلك هي المزية.

لم أنم ليلة البارحة بسبب صرصور أزعجني حاولت قتله بحذائي حتى الفجر.

نويتٌ أن أنام فترة أطول هذه الليلة ‏ وخصوصاً أن محمود أغرق الغرفة بالمبيد الحشري وأعطاني بعناية خاصة؛ وبدون تعليق وسادة وغطاء إضافيين.

ولكني رّحتٌ أدوّن أثناء انتظار ذلك.

كتبتُ بسرعة وبدون تنظيم لسببين أولاً لكي أنعس وثانياً خشية أن أنسى فجأة بعض الأشياء فدوّنتٌ بسرعة كبيرة مستضيئا بوهج حاسوبي تلك المشاهد من الحياة في جبل نفوسة.

وجدتٌ كل شيء في أزقة زنتان حيث قادنا العقيد ختار خليفة لكي يرينا بعد الجبهة آثار المعارك الأخيرة والدمار (شوارع مملوة بِالحفر؛ أبنية متهدّمة؛ وثمّة هذه البناية التي ضربها صاروخ، لا أدري كيف، في سقفها مخترقاً الطوابق الثلاثة وواصلاً إلى الأقبية(.

‎ وجدنا صناديق من الذخيرة الفارغة؛ المكدّسة على درج سلم البناية سيّارات بك آب نسيت في مؤخرتها قذائف صاروخية صناعة روسية كانت لجماعة القذَّافي وتمّ الاستيلاء عليها أيضاً. ووجدنا على السطح الخلفي لشاحنة إسطوانةٌ من الحديد الأبيض ارتفاعها 50 متر وقطرها 20 مترأ مكتوب عليها "مُشعِل قنبلة نابالم" اغتنمها الثوّار من أحد حصون القذّافي أيضاً في "بير غنم" أليست الدليل على أنّ القذّافي يستعمل وقد استعمل أو أنه يتحضّر لاستعمال أقذر أنواع الأسلحة فتكاً؟

في زنتان أيضا تحولت مدرسة إلى سجن عسكري. قلت لبشير ميلاد الذي كان يعمل سائق تكسي وتحوّل الآن إلى مدير للسجن وأردت لقاءه بمُفرده مع طاقمي من دون شهود ليبيين من سجنائه الذين قبلوا وعددهم ثمانية عشر رجلاً بعضهم جالس؛ وبعضهم مضطجع على فرشتين في قاعة مشتركة. تُهوّيها نافذة كبيرة على الحائط اليساري للمدخل.

منهم خبّأوا وجوههم لأنهم لا يريدون أن يُصوّروا غير أن أغليهم قَبل، لم يحكوا قصصاً تدل على سوء معاملة، ولا آثار ضرب ظاهرة عليهم، هناك وجبات طعام جاهزة وصلت ونحن هناك، وجبات مقبولة من (الرز والسمك المقلي والفّليفِلة). وهناك شاهد على الأقل حكى قصة وحدة من الدبابات التي كانت تتقدم صوب مجموعة متمرّدة وعليها في الخلف قناصة أكثر مما عليها جنود (وهؤلاء القناصة يهددون أولئك بتصفيتهم لدى أقلّ ميل للتراجع أو للتعاطف الأخوي مع الأعداء(.

ثمّة؛ في القاعة المجاورة مساجين آخرون, بنفس العدد ولكنهم قادمون من النيجر ومن تشاد ومن السودان وهي إشارة إلى نسبة المرتزقة في الجيش المسمى بالموالي؛ اعتراف القذّافي بأنه محاط على غرار الملوك النورمنديّين في باليرمو بحرس عري وهو يعلم أن ليس أمام هذا الحرس إلا أن يصمد حتى النهاية؟

ما يدفع إلى الدهشة الآن إِنَمّا هو المظهر الفقير لهؤلاء الرجال الخائفين المروّعين تقريبا وقد شرحوا لي أنهم بالكاد قاتلوا وبأنهم تلقوا تدريبات شبة عسكرية أفضل بقليل من تدريبات خصومهم ‏ وادّعى بعضهم أنهم كانوا قبلاً في ليبيا وبأنهم اختيروا للعمل حتى إنهم إذا صدقناهم, كانوا معتقلين من بين المليون ونصف عامل مهاجر الذين يشكلون الجيش الاحتياطي لملقّمي وقود النظام، لا أعلم إن كانوا يقولون الحقيقة، وربيا يجب أن أصدق بشير ميلاد حين قال لي لاحقا بعد جلسة المقابلة وهو يقهقه بقوة بأنهم اعتقلوا جميعاً والسلاح بيدهم وبأنهم يحملون دماء ليبية في وعيهم وبأنهم كلاب حرب، ولكن من المؤكد أننا بعيدون عن الصورة التي كوَّنتُها عن محاري القذّافي الْمرَعِبِين، كان يقال هم المرتزقة. وكنت أتخيل رجالاً بعضلات قوية منتقين حسب السوق الجديدة للعبودية على الأرض أشداء في الحرب؛ ذوي صلابة. كان هناك؛ على العكس هؤلاء الفقراء المضلّلون المرعوبون من أسئلتي. وما يلفت النظر أن تجد هنا الغليظ والمرهف الطوال والقصار، السمان والنحاف، كما لو أنّ القذّافي أخذ الكل كل شيء على الإطلاق إنها إستراتيجية سفينة الصيد حيث عدد المحاربين أقل من عتاد المدافع.

مستشفى المدينة شيء هام هذا المستشفى بسبب مشكلة اللوازم الطبية التي ادّعت منظمة حقوق الإنسان بأنها «نهبت» في الأعوانية كي تُنقل إلى هنا أبقانا المدير في قاعة من دون نوافذ وهي المقر العام الإداري حيث توجد ملفّات المرضى. فتش في خزانة معدنية وأخرج وثيقة محفوظة في ملف بلاستيكي، وهو المحضر الرسمي للاجتماع التداولي للمجلس البلدي للأعوانية مثبتاً أنَّ المدينة شبه خالية وبأنّ مستشفى المدينة عالي التجهيز مقارنةٌ بما بقي فيه من السكان، مما سمح بنقل معداتها الطبية إلى زنتان التي تعاني بالمقابل نقصاً في كل شيء. العقيد خليفة كان على حق، بينما أخطأت المنظمة غير الحكومية.

بعد ذلك جاء أبرز ما في هذا اليوم، سلكنا الطريق إلى مدينة غاريان آخر حاجز قبل طرابلس، إنها الطريق العادية، الطريق التي تقود إلى "كريت" بشكل مستقيم تاركة على يمينها وعلى يسارها كل مدن المنطقة كما لو أنها تريد أن تشير إلى أنَّ الطرقات الرئيسة في هذا البلد ليست منشأة للخدمات والمرور بقدر ما هي معمولة لتتقاطع وتراقب ولتحتل المساحات الداخلية (طرقات للدبابات وليس للناس...). وهاهنا في الرحيبة؛ سهم كبير أصفر وصُفْران مدهونان بالأبيض يشيران إلى أنَّ الحصباء لتسوية الطرقات على بعد 1600 متر مضينا حتى خط آخر أحمر هذه المرّةَ حيث كانت تنتظر جماعة من المقاتلين يصرخون "عاشت فرنسا!". رأينا مهبطاً للطيّارات. كانت الساعة السادسة مساء فجأة التقطت الجماعة أنفاسها، ونظر الجميع نحو الشرق بكثافة وفي صمت، وضع معظمهم نظارات شمسية لأن الضوء كان ما يزال قويا وحارقا ومع هدير محركات ضخم وبغيوم كثيفة من الغبار وصلت طيّارة وحطّت هنا في قلب الصحراء واكتشفنا عندما انقشعت الغيوم, أنه مكتوب عليها «طيران ليبيا». بقيت ثلاثين دقيقة لتفرغ حمولتها من حوال ثلاثين صندوقاً بألواح مدهونة بالخاكي كدّسها رجالٌ مُسلّحون بأسلحة خفيفة في سيّارات بك آب سرعان ما تنطلق إلى زنتان قيل لي إنها قادمة من بنغازي، لكنّ فرداً من الطاقم حدٌّد الأمر لحظة إعادة

الإقلاع (مع حوالى عشرين من سكان "جبرا" انتهزوا الفرصة كي يذهبوا لرؤية أهلهم في منطقة برقة) بقوله ‏ وبدا لي الفرق كبيراً: "قدمنا من بنغازي نعم ولكن بعد أن هبطنا في مالطة".

حصلت مثل هذه الرحلات سبع مرّات منذ ثلاثة أسابيع؛ وذلك لتوريد المعدات العسكرية المشهور الذي تحدّثت عنه جريدة الفيغارو الشهر الماضي.

هاهي كاباو أيضاً مع بداية حلول المساء الشمس محمرّة على خط الأفق الشارع الرئيس في بلدة كانت أفضل مكان في المنطقة، كان تعداد سكانها بضعة آلاف قبل الحرب ثمّة سرادق مُكوّنة من الطين المجّفف والجبس والحجر القطع ذي اللون الأحمر الأرجواني للمدينة القديمة؛ كان يقام فيها كل عام مهرجان للعادات والتقاليد البربرية، وهي اليوم مدينة ميتة، ليس فيها بيت للإيجار، ولا تجارة، فيها محطة بنزين نصف مهدمة؛ كان علينا أن نبحث حتى منتصف الليل عن المسؤول عنها كي نُقاوضه في النهاية على خمس صفائح توصلنا إلى الحدود. كان الهواء ثقيلاً ورطباً. كان أخ الطبيب خريج دبلن الذي قاد السيارة منذ جربة مُستعجلاً كي يُرينا مدينته وفجأة راح يراها بعيوننا وبدا كأنّه يعتذر بالقول "لم يعد عندي جيران على الإطلاق هذا صحيح؛ وأعترف أنني. بنفسي أيضاً وضعت عائلتي في الملجأ في تونس؛ ولكن كان يلزمنا القليل لكي تعاد ولادة كاباو؛ وبالقدر الضئيل الذي قصف به الناتو منصات الصواريخ التي ما تزال من "الجوش وتيجي" تجعلنا في مرمى النار ‏اسمعوا...". وسمعنا أصداء انفجار، لم تنته الحرب، جبل نفوسة ليس بعد وفي كاباو يلوح ظل ليبيا الحرة.

عودة إلى الوراء. البارحة في اللحظة التي كنا نتهيأ خلالها للصعود في السيارات كي نتّجه إلى حدود "غواليش" جاء شخص مدنٌي شعره رمادي قصير له رأس مفكْر وَقور؛ إسمه أسامة جويل وهو القائد الفعلي للدفاع في زنتان والرئيس الأعلى للعقيد خليفة وللجنرال شديد الشبه بيونس، سألته ماذا تنتظرون لتسيروا إلى غاريان ثم إلى طرابلس؟ أجابني: "لاشيء. وأخيرا لاشيء أساسي. إذ لم يعد جبل نفوسة يفتقر فعلاً إلى السلاح وفيه خيرة مقاتلي ليبيا الحرّة، ما ينقصنا هو الضوء الأخضر من بنغازي ولكن حضورك (والتفت إلى علي زيدان) بالنسبة لنا هو إشارة هامة جداً إشارة الناتو: متى تعتقدون أنتم الفرنسيين أنكم قادرون على إعطائنا هذا الضوء (التفت هذه المرّة صوبي فأجبته بالطبع بأنني لا أعرف شيئاً)؟ ومن بعد..."

 توقّف في منتصف الجملة... كنا واقفين في مدخل البناية التي استقبلّنا فيها الجنرال الشبيه بيونس. كان مارك يُصوّر. أحس فجأة أن الجنرال الشبيه بيونس منزعج، يعود انزعاجه إلى أنه خاف من أن يستفيض في القول، أحس أنه يشك في الدخول

بشكل أدق أمام أجانب في تفاصيل الاستراتيجيات وبأنه حاول أن يحصرها في هذين الضوءين الأخضرين! اذا تُعقَدونَ الأمور؟(

ولكنه رأى أنني كنت أنتظر. رأى أنني أومأj إلى مارك وتوماس بألا يُصوّر وتصوّرت أنه فهم هذه الحركة على أنّها التزام بالسرّية، قال له علي أيضاً شيئاً ما بالعربية وسمعت على ما أعتقد اسم ساركوزي قال عنه كلاماً كثيراً أو لم يقّل ما يكفي؟ فأضاف مُتأسّفاً: "كل ما نريده هو دعم إخوتنا في مصراتة الذين عندما تصل قوّاتهم من الشرق سَيُحاصرون العاصمة معنا؛ فأنا غير مُتأكٌد من أن لدينا الوسائل العسكرية لنقوم بهذا العمل وحدنا؛ وحتى عندما سوف نحصل عليها سيكون ذلك أمنيتنا المطلّقة؟"

لاشيء نقوله بالنسبة للبرنامج هو برنامج باريس بالتحديد إنه الذي وعدتٌ به ودافعتٌ عنه منذ رحلة يونس، ولكن ماذا يريد أن يقول بعبارة «أمنيتنا المطلقة»؟ ولماذا هذا التحفظ الذي يمكن أن نفهمه عل أنه إشارة حذر حتى من مقاتليه أنفسهم؟ حضرتني فرضية هنا أيضا وأنا أكتب ربما الظن العاطل في الليل؛ وقلة النوم ولكنني أدون على الرغم من كل شيئ. الرجال الذين التقيت بهم في "غوالش" رائعون، لا يُقدّرون بثمن، ويبدون أكثر انضباطاً أيضاً من كل الذين رأيتهم في الأماكن الأخرى. كانوا ينشرون على خط الجبهة هذا أريجاً لم أشهده في مكان آخر، عطر جبل الجزائر وعطر بانشير، وجانب من سييرا مادو أو فوكو بالمعنى القديم الذي قصّده دوبري بقوله (تأمّل... هذا الشخص لم يقل شيئاً... منذ بداية هذه الحرب ولا كلمة... ومن ناحية أخرى؛ حاله ليس أفضل من حال ألان باديو ساحر الأحداث التاريخية ‏ العالمية الذي لم ير شيئاً في ليبيا ولم يسمع شيئاً...). ذكّرني هذا الأريج فجأة بحروب فترة شبابي بالحلو منها كما بالمر، بهذا الجانب الصخري مقابل الرمل، عش النسر مقابل الصحراء، هذا الجانب من حرب المُرتفعات التي أعطت دائماً مقاتلين أباة لا يُقهرون. هذا العطر سيكون هنا في الوقت الْمناسب معجزة.

الأسوأ أو في كل الأحوال الأقل جودة شيءٌ قارص قليلآ وشرس وربما عنيف استشعرت في غواليش ظلَّه العابر على المرء أن يكون شديد الحذر بشكل طبيعي؛ ولكنني أتساءل؛ على حين غرّة إذا لم يكن ينقص هؤلاء الرّجال شيء كي يكونوا "الاندفاع الأخير" ‏حد أدنى من المدنية بالمعنى المجازي للكلمة وما دُمنا بهذا الصدد ينقصهم أيضا بالمعنى المحسوس للكلمة هذا الحد الأدنى من الأمور العملية بمعنى حب المدينة حيث أثبتت التجربة أن من المطلوب دائماً جيوشاً تحتل أو تستعيد عاصمة؛ أليس هذا ما أراد قوله ذاك المدني ذو الشعر الرمادي؛ الأعلى مرتبةً من العقيد خليفة ومن الجنرال الشبيه بيونس عندما أسرٌّ لنا بلهجة تحمل طابع الحكمة؛ بأنه يفضل قبل الهجوم أن يكون واثقاً من دعم مصراتة..

هي مجرّد فرضية رأيتٌ تماماً الاستخدام الرديء لذلك، ولكن فضل هذه الفكرة على الأقل أنها ذكّرتني بالقضية العاجلة الأخرى قضيتي والتي أهرب منها بمجيئي إلى هنا: هناك في الأصقاع البعيدة جدا في هذا الركن الضائع من أوروبا ألا ينتظر الناس الذين يتضامنون مع ثوار الزنتان وكاباو حيث أستعِدٌ للعودة منها ألا ينتظر هؤلاء الناس أكثر من أيّ وقت مجىء الجنرال رمضان زمروح ورجال مصراتة؟ هناك بعيداً جدا في رُكن قَصِيّ من آسيا... بعد أربعين عاماً استعدتٌ عن غير قصد الجملة الأولى للهنود الحمر...

الاثتين 18 تموز/يوليو (حيث أنه من دون مصراتة:؛ لن يستطيع جبل نفوسة مُحاصرة طرابلس . والعكس صحيح(

باريس.

لم أتلقّ أية أخبار أمس مساء، عندما هبطت طائرتنا القادمة من مصراتة، التقيت في مقهى باريسي؛ مع وحيد برشان،عضو المجلس الانتقالي لمدينة غاريان الحاجز الذي يتحكم بالوصول إلى طرابلس عندما نأتي من الجبل. هو رجل لامع يتحدّث إنجليزية ميزة. مهندس مُتخصّص في بريطانيا ومعلومات مبدعة وإليه يعود فضل مضاعف:

1.وهذا غير معروف تقريبآ أنّه فصّل منذ نهاية شهر شباط/ فبراير شبكة الاتصالات في بنغازي عن النظام المركزي في طرابلس وكان بإمكانه أن يقطعه في كل لحظة وأن يتجسّس عليه ويشوّشه ويُعطّله؛

2. أنه افتتح الشهر الماضي مع عبد الكريم بزاما مستشار الأمن في المجلس الانتقالي الخط الجوي الذي رأيت في كاباو واحداً من مدرجّات الهبوط فيه حيث تُستخدّم بشكل خاص لنقل الأسلحة الفرنسية باتجاه جبل نفوسة. عرف أنني عدتٌ للتو من هناك. لذا أصرّ على رؤيتي. أراد إفهامي أنْ زنتان ليست غاريان وليست غواليش ولا الأصباح وأننا إذا أردنا أن نسير بسرعة وإذا أردنا أن تسقط طرابلس قبل رمضان. أي قبل نهاية شهر آب/ أغسطس فيجب أن نفهم الحقيقة المعقدة لهذا الجبل الذي نعدّه خطأ كلا واحداً ‏ وأن نشرع في توزيع أكثر توازناً للسلاح الذي تُقدّمه.

أوقفتّه وقلتٌ له أنْ لاشيء يسيء إلى القضية الليبية بقدر ما تُسِيء فكرة المنافسة بين المدن؛ والقرى والقبائل ضمن المنطقة الواحدة. ردّ علي بأنه يعلم ذلك جيداً ولكننا لا يمكن أن ننكر الحقائق، وبما أنه طلب مني أن أؤمّن له الاتصال مع الإليزيه فإنني لم أقبل أن أتصِل بنيكولا غالي إلا بعد أن أسمعته جيداً وكرّرتٌ له مع علمي بأنه يعرف الموضوع جيدا أن حكاية الْمنافسة بين القبائل الواحدة والانخراط في حرب انتحارية بين الأخوة هو نموذج الخطاب الذي لا يمكن سماعه في الغرب. لكنّ خطابي بعد أن قلت لم يُلاقِ أذناً صماء بل وجد حتما صدىٌ اعتماداً على ما أحسَسْتُ به في الجبل وما أسمعني إِيّاه ذلك اليوم؛ الرجل ذو الشعر الرمادي القصير قائد الدفاع في زئتان. مما أكد الامتعاض الطفيف أيّاً كان الذي عدت به. ورأيت فيه سبباً لأتمسك بتحليلي: الجبل ولكن ليس من دون مصراتة ومصراتة التي ينبغي أن تعطي الإشارة للجبل بسرعة؛ أجل! الجبل هو الذي يؤكٌّد خطي الإستراتيجي منذ أسابيع وأسابيع؛ الذي أُمرّره وأدافع عنه وأفرضه أكثر من أي وقتٍ مضى.

الاثنين 18 تموز/يوليو تتمّة (وعلى ما يبدو أن الرئيس لم ينسى وعده باستقبال ضباط مصراتة الأحرار(

فكارتٌ طيلة النهار بحديثي ذاك مع رجل غاريان. وبالتوازي وكما لو كان الأمر مقصودا أتلقى منتصف بعد الظهر رسالة إلكترونية من ابن سليمان يشير فيها من لندن بِأنْ وفد مصراتة؛ قد أعطى موافقته وبأنه جاهز لمُّغادرة المدينة، كتب لي أن الوفد سيتكوّن بحسب الاتفاق من الجنرال رمضان زمروح والعقيد هاشم أيضاً. لكنٌّ رئيس المجلس البلدي الانتقالي لا يستطيع لأسباب غير محددة الخروج من المدينة وسيحل محله رجل عسكريّ آخر هو العقيد «بيت مال» الذي التقيت به أيضأ في مصراتة؛ وقد كان أحد صانعي التحرير في المدينة، سألني هل هذا يُناسبني؟ وكيف لا يناسبتي؟ يناسبني بالأحرى مرتين بدلاً من مرّة واحدة أنا موافق هكذا سيّعلن لي خلال ثلاث ثوان ثمينة بأنني سأكون موافقاً دائمًا.

اتصلتٌ بالرئيس . قلت له حسناً! سَيَصل الوفد الجنرال "لوكلير" الليبي لتحرير طرابلس! هم هنا تقريباً هناء القادة المقبلون للجيش الثاني! هل مازلتَ موافقاً على مُقابلتهم؟ موافق دائماً، للقائهم شخصياً، شخصياً، لأن الرئيس ليس مأخوذا كليا بالأزمة الاقتصادية التي يبدو أنها أخذت مُنعطفاً جديداً مُروٌعاً هذه الأيام الأخيرة؟ ولكنْ لا؛ بقيت للرئيس أذن ثالثة ليسمع بها هذا الصباح قصّتي وحين تأتي اللحظة المناسبة هؤلاء الرّجال عندما سيخرجون أخيراً من الجحيم. لم أَحطْه علما في هذا الوقت لا بخشية أسامة جويلي ولا بتحليلات وحيد برشان ولا بشكوكي الخاصة حول الجانب الحاد «الفظ» لرجال الجبل وحول ضرورة تعويدهم أكثر من أي وقت مضى, ولأسباب ليست فقط عسكرية بل لأسباب سياسية أيضا على الروح المتضاربة لمدينة مصراتة.

بعثتٌ رسالة إلكترونية إلى لندن لأعِلن أنني تسلّمت الخبر. ورسالة أخرى إلى بشير صباح صاحب المركب طالباً منه أن يؤكّد لي الموعد حالما يستطيع وحين يبدو ذلك ممكنا هذه المرّة. وأخيراً

الاثنين 18 تموز/يوليو أيضا (هل اقتريتا من الهدف؟)

تلقيت رسالة من بشير يخبرني فيها أنهم في الركب. سيكونون ى مالطة هم الثلاثة غدا ومن ثمّ في باريس مساء، سيصلون في الوقت المحدد؛ ليستقبلهم الرئيس قبل أن يُغْادِر إلى ألمانيا في اليوم التالي أي الأربعاء، كدتٌ لا أصدق ولم أكن مُصيباً هذه المرّة، أخطأت بإفراطي في التشاؤم.

الثلاثاء 19 تموز/يوليو (عندما تصل مصراتة، أخيراً، إلى باريس)

استقبلهم دانييل روندو في مالطة.

هذا المساء؛ أنا مع فرانسوا مارجولانو ومنصور في مطار شارل ديغول.

بما أن فندق رافاييل كان كامل الحجوزات فقد حجزنا لهم في فندق بادو كاليه.

كان ثمّة إذأ زمروح والجنرال ذو الرأس الأبوي الهادئ ونظاراته بإطارها المستطيل وشعره الأصلع  الملموم من الجانبين إلى قمة الرأس وابتسامته التي لا تُفارق محياه.

والكولونيل بيت مال معاونه الأصغر منه سنا بسحنته الجميلة ذات الزوايا المقطعة

بسكين وآثار جرح على الذقن وأنفه الأعوج قليلا، في طبعه شيء من فرانك إذ لا يكاد يتفوه بكلمة. أحمد هاشم ذلك الذي نسيته، وها أنا أستعيد شكله حالآ فهو قصير القامة يلبس طقما بدين بمهابة ولكن باستدارات ساخرة لملامح تذكرني بغرابة "بعمانويل ليفيناس".

سعادتهم بوجودهم هم الثلاثة؛ في باريس, فرحهم, وبالضرورة سوداويتهم. سعادتهم بأن يصلوا من المدينة الأكثر حطاماً على وجه الأرض إلى مدينة من أجمل مدن الأرض الصدمة؛ في عيونهم من مدينة الأنوار ومن عمرانها الشامخ بالمقارنة مع الصور التي يختزنونها في أعماق عيونهم؛ عن مدينتهم المهجورة. العنف والهدم؛ وروعة المدينة.

ظِل مصراتة عالق في كل خطوة من خطواتهم..

 في شارع سان جرمان عندما نزلنا من السيارة قبل الوصول إلى الفندق لنأكل السندوتش في مقهى ونستعرض مواعيد الغد (مع نيكولا ساركوزي ثم مع بوغا وعلى عجّل مع عسكرييه)؛ رأيتٌ دمعة تسيل على خد زمروح المقاوم الُمغترب.

الأربعاء 20 تموز/يوليو (المواعيد في الاليزيه تتابع: ولا تتماثل)

التقينا ساركوزي الساعة الثامنة والنصف، جرى الاستقبال كنا في جلسة مغلقة، )التسلسل الهرمي الدقيق في الإليزيه على الطرف المجلس الوطني الانتقالي الذي يُمثّل الشعب الليبي وكان لعبد الجليل لاحقا يوم الاجتماع الثلاثي في 8 آذار/ مارس الحق "بمكانٍ متميّز" يتضمّن خيار عقد مؤتمر صحفي في أرض ساحة الشرف وكان على الطرف الأقصى اُلمقابل يونس والساقزي اللذان لم يكن لما الحقّ إلا بنموذج مختزل وسري وبين الاثنين مستوى استقبال اليوم(.

في قاعة الاجتماعات الكبيرة اتِبعت نفس إجراءات المرّات الماضية إلا أن مقابل الرئيس ورجاله. هذه المرّةَ منصور وليس علي الذي ظل في القاهرة ‏ لكن أيضاً الضباط الثلاثة الذين يقودهم سليمان وبشير: الجنرال رمضان زمروح في الوسط؛ والعقيدّين على يمينه؛ ومنصور وسليمان على يساره؛ وأنا على طرف الطاولة.

الرئيس هو الذي افتتح الجلسة بكلمة شكرهم فيها على مجيئهم.

سليمان؛ الذي ليس على علم بالحيل البلاغية للرئيس اندهش من هذا الشكر وقال إنهم هم الذين يدينون بالعرفان.

أعلمّهم الرئيس بأنه لا وقت كثيراً لديه؛ وبأنه مسافر بعد اللقاء إلى ألمانيا؛ ولكنه أبدى سعادته بهذا اللقاء المنتظر منذ عدّة أسابيع.

استرسل سليمان في شُكره؛ كما حدث في شهر نيسان؛ مع عبد الفتاح يونس على كل ما قامت به فرنسا ولكنه عبّر بنفس العبارات عن أن ما يقدّم لهم ليس كافيا وأنْ ليبيا تنتظر المزيد. .

رد الرئيس: وعدتكم بطيّارات مروحيّة وهذا ماتمٌ حصلتم عليها.

قال سليمان: أعلم ذلك؛ ونعلمه جميعا فتدخلكم غيّر كل شيء وعلى هذا نحن لكم شاكرون.

 فرد الرئيس: أنتم تعلمون أن الكثير من حلفائنا لا يُفكرون إلا بترك أرض المعركة؛ وقد بدؤوا يفعلون ذلك بالفعل إذا لم يكن الآن أو خلال الأيام القادمة فسيكون في الأسابيع المقبلة"

قال الضباط الذين لم يتكلّموا حتى الآن بالإنكليزية: كلا.

قال الرئيس بالفرنسية: "بل حتى أوباما! فثقتي تتناقص شيئاً فشيئاً بنوايا أوباما؛ صحيح أنه يمنح الطيّارات دون طيّار حسناً؛ ولكن لا شيء مُنه آخر بالنسبة لنا..."

قطب كما لو أنه أحِسٌ بالألم فجأة، أتذكر ذلك العهد الذي كان هذا النوع من التقطيب يجعلني أنتظر الأسوأ.

"القضية ليست بهذه السهولة بالنسبة إلينا أيضا".

قطّب من جديد تقطيب الألم.

"لا تمضي الأشياء بشكل جيد في أفغانستان. الرأي العام لا يحب ذلك عدا عن أَن..."

هنا ابتسَّم ووجّه سبابته إلى سليمان.

"عدا عن أننا يجب ألا نقول حماقات هنا أيضاً، أولاً لأنّ جنودنا القتلى قتلوا ليس في اقتحام عسكري ولكن بعد عمل إرهابي وهذا ليس نفس الشيء، ومن ثم نحن لا ننسحب هكذا مطأطئي الرأس، ننسحب عندما نُنهِي عملنا وننجزه".

أشار سليمان برأسه علامة على الموافقة، فعل هذا بإشارة من يعلم ذلك منذ وقت طويل..

"ولكن في النهاية نظراً لهذه الأسباب ولغيرها تظلٌ القضية غير سهلة بالنسبة لنا أيضاً ولكن سيان عندي. كنت أعرف ذلك حين انخرطت فيه والتزامي به كاملّ ولن أحيد عنه وسوف نمضي إلى نهاية هذه الحرب."

وعندما رأى في الوجه الحاد للعقيد بيت مال ذي العين السوداء التي كانت تُحَدّق به ربما تأويلاً سيئاً لما قال صحّح:

"إسمعوني أنتم من تقودون هذه الحرب؛ ونحن نساعدكم؛ ولكنها حربكم, وأنتم من تدفعون بها إلى النهاية."

ولكن سليمان هو من عقب: بالضبط فالمساعدة غير كافية.

" غير كافية غير كافية... هل تعلمون أنه فقط في الأسبوع الماضي ألقى طيّارونا 22 طناً من القنابل على طرابلس؟ 22 طناً! ودون أخطاء! طيّارونا يقومون يعمل مميز."

بالطبع نعلم ذلك لكن المشكلة ليست طرابلس. المشكلة في مصراتة جئنا سيدي الرئيس كي نحدّثكم عن مصراتة.

قال الرئيس: أعلم ذلك إذاً هيّا نتكلّم عن مصراتة كم عدد الرّجال عندكم؟'

أشرتٌ إلى الجنرال رمضان زمروح بأنّ عليه أن يبادر بالكلام، فقال بالعربية التي تولى المترجم نقلها: "لدينا ثلاثة آلاف رجل مُدرّب. ليس أكثر من ثلاثة آلاف. ولكن فعلا من الطراز الأول. وهم مُستعدون للقتال".

أعدت الإشارة له مُذكراً إِياه بحديثنا البارحة مساءً.

لديهم خيرة المعارك؛ ولديهم الانضباط؛ ومُتحمّسون فوق ذلك وهم منذ الانتصار الأول؛ كسائر جنود العالم يتحرّقون لتحقيق النصر الثاني.

راقبه الرئيس لفتّت هذه الشخصية انتباهه بشكل جلي. بتقاطيعه غير الواضحة والمنتظمة وبرأسه الشبيه "ببابي موجيو" حيره على نحو غريب أكثر من «بيت مال» وشكل وجهه الشبيه بساموراي عربي ‏ فهل لدى زمروح معلومات لا أملكها ولا يحيط بها في هيئته؟

تابع رمضان بالقول: «مخطّط هجومنا جاهز»، وستخرج الخارطة التي حملها له مارجولان هذا الصباح بحالتها المزَرية ورسم بقلم اللبّاد خطأً ينطلق من مصراطة إلى زليطن؛ ثم من زليطن إلى مدخل طرابلس.

"مفتاح طرابلس في مصراطة" قال ذلك وهو يسحب الخارطة عبر الطاولة باتجاه الرئيس "إذا سلحتم؛ مصراطة فلن أستغرق إلا بضع ساعات، قلت بوضوح عدّة ساعات لأصل إلى طرابلس".

ألقى الرئيس نظرة على بوغا غير القابل للاختراق ثم أخرج بدوره خارطة من ملف كان معه؛ الخارطة نفسها خارطة مصراطة ولكنّي لاحظت من المكان الذي أتواجد فيه أنها خارطة عالية الجودة وأوضح بما لا يقاس من خارطة طريقنا البائسة؛ فنهض الضباط الثلاثة نصف نهضة، كرجل واحد كي يروها بشكل أفضل.

"غير معقول" قال رمضان وكان المترجم ما يزال يترجم...

نعم قال ساركوزي بهيئة المتواضع كما لو كانت هذه الكلمة مديحاً.

- تمتم رمضان: نحن نرى كل شيئ.

-كل شيئ؟ يمكننا تقريباً رؤية تحركاتكم!

جلس رمضان من جديد مصعوقاً من أعجوبة هذه الخارطة.

عاد سليمان إلى صفائه. ا

"هناك شيء آخر سيّدي الرئيس.. إذا قررتم توريد الأسلحة إلى مصراتة:؛ فمن الأهمية بمكان أن تصل هذه الأسلحة إلى مصراتة حقا وأن تصل خصوصاً بسرعة...

قاطعه الرئيس بالقول: "ليس هناك من صعوبات سنطلب مُساعدة أصدقائنا المشتركين"

دائماً الخيال سر "البوليشينيل" سر فرنسا التي تبيع لقطر، دون أن تطلب ماذا ستفعل قطر بعد الحرب بالأسلحة التي تتلقاها.

"أنا لم أفهم ولم أُعبّر بشكل مفهوم إذا أردتم أن نعمل بسرعة؛ فيجب أن تصل الأسلحة بسرعة ولكي تصل بسرعة يجب أن تصل إلينا مباشرة إلى أيدينا ‏وبتعبير آخر إلى مصراتة وليس إلى بنغازي...؛"

تشنّج طفيف وتقريباً حركة تراجع من الرئيس؛ ومشروع تكشيرة للألم الكاذب كما حدث منذ قليل: "لا أحد يمكن أن يحل محل المجلس الوطني الانتقالي".

بالطبع قال سليمان والقلق بادٍ في نظرته وقد لاحظ حركة التراجع.

"الشيء الوحيد الذي يكفله أصدقاؤنا هو أن السلاح ينطلق. ويكفلون أيضأ جودته بالطبع. ولكن بعد ذلك لديكم سلطة سياسية عليهم، يقبلها الجميع وعليها أن تقرّر توزيع هذه الأسلحة."

تدخلت للمرّة الأولى مشيراً إلى سليمان (وستكون هذه جملتي الوحيدة طيلة الاجتماع).

- السلطة السياسية هنا سيدي الرئيس.سليمان فورتيه هو عضو في المجلس الوطني

الانتقالي وهو مشارك بكامل طاقته في المجلس ومخول بأن يتحدّث في كل ذلك؛ باسم المجلس لاتخاذْ القرار.

هز سليمان برأسه.

ومنصور الذي تذكر سلطته الحديثة كسفير لليبيا الجديدة في باريس وافق أيضاً. استشار الرئيس ليفيت بنظرة، ثم أكمل ربما لكونه واثقاً أو مقتنعاً أو مفكراً مرّتين بالموضوع أو مفكراً بالقصة التي كان قد حكاها لي عن الطرود التي لم تفتح في ميناء بنغازي "فعلأ يجب أن نعمل بسرعة"

بسبب العُطّل قال الكولونيل هاشم الذي لم يقل أية كلمة منذ بدء اللقاء...

نظر الرئيس إليه مذهولآ أعتقد بسبب صوته الخفيض الصخري الشبيه بصوت كيسنجر والذي يباغتك دائما في المرّة الأولى.

- العُطّل التي توقف كل شيء ألح هاشم بهيئة من يعرف عادات القرية الغريبة التي تستقبله ابتسم الرئيس.

"الدولة لا تُعطّل أبداً".

ثم أضاف بجدية أكبر مُتنقلاً من موضوع إلى آخر؛

هل تعتقدون أنه سوف يرحل؟ ‎‏

-مَن؟ سأل رمضان. ملتفتا كما لو أننا نتكلم عن أحد لا يعرفه.

القذافي؟

- آه لا أعتقد ذلك.

- هذا رأيي لذلك يجب أن يركع.

- ولماذا لا نقتله؟ سأل رمضان بهيئة المتواطئ.

قام الرئيس بذراع ممدودة ويد مفتوحة بحركة لإيقافه.

-أولا لأنني لا أريد أن أجعل منه شهيدا ولأنني فوق ذلك لست قاتلاً.

- ولكنه نفسه قاتل!

- نعم ولكن في الديمقراطيات ينتهي القتلة في السجون.

- أن يُقتل الآن في مواجهة هنا أمر مُختلف؛ وأعتقد أنْ ذلك سيكون خطأ وحينئذٍ لن تعود قضيّتي.. ولكن لِنعْد إلى مصراتة...

كان يجب أن يستمرٌ اللقاء عشرين دقيقة ولكنه استمرٌ ساعة كاملة شرّح الضباط وضع الجبهات وحالات القوة ومعنويات قواتهم أعادوا شرح كيف ولماذا على شرط أن يروا التسليح مناسبا ولا يلزمهم أكثر من أربع وعشرين ساعة كي يدخلوا إلى طرابلس سيعطي الرئيس موافقته ومن حيث المبدأ وعلى فكرة عدم المرور ببنغازي بل بالتوريد المباشر إلى مصراتة. تركهم بعد ذلك بعناية سليمان ومنصور وبين يدي بوغا من أجل اجتماع لم أحضره؛ ولكن كما فعلت مع يونس وكانت الأمور من المفترض أن تتم بتناغم، لخصوا المعلومات؛ على موعد الغداء فرح الضباط الثلاث لا تشوبه شائبة وعلى مفرش ورقي وبقلم لباده رسموا تتابع المدن التي تفصلهم عن العاصمة التي سوف يستولون عليها لحظة وصول الأسلحة الموعودة دون طلقة أو بالكاد.

أمّا قائمة الخمس والثلاثين هدفاً استراتيجياً وجماعياً والتي سربتها خلايا المجلس الوطني الانتقالي إلى طرابلس فقد نُقِلت إلى الإليزيه وحيث إن الإليزيه تكّتم على سرّ رجال مصراطة:؛ فقد ربحت مصراتة.

ستساعد مصراطة بنفس نسبة مساعدات جيل نفوسة، هذا الصباح؛ قطعت الحرب خطوةٌ حاسمة، كان يوم 20 تموز/ يوليو هذا يوم عيد ميلاد والدي.

الخميس 20 تموز/يوليو (فنهم الحربي وفننا)

الشيء البسيط الوحيد الذي نغصني لن أقول عند أصدقائي الليبيين ولكن عند بعضهم هو جنون العظّمة فيهم، لاحظتٌ علامة هذا الجنون في قضية النيران الصديقة للناتو التي قصفت آخر كتيبة من دبابات يونس ولاحظتها في ما يتعلق بيونس في شكهم بأنه يلعب على الحبلّين وألصقوا به هذه التهمة وما زال يُلصقها به قسمٌ من الشباب. ولاحظتٌه بحدّه الأدنى في قضية رسالتي إلى نتنياهو وما كان يمكن أن تُضرم من نار في شارع بنغازي كان يمضي في نفس المنحى، وهنا كان آخر فصل مؤرّخ، ولم يتوفّر لي الوقت لتدوينه، قبل أمس» يوم وصولهم إلى فندق بّادو كاليه الساعة الواحدة تَحدّثتٌ إليهم عن ساركوزي وأوصيتهم الوصايا الأخيرة حول أفضل الأساليب في التعامل معه في الغدّ. قاطعني العقيد هاشم بصوته الشبيه بصوت كيسنجر: "هناك شيء ..."

- نعم؟

- لا أدري إن كان بإمكاني أن أتكلّم عنه...

- يمكننا التكّلم في كل شي بالطبع في ما بيننا...

- حسناً الإنكليز هناك شيء ليس على ما يرام مع الإنكليز.

- أي شيء؟

حدّج الجنرال رمضان زمروح بنظرة سيّئة لم تعد هذه النظرة كنظرة شباب اجدابيا إلى مصطفى الساقزلي الواثق من أنّْه يملك الحق في أن يحكي قصّة عصيانه وعبور وحدته إلى تكتيك مضاد لتكتيك رومل، وقصته هي قصّة الضابط الذي وإن كان كلامي غير مُريح، ويبدو كالتحدّي، والاعتراض، والاستثارة، قرّر أن يُفرغ كل ما في جعبته.

-هل تعرفون ماذا يفعلون قبل أن يقصفوا دبابة "قبل أن يقصف الإنكليز دبّابة" ماذا

يفعلون؟

- لا.

- يحذرون سائق الدبّابة بالمذياع...

- لكي يتركوا لهم فرصة أخيرة أتصوّر ذلك، لم أكن أعلم أنَّ ذلك يمكنناً حتى، ولكنّ الفرنسيين يفعلون نفس الشيء؛ على ما أفترض.

- بالضبط؛ لست متأكدا رد هاشم، بسرعة كبيرة ودائماً بصوت كصوت كيسنجر ولكن أكثر خفوتا كما لو أنه كان يخشى أحداً يتنصّت عليه.

- وماذا تستخلص من ذلك؟

- لم يجب هذه المرّة بل قام بحركة من إصبعه؛ كمن يختم على شفاهه كما لو كان ممنوعاً عليه أن يقول المزيد..

- بلى قل لي لماذا تبدو لكم فكرة أن يُترك ليبي تعيس محبوس في برج دبابته مدّة خمس دقائق لكي ينسلخ عنه ويهرب من نيران السماء فضائحية إلى هذا الحد؟

لم يجب البتّة أعاد نفس حركة ختم الشفاه وبما أن الوقت كان متأخراً. قُلت: "اسمعوا ‏ لقد جاءت الفرصة في أوانها، سفير بريطانيا في باريس شخص رائع وهو يعلم بوجودكم هنا ويريد أن يتعرف عليكم وقد رتّبتٌ لكم معه موعدأ وسوف تطرحون عليه سؤالكم مباشرة. وقد أعطيت الموعد اليوم."

قدمتهم كالعادة في صالون بيت السفير الْمطِلٌ على حديقة رائعة.

ألقى السفير عباراتٍ الترحيب بنفس الطريقة التي قدمتهم بها مرددا مثل ساركوزي بأنه لم يكن من الوارد بالنسبة لإنكلترا ألا تمضي حتى النهاية.

وكرر فورتيه نفس العبارات التي قالها البارحة لساركوزي كلمة كلمة وبشكل خاص ضرورة توريد الأسلحة مباشرة إلى مصراتة.

أما هاشم الْمتصلّب العابس أصلاً فبادر بالكلام قائلاً: «سيدي السفير... هناك سؤال؟

نعم قال السفير بمجاملة رائعة؟

أية لعبة يلعبها الإئكليز بالضبط؟

ولكن سؤالكم, لنرى؛ بالذات سؤالكم. ما معنى سؤالكم؟

 حسناً سؤالي هو قبل أن يقصف الطيارون الإنكليز دبابة لماذا يأخذون احتياطا ويُنبّهون طاقّمها؟

دون أن يقلل من ثباته، ألقى السفير نظرة على مُستشارته للشؤون السياسية التي كانت جالسة في زاوية في عمق الصالون.

كي يتركوا هم الفرصة بالطبع.

فرصة لماذا؟

فرصة الخروج منها.

حتى لو كان أفراد الطاقم قتّلة؟

الهم هو تدمير الدبّابات لا قتل الأشخاص

ولكن ماذا لو ذهب هؤلاء الناس وهرعوا في اليوم التالي كي يقودوا دبابة جديدة؟

ضحك السفير. وأحسٌ أنه أفلت في يده فجاهد لإيجاد الكلمة الأخيرة ومن حسن

الحظ أن العقيد هاشم لم يجد أيضاً ما يقوله فما كان منه وقد بدا كأنّ هذه المبادرة بالكلام أهانت بشدة طَبعه الصَّمُوت إلا أن ينعزل في صمت الرجل الذي يحتضن جنون عظّمته كما يفعل المخمور الذي ظهر حتى نهاية الزيارة؛ بمظهر رجٌل لم تُقدّم له الإجابة الشافية ولا يُريد أن يقول كل شيء عن الموضوع الذي يعرف عنه الكثير.

الجمعة 22 تموز/يوليو ( إلى جهات مقلوبة مع الرئيس)

عودة إلى الجنوب.

تلقيتُ مكالمة من الرئيس.

لم تهدف إلى شيء محدّد. كانت للثرثرة فقطح حدثتي عن القمة الأوروبية التي انعقدت أمس وعن انتصاره على ميركل وإنقاذ اليورو المحتضر، الأثر الحسن لضانات المحادثات الإضافية حول البناء الأوروبي،‏ وبالطبع حول ختام زيارة أصدقائنا.

قال: " لقد اتّخذنا القرار الصائب، أنا متأكد من أنَّه القرار الصائب".

وللمرّة الأول؛ وبما أنني أحسست أن لديه قليلا من الوقت. تجرأت على أن أطرح عليه السؤال الذي يحرق شفاهي منذ أسابيع وأسابيع، هل يمر بلحظات يُخامره فيها الشكٌ وهل كان قد حصل له هذا.

انتفض قائلاً: (وكيف ذلك؟)

ليس الشك في عدالة القضية؛ بالطبع ولكن في مصيرها رحيل القذّافي... والجدول الزمني.

قال: أبدأً أبدأ على الإطلاق.

أحسّستٌ أنه لا يخادعني، أضاف، كما لو كان عليه إقناعي..

يجب أن نترك أصدقاءنا يتصرفون. يجب أن يضربوا على كلّ الجبهات معا وأنا واثق من أنهم سوف يصلون إلى غايتهم، من أجل هذا كان من الأهمية بمكان أننا استقبلنا جماعة مصراتة هؤلاء؛ واتخذنا ما اتخذناه من القرارات.

سألته إذا كان قد أحرز تقدّماً في وساطة أزنار.

نعم بالطبع ولكن ليس مع أزنار بل مع فيليب كونزالس غير أن هذا لم يفد بشيء.

ولكن ذاك المخلوق القابع في طرابلس مجنون بالتشخيص الطبي مجنون. وينبغي أن تُدرِك معنى أن يكون مجنوناً.

أفهم ولكن...

أنت لا تعرفه. الفرق بيننا هو أنني أعرفه ويمكنني أن أؤكد أن هذا الشخص مجنون بالمعنى الطبي للكلمة وليس عاقلاً.

تكوّن لديّ انطباع بأنني مثلما اعتدتٌ أن أفعل غالباً منذ بعض الوقت جعلتٌ نفسي

محامي الشيطان. هو يمثل اُلمضِيٌ إلى الحرب حتى النهاية وأنا من يبحث عن حلول مُختصّرة بل لتقل «سياسية» لتكون استمراراً للحرب بوسائل أخرى.

‎أريد جاداً أن أصدّقه، وهو بالمقابل غير مُتزمّت، إِنّهِ شخص قادر على الاستماع إلى ما نقوله له، وعلى تقييم صراعات القوى، هل أبلغه كونزاليس الرسالة المضاعفة وذات الوجهين: الحقيقة في يد والحل في اليد الأخرى؟

بالطبع. ولكن هذا لا يمكن أن يمشي، لأنّ هناك مشكلة أخرى، يداه ملوثتان بكثير من الدماء، هو يعلم بأنه لو تراخى فسوف يجد ذاتَ يوم أحداً يطلب رأسّه بالتأكيد.

وإذاً؟

وإذآ على أصدقائنا الذهاب بحثاً عنه في اللحظة القادمة فليس هناك حل آخر.

فكرتٌ» مرّة أخرى بكل ما يقال وبكل ما يكتب في كل مكان حول ورطة هذه الحرب، فكرتٌ بتصريحات جوبّيه ذلك اليوم حين بدأ بالقول إِنْ رحيل القذّافي لم يعد شرطاً مسبّقاً، وفكرتٌ بذلك المراسل الأميركي الذي بين لنا في جريدة النيويورك تايمز البارحة بأنه لم يجد أسلحة فرنسية في جبل نفوسة وبأنْ ساركوزي تأخر في مدٌّ يد المساعدة أكثر مما نعتقد.

فكارتٌ من جديد بفانسان جوفري في جريدة نوفيل اوبسارفاتور بيد أنْ واحداً من أفضل المراقبين هذه القضية شرح لي بعد ظهر هذا اليوم بالذات. أن الأميركيين هم من يقودون الحرب وبأنهم سيعلنون نهاية العمليات حسب توقيتهم كما تنطلق الصفارة مُعلِنةٌ نهاية الاستراحة المدرسية، فهم جميعاً يُخطئون الهدّف، جميعهم، جميعهم يُخطؤون هذه الكتلة من التصميم ومن الرزانة التي لاشيئ سوف يكسرها..

يتواصل