نقاش مع المدعين أنهم من تنظيم القاعدة ب درنة
كنت أنتظر هذا اللقاء منذ وقتٍ طويل.
مصطفى الساقزلي قائد شباب بنغازي سابقا الذي صار وزيراً للداخلية أو ما يُعادله هو الذي نظّم هذا اللقاء من أجلي.
تم اللقاء في وقتٍ مُتأخر من الليل في إحدى مزارع ضواحي بنغازي خمنتٌ وأنا أصِل في العتمة وجود بعض سيّارات البك آب ومُرافقيها الذين كانوا في الظاهر كثيرين بعضهم ينام قُرب الشاحنات، يلفُون أنفسهم بأغطية وبعضهم يتمدّدء وآخرون يكمنون.
الرجل هنا بالفعل يجلس عل طاولة من خشب متين مُغطاة بالأسود. يحيط به ثلاثة من مُرافقيه الذين يرتدون الدشدشية، الثوب القطني الأبيض الطويل وهو لباس السلفيّين الموحد فنهضوا جميعاً حين وصلنا.
الرجل طويل. وجهه نحيف. جامد خالٍ من التعبير. يداه طويلتان جميلتان بالأحرى بأوردة سوداء؛ نافرة. شبكة من لحية لا تُشبه لحية الإسلاميين.
اسمه عبد الحكيم الحصادي.
هذا هو «أمير درنة» المفترض الذي أفادت منه الصحافة العالمية والذي بحثنا عنه عبَثاً خلال إحدى المرات التي مررنا بمدينته فهو وحدّه القادر على تأكيد وجود القاعدة في أوساط الثوّار الليبيين.
قلت له: ها أنتم هنا إذاً!
فردٌ علي بالقول ووجهه يزداد ضياءً: وها أنت هنا.
يتحدّثون عنك كثيراً في أوروبا!
ويتحدّثون عنكم في ليبيا لو أنك تعرف...
وإثر ذلك انفجر ضاحكاً وانفجر معه مُرافقوه ضاحكين مثله أو على الأرجح، لا ليس نفس الضحك؛ فضحكهم أدنى مستوىّ من ضحكه؛ أو ضمنه، مُكّثف كما أنّهِ يتفادى تغطية ضحك رئيسهم، جلسوا، فجلستٌ، فقدّمهم لي رئيسهم، خالد سالم مقياز، وماجد فتاح حوّاط، وإسماعيل محمّد الصلابي:
قال: ثلائة مُسلمين أخيار، ثلاثة مُقاتلين.
أعرف قليلاً من يكونون، فالثاني ماجد حوّاط مُثقف، سجين سيامي سابق، قائد مجاهدي الجبل الأخضر (ادعى أُوَلا أنه «قريب» من فرنسا «أونوريه دو بلزاك» وإميل زولا وميشيل بلاتيني...). والثالث هو أحد قادة كتيبة 17 شباط/ فبراير مُقاتل خط أوّل وشديد الارتباط بقطر من خلال أخيه علي الصلابي.
سمعتٌ الناس يتحدّثون عنك، وقال لنا مصطفى إِنَّك صديق، صديق حقيقي لليبيا لذلك أتينا هكذا...
وقام بحركة تبيّن أنّه أتى ويداه خاليتان وقام الثلاثة الآخرون بالحركة نفسها لكن من جديد بدرجة أقل وأيديهم أدنى قليلاً على الطاولة، لأنّ المراتب قبل كل شيء؛ كأنْنا في مسرحية، فكرتٌ في أنْ ألفت ملاحظتهم إلى أّنهم بالقياس إلى أناس جاؤوا وأيديهم فارغة, وإذا حكمت من خلال الرجال الذين ينتظرون في الخارج بالغوا في عدد المرافقون غير أني فضَلتٌ الدخول في صلب الموضوع.
فلنبدأ من الأوّل: غوانتانامو...
هو ذاء رجل درنة يحمرٌ كما لو أنها ضربة بداية مُباراة وأنه سجّل الهدف الأول على الفور! بداية جيّدة...
ضحك من جديد لكنّه ضحِكٌ مختلف، مُصطنع، كأنما كي يُخفي خروج الغضب أو كي..
لم أكن أبداً في غوانتانامو، أبداً، أعرف أنَّ هذا ما كتبه صحفيون من زملائكم...
أنا لست صحفياً...
في الوقت الُناسب! يا عبد الله! إذاً إذا كان عندك منفذ إلى الصحافة فتحقق فقد يُفيد هذا اللقاء في ألا يُخرجوا لي أبداً قصّة غوانتانامو.
أسجّل وأعِد نفسي بأن أتحقّقَ (وهذا ما فعلته طبعاً فور عودتي إلى الفندق؛ إذ أيقظت في باريس H منبعي المعصوم في هذه القضايا وفي هذه النقطة الرجّل يقول الحقيقة) ولكني الآن أسجل.
من أين يخرج هذا الكذب إذاً؟ هل سجنك الأميركيون؟
لا وهذا خطأ آخر بل سجنني الليبيُّون والأميركيون أوقفوني في باكستان سنة 2002 ولكن بعد استجوابهم لي واكتشافهم أن لا صِلَّة لي بتنظيم القاعدة سلّموني لليبيين.
لماذا باكستان؟
لأنني كنت قادماً من أفغانستان.
أنت تعرف أنني أعرف بما يكفي أفغانستان وباكستان؟
بالطبع.
ألقى نظرة تفاهّم على رفاقه الثلاثة ومن جديد بداية ضحِك لا يتوقف لاحظت أن ذاك الذي يجلس على طرف الطاولة الصّلابي بوجهه الطويل النحيل وبشفتيه الحزينتين ورأسه الْمنحني على صدره وكأنه يريد أن يمنع نفسه من الضحك بقوّة يشبه طارق آخر مترجم حربي لدانييل بيرل التقيتٌ به ثانية في إسلام آباد وفضّل في النهاية ألا يعمل معي.
لماذا يضحكون؟ تابعت القول:
وماذا كنت تفعل هناك في باكستان وفي أفغانستان؟
كنت أستاذاً مُقيماً في جلال آباد.
لا يكون المرء أستاذاً في جلال آباد عشية أحداث 11 أيلول/ سبتمبر!
يجب أن تفهم...
انها بالضبط هيئة الأستاذ المستعد لإلقاء درسه.
يجب أن تفهم أنْه بالنسبة لأناس مثلنا...
مسح بنظرته مُرافقيه الثلاثة الذين جعلت هذه الألفة المباغتة لكلمة «نحن» وهذه الطريقة في جمعهم في مصير مُشْترَك وجوههم تتورّد باللذّة فخفضوا أعينهم من جديد لكن من السعادة.
عندما جعلنا القذّافي خارجين عن القانون وألقانا في سجونه مُعذَّبِين لم يكن هناك
أيّ مكانٍ نذهب إليه، حاولت الذهاب إلى بريطانيا العظمى، مستحيل. حاولت الذهاب إلى بلّد أو بلّدين عربتين، كلاهما وقّع اتفاقات تسليم المطلوبين مع ليبيا، الأمر نفسه في ما يخص أميركا اللاتينية، لم يبق أمامي إلا أفغانستان حيث يُمكننا الذهاب من دون أوراق رسمية.
ليكن. لكنني أنا أيضاً عرفت جلال آباد في تلك الفترة، لقد كنت في بلّد الطالبان.
هذا صحيح. لكني لستٌ طالباني ولم أكن منهم أبداً.
دسٌ أحد مُرافقيه رأسه خفيةٌ من فتحة مُزجَجة بقيت مفتوحة.
لست من طالبان ماذا يعني هذا؟
هذا يعني ما يعنيه. أقمتٌ هناك وتزوّجت من أفغانيّة واستلمتٌ عملي أستاذاً في مدرسة غير أني لست من طالبان.
ولا من القاعدة؟
ولا من القاعدة، لو كنت من القاعدة؛ لبقيتٌ حيث كنتٌ ولما عُدتٌ إلى ليبيا حالما غدا الاتفاق تمكناً مع النظام.
تساءلت للحظة عما أتيت أفعل أمام هؤلاء الأربعة الذين سواء أكانوا من القاعدة أم لا ليس لهم المظهر الودّي لمنفيّين عائدين من المنفى، هل هو ولعي «بالمجانين» كما تقول لي جوستين دوما؟ أم رغبتي الدائمة في الذهابْ لرؤية كيف يتم هذا حقاً في دماغ الآخر؟ أم أنْ شيطاناً في رأسي؟ أكون جنباً إلى جنب مع العدوٌ؟ كما في أوروبا خلال سنوات الحرب حين كنت أذهب إلى إيطاليا وألمانيا مُسافراً في رؤوس مُجاهدينا الخاصين بنا عناصر الألوية الحمراء أو عناصرها السابقين ومجموعة بادير ومجموعات تدخل مباشر أخرى؟ الافتتان الغامض. لكن المنيع بالجزء المظلم من هذا العالم جزئه الملعون؟ وتابعتٌ أسئلتي.
ومع ذلك قُلت عناصر القاعدة مُسلمون جيّدون.
هذا الجملة نزعت من سياقها، لا أعتقد هذا.
ماذا تعتقد إذاً؟ ما موقفك من القاعدة؟
أنا ضد كل إيديولوجية وضد هذه خاصة التي تدعو إلى القتل فالإسلام دين تَحابٌ وسلام.
كل الناس يقولون هذا. وليس له معنى.
أنا ضد التفجيرات والهدم.
من جديد الناس كلّهم على هذا الخط. كن دقيقاً. ما رأيك بابن لادن؟
وافقته حين كان يحارب الروس. لكن ليس حين قتل أبرياء ونساء وأطفالآ ومدنّين فللحرب أيضاً قوانينها التي يحب احترامها.
وحين قرّر محاربة الغرب؟
أظنّ أن هذا كان خطأ. مع الغرب أنا من أنصار الحوار وفهم أفضل. وهذه الحرب التي تنتهي فُرصة لتعميق هذا الفهم.
يبدو الرجل صادقاً، إنّه مجنون؛ فما إن تكون أمامه فعلا يبدو لك الآخر مُعقّدا مُتباينُ الأفكار رجل مثلك يتحسّس يتناقض يتقدّم أحياناً ويتراجع غالبا وينخرط في كيانك ككائن حي وليس ككتلة من الصوّر والأحكام المسبقة.
قلت: أطلب سماح المجموعة الإسلامية الليبية أعلم أنّك كنت مرتبطاً بالقاعدة.
كذبة أخرى، فأجهزة الإعلام تبحث عن زيادة جمهورها من خلال هذه المعلومات المزيفة والعناوين العريضة التي تتصدّر صفحاتها، لم أنتسب أبداً إلى هذه المجموعة.
حسنا لكن ما رأيك في جماعة القاعدة؟
أوَلا عليك أن تعرف أتهم بدؤوا مجموعة سلمية، واضطهاد القذّافي هو الذي جعلهم يحملون السلاح.
وهنا؟
هنا ارتكبوا أخطاء. أراقوا الدماء بشكل غير شرعي. لكن كل الناس باستثناء الرسول يرتكبون أخطاء وهم عادوا إلى رُشدهم؛ وتراجعوا وهذا الّمهِم
.تراجعوا؟
أرجع إلى كتاب «الدراسات تصويب» الذي نشروه قبل عامّين، فالكتاب يرفض قتل المدنيّين بذريعة الجهاد.
مثلك؟
أنا لم أرق دماء الأبرياء.
أوافقك الرأي. لكنّي على كل حال قرأتٌ لك تصريحات غامضة عن الإرهاب.
حبذا لو أعرف أية تصريحات، عندي تصوٌّر مُعيّن للإسلام، وأنا مسلم مُتمسّك بمبادئه الأخلاقية، غير أن التغيير في نظري لا يُمكِن أن يأتي عن طريق الأسلحة.
كيف ينبغي أن يأتي؟
بالدرس بالحوار فأنا أستاذ أكرّر لك أنني أستاذ وأنا مُقاتِل طبعاً لكني أستاذ أوّلا.
لنتحدّث بالضبط عن مُقاتليك كم عددهم؟
تردّد، ونظر إلى الساقزلي ومن جديد, على طريقة مُقاتِل اجدابيا في شهر نيسان/ أبريل.
تنبهت على الفور أنه المعلم هنا أيضاً وهنا أيضاً ننتظر موافقته كي نتكلم لأنْه مُعلّم شباب برقة هل هذا بسبب مركزه الجديد في وزارة الداخلية؟ أم بالأحرى وقد خطرت لي الفكرة فجأة لأنه قد يكون هو نفسه؛ من الحركة؟
انتهى بإجابة الحصادي الذي له نفس التصوّر عن هذه الحرب: عدّة مئات.
ألا تُريد أن تُعطيني العدد الصحيح؟
ومرّة أخرى: نظر إلى الساقزلي الذي بقيّ غير قابل للاختراق.
بإمكاني أن أقول لك شيئاً: الذين نُرسلهم إلى الجبهات الأكثر خطورة؛ على الخطوط الأولى هم أفضل القاتلين ومن جهة أخرى أنت تعرف بعضهم.
كيف هذا؟
الساقزلي هو الذي أجاب هذه المرّة، بصوتٍ شبه هامس، بنغمة من لا يشّكُ بأنّه مُستمَع باحترام:
رأيتهم في اجدابيا. هم الذين كانوا يسهرون على حمايتكم. وعددهم خسة وعشرون.
استعدت في ذهني بسرعة فائقة صورة الشباب الذين التقيت بهم على الخط الأول في اجدابيا أيّ شباب؟ في أية لحظة؟ وأنا أعرفهم بالقياس إلى أيّ شيء؟
شُكراً إذاً لشباب اجدابيا الخمسة والعشرين رافعاً كأس الشاي كما لو أنّه فدح شمبانيا
ومُقرّراً أن أتقدّم؛ وأمضي حتى النهاية في هذا اللقاء من دون أن أعرض حالاتي الشعورية على العلامات التي يجب أن تسمح بتحديد هوية إسلامي..
لكن لنتكلّم عن الآخرين بالأحرى عن شياب درنة معقل عبد الحكيم فالناس يتحدّثون عن إمارة في درنة.
عبد الحكيم هو الذي باشر الكلام, كاظما غيظه من جديد، لم يعد يطلب موافقة الساقزلي. ”
هنا أيضاً إشاعة كاذبة! محض إشاعة بثّها القذّافي! ومن العار أن يتلقف صحفيّون معروفون هذه الإشاعة! نحن مواطنون ليبيُون مُتمسّكون بوحدة ليبيا. أنا لست أميراً وأنا مُوالٍ للمجلس الوطني الانتقالي.
تحدَّثوا لنا عن أئمة في درنة أطلقوا دعوات إلى الشهادة.
واليوم؟
دعوات إلى الحرب نعم بالتأكيد لكن ضدّ القذّافي فقد أعلن علينا الحرب وكانت طريقتنا الوحيدة في الدفاع عن أنفسنا أن نردٌ الضربة بضربة.
أمَا نائبه مجدي ذاك الذي قال لنا وهو يُقدّم نفسه إِنّهِ «رُقّم مرتبة في اللغة الفرنسية»
وهو مُعجب لا على التعيين: بأونوريه دو بلزاك وميشيل بلاتيني وإميل زولا فهز رأسه بشدّة على شكل اندفاع جليل. فانتهزت الفُرصة وتوجّهت إليه كي أعطيه الكلام بالمناسبة.
هذه الحرب كسبتموها...
التزم حذر ذاك الذي ليس مُتأكّداً من شيء لأنّ النصر بيد الله.
... لكن كيف ترى ليبيا الغد؟
أضاء وجهّه وشعرتٌ أنّه كان ينتظر السؤال ولديه الجواب الجاهز المحبوك جيّداً.
كبلّدٍ أفضل!
أعلن عن انتخابات حُرّة. فهل ستتقدمون بمرشّحين؟
بإمكانكم أن تؤسّسوا حزباً.
نعم ولكن لم نقم بهذه الثورة كي نشغل مراكز
أنت تقول باستمرار "نحن" فمَّن تقصد؟
أرض ملغومة مسَسْتٌ الأصوليين.
القائد الحصدي هو الذي استأنف الكلام بالقول.
يقصد ب «نحن» الثوّار بمختلف اتجاهاتهم ومنهم مسلمون دُنيويُون ونحن نحترمهم.
لكن هناك بطبيعة الحال بعض النقاط في السياسية الليبية القادمة التي ستكونون متشدّدين فيها على نحو خاص؟
أخذ وقته بالإضافة إلى أن الحديث بدا أنه قام على مستوى من الصراحة جعله يهتمٌ بأن يكون دقيقاً وبالتالي أخذ وقته في التفكير.
وانتهى بالقول: «المبادئ الأساسية للإسلام... أركان ديننا... ما عددها تظاهر أنه يتساءل بابتسامة ماكرة وهو يلتفت إلى المتخصّص ببلزاك وبلاتيني؛ والآن بلورانس
العرب لكنّه وقد انتهى دوره؛ يحرص على الإجابة...؟ سبعة؟ هيّ سوف نكتفي بخمسة! ونحن لا نود حقّاً أن يتجاهل الدستور الجديد الأركان الخمسة.
الأر كان الخمسة فقط وحدانية الله والصلاة الإجبارية وصيام رمضان والزكاة من أجل الفقراء والحج إلى مكّة أمَا الأمير الرهيب المحارب الإسلامي وفزّاعة كل الدوائر الغربية فليس إلا مجْرّد ثيوقراطي عادي.
إذاً عندي سؤال كان ينبغي أن أبدأ به: هل تعدّون أنفسَكم إسلاميين؟
لا أعرف معنى ما تُسمّيه بالإسلاميين أنا مؤمن وعندي تصوّر صارم عن الإسلام. لكنْ لا أحد مُجبرَ على أن يُوافقني الرأي.
سأطرح سؤالي أيضاً بطريقة أخرى ما الفرق بين إسلامكم وإسلام القاعدة؟
آولاً الجرائم وقلتٌ لك هذا لكن أيضاً حقيقة أن كل المشاكل تأتي في رأي ابن لادن من الغرب والأميركيين ونحن لا نعتقد ذلك.
ومن جديد يقول "نحن" ويبدو مصطفى الساقزلي هذه المرّة إذا صدّقتٌ نظرته أنه يشملهم وهل يُمكن في هذه النقطة أن يكون منهم؟. لا أعتقد لكنّه يُمثّل موقفاً على مسافة واحدة من كل تيّارات هذه الثورة ليس قريباً من رجاله بأكثر من قربه من تيار جبريل العلماني أو تيار يونس في الماضي ورّبّما لهذا السبب هو واحد من الرجال المفاتيح في ليبيا الغد.
ألستٌ ضِدّ الأميركيين؟
الشيء الوحيد الذي عندي ضدّهم أنهم جعلونا نضيّع اثنين وأربعين عاماً بدعمهم للقذافي لكن هنا كانوا معنا وكافحوا إلى جانبنا مثلكم أنتم الفرنسيين ونحن مُلزمون بأن نعترف بهذًا.
هل تتساءلون أحياناً لماذا فعلت فرنسا هذا؟
لا. لأننا نعرف الجواب، فقد كانت تعرف أنَّ القذّافي انتهى ومن ناحية أخرى عندما أدركت المأساة الإنسانية للأطفال والنساء المقتولين اتخذت الموقف الذي نعرفه.
طلب نائبه الثاني إسماعيل أن يتكلّم يداه ضخمتان؛ إبهامهما خشنان يتنافران مع نعومة ملامحه ونحافته وأناقة طريقته في الكلام.
الهم الوحيد في نظرنا نحن الليبيّين إنما هو وطننا، وهذا ما يجب أن تفهمه نحن أولا وطنيُون، وبالتالي إذا كنت معنا فنحن معك، وإذا كنت مع ليبيا حفظك الله فأنت مُبارَك، الأمر هذه البساطة.
ثّم مجدي الذي رُفُع مرتبة في الأدب الفرنسي وفي بلاتيني والذي تحدّث قبل قليل والآن يتكلّم بسرعة مُبتلِعاً كلماته وبدا في النهاية كأنه يزِنها.
تغيّر شبي مع هذه الحرب ومع الدعم الذي قدّمتموه لنا وآن الأوان لمد الجُسور.
ليكن لكن مد الجسور لا يعني شيئاً. أوَلاً بين ماذا وماذا؟ وأية علاقة بين الشاطئين؟ المساواة؟ عدّم المساواة؟ وهذا السؤال: الإسلام؟ هل هذا في نظركم الدين الوحيد الممكِن؟
توقف زمن دقيقة رُبّما لأنّ حكيم هو الذي يأخذ الكلام.
لا هذا اختلاف آخر بيننا وبين ابن لادن كان يعتقد أنكم كافرون مُلحدون وما هذه وجهة نظرنا فأنتم أهل الكتاب:
إذاً ما الإسلام؟ هل هو أفضل الأديان؟
نعم لأنّه آخر الأديان. وقد أخذ أفضل ما في الدينين السابقّين وكوّن ديناً ثالثا يُولّف بينهما ولذلك هو الأفضل.
إذا كان الأفضل فلماذا لا تودّون أن يتبنّاه العالم أجمع؟
لا أعتقد أن على العال أن يصير مُسلِماً لا أعتقد هذا أبداً.
ليكن. لكنٌ لماذا؟
العال حديقة، وفي الحديقة توجد عدّة ألوان، ويُستحسّن أن تستمرٌ هذه الألوان.
فكرت باُلكقابلة التي أعطانا إياها مصطفى هذا الصباح من أجل الفيلم، وفكرتُ
بالتمجيد المؤثّر الذي وجّهه إلى الدينين الشقيقَينَ المسيحي واليهودي.
قلت: لتأخذ مثلاً محسوساً: الحجاب
نعم .؟
أنتم مع الحجاب أم لا؟
هو جزء من تعاليمنا ولكن...
ولكنٌ؟
ولكنْ ينبغي ألا يكون مفروضاً، فعلى كل المرأة أن تختار.
أنتم لا تتحدّثون هكذا إلا لأنكم لستم في السلطة وما إن تصيروا فيها حتى تتكلّموا
لا أعتقد أن المجتمع سيكون أنقى إذا تحجّبت النساء جميعاً وأقنى أن أتمكن من إقناعهنٌ بهذا غير أنّك لن تُقوّلني أبدا بشكل مباشر أو غير مباشر أنني أميل إلى إجبارهنّ على وضع الحجاب.
كم إمرأة عندك؟
عفواً؟
أنت مُتزوّج. فكم إمرأة عندك؟
ضحك طويلاً كما لو أنه بوغِتٌ بالطابع المباشر للسؤال ويبحث عن كسب الوقت. حتى تكوّن لدي الانطباع للحظة بأنني أقرأ في نظرته ترّدداً غير مُدرّك، بينما هو على العكس...
أشار إلى مُرافقه مجدي محب فرنسا وقال:
هو عنده إمرأة واحدة يخاف منها.
اختنق الأربعة من الضحك وخصوصاً القصير البدين أقرب الجالسين إلي الذي لم يفتح فمه بكلمة منذ بداية الحديث ولن يفتحها.
من جهة أخرى لم تسألنا بعد إن كنا مُعادين للسّاميّة هل تريد دليلاً على أننا لسنا كذلك؟ :
إذا عرّفتني على إمرأة يهودية جميلة سأجعلها زوجتي الرابعة لا أنا أمزح!
لم أستطع أن أمتنع عن تخطي الموقف وأتساءل عما يُمكِن أن يفعله بهذه الزوجة الرابعة: هل غير دينها؟ هل ستكون مُهانة؟ وهل ستعامل كالثلاث الأخرّيات؟ أم ستكون محظية؟
سنتحدّث عن مُعاداة الساميّة لكننا سنعود أُوَلآَ لمدّة ثانية إلى نظريتك عن الحديقة فما علاقتها بالألوان؟ وما علاقتها بالأديان؟
عهود. استأنف عبد الحكيم.
عفوً؟
نعم عهود الإسلام دين العهود وهناك آية قرآنية تقول: "وأوفوا بالعَهْد".
حسناً وماذا تقول هذه العهود؟
لكوننا مُسلمين؛ يُمكننا أن نعقد عهوداً مع كلّ الأديان وكذلك مع المذاهب العلمانية.المْهُمَ أن تكون هذه العهود في مصلحة الطرفين.
ومن جديد مصطفى صورة مصطفى السعيد جداً في أحد مُعسكرات بنغازي وهو
يحْدثنا عن خطة قصّ ليبيا حتى كفرة وطريقته حينئذٍ في تكرار «عندنا تعاقّل» عندنا تعاقّد وفجأة فهمتٌ الأمر بشكل أفضل.
والعهود في أية مجالات؟
في كل المجالات. فهناك أملاك عامة وأملاك خاصة لكل طرف، نشجّع العدالة معاً، وبعد ذلك نترك الطرف الآخر يمارس مُعتقداته، ويتركنا نمّارس مُعتقداتنا.
لأن الاحترام مُتبادّل بيننا؟
لأنّه لا يجوز أن يكون إكراه في الدين.. وكذلك لأنَّ هذه قضية ضمير عند كل فرد.
هل تعرف أنْ هذا هو تعريف العلمانية ذاته؟
نظر إِيّ بذهول لم يكن مصدوما لا ولكنه مذهول كما لو أن ملاحظتي فتحت أمامه أفقاً.
أتعتقد بذلك؟
طبعاً.
بدا أنه يمكر، وظهرت على وجهه تعبيرات طريفة وهو يُدير نظرته نحو الداخل
فجعلت عينيه كعيني تمثال وانتهى بالقول: حسّنا ربما..
فأردفت بالقول:
إذآ هذه العهود... تصلح مع كل الأديان الأخرى؟ من دون استثناء؟
بالتأكيد.
بما فيها اليهودية؟
طبعا.
هل تعلم أنني هودي؟
ضحك. ثم ضحك ثانية. لكن بطيب خاطر.
لماذا تضحك؟
لأنْ القذّافي كرّر لنا ذلك بها يكفي! فلم يمضي يوم من غير أن يتحدّث التلفزيون الرسمي عنك ويُقدّمك كجاسوس صهيوني.
وأنتم إذًا كيف ستتكلّمون عني في المجتمع الذي سوف تبنونه؟
كشجاع ساعدنا كقلّة من الآخرين.
وماذا سيكون وضعي لو كنت ليبياً؟
نفس وضع أي مواطن مع كل الحريّات: بما فيها حرية ممارسة شعائرك الدينية.
إذاً أنتم لستم مُعادين للسامية...
انفجر بالضحك أيضاً.
كيف سأكون مُعادياً للساميّة؟ فكلْنا ساميون نحن أولاد عمّ.
أنت تستخدم من جديد لَّغْة خشبية.
لا. فقد كان هناك يهود ليبيّون تعايشنا معهم بوئام. وقد ساد بيننا احترام واعتراف متبادّل.
حتى؟
حتى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني النزاع على الأرض الذي هو مصدر الصراع.
كتبُ أريد أن أصل إلى هذا الموضوع. ما موقفكم من هذا الصراع؟
نحن ضِدّ اضطهاد إسرائيل للفلسطينيين وفي رأيي يجب إقامة دولة واحدة يتمتّع فيها الطرفان بحقوق مُتساوية.
أنتم لا تقولون إذا إن على اليهود أن يتركوا المنطقة؟
أكيد لا! ألفتٌ انتباهك إلى أن اليهود اضطّهدوا في أوروبا لا في ليبيا. تشهد على ذلك المجزرة التي ارتكبها الألمان والغرف الغازيّة والهولوكوست.
على الأقل ليس من جماعة إنكار المحرقة وهذا إيجابي بحد ذاته بخلاف القذّافي الذي كان يدعو غارودي إلى مركز المؤتمرات في بنغازي فقاطعه إسماعيل:
هل تريدون أن أحكي لكم قصّة؟
كان عندي عم...
ترك جُملته مُعلّقة كأنّه يُريد أن تأخذ مفعولها، تضايق عبد الحكيم فأشار له بأن يُسرع.
أرضعته إمرأة يهودية. كانت مثل أمّه.
وتوجه إلى أصحابه؛ بنظرة انزعاج يشوبها التحدي كأنه لم يسبق أبداً أن حكى لهم هذه القصّة ّثم نظر إلي وسألني:
هل تعرف تشومسكي ؟
قرأته؛ نعم.
وما رأيك فيه؟
عالم كبير ومُثقّف رديء.
لماذا؟
أختلف معه تقريباً حول كل شيء. بما في ذلك حول إسرائيل التي أدافع عن وجودها بشراسة ولكن أيضاً حول ليبيا لم يقف ضدّ القذّافي.
استمرٌ النقاش حتى وقتٍ مُتأخر من الليل، لكني أعتقد أنّنا ناقشنا فيه ما هو جوهري.
والباقي حُفِظ كما يجب في أشرطة مارك روسيل الذي صوّر كل شيء كالعادة.. المهم في نظري أن هذا الحديث حصل. والأمر الأساسي أنني استطعت أن أحاور رجالا لا يفتقدون الشبه مع بعض أولئك الذين التقيت بهم في إسلام أباد وكاراتشي خلال تحقيقي في قضية دانييل برل. ففي باكستان كانوا سيقتلونني لو عرفوا من أكون. وهنا أحسّ برغبة الحوار وفهم الذات؛ والُمعاملة ومن هذه الرغبة أو على الأدقٌ من هذا المناخ الذي يبدو مُسالِما أرى كما في قضية الشريعة ثلاثة أناط ممكنة من الشرح:
الأوّل: سوّدتُ وجهي وحُدِعتٌ وأفرطتٌ فهؤلاء الرجال إرهابيُون لكنهم مُقنعون ينتظرون ساعتّهم عندهم أفضل اُلمحاربين والعسكريون الأكثر انضباطا ورجال مُستعدّون للاستشهاد؛ أي للموت في سبيل أفكارهم. هم في الظل في الوقت الحاضر. غير أّْهم ينتظرون الوقت المناسب وعندئذِ سوف يضربون ضربتهم، لينين في الإسلام، التقنية العربية في الانقلاب، تقنية تقليدية، لا أعتقد كثيراً بهذا.
الثاني. هم متطرّفون دوماً ومُقنّعون دوماً لكنهم مهزومون وهم يعرفون هذا ذائبون في الربيع العربي وهم واعون هذا الذوبان يُعولون على الديمقراطية التي تسمح لهم ليس فقط بالتعبير عن أنفسهم. بل بالإقناع والكسب هم اليوم قوّة من جملة القوى إيديولوجيا من بين إيديولوجيات كثيرة لون من الحديقة الداخلية لكنّهم غدا سيقلبون المُعادلة إذ لم يعودوا بلشفيي عام 1917 بل هم شيوعيو ما بعد سقوط جدار برلين. لم يعودوا يُحضّرون الانقلاب بل ينتظرون رجّحان الكفّة وخلال انتظارهم؛ يعملون في الخفاء، الصبر وطول الزمن، ومن حظهم أن لديهم الزمن حتى الزمن الإلهي, أي الخلود، وهذا جزء مختلف من الشرح الأول، تزمّتٌ بوجه إنساني وهنا أيضاً انخدعت لكن على المدى الطويل فليس الافتراض هو ما يبدو لي مُريحاً.
وأخيراً الشرح الثالث.. هم إسلاميون دوماً لكنهم؛ قبل كل شيء؛ أنصار هذا «الإسلام الوسيط» الذي حدّثنا عنه أحد مُحاورينا على كورنيش بنغازي. ثم إنهم على الأخصٌ أغنياء بتجربة لا أستبعد أنها بحسب وجهة نظرهم، تغير كل شيء فقد التقوا بالغرب لكن بعيداً عن لقائه كلقاء إمبراطورية الصليبيّين التي تصفها آلتهم الدعائية، رأوا فيه حليفاً يُسلَّحَهِم، للمرّة الأولى ولا ينهبهم؛ يُساعدهم ضدّ طاغية، وباختصار ينُقِذْهم. فقد حاربنا طاغيتهم، وقدّمنا بذلك صورة عن ذاتنا لم يكونوا مُستعدّين لها، ورُبّما يغير هذا شيئاً في رؤيتهم للعالم.
لا أستبعد أن أكون ساذجاً. لكن اليوم وأنا خارج من هذه المزرعة في طراوة هذا الليل من أواخر شهر رمضان أميل إلى هذا الافتراض الثالث.
ليس هذا بعد إسلام عصر الأنوار الذي أكافح من أجله منذ زمنٍ طويل، لكنه لم يعد إسلام حرب الإبادة التي تهدف إلى موت الغرب.
وهؤلاء الإسلاميون المُضلّلونَ هؤلاء الإسلاميون الذين ضلّوا طريقهم؛ هؤلاء الإسلاميّون الذين شوشت مرجعياتهم وبُلبلت رؤيتهم للعالم وعُطّل تفكيره هؤلاء الإسلاميون الذي أَحِسٌ اضطرابهم بصدق هنا مثلاً نتيجة فكرة أطلقها أحدٌ هو أنا يعرفون حجم الدعم الذي قدمه لهم ويعرفون أنه تجشم هذا المساء عناء المجيء ليُحاورهم غير أنهم يشعرون في الوقت نفسه أنه لا يتراجع في أي شيء ولم يتساهل معهم في أية قضية، وهو خصم مُطلّق لمذهب الجهاد وليس أقلّ من صديق لإسرائيل دون أية تحفّظات. إزاء هؤلاء الإسلاميين الذين يُعبْرونَ فجأة عن رغبتهم في «التعامّل» مع اليهود «الصليبيين»؛ شيء ما يقول لي ليس مستحيلًا أن يكونوا قد استجابوا لالتفاتنا الأخوية بنوع من مد اليد.
أتذكّر موريس توريز عندما كان في عام 1935 مع «عازفي الناي» الشيوعيين يغّنون نشيدهم الخاص عن الحوريّات ويبتدعون سياسة اليد الممدودة. سأل بهذه الألمعية الزائفة التي كانت تميّزه: ماذا نفعل بيدٍ بمدودة؟ هل تُعيدها بقفّازات؟ تُعيدها بطرف الأصابع؟ صراحةً؟ هل نأخذها كما في لعبة الخيدو؟ هل نُقبلها؟ هل نعضّها؟ هل نتركها مفتوحة؟ أم نمسِك بها ونحتفظ بها سجينة؟
هذه هي المسألة بأكملها.
غير أني مُقَنِع بشيء لقد حدث تغيّر ما هذا المسا في نظرهم وفي نظري فَلأوَل مرّة يقوم حوار حقيقي ومباشر بين وجوه وأصوات.
ومُقتنع بشيء آخر بالنسبة لهم ولنا ستكون حرب ليبيا بالضرورة تحوّلاً وركناً مركزاً في الإيديولوجية الصلبة للجهادية وهزيمة للعقيدة المسماة صدام الحضارات وهو أكثر من خطاب أوباما في القاهرة وأكثر من كلام لينين الجميل الذي يسقينا إياه منذ ما يزيد على عشرين عاما إن يُطلِق حوار ممكن مع الفروع الأكثر أصولية في العالم العربي الإسلامي بشرط التخلي عن سياسة القتل، وهنا أعبّر لمصطفى عن امتناني لأنّه سمح لي أن أستشِف كل هذا.
يتواصل