إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح24 الأخيرة

سبت, 13/03/2021 - 00:06

 الوصول إلى طرابلس

توفرت لي عدة وسائل لدخول طرابلس كان بإمكاني المرور من تونس وصعود الطريق الساحلية مثلما يفعل أغلب الصحفيين وكان بإمكاني الصعود إلى زنتان ونزول الجبال حتى غاريان وبعد ذلك حتى باب العزيزية أو كنت أستطيع ركوب الطيّارة من بنغازي إلى مصراتة؛ ومنها أسلك طريق الشرق تلك التي سلكتها يوم السبت وحدات مصراتة التي أعطت «الدفعة الأخيرة» المشهورة التي جاء الجنرال رمضان زرموح في 20 تمُوز/ يوليو ليعد بها ساركوزي وقد اخترنا الحل الثالث بعد نقاش وجيز مع سليمان فورتيه وعلي زيدان الذي عرف في اللحظة الأخيرة للأسف أنّه لن يستطيع أن يُرافقنا؛ لأنَ عليه أن يذهب بعجالة إلى كفرة حيث اندلع توَاً خلاف بين مجموعات المُقاتلين الثائرين حينئذٍ اتصلتٌ بآلكو في باريس كي يُقدّم بطلب السماح بالطيران لدى قوّات الناتو وعلى الفور اتصلتٌ إلى بنغازي مع ضابط الارتباط الليبي المُكلّف بالاتصال مع دوائر الناتو العُليا الذي يُعطينا موافقته الشفهية لكنْ طالباً منّا انتظار موافقة رسمية ومكتوبة.

 ذهبتُ أنتظر هناك في المطار على مدرج الإقلاع؛ كما لو أن واقع أن أكون حاضراً هنا يُسرّع الأمور وهذه هي الحال تقريباً؛ لأنني وقد رأيتٌ أنْ تأكيد الموافقة تأخر وضابط الارتباط امتنع عن الردٌ على هاتفه وكلّ سلسلة قيادة الناتو والمطار غارقاً في سّبات بداية يوم رمضانّ أقنعت قبطان الطيّارة أن يتجاوز الرسميّات ولا تذكّر بداياته حين كان طيّاراً شاباً جسوراً خلال حرب لبنان أقلّع في الوقت الُمحدّد تقريباً. كلاشنكوف خمس وأربعون دقيقة من الطيران طيّارتنا هي أوْل طيّارة غير رسمية تحط في مطار مصراطة الذي كان حتى أمس غير سالك، وجدنا اللواء رمضان زرموح الذي لا نعرف من أخبره لأنّه إذا كانت المدرّجات قد صُلّحت بسرعة وكذلك برج المراقبة بقيت الاتصالات مع بنغازي مستحيلة فجا مصحوباً بضباطه الأساسيين وكذلك بشاب يضع قبّعة طفل تقريبأ كان دليلنا في مصراتة في شهر أيار/ مايو ورأيناه في صورة التقطها مارك الذي جال حول العالم يصعد الشارع الرئيس في مدينته المحاصرة؛ في يده بندقية كلاشنكوف وعلى شفتيه ابتسامةٌ غامضة تأثّرنا طبعاً بلقائه وتعانقنا، تذكّرنا تلك الأيام في باريس التي كما قال لي رمضان غيّرت وجه هذه الحرب أوفد لنا الكولونيل هاشم نائبه الرجل الذي يُشبه صوتّه صوتٌ كيسنجر. وضع تحت تصرّفنا ثلاث سيّارات (واحدة يقودها هاشم ويقود

الثانية قائد يضع عمامة ويشبه ابن لادن ويقود الثالثة سليمان نفسه الذي لم يعد إلى طرابلس منذ سنوات ويبدو وحده من بيننا الأكثر تأثرا، ثم اثنان من هذه البوارج المتنقّلة ‏ واحدة في أوّل الموكب والثانية وراءه ‏ اللتين نجحوا في اختراعهما أثناء حصار المدينة أو أشباحالمدينة التي كتب لنا رمضان أسماءها على طرف غطاء طاولة ورّقي في باريس حالفاً أنه إذا تلقَى الأسلحة الملائمة فسوف يأخذها خلال ساعات في البداية يجب عبور حواجز هي نفسها المتكوّنة من الرمل الّدعّم والحاويات المقلوبة التي كانت تسم داخل مصراتة تقدّم الثوار ‏باستثناء أنهم هنا كما تشهد كثير من التلال المنصوبة كل 5 إلى ستّة كيلومترات مؤكدة أنهم راوحوا طويلاً وقاوموا تحت زخ الرصاص وانتظروا وصول الأسلحة الفرنسية.. إن الطريق سالكة أكثر والحواجز عليها قليلة جداً بالكاد نقاط تفتيش يُرفرف عليها العلّم الليبي للملكيّة القديمة وغالباً علّم الجمهورية الفرنسية ‏علامة على أن تقدّم الثوارعموماً

بدءاً من زليطن؛ كان أسرع وعلى أن كتائب القَذّافي تراجعت من دون قتال.

بعد ساعتّين بالضبط ساعتّين وهذا تقريباً الزمن الذي قد يحتاج إليه اللواء رمضان بالفعل كما قال لساركوزي كي يُحرّر المدينة وصلنا إلى نوع من الكورنيش على جانبه الأيمن حقل زيتونه ثم بستان نخيل يُحيطان شاطئاً خلاباً من دون الحاجة إلى أن يُقال لي من دون أن يكون أحد مُحتاجاً من جهة أخرى إلى أن يقول شيئا فهمنا أننا وصلنا إلى طرابلس، فإلى اليمين؛ الميناء التجاري الخالي ثم الميناء العسكري المهجور وفي البعيد ترسو في أقصى المرسى آلاف السفن التي يبدو أنها أشباح سفّن. وإلى اليسار بنايات حديثة يبدو أنَّ سكانها هجروها وهياكل بناء ضخمة كان النظام سيعتزٌ بها لكنها توقّفت تماماً في عز انطلاقها ول يبقّم منها إلا رافعات هي نفسها مهجورة؛ وأحيانا مُخلّعة، وحولنا حركة سير تغدو فجأةٌ أكثر كثافة وأنهار من البك ‏ آب تمضي وأرجل السائقين على الأرض وأيديهم على المزامير يحمل راكبوها أعلاماً وراياتٍ صغيرة وشرائط عليها رسوم كاريكاتورية للقذّافي من النمط الذي رأيته في طبرق شبيبة حاشدة تحيي موكبنا بمهرجان من إطلاق الرصاص ومُقابلنا في البعيد أو رُبما هذا من خداع البصر الناتج عن بَخْر الحرارة المُتصاعدة من البحر والكتلة الداكنة للأبنية الفخمة التي تسم المدينة الكبرى وفجأة على لفة آخر

مُنعطف هذه الطريق الساحلية على اليسار ساحة هي الساحة الخضراء هذا الرمز المُطلّق للنظام ساحة القذّافي المكان الذي كان يجمَع فيه أنصاره ويُوجّه إليه خطاباته المسهبة المجنونة وها قد وصلنا إليها.

الشيء الذي يصدم إنَمّا هو حجم الساحة ‏ أصغر من حجمها في الصّوّر ومنه في مُخيّلتي بالإضافة إلى أنّها بسبب رمضان خالية بشكل مُدهش وفارغة تقريباً السوق القديم مُقفل وكل المقاهي أيضاً وآلاف أغلفة الطلقات الفارغة جاثمة على الأرض فجاء حوالي ستين رجلا لا أكثر للتسليم علينا ومُّعانقتنا وشكرنا على قُدومنا.

لكنْ؛ إما لأنّ خبر وصول الأجانب انتشر حالاً وإمًا بسبب اهتيّاج الشباب المرافقين لنا شباب دبَابتّي بن حُور الذين أطلقوا في الهواء الرصاص من بنادق الكلاشنكوف كي يُعبّروا بصورة أفضل عن سعادتهم، جاء عجوز من الساحة وعاتقنا وبدأ الناس بالوصول يزداد عددهم بالتدريج شباب وأحياناً أطفال وكلهم مُسلّحون وبعضهم بأسلحة ثقيلة وشرعوا هم أيضاً في إطلاق الرصاص.

اقترح علي أحدهم بإنكليزية رديئة أن يقودني إلى قصر عائشة؛ بنت القذّافي حيث لا بد أن المُحرّرِينَ عثروا فيه على كنوز ‏وكرّر عدّة مرّات باللغة العربية الكنوز.

وقال لي آخر إِنّه يستطيع أن يقوم بالأفضل ويقودني إذا شئت؛ إلى المكان الذي قبض فيه على «محّمد» ابن القذافي؟ ‏ لا على سيف اعتقدتٌ أن القبض عليه كذَّب؟ ‏ بالتأكيد نعم "لقد أوقف ولكنّه هرب بعد ذلك" هذا صحيح؛ لكن السبب أن شبابنا اتبعوا حرفياً تعليمات الاعتدال التي أصدرها الرئيس عبد الجليل لكن القول إننا ل نلَّقِ القبض عليه أبداً فهذه إشاعة جماعة القذافي الكاذبة.

وتَمنّى ثالث اسمه حكيم أن يكون أكثر قوّة أيضاً فادّعى أنّ بإمكانه أن يقودني إلى مخبأ القذافي نفسه وأن لا أحد مكانه؛ إلا هو وأقسم بشرفه غير أن الآخرين أسكتوه؛ حتى إن أحدهم لكمه لكمةٌ خفيّة رافعاً مرفقه. لذا لم يُلحّ.

أما أنا فارتجلتٌ خطاباً موجزأ يُشبه إلى حدّ ما توجّهي بالكلام إلى شباب بنغازي لكن بنغمة أكثر حميّة وتأثّراً واضطراباً (يوم عظيم... عظّمة شعب يتحرّر... تحرّركم هو تحرّرنا... صوّر من تحرير باريس... ورئيسكم مصطفى عبد الجليل في مقام أب ويجب احترامه كأب... ووعظ مُختصّر خاصة بعدم الانسياق لنزعة تصفية الحسابات والانتقام...(.

صرخ الشباب الله أكبر ‏ فأجبتٌ: ليبيا حرّة. هتفوا لفرنسا فحيّيتٌ ليبيا. فتكاثر إطلاق الرصاص في الهواء وبعضهم كان يُطلِق من نوافذ المباني من جانب صورة القائد العملاقة المطلّة على الساحة ولم يبق منها إلا نتف تميز إلا بالكاد والباقي إما أنه ممزق وإما محروق.

بعد حوالى عشر دقائق اختلطت ضجّة سيول إطلاق الرصاص فرّحاً بضجة شبابنا الُمرافقين الذين زاودوا بإطلاق القنابل من مدافعهم الموجّهة باتجاه السماء فغطّى دوي الفرقعات صوتي وبدا أنّ بعض الشباب فوق ذلك عرفوا الفرنسي «السيّد برنار»» الذي شاهدوا صُوّره المؤبلّسة ورأسّه المطلوب الذي أعيد نشر صورته على التلفزيون خلال أشهر فراحوا جميعاً يلتقطون لي الصُوّر بهواتفهم المحمولة ويُرسلونها إلى جهات لا يعلمها إلا الله حيث تمضي الرسائل النصيّة في كل اتجاه وتتكائر اُلمكالمات الهاتفية فانتهى فريق شُرطيّينا بتخمين أنّه رُبّما كان من الأفضل ألا نُطيل أكثر من ذلك ألا يعيث في المدينة موالون للقذّافي خلعوا بزاتهم العسكرية ويعملون الآن بالثياب المدنية؟ مشهد مُدهِش إذا لهؤلاء الرجال الخمسة الذين أذهلني على الأخصٌ حتى الآن تكتمهم الشديد وحصافتهم؛ وفي كل الظروف  وفضولهم التامٌ ‏ والذين يتحوّلون في زمن قيامي لا ينبغي الإفصاح عنه إلى خمس قلاع بشرية ، التحقنا بسياراتنا تحت حمايتهم..

الخميس 25 آب/أغسطس: تتمّة (في طرابلس المحرّرة)

عانينا قليلاً في الخروج من الساحة التي صارت خلال عدّة دقائق غاصّة بالناس ومُزدحمة الآن باكتظاظ شاحنات البك ‏ آب التي انبثقت من كل الشوارع المجاورة مُضيفَةٌ مُنبّهاتها إلى الابتهاج بإطلاق القذائف؛ ورصاص الأسلحة الخفيفة التي غدت تصِمٌ الآذان.

وبينما كان يُحيط بنا رُكَاب شاحنات البك‏ آب التي كان سائقوها هم الأكثر هياجا إذ رافقونا في نفس الموكب المزدحم المُتكون من الشباب الآتين مشياً على الأقدام من بنغازي يوم  ألقيت خطابي على الكورنيش مضيفا حينئذٍ حتى أطراف باب العزيزية: المقرٌ العام القديم للقائد حيث يسود شكلٌ آخر من الغلّيان فعلى ما يبدو تم توا توقيف قنّاص يحيط به شابّان مسلّحان ويداه مُقيّدتان وراء ظهره؛ والجمهور يصرخ من حوله ويشتّم ‏ لكن رُبما بسبب وجودنا هناك لم يُعاملوه بعٌنف.

وعندما انتهينا بعد عناء بتفريق موكبنا المُزدحِم الذي نظراً لعدم استطاعته أن يقوم بعرض البراعة الحضري في أزقة المدينة القديمة تبعثر بالسرعة التي تشكل بها، توقفنا عدّة دقائق في وسط أحد الشوارع؛ ونحن أيضاً أخذتنا الحميّة فأعطى كل منّا أناء وهاشم شبيه بن لادن وجيل وفرانسوا أمراً متناقضاً توقّفنا نعم كي ندرس ونحن ننكب على غطاء سيّارتي على مخطط أتينا به من باريس، مخطّط الدليل الأزرق لكنه، مرّة أخرى يبدو مُزيّفا، لأنّه هو أيضاً أعطانا إشارات متناقضة.

الشوارع خالية تسحقها الشمس ليس فيها أي حانوتٍ مفتوح، أجل، هناك، رجل عجوز يقرفص أمام مطعمه الخالي الذي لا طعام فيه، يتحدّث إنجليزية رديئة ويشير لنا بحركات سريعة من يده إلى متاهة من الأزقة.

بعد عدّة أمتار؛ وصلنا إلى كنيسة بيضاء الكاتدرائية القديمة.

ثم إلى ساحة صغيرة وفي الساحة بناية كبيرة من القرميد: الكنيس القديم المهِمَل لكن يبقى على زخرف المدخل شكل الوصايا العشر ونقشان بالعبريّة.

هو ذا على جدار في زاوية شارع صغير صفيحة من المرمر كفانا ترجمتها رجل واقف هناك وصادف أنه صاحب «فندق الجمال» الوحيد في طرابلس تُشير الصفيحة إلى أن القنصلية الفرنسية القديمة كانت موجودة هنا.

انطلقنا ثانية باتجاه الجنوب إلى حيّ بو سليم الوحيد مع حي منشور المجاور, وربما وهذا أقل وضوحاً حي الهضبة الشرقية حيث نصحَنا هاشم شبيه بن لادن بعدم دخولها لأن المعارك تدور فيها كل يوم.

مررنا أمام المستشفى الذي يبدو أنه كان قد أُخلي، لم تعد فيه سيّارة ولا أدنى إسعاف ومن الُمخاطرة الكبيرة التوقّف فيه.

بحثنا عن سفارة فرنسا ‏سألّنا سائق تكسي قد يكون الوحيد الذي التقينا به «القديمة أم الحديثة»؟ أجاب فرانسوا الذي استلم قيادة العمليّات: «الجديدة طبعا» قادتنا سيارة الأجرة في حي الأندلس، حتى مبنى صغير لونه أبيض "مُبتذل" بشرفاتٍ مُكعّبة بارزة باتجاه الشارع حيث لزمني كثير من الدبلوماسية لإقناع جيل كي يذهب ويرفع علماً فرنسياً.

وفي مكان قريب جدّاً من هنا في شارع خالٍ تماماً «هل هناك قنّاصون؟» صادفنا رجلا على كتفه قاذفة صواريخ قال إنه رآنا في زنتان الشهر الماضي والذي ودَّ مع مجموعة من رفاقه، عمل واحد منهم سنتّين في تولوز ويتكلّم الفرنسية قليلا أن يقودنا إلى مكانٍ يُمكن أن تكون جماعة القذَّافي خلال انسحابها خططت كي تعدم بسرعة مائة وخمسين سجيناً.

وفي منتصف الشارع بناية صفراء من أثر البول مبقورة نتيجة القصف وأمام حواجزها الحديدية ثلاثة جنود مُتعبين يصرخون: "لا صحفيين! لا صحفيين!"

وصل رجل ببزّة عسكرية يبدو في الخمسين فتمتم عدة كلمات إنجليزية مبينا أنه أستاذ في ثانوية الحيّ وأنه من الآن وصاعداً قائد ميليشيات القطاع؛ وكان عليه قبل قليل أن يطرد بوسائل عسكرية طاقماً تلفزيونياً دخل المنطقة من دون ترخيص؛ وحاول الانسحاب منها بعد أن نهب الوثائق المبعثرة فيها.

تساءل مُتعجّباً: «كيف؟ ألا تعرفون أين أنتم؟ هذا هو المقرٌ العام لعبد الله السنوسي عجباً! رئيس المخابرات السريّة للقذّافي! رجل أفعاله الدنيئة ورذائله!."

ولما شرحنا له أنّ الذين أمامه ليسوا «صحفيين» بل هم «فرنسيّون» وافق على السماح لنا بالدخول لكنّ بشرط أن يُرافقنا في كلّ مكان.

وهنا.. جهازا كاميرا ضخمان. على ارتفاع حوالى عشرين متراً من الأرض: كانا يُراقبان كل من يمر في الشارع وإذا ما نظر أحد إليهما لأكثر من ثانية يتِمّ توقيفه.

ثمة غرفة مُبطَّنة بلا نوافذ: مبطنة لخنق صُراخ الذين كان يُعذّبهم السنوسي شخصياً في كل ساعة، حتى خلال الليل".

وغرفة فيها سرير عريض وصندوق كرتوني مليئ بزجاجات san pellegrino غير‏ الموجودة في ليبيا وهي من أجل صاحباته اللواتي كان يستقبلهنٌ.

والآن مكتب السنوسي. «احلفوا أنكم لن تلمسوا شيئاً" طبعاً! إنه مغارة علي بابا: أريكة جلدية؛ وشاشة تلفزيون بلازما وعلى الأرض بطاقات طيارة مُبعثرة وبطاقات تعريف بأفخم مطاعم طرابلس وبطاقات دعوة صقيلة وصُوّر شخصية مُخبرين من كل الأعمار، أسماء مكتوبة خلف الصورة وأوراق وأكداس من الورّق باللغة العربية.

وهذا أخيراً أكثر ما يسترعي الانتباه حُجرة مُنفصلة فيها رفوف مليئة بالملفّات، على غلاف أحد هذه الملفات الذي منع الرجل من فتحه؛ إشارة «دولي» (الملفات السريّة لثلاثين عاماً من الإرهاب). وفي ملف آخر يفتحه الرجُل بنفسه قائمة بأسماء غير ليبية (مرتزقة أفارقة منحهم القائد الجنسية الليبية بالآلاف!) وفي ملف آخر أيضا صُوّر وتقارير باللغة العربية التي اكتشفها الرجل وبدأ يُترجمها هذه تقارير الجواسيس الْمندسّينَ في المجلس الوطني الانتقالي أقدمها بتاريخ 19 شباط/ فبراير» إنها محاضر جلسات الاجتماعات وملاحظات عن الوضع العسكري في بنغازي وصوّر شخصية، عشرات وعشرات الصور مُرتّبة كما في ألبومات عائلية، تُظهر بوجه خاص معسكرات تدريب الثوّار فمن التقط هذه الصوّر؟ ومن أين تأتي المعلومات؟ قرّر الرجل أن هذا يكفي، "بدءاً‏ من صباح الغد سيأتي المجلس الوطني الانتقالي لاستلامها" قال ذلك فجأةٌ وبقلّق بينما حمل فرانسوا خفيةٌ بعض الوريقات وهو يمضي.

في حيّ قرقارش في وسط شارع على جانبيه بنايات من طراز الفيلات يُذكّر بالحي الإيطالي في طنجة أرونا موقع معسكر تدريب النساء العسكريّات.

سوف نرى مادام علينا أن نفعل قصور الملوك السنوسيّين التي تبدو لنا كما ثراها على مخطْطنا غير بعيدة عن المكان الذي توجّد فيه وما أكثر ما شرحنا وهجّينا ورسمنا لكنّ لا أحد يعرف أن يُحَدّد لنا موقعها حتى هاشم وأصدقاؤنا في مصراتة الذين أفقدهم توازّنهم الاهتياجٌ المخيم بالإضافة إلى همّهم في تأمين حمايتنا وبالإضافة خاصة إلى أنّهم لا يعرفون المدينة.

ذهبنا إلى تاجوراء بالُمقابل، هذا الحي في الشمال الشرقي من المدينة حيث حكى لنا رمضان قبل ألانطلاق أنْ عناصر النخبة من جيشه انطلقوا في مُباغتة ليلية يوم السبت الماضي وفتحوا المدينة للثوّار الآخرين القادمين مثلنا من الطريق التي يعرفها هشام جيداً بحكم أنّه كان هنا.

جعلنا حمود شعبون يحكي لنا قصّة المعركة وهو قائد شاب بلحية أنيقة التشذيب وعينين ذكيتين حاميتين حسبتّه في البداية برجل واحدة لكنْ لا كان جريحاً فقط يمشي بعكاكيز غير أنه يمشي على كل حال ويستمرٌ بوضوح، في قيادة وحدته.

يتذكر تحت نظرة هاشم الأخوية أنّه من بين أوائل الأوائل مع رمضان زرموح في أوّل زُمرة مُكوّنة من مائتي عُنصر وصلوا إلى هذا المكان الساعة الخامسة صباحاً ووطئوا رمل العاصمة.

وما إن انطلق حتى أصابته طلقة؛ لكنّه لم يستسلم وقام بمساعدة عكازين ثم حمله اثنان من رجاله فصمّم على البقاء على رأس الوحدة التي كانت تتقدم باتجاه المدينة من دون أن تلاقي مُقاومة تُذكر.

إنها السابعة والنصف مساء، غابت الشمس، وأخيراً هذه ساعة الإفطار ‏تناول الصائمون على غطاء محرك البك ‏آب إفطارهم من أكواب الحليب والتمر، هل سنقبل حفاوة شعبون الذي اقترح علينا أن نقضي الليل في خيمة قيادته على الجبهة البحرية؟ أم سوف نذهب إلى أحد الفُندقَّين فندق راديسون وفتدق كورنتينا اللذين يشغلهما الصحفيُون منذ نجاحهم في الانسحاب من فندق ريكسوس الحكومي حيث كانوا محبوسين؟ أم نعود إلى «مدينتي» كما قال هاشم، غير أني سعيد بالمجيء إلى هنا سعيد بقطع المسافة على الطريق البريّة – وسعيد بأنني أنجزت الرحلة.

الاثنين 29 آب/أغسطس (مُخالفة انتهاك منطقة حظر جوي)

هي ذي وثيقة ينبغي أن تحاط بإطار حين ينتهي كل شيء.

......................................................... ....................................................... .................................................... ..................................................................

وهذا يشكل انتهاكاً صريحاً لمنطقة الحظر الجوّي فأرسل محضرّه إليّ بما هو مُثْبَت.

الخميس 15 أيلول /سبتمبر (مع ساركوزي وكاميرون وجوبيه في ليبيا الحرة(

هذه المرّة هي النهاية حقّا آخر فعل؛ نهاية صلاحية كل الآجال؛ والتعبير عن الكلمة الأخيرة.

أردت أن أصل قبلّهم بقليل ومن جهة أخرى؛ كان عل أن أكون في ليبيا مبدئيا منذ أمس مساءً غير أنْ الأثقال البيروقراطية لحلف الناتو ورّبّما تظهر النيّة السيئة لمدير غير مرئي للمسرح السيامي ورُبما أيضاً دوي آلةِ جعلني أدفع ُمخالفتي الجويّة الشهر الماضي، وعملت على ألآ أستطيع الوصول إلا هذا الصباح قبل عدّة ساعات فقط من وصول كاميرون وساركوزي، لكنْ كل شيء على ما يُرام، وقد استطعتٌ أن ألتقط الصور التي كانت تنقصني من أجل الفيلم ‏ وكان هذا هدفي. ولم يعد الهدف الآخر الهدّف غير المُعلّن ‏إنهاء هذه المُغامرة في الحالة التي بدأتها بها: حرا، فارساً، وحيدا، لا أتوسّل إلا نفسي، أجعل من نفسي مُبشْرا، وأتنقّل وأتحرّك بوحيي الخاص، ولأجل هذا، وأجهّد كي لا أكون مديناً لأحد؛ ولا أطلب شيئاً من أحد، وأخدم الجمهورية، نعم، لكن لا أسخرها لأغراضي الخاصّة..

كان هذا نقاشي مع هولبيك المذكور في كتابنا مُستخدم فرنسا، تقودي الخاصّة مثلا وهذا تفصيل طبعا غير أنّ الشيطان في هذا التفصيل، الشيطان، طيف الْمثقّف المُحلّف, النموذج الرديء للكاتب المنضوي، كتبتٌ منذ ثلاثة وثلاثين عاماً إنني لن أصير أبداً مُستشارٌ أمير وطبعاً كنت عند كلمتي، مستوحياً حقيقتي بالتأكيد، وموحياً بها لمن يُريد أن يسمعها لكنني لست مُستشار أحد، أو أنني مستشار مؤقت وأيضاً! كشّاف على الأصحٌ عنصر رائد كان الآخرون أحراراً في أن يسمعوه أو لا يسمعوه فهل كان هو حُرَا، بالعكس في أن يتوقّف في أية لحظة لو أن ساركوزي لم يُتابع لو أنه بعد اعترافه بالمجلس الوطني الانتقالي لم يستقيل يونس، ولو أنه بعد استقبال يونس لم يستقبل ضبّاط مصراتة الأحرار الذين جاؤوا من أجل الأسلحة؟

حينئذٍ كنت سأعبّر ىما فعلت مع ميتران الخائن في سراييفو؛ عن الأمل الذي سيجعله مسلوباً وكنتُ سأسجّل التراجُع وأدينه كان هذا هو القانون غير المكتوب وقاعدة اتفاقنا

الضمني الذي انعقد وسوف ينفك الآن.

وكي أكون صادقاً تماما يجب أن أعترف أيضاً بأنّه لم يُزعجني أن أكون هناك حين يصل مع كاميرون وأن أستقبلهما بمعنى ما في طرابلس التي سبقتهما إليها وشعرت أنني نفخت فيها الروح قبل ثلاثة أسابيع من الآن؛ في الوقت نفسه الذي كانت تُدوّي خلاله تصفيقات الشرف التي كان الشباب يُحيُوننا بها في قلب المدينة النابض؛ على هذه الساحة الخضراء، وتسمى من الآن وصاعداً ساحة الشهداء حيث لن يذهبوا هم إليها للأسف.

أنا هنا في جو شديد الحرارة في أسفل الطُّلوع الصاعد باتجاه قسم الإسعاف في المستشفى الكبير حيث تنتظرهما المْمرّضات والمريضات، وربّات المنازل ونساء طرابلس، كان عدّدهن حوالى المائة.

كن متجّمعات في السُلّم والممرّات والقاعات. وجوه جميلة لنساء لم يعدن خائفات»

ويضحكن. وصلت المروحيّات الخمس. في الوقت الْمحدّد مع فرقعة المراوح.، لَطَالما انتظر الليبيّون المروحيّات وتمَنُوها! فغالباً ما سمعنا الناس يقولون في مصراطة والزنتان وبنغازي وفي كل مكان: أين المروحيّات؟ لماذا تأخرت كثيراً؟. أمَا هذه المروحيّات الأخيرة في هذه الحرب فقد وصلت في موعدها. أثارت؛ وهي تحط عواصف من الغبار والرمل الوسخ، لكنّها العاصفة الأخيرة، هي عاصفة رمزيّة وسعيدة. العاصفة الجميلة للحرية هي التي ربحت.

إذا أنا هنا. نزل نيكولا ساركوزي وكاميرون أُوَلاً وتبعتّهما كوكبة من المرافقين أحاطت بعبد الجليل، رفعوا أيديهم علامةٌ على النصر، يرفعونها له مثلما يفعل مُدرّبونَ في حلقة الرّهان من أجل بطلهم الفائز. السعادة مقروءة على الوجوه. رُبْما هي لحظة خشية وهما يضعان أقدامهما على أرض ليبيا، آخر عاصفة مع وصول آخر مروحيّة بلغت من القوّة ما جعلنا جميعاً ندير رؤوسنا ونخفض رؤوسنا، لكنني نظرتٌ إلى عبد الجليل، نظرتٌ إلى جبريل إلى جانبه فرأيتٌ في عيونا بوضوح أنها المرّة الأخيرة التي يخفضان فيها رأسّيهما. سلّمتٌ عليهما هما أوَلا عبد الجليل وجبريل ثم على الأوروبيّين ‏ ساركوزي وكاميرون، وصعدنا باتجاه النساء بخُطى بطيئة: يحيط بنا جمهورٌ تخلى الأمن عن احتوائه، إذ حطم التدافع والضوضاء

المجنونة؛ والبلبلة والحشد الملتحم ترتيبات البروتوكول وكان كل هذا علامة صارخة على السعادة.

دفعني الزحام عند باب المصعد فوقعتٌ على هنري غينو. لم غير رأيي في خطابه في داكار، لا شك في أنه يفكر دائماً، هو أيضا بالشتائم التي كافأني بها حينئذ، لكني مددتٌ له يدي فأمسك بها.

حين دخلنا المصعد لاحظنا أن عددنا كان كبيرأً يجاوز حمولة الجهاز وكان لابد أن ينزل أحد الصاعدين، لن يكون هو، ولا أنا. هذه اللحظة تتخطانا نحن الاثنين، وكان ردّ فعلي أن أعلّقَ؛ من جهتي الخلاف بيننا. الحدث هو الأقوى فهو يستولي علي بكل قوّته والباقي لا أهمية له، كنت أعلم أن ألان جوبيّه من الذين جاؤوا، وكنت أعلم أننا سنلتقي؛ في لحظة أو في أخرى، وجهاً لوجه. وكنتٌ بصراحة قلقاً بعض الشيء، فماذا يُمكن أن يفعل حين يلتقي ذاك الذي قُدَم في أغلب الأحيان بوصفه «الوزير الثاني» للخارجية؟ وماذا يُمكن أن أفعل؟ كيف أتصرّف إذا مددتُ له يدي ورفض أن يُسِلّم عليَ؟ طبعاً لم يحدث هذا، فالمُصافحة كانت صادقة، والنظرة وديّة، حتى إِنّه لفظ جملة أمام مجموعة من الصحفيّين المُحاورين وشدّد عليها ليُعبّر عن انبساطه في أن «يتقاسم؛» معي هذه اللحظة. ولاحقا وبعد بنغازي لحظة العودة باتجاه باريس عمل الرئيس على أن نجتمع على انفراد وهنا استحضرنا كمثل لاعبيّن في نهاية اللعبة يقلبان آخر أوراق اللعب موضوعات خلافنا.

فصل العاشر من آذار/ مارس في الإيلزيه حيث تم الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي؟

قال إِنّه كان، يعلم بذلك، لكنّ الشيء الوحيد الذي فاجأه هو الدعاية التي أعطاها جبريل للأمر، والانتقادات التي وُجَهت ضدّي التي لم تتوقّف الحلوق العميقة في وزارة الخارجية عن إرواء الصحافة بها، لم يكن على علم بشيء من اختلاق الصحفيين والإشاعات؛ ول يُرد ذلك. وخيار التدخل العسكري؟ واجب الحماية هذا المأخوذ بحرفيّته وقدّرت دوماً أنه تحمله مُجبرَا، كان دائماً مؤيّداً للتدخل من دون أيّ تحفُظ وأنّه على أيّ حال «فخور بخدمة هذا الرئيس». وماذا عن المؤتمر الصحفي في 6 آذار/ مارس إذأ؟ الجملة التي قالها يومئذٍ في القاهرة عن التدخل العسكري في ليبيا؛ الذي «قد يؤدي إلى نتائج سلبية تماماً»؟ لم يعد يتذكّر الجملة، نبّهني ساركوزي بالقول "احذّر معه مفكرة ولديه التواريخ على جدول الأعمال".

لا لقد بحث كثيرا وهو بصدق لا يتذكّر تلك الجملة، والغريب أنْني بالأحرى وثقتٌ بصدقه تماماً مثل ما وثقتٌ بصدق غضبه حين ذكر بصوت هامس الانتقادات تتقصّده في موضوع "رواندا" الذي بدّلته فوراً، مضى إلى حدّ دعم فكرة أنّه كان في 15 أيّار/ مايو من عام 1994 إثر اجتماع مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي في بروكسل من أوائل الذين أدانوا وسمّوا الإبادة الجماعية وفي الواقع؛ قرَرتٌ حتى بأبسط تدقيق الثقة بكلامه..

هل هي كوميديا ما قبل خمسة عشر عاماً تبدأ من جديد, عندما جعلتنا بديهيةٌ صّدْقنا نتصالح قبل أن يُشْوّش جيل علاقتنا في الفصل الذي حصل في السوربون هل هذه الكآبة التي أحسّها فيه، هذا الجانب المكسور غير الواهم وفينوس في وزارة الخارجية ونزوعه لانسحاب يتحمّل مسؤوليته بالترتيب مع ممارسة سلطته التي تُوثّر ف بغتة وتجعلني أفكر بأننا وقد وصلنا هنا وألقينا السلاح قليلا يجب ألا نسعى للكذب؟ فأي حدث انتصر بالضبط. ويُمْلي قانونه هنا أيضا؟ أميل إلى الحلّ الأخير، لأنْ الرواية الأخرى للقصّة بدت لي غير أن الذي أراقبه بكثير من الفضول هو الرئيس.

أراقبه في بنغازي حين تأتي إليه عائلة مُتألقة من طبرق بالطفل الذي أعلنتٌ له ميلاده في اتصالي الثاني الخاصٌ بزيارة يونس إلى باريس، وأخبرته أنهم سمّوه ساركوزي، استنتجتمن هيئته الْمنذهلة الحالمة أنه لم يُصدّقني.

أراقبه في طرابلس؛ في قاعة اجتماعات فندق كورانتنا مواجهاً المجلس الوطني الانتقالي بشمول كامل: السلطة العسكرية في المدينة؛ عبد الحكيم بلحاج عاليا أبو عبد الله الصادق الذي كان مؤسّس المجموعة الإسلامية الليبية الْمسلّحة وهو اليوم؛ مع الحاصدي تجسيد ثوّار درنة والتهديد الإسلامي الممكِن في القاعة وهو يعلم بذلك ويراه؛ لكنّ هذا لم يمنعه من القول بقوّة إنّ فرنسا لم تقّم بما قامت به لتجد نفسها يوماً مع ديكتاتور أصولي سيكون، وأراقبه أخيرا في ساحة الحريّة في بنغازي يقف على المنصّة التي ألقيت عليها خطاباً في آخر مساء من إقامتي الثانية قبل أربعة أشهر. كان كاميرون يتكلّم بينما هو يحضر نفسه لإلقاء خطابه الذي سينتزع من الجمهور خلال دقائق صيحات طويلة من السعادة تقترب من الاختناق أو البكاء كان يحبسها منذ الليل الذي قصفت فيه الطيّارات الفرنسية أوّل الدبابات التي كانت تتحضر لفلق المدينة، ومن هنا حيث أنا وراءه في مستوى أدنى من المنصة قليلآ لاحظتٌ مُناورة غريبة فاتت الجمهور وأغلب الصحفّيين: تحت القناع البارد والجامد تقريا وبتناقض مع سحنة الرئيس هذه التي انتهى باتخاذها واشتغل عليها، رأيت تقدِّم هذا الحدث الليبي والرجل اليُمنى تُحدّد الإيقاع تهدأ ثم تهيج تقريبا، وتّثبتُ عناداً طفولياً، جسّدان في جسّد، جسّدا الملك المشهوران؛ همّاً الجسدان؛ لكنّهما مُتجسُدان بالجسم نفسه، ليست هذه أطروحة كانتوتوفيتش الذي يرى في الجسّد الثاني جسّداً لطيفاً غير مادّي.

لكنها أطروحة؛ وحل، ومتغير مُهم.

طبعاً راقبتٌ كاميرون أيضاً، هيئته الشبيهة بالدعاية لأطفال كادوم، وشكله الشبيه بعميل تجاري مُراهق، أو بشكل طالب في جامعة أكسفورد يتسلّق درجات الشهرة. راقبته معاً أمام هذا الظرف الذي لا يُشبههما إلا قليلاً جدا ومع ذلك أنتجوه، فهما حديثا السنّ، ثاني البكر الْممثّل بسابقيهم الذين حاولوا كل شيء في التاريخ العظيم. ثاني البكر في هذا التاريخ الذي هم أوّل من لم يعُودوا يتصلون به لا بالسيرة الشخصية، ولا فيزيائياً ولا عيشاً، قلت لنفسي: ربما كان السرٌ هنا، الفيض الزائد من التاريخ الذي كان يشل الآخرين، عجز التاريخ الذي جعلّهما أكثر حريّة، وعوضاه بالتزامهما هكذا برأسين مُطأطتين ودعمها لثورة عربيّة. ليس في وقتٍ مُتأخر كثيراً في عام عجوز لكنّه في ريعان الشباب, في عام شاب فجأة، وإذاً كان هذا واحداً من مفاتيح السرّ.

ثّم إن هناك لِيبيّين طبعاً.

غوقة؛ ببسمته المتواطئة وفي ما سبّبه لنفسه من تدافع لا يوصّف على مدخل مُتحف أخطاء القذّافي حيث دُعِيَ ولدا التاريخ الثانيان ليقفا دقيقة صمت بالُقرب من الفيلا الفخمة وحيث وَلِد المجلس الوطني الانتقالي قد أكون أخطأت. لكن يبدو لي أنني رأيتٌ في هذه الابتسامة المتواطئة شيئاً ما مثل: "هيّا سأنسى كل شيء...أنا خطوتكم الخاطئة في القدّس...أنتما سأنسى البيان الذي تنكرانه..."

جبريل. رأيت جبريل يبتسم. رأيت جبريل سعيداً. رأيتُ زمن هذه الابتسامة زمن هذه التنهيدة التي يُمثّلها هذا اليوم الليبي، رأيت جبريل المرِعِبِ (الذي أصرّ يوم التقائه بكليتتون؛ على إيجاد مخرج نجدة) وقد تحوّل إلى رفيق بشوش، يُدفّع ويدفع الآخرين ويُعيد تثبيت نظاراته التي كادت تقع مازحأ ناسياً سحنة التقني التي كانت ترتسم على وجهه؛ متوحٌداً بالجمهور.

ثُمّ رأيتُ عبد الجليل، ثمّة صورة على الأقل لعبد الجليل ليس عندي أي استعداد لأنساها إنها صورة آخر ملامح ظهرت على وجهه حينما حملته المروحيّة على ما أعتقد من المستشفى إلى الأكاديمية العسكرية للنساء في طرابلس كان جالساً على المقعد الأوسط أمام الباب المفتوح مُقابل الفراغ، كان جريحاً وحيداً، أشار بيده إلى جمهور مُعاصريه الذي كان يرى إقلاع المروحية به مُجرّد إشارة، لكنها أفضل تعبيراً من خطاب طويل عن جلالته الْمستعادة وسلطته وعزّة محرر ليبيا. في تلك اللحظة جعلني عبد الجليل مع حفظ الألقاب؛ أفكر بأحد الضبّاط الفرنسيّين حمل لشعبه فكرة أنّه حرّر فرنسا في حين أنَّ كل إنسان كان يعرف استحالة فِعل أيّ شيء من دون الحلفاء، ضابط بسيط اسمه ديغول.

ديغول من دون النصّ. لكنٌّ التفاتة هذا الديغول تذكّر الجمهور الفرنسي بأنّ الجنرالين بروسيه ولوكلير لم يفعلا أقل مما فعله الأميركيّون.

ماذا سيفعل عبد الجليل وجبريل وغوقة؛ بثورتهم؟

هل سيعرفون كيف يحمونها من مطامع بعض أبنائها الذين بدؤوا يحلمون بالتهامها؟

هل سيعرفون أن يكونوا "جيرونديّينَ" حاسمين أم أنهم سيكونون "ريفيّين" عربا يُزيُفون حُريّاتهم التي اكتسبوها بثمن كثير من الآلام؟

وهل سوف تُّفضِي هذه اللحظة من النعمة، هذه المرحلة التي عشناها إلى انتصارها أم أنها سوف تشهد المصير الذي لاقته كثيرٌ من الثورات؟

السؤال موجّه للجميع.

وكلّ الحاضرين هنا قُرب سرير ليبيا الجديدة يطرحونه على أنفُسهم سِرَاً.

فإذا فعلنا حين أنجزنا هذا، حين كنا الشاهد والفاعل في هذا الزمن غير المعقول الذي يعيش انتصار ثورة في بلَّد مُنسحب من العالم العربي؟ هل ننساه؟ هل نُلقيه عن كاهلنا بوصفه مهمّة أنجزت بنجاح؟ أم نخلعه خَلْع لباسٍ من نور؟ أم تُحاول أن نكون على مستوى ما فعلناه: مُعاصرين للحظة الذات هذه مخلصين لوهجها؟

للحدّث أحكام. والتاريخ يبحث آملاً عن ممثْلِين.

و التاريخ مليء بأبطال حدث فتان فقدوا هالتهُم؛ وبريق التزاماتهم..

فلْنكن عند هذا الوعد.

ولْيبقَ كل أولئك الذين حملوه ملتزمين بما فيه من عظّمة.

وَليْقدَّم الوعدٌ مثالاً ‏ في كل مكانٍ نُقاتل فيه ضدّ الطغيان وحيث نفتقد الرجاء.

انتهى يومي. . غادرثٌ ليبيا وأنا أفكر في وجوه مُقاتلي جبال النوبة المشوّهة، ومُقاتلي دارفور، والآنغوليّين الذي التقيت بحياتهم المكسورة، ولم أستطع أن أفعل شيئاً من أجلها.

أفكر بمسعود المقتول بعد أن خلته فرنسا ويبيغوفيتش اليائس عشية توقيع اتفاق لعين؛ في باريس. أفكر بكلّ هؤلاء المهزومين، المُعذّبين في الأرض وفي الحرب الذين كانت عيونهم في كولومبيا وبروندي وفي أماكن أخرى على بنغازي، فمن أجلهم أيضاً دقّت ساعة الثورة الليبيّة، وهي سوف تتحدّث إليهم إذا تركت حظها لحريّتها.

الخميس 20 تشرين الأول /أكتوبر (موت القذًافي)

هذه صوّر جثته، هذا وجهه الذي ما يزال حيا لكنه مُغْطى بالدم، ويبدو أنهم انهالوا عليه لكماً، هذا رأسه المكشوف، المكشوف بغتةٌ وبغرابة ‏ تبيّنتٌ أنْه لم يُرَ أبداً إلا مُعمَّماً بغنج وأنّ شيئاً ما مؤثّراً يجعل هذا الُمجرم مُثيراً للشفقة..

كثيراً ما قُلت لنفسي إن هذا الرجل وحش وكثيراً ما استعرضت طيلة نهاية هذا اليوم وأعدت استعراض الصوّر الأخرى التي تسكنني منذ ثمانية أشهر التي هي صُوّر الذين قُتلوا رمياً بالرصاص جماعيا والذين عُذَّبوا وشنقوا في 7 نيسان/ أبريل وحُبسوا أحياء وأخرجتهم ثورة شباط/ فبراير من حبسهم ومنذئذٍ لم يعودوا خائفين. وكثيراً ما كرّرتُ أنه كان أمام هذا الميت مائة فُرصة للتفاوض وإيقاف كل شيء والنجاة بجلده ‏ وأنّه إذا لم يفعل هذا وفضّل إراقة دم شعبه بقدر ما استطاع فذلك لأنّه بمعرفة الوقائع سبق قدّره.

 وكثيراً ما فكرت بأننا نحن الأوروبيّين الذين نشعر بتبكيت الضمير من مجازر أيلول/ سبتمبر من عام 1972 ومن النساء اللواتي جزّت شعورٌهنَ ساعة التحرير وموسوليني المشنوق من قدمّيه، المحقر وعائلة تشاوشيسكو التي قتلت كحيوانات شائخة، لسنا في موضع أن نحمّل أياً كان عناء دروس عن الإنسانية الثورية.

ما المانع، فعليّ أن أكون نفساً جميلة لا تشفى، حَصما لا يختزل لهذا الشرّ المُطلّق الذي هو الحكم بالإعدام. لأنْ ثمّة شيئأ في هذا المشهد الذي يُثيرني، يجرح في ذاتي غريزة عميقة جدأ شديدة الرسوخ، لا أتوصّل أبداً إلى عقلنتها، قلت هذا لمنصور على الهاتف، ثم لمصطفى الساقزلي الذي كان في روما، فاتصل بي ليُشاركني فرحته، وحين اتصل بي بشير صبّاح بدوره؛ من مدينتنا العزيزة مصراتة، ليُمرّر لي العقيد هاشم السعيد للغاية هو الآخر الذي أراد أن يعطيني أولوية قصّة أسر القذّافي (كان يعدّنا جرذاناً...لكنّه هو الذي كان كالجرذ في عُمق المجرور... عناصري المقاتلون هم الذين كشفوه؛ وأخرجوه من ثُقب وحيّدوه(.

حاولت أن أقول لهما الاثنين: إن نبل المنتصر يُقاس أيضاً بالمصير الذي يُقرّره للمهزوم: "هل تعرفون الفرق بين قيصر وصلاح الدين؟ الأوّل الذي انتصر على الغالّيينَ فقد الميزة الأخلاقية لانتصاره بتعذيب خصمه، وعرضه كوسام وخلقه، بينما على العكس يدين انتصار الثاني كثيراً للشهامة التي أظهرها بعد انتصاره على الصليبيّينَ الذين كانوا حينئذ تحت رحمته.."

شعرتُ بأنهما يسمعانني، بدا مصطفى خصوصاً أنه يُقاسمني اضطرابي، أرجو ذلك.

أوه! بل أرجوه بالغ الرجاء، لأنّ هذا أحد أمرّين، فإمًا أن تكون هذه الجريمة المرتكبة واحداً من الأفعال الأساسية للعهد الذي يُعلن عن نفسه، وهذا نذير حزين، وإمّا أنها آخر فعل من العهد البربريّ وآخر الليل الليبيَ والجلّبة الأخيرة لمذهب القذّافي الذي كان سيحتاج؛ قبل أن ينتهي إلى أن ينقلب على صانعه، وتُجرّعه سمه الخاصٌ ‏ وحينئذ تُشرق الأزمنة الحديثة.

هذا صك اعترافي، إنه هذا المساء أمنيتي الأغلى..