"لم يكن تعلقنا منذ زمن طويل بالقضاء على العبودبة، كافيا لوحده من أجل فتح ثغرة في جدار تقاليد رجعية وعادات متخلّفة، راسخة منذ قرون، ولكن بدون قناعات آلاف المناضلين المخلصين والحيوييّن، ودعايتهم اليومية التي أصبحت كاللازمة بين الأدعية والنوافل، لما تغيّر شيء، وإن تغيّر دون هذا التحضير وهذا التأثير المعنوي للأنفس، لربما جاء بكارثة"
**
اشتغل المعلم محمد يحظيه ولد ابريد الليل بالتنظير التنويري لمحاربة الرق والتفاوت الطبقي، بصرامة ميثالية، كمفكر حساس، يمتلك طاقة عنيدة وصمودا لا يتزعزع.
بتقدمية الطرح وثورية النهج، وقوة الصوت المسموع؛ ساهم بتجرد في تعقب روابط الحيف واستئصال عقيدة الرق وإبراز البعد التاريخي المناسب للنقاش وتحييده عن خطوط الخطر وليدة السياقات التي تختفي دون أن تنطفئ؛
بعد المداهمة بشجاعة يتعين كتابة وتمحيص تاريخ رفض الحياد اتجاه صولة النظام الاجتماعي السقيم.
دون أبسط تريث واكب مسرح الاضطراب، غير مكترث بوهم الهدوء أمام طريق الحق وخيار العدالة، لاستئصال آثار العبودية عبر الخروج من ضوابط النظم الاجتماعية الظالمة، تكريسا للقيمة المعنوية والإنسانية للنضال في سبيل إرساء دولة القانون، بتحريك الخطوط الجامدة منذ الأزل وعبور فيافي التيه.
منذ القرن الخامس عشر و قصة معارك رجال الصحراء الكبرى ضد العبودية، موضع سيادة الأسطورة والتأريخ الاستعماري وانتقائية النسيان.
تبنت الحركات السياسية و المنظمات الحقوقية وهيئات المجتمع المدني والوسط العلمي والإعلام خيار الصمت المتواطئ حيال نهج قلب نظام التفاوت والغبن بإشاعة الوعي والتشبث بالنضال الثوري وتحمل المسؤولية التاريخية كاملة.
كان ولد ا بريد الليل من أوائل المرحبين بظهور حركة " الحر"، وربطته علاقات ثقة وود بقادتها، الذين ساهم لاحقا في إيصال بعضهم إلى مستوى غير مسبوق من ممارسة السلطة في تاريخ الدولة.
حاز حزب البعث العربي الاشتراكي في موريتانيا، سبق إصدار أول وثيقة سياسية تجرم العبودية وتتمسك بخيار محاربتها، متلمسة الحلول، بتناول أبعاد الظاهرة السوسيولوجية والانتروبولوجية عبر تحليل سياسي جدي وشجاع، أحاط بمظاهر الحيف الاجتماعي ضد جميع الفئات والشرائح.
أثبتت وثيقة " البعث والحراطين"، الصادرة في الخامس من مارس 1980، ان الرفاق لم تثنيهم مطاردة النظام وإيداع قياداتهم سجون البلاد عن توثيق مواقفهم في نشرة " الدرب" السرية.
كشفت الوثيقة بجرأة عن واقع معاناة فئة محترمة ومعتبرة من الشعب الموريتاني، ومدى ارتباط نضال رفاق ولد ابريد الليل بحتمية توفير حياة شريفة لجميع الموريتانيين.
تضمنت عرضا لتاريخ قهر الشعوب عبر العالم، مع الوقوف على المحطات المظلمة من تاريخ الأمة العربية والتي لم تتوج بترسيخ العبودية كسلوك عنصري، لطغيان القيم الروحية بتجلياتها الأخلاقية والإنسانية، مع إرساء الإسلام لمجتمع المساواة الذي فسح المجال أمام ضحايا مضاربات أسواق النخاسة لاعتلاء المنابر والقيادة والتملك والاشتغال بالأدب والحكمة.
اعتمد النص الرائد تحاليل ومواقف أحاطت بتجرد وإنصاف في جميع المكونات الوطنية، بواقع الاسترقاق البشع، والنيل من كرامة جزء من الشعب العربي المرتبط بأواصر اللغة والحضارة والعقيدة والمصير المشترك للأمة العربية، التي تستل من نبض شعوب السودان والصومال وأرتيريا وجيبوتي عنفوان جمالها وفصاحتها.
عبرت الوثيقة التاريخية جسور الحيف، مبرزة الدور الحافل بالبطولة والتضحية للأرقاء، مجسدا باستحضار شخصيات برعت وتميزت بالعلم والأدب والقيادة والفتوة والسياسة والاقتصاد؛ لأفراد مجموعة " العرب السمر" الذين يستحقون وفاء المجتمع وامتنان الوطن.
الوثيقة توجهت علنا للجنة العسكرية الحاكمة مطالبة بإيجاد " حل سلمي وسليم لظاهرة العبودية في أسرع وقت"، و التزام الصرامة اتجاه الساعين إلى تفرقة المجتمع خدمة لمصالح ومخططات تحالف قوى الأجنبي والرجعية الإقطاعية، مشفعة بتوصيات طالت تقنين تجريم العبودية، وتصفية المخلفات المرتبطة بالملكية والأحوال الشخصية، ومعاقبة العنف المعنوي واللفظي وانتهاج سياسة تمييز إيجابي لصالح الضحايا التاريخيين للاسترقاق.
تفاديا للانهماك في مجازر حفر القبور، تبنت حصرية مسؤولية الدولة والمستعمر عن استمرار ظاهرة العبودية في جميع المكونات الوطنية، وبفظاظة اتجاه العرب السمر بإدراجهم في وعاء ضريبي مماثل لآخر خصص للأنعام من طرف المستعمر.
من الناحية الرمزية اعتبرت العرب السمر مؤهلين للتطلع بدور ثوري في المجتمع للتخلص من آثار الرق.
ركزت كذلك على نواقص الأمر القانوني الذي تناول الظاهرة، شكلا ومضمونا، مستهجنة التعويض للأسياد بدل ضحايا جرائم العبودية، مع غياب أي تصور لآليات الاندماج الاقتصادي والثقافي والاجتماعي؛
تضمنت الوثيقة إعلان تجنيد حملة عقيدة وفكر البعث في سبيل القضاء على الرق والاعتناء بالضحايا وفضح الممارسات التي يتعرضون لها، والتسلح بالوعي القومي العربي التقدمي لتخليصهم من مخالب نمط اجتماعي بائد، وإشراكهم في إحداث ثورة تؤصل لهوية العرب السمر في موريتانيا.
صنع نضال الموريتانيين حالة إجماع، كثيرا ما خذلها إحجام النخب العلمية والوسط الأكاديمي عن مواكبة مسيرة القضاء على العبودية ومخلفاتها.
تتعرض ذاكرة الاسترقاق الدامية لانتقائية تلغي أبشع فصول استغلال الإنسان للإنسان، ونضالات عظمى، محلية وعلى مستوى الساحل والصحراء.
بعد استقرار البرتغاليين بحوض آركين في القرن الخامس عشر، أعلنت القوة الاستعمارسة آنذاك، العبيد "بضاعة تجارية" وكلفت وكلائها في الغرب الإفريقي بالتعامل بصفة مباشرة مع ملوك القارة الذين كانوا يعتبرون رعاياهم "ملكية شخصية" خاضعة لمنطق البيع والشراء، حيث حقق المؤرخ المختار بن حامدن : "كانوا يبيعون في الملح ما يملكون من خيل وثياب وحب وعبيد، وربما كانوا يبيعون أولادهم كما قيل". تناولت كذلك رسالة محمد علي اللمتوني إلى الإمام السيوطي توثيق نشاط النخاسة الذي تحول إلى " نشاط تجاري"، حقق تطابقه مع الممارسات الرومانية القديمة التي جلبها البرتغاليون وسعوا لنشرها في الصحراء الكبرى.
حولت قوى الاستعمار الأوروبية الصحراء الكبرى إلى أهم وأكبر طرق قوافل تجارة العبيد؛ حيث حدد البرتغاليون مقابل خمسة عشر مسترقا فرسا واحدا، و أمة مقابل عشرين طلقة من البارود، وخمسة عشر فقط مقابل العبد الذكر؛
استقرت إسبانيا محل البرتغال وأحكمت سيطرتها على تجارة الرقيق، قبل قدوم الهولنديين الذين سيروا أول قافلة من العبيد باتجاه آمريكا في الثالث من أغسطس 1619، حيث رست سفينتهم المحملة بعشرين عبدا في ميناء " جيمس تاون" بولاية "فرجينيا"؛
أغرت المنطقة لاحقا المملكة المتحدة وفرنسا لبسط نفوذهما على تجارة الرقيق المربحة في المنطقة، خصوصا بعد التحكم عام 1638 في ميناء " سين لوي"، لمباشرة استنزاف طاقات إفريقيا حتى منتصف القرن العشرين.
في مواجهة الغرب الاستعبادي، تصدت النخب العلمية والمرجعيات الصوفية وأهل الشوكة للذود عن كرامة شعوب منطقتي غرب وشمال إفريقيا، عبر حركة ايديولوجية لمحاربة العبودية و حماية الأمن والاستقرار بالتصدي لأكبر عمليات النخاسة في تاريخ البشرية مابين القرن الخامس عشر و الثامن عشر بعد ميلاد المسيح عليه السلام.
وقد تجرع الغزاة الهزائم تلو الأخرى، قبل تراجع حضورهم لصالح نفوذ النظام الأميري في القرن السابع عشر، بإحياء تراث الفقه المالكي الأندلسي و التصدي لظاهرة " استرقاق الأحرار"، عبر القرصنة والإختطاف.
يعتبر الإنتاج المعرفي لعلماء الصحراء الكبرى مرجعية للبحوث التاريخية بجميع اللغات الحية التي تناولت تاريخ العبودية في الساحل والصحراء، فضلا عن توثيق جرد للشعوب اعتمد في مواجهة حركة النخاسة على مستوى القضاء في شمال وغرب القارة.
وقد وثق المؤرخون، كذلك، دور العلماء ومشاييخ الصوفية في التصدي بقوة وشجاعة للغزاة الغربيين ومحاربة ظاهرة بيع وتنازل الشعوب الوثنية عن أفراد أسرهم لمن يتولى نفقتهم من شدة المجاعة والفقر، والوساطات لدى ملوك القارة لتخليص سجناء ومختطفين في الصحراء الكبرى من الرق. تعزز هذا المجهود بفتاوي التجريم من قضاة حواضر بلاد شنقيط.
عبد الله يعقوب حرمة الله