إعلان

تابعنا على فيسبوك

السيدة امباركة والسيدة عائشة وشجرة البرقوق

خميس, 15/04/2021 - 22:08

كتب إليّ صديقٌ من جهة "الشرقية" الطرابلسية، وقد بلغ من العمر مبلغ الكهولة يقول:

"سمعتُ رثاءك ليوسف العربي، الوليد الطرابلسي، فبكيتُ وأكثرتُ البكاء، ولم أكن قبلُ من الباكين". 

قلت له: في مقام الرثاء، يا حاج، يكون الذين بهم وجعٌ إمّا من "أهلِ الجُّوّانِيّةِ"، أو من "أهلِ البَّرّانِيّة". 

أهلُ الجُوانية عندي هم الذين يتوجعون بالعالم، بالظلم والقبح والهوان، غير أن بكاءَهم رهينُ الشغافِ، شغافِ القلوب، فلا يظهر عليهم أثر الحزن الذي هو الدمع حصراً.

 فأما أهل البَرانيّة فيذهبون في الوجع إلى آخره، حتى يَخرجون به إلى ظاهرِ البكاء، فتراهم وهم في غمرٍ من الدمعِ عظيمٍ، يكادُ من يحضر مجلسهم، أو يمشي إليهم، أن يكشفَ عن ساقِه فلا تَبْتَلّ ثيابُه. 

وكان أقطابُ التصوف الإنساني، في المحمديّةِ والعيساويّة والطاويّة ومِلَلٍ أخرى، يحصلُ لهم بعد جَهدٍ عظيم مقامٌ واحدٌ فحسب: إما الجُوانيّة وإما البرانيّة. فمن أراد منهم البَدَلَ لَزِمَهُ أن يأخذَ نفسَه بالمجاهدات الكثيرة التي لا تصير في اليوم والليلة، بل تطلبُ الوقتَ الكامل. 

غير أن أمي، امباركة المبروك عبد السلام التْلُمَّاتي، كانت، بلا دروسٍ أو مجاهداتٍ مخصوصةٍ، من أهل الجُوانيّة حيناً ومن أهل البَرّانيّةِ حيناً آخر. وكانت تمشي بين تخومِ هذه وآفاقِ تلك كأنْ لا شيءَ. وهذا مشيٌ عجيب. 

وأحفظ في خزانة الذاكرة أولَ صورة لها تبكي حين أوجعها أبي بكلمة، فنهنهت أولاً ثم أجهشت بالدمع كطفلة وهي إذاك في الخامسة والعشرين فأكثر منها قليلاً.

فبعد ذلك وقتاً رحلَ رفيقُها فرأيتُها تَنْحَبُ نحيبَ الوجع الذي تهتز له الجبال. 

فلما فقدتْ هذه التْلُمّاتيّة فلذّاتِ كبدِها في ساحات القتال الواجب كانت تمشي بين جوانية الرثاء وبرانيته كأنّ الدمع يأتمرُ بأمرها. 

فلما حالت بيننا قوات حلف الشمال كلمتها بالهاتف، وأنا أقاتل بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ أريدُ الطمأنينةَ وراحةَ الخاطر. 

قالت: يا موسى، راك اتدير فَقْدة خوتك سِبلة للذِلّة، قابلْ بصدرك!
(يا موسى، إياك أن تتخذ فَقْدَ إخوتك حجة لأن تجبن وتهرب، قابل العدو بصدرك!). 

فعرفتُ أنها كلمتني من مقام جُوانيّة الرثاء فمِن هذا صبرُها العجيب، وأنها لا تلبثُ أن تدخل إلى مقام البرّانِيّةِ الذي يليه، فخشيتُ عليها من الدمع الذي سيفيض عن الشغاف، شغافِ القلب، إلى جسد الأم الحنون. 

فلما جئتُ بعدها الديارَ المصرية مهجّراً وملاحقاً، لحقت بي المرأةُ الصابرة تريد ولدَها البِكْرَ، فلما رأتني أمسكتْ نفسَها عن البكاء الواجب تتمنّعُ، وهو يراودها عن عينيها. 

ليلتَها ذهبتُ أصلي العشاءَ عند "السيدة عائشة" جارة الحسين بن علي، أطلب أن تفزع لـ "السيدة امباركة" بغمر الدمع حتى يطيب خاطرها. 

وكان موضعي من الصلاة بجوار شجرة بُرقوقٍ يابسة تهيّأ لي أنها أورقتْ وأزهرتْ في ساعتها من بركةِ الزيارة. 

فلما عدت من الصلاة اقتعدتْ أمي الأرضَ ثم نادتني وأخذت برأسي على ركبتها، وصارت تُسَرّحُ شعري كأني طفلها الأبدي الذي لم يكبر ساعة واحدة. فما دريتُ إلا وهي تجهشُ بالدمع وأجهشُ أنا معها شيئاً كثيراً، حتى طاب خاطري وخاطرها ولم تَطِبْ أوجاعنا ولا أوجاع البلد المحزون. 

 فمن تلك اللحظة البرانيّةِ للبكاء على ركبة أمي كتبتُ هذه المحاورة الإلهية:

"وقالَ ليْ: أهلُ الجوانيّةِ يُسلّمونَ علَى أهلِ البرانيّةِ الذين خرجوا قبلَهم يسألونَهم عن أدنَى سبيلٍ للدمعِ".  

ثم أردتُ شرحها شرحاً يمشي بها إلى القارئ فيفهمَ كلامي الذي أجريته على لسان الحق، ويعرف بركة شجرة البرقوق اليابسة عند مقام السيدة عائشة، فكتبتُ:

قال مَولاي تاجُ السرِّ عليٌّ بنُ زهرةِ الـحُسنِ: 

كنتُ وقتاً يابساً عنِ البكاءِ، قحطاً لا ينزلُ دمعي وإن تصدّعَ قلبي من الحزنِ. ولم أكُنْ آبَهُ لهذا أوّلَ الأمرِ لاعتبارِ الجُوّانِيّةِ عندي علَى البرّانِيّةِ. ففي صبحٍ باكرٍ أتيتُ الإمامَ أحمدَ وهو قاعدٌ علَى الترابِ تحتَ كرمةِ العنبِ التي تَلِي البئرَ الشرقيّةَ. فإذا هو يتأمّلُ شُجيرةَ برقوقٍ يافعةً لم تُجاوزْ قامةَ الطفلِ طولاً. وإذا دمعٌ هطلَ على لحيتِه وآخَرُ ترقرقَ في مُقلتيهِ حتّى أضاءَ وجهُهُ بحُمرةِ طيّبةٍ للناظرينَ. قالَ: هي حُمرةُ الذين أجهشُوا في البكاءِ. قالَ: فقعدتُ بحذائِه ولم أسلّم هيبةً ثم قلتُ: 

يا أحمدُ، أراكَ مبتلاًّ بغمرِ الدمعِ؟ 

فقالَ الإمامُ: هذهِ البُرقوقةُ غرستُها من ثلاثةِ أعوامٍ فلم ِتُطلِع نُوّاراً ولا ثمراً، وقد رعيتُها وسقيتُها. فعزمتُ أن أجتثَّها وأزرعَ في موضِعها شُجيرةً تُبهجني وتسدُّ رمقَ الجوعِ. فلمّا هممتُ بها خطرَ عليَّ أنَّني في هذا الوقتِ الذي مضَى من الرعايةِ لها رَعَتني هيَ بالمقابلةِ. فزادَ، في هذي السّنينِ، مقدارُ الرحمةِ في قلبي، وتزوّدْتُ بالهواءِ الذي في محيطِها، وأمعنتُ في أحوالِها وأطوارِها، وانبثقتْ أفكارٌ ومعانٍ من جيرتِها. فإذا هيَ أينعتْ وأزهرتْ وأثمرتْ في قلبي كلَّ هذا الوقتِ وأنا أنظرُ أريدُ نُوّارَها السّافرَ وزُوَاقَها الظَّاهرَ. فبكيتُ من حالِ غفلتي ورثاءً لهذا العالمِ الذي يشملُنا بالمحبّةِ ونحنُ لا نأخذُ بالَنا.

قالَ مولايَ تاجُ السرِّ: فواللهِ ما دريتُ إلا والدمعُ يترقرقُ بعيني بُرهةً، ثم ينزلُ مِدراراً. 

فلمّا رأَى الإمامُ هذا منّي تبسّمَ وقالَ: 

خرجتَ يا تاجَ السرِّ إلى بَرّانِيَّةِ الرثاءِ؟ فلعلّكَ لا تعودُ إلى اليباسِ الذي كنتَ فيهِ، ولعلَّ هذه البرقوقةَ حين شملتكَ أنتَ مازالتْ أوسعَ ممّا كنتُ أحسبُها وأنا أبكي لها وأتزوّدُ العلومَ.

د. موسى ابراهيم