في مداخلته في ندوة "منتدى السوسيولوجيين الموريتانيين" نبه سعادة السفير الشيخ أحمد ولد الزحاف إلى ضرورة تصور البلديات تصورا تنمويا حديثا يحمّل العمدة مسؤولياته الخدمية بصفته منتخبا مساءلا عن تنفيذ برنامج يهدف إلى تحسين الأوضاع المعيشة لناخبيه، وليس وجيها أو شيخا تقليديا يحصل على "إكرامية" تثبت نفوذه وتزيد ثروته الشخصية، كما يحدث في غالب البلديات الريفية.
يجد ما تفضل به سعادة السفير مصداقا له في التجربة البرازيلية أثناء حكم الرئيس لولا داسلفا، فقد أطلق استراتيجية تنموية تقوم على ثلاثة محاور: الصحة، التعليم، والعمل، مركزا على الفئات الهشة والمحرومة. أشرك لولا القطاع الخاص في استراتيجيته عن طريق تقديم قروض صغيرة بشروط ميسرة ما حفز الاستهلاك ونشط السوق. وعند انتهاء مأموريته الثانية كان الاقتصاد البرازيلي يقود مجموعة "بريكس"، وقد استلم لولا البرازيل مفلسة!!!
ساهم في نجاح استراتيجية لولا انتماء المشرفين عليها إلى الأوساط الشعبية الفقيرة في حزب العمال البرازيلي، والحد من التدخلات ذات الطابع المجاني؛ فالمساعدة المجانية تنمي روح الاتكالية وهي السلاح الذي تستخدمه الرأسمالية العالمية لإبقاء الدول النامية تحت السيطرة السياسية والاقتصادية. فلم نسمع بدولة "نامية" تخلت عن معونة تتلقاها منذ عقود رغم أن الهدف المعلن من المعونة هو "المساعدة على التنمية" المفضية إلى الاستغناء عن المعونة!!! وما ينطبق على الدول، ينطبق على العائلات...
في هذا السياق يندرج برنامج "أولوياتي" وما رافقه من إصلاحات على مستوى الصحة والتعليم، وآخرها توفير التأمين الصحي للعائلات المتعففة، وفتح شبابيك التشغيل. ولعل تسهيل إجراءات السجل العقاري؛ بتعميمه على مستوى المقاطعات، وخفض رسوم الجباية المترتبة عليه يمنح "العائلات المتعففة" رأسمال قابل للاستثمار عن طريق الرهن العقاري. فعائلة تملك منزلا، مهما كان متواضعا، وقطعة أرض مهما كانت مساحتها، تستطيع تمويل مشروع صغير بقرض مصرفي بضمان المنزل، أو قطعة الأرض ذات السند العقاري.
وسيكون لهذه الإجراءات، ولا شك تأثير إيجابي ملموس على المستويين الاجتماعي والاقتصادي. وربما أضاف استلهام التجربة البرازيلية بعدا وطنيا يشرك المنتخبين المحليين بشكل فاعل، باتخاذ "البلديات" قاعدة للنهوض بالقطاع الريفي حيث ينتشر الفقر. يمكن ترجمة ذلك في توفير الخدمات الأساسية في عاصمة البلدية: مستوصف، مدرسة ابتدائية كاملة، إعدادية، أو ثانوية، حسب كثافة السكان، مع كفالة مدرسية، مشروع زراعي وآخر لتربية الماشية على أسس حديثة، فك العزلة بين البلديات وعواصم المقاطعات. لإنجاح مشاريع الزراعة وتنمية الماشية؛ تستصلح الدولة الأرض، ويقدم القطاع الخاص قروضا واجبة التسديد إلى تعاونيات محلية يشرف عليها مهندس، أو مرشد زراعي، وطبيب بيطري، تتولى الدولة رواتبهم مع اقتطاع حصة لهم من الإنتاج.
إن اعتماد هذا البرنامج، ووضعه في صيغته التنفيذية خلال النصف الثاني من مأمورية فخامة رئيس الجمهورية كفيل بالقضاء على الفقر في الوسط الريفي، وتنشيط الاقتصاد عموما. ففي المجتمعات غير الصناعية، كما هي حال مجتمعنا، لا يمكن تصور تنمية اقتصادية جادة دون القضاء على الفقر والمرض والجهل في الوسط الريفي حيث تعيش مجموعات كبيرة من المواطنين على هامش النشاط الاقتصادي.
د. محمد اسحاق الكنتي