أن لا تحتفل الدولة رسميا بعيد الجلاء فذلك أمر مفهوم، فمن يُحتفل بإجلائهم هم ممن نصبوا السلطة فيها وهم من يشكلون شرعيتها ومرجعيتها ويتولون حمايتها، بالنسبة لهم طرد القواعد العسكرية يوم نكبة وليس فرحة، لذلك أستغرب استغراب البعض لذلك وكأنهم لا يدركون هوية وماهية المكلفين بإدارة الدولة الليبية، هم لم يتجاهلوا الجلاء فقط، بل يحاولون طمس مرحلة مجيدة من التاريخ الليبي، وبنفس القدر يتجاهلون معارك الجهاد ضد المستعمر، كل تلك الأمور هي شيء واحد بالنسبة لهم، فهم استمرار لمشروع سيطرة المستعمر، لكن الأخطر من كل ذلك ما فعله وزير الدفاع التركي الذي زار جنوده في قاعدة هويلس سابقا دون علم ما يسمى سلطة الوحدة الوطنية بمجلس رئاستها الثلاثي وحكومتها الثلاثينية ومجالس نوابها ودولتها، وميليشياتها المصراتية والطرابلسية والزنتانية والزاوية وما يتبعها من ميليشيات فرعية، وتبجحه بأن القوات التركية في ليبيا ليست أجنبية بل هم في بيتهم بحجة أنهم مدعوون من الحكومة المطرودة !
للأسف الشديد إن ذلك يعكس التردي المطرد للأوضاع في ليبيا سياسيا وأمنيا واجتماعيا، فليبيا لم تعد دولة وفقا للتعريف القانوني والسياسي، فعندما تنعدم السيادة، وتنعدم القدرة على فرضها تسقط أهم مقومات الدولة، وتضعها في خانة المحميات!
وفي المحميات من العبث الحديث عن الجلاء، لذلك تجد تبريرات ساذجة لنكرانه وعدم الاحتفاء به، كالقول إن الجلاء تم بإرادة ملكية! وهم من شدة غبائهم لا ينتبهون للسؤال البديهي، بأن لو كان ذلك صحيحا فهو دافع لهم لإحياء ذكراه على الأقل !
وفي هذا المقام مهم التذكير بأن ليبيا لقرون طويلة كانت مرتعا للجنود الأجانب، وخاصة الحاميات التركية ومن بعدها الجيش الفاشي الإيطالي، والجيوش الإنجليزية والأمريكية والفرنسية.
في الواقع القواعد أنشئت في ليبيا بالأمر الواقع وليست نتاج اتفاقيات، فبمجرد دخول القوات البريطانية والأمريكية ليبيا بعد هزيمة المحور وانسحاب رومل إلى تونس فألمانيا، أقامت القوات المحتلة قواعدها العسكرية والجوية في معسكرات القوات الإيطالية والألمانية، وأحكمت سيطرتها على البلاد وتشكلت إدارة عسكرية بريطانية في برقة وطرابلس، وأخرى فرنسية في فزان، والحاكم العسكري البريطاني هو من أصدر مرسوم تأسيس إمارة برقة وتكليف إدريس السنوسي أميرًا لها، بعد الاستقلال جرى تنظيم تواجد تلك القوات باتفاقيات تعاون عسكري، المثل القريب إلى الأذهان الاتفاقيات العسكرية التي وقعتها الدول التي احتلت العراق وما نجم عنها من تقنين لوضع التواجد العسكرى الأجنبي بها مع سلطة هي من صنعها، وأن أكذوبة تأجير القواعد لأسباب مالية، عارية تماما فمحمود المنتصر وبعده بن حليم وجدا القواعد العسكرية البرية والجوية كأمر واقع، ولا علاقة لذلك بالدعم المالي الذي قدمته أمريكا وبريطانيا إلى الدولة الليبية حديثة التكوين.
ولأن كثيرين لا يعرفون تاريخهم، فأنصحهم بالبحث عن كتاب حقيقة ليبيا لمؤلفه سامي الخطيب المنشور في مصر عام 1968، ليطلعوا على وقائع موثقة، ووثائق صحيحة تتعلق بالقواعد والاستقلال وإمارة برقة، وحتى لجنة الستين وحكاية الدستور، وتفاصيل أخرى مهمة ومثيرة.
وأدعو من حضر تلك الحقبة وشارك فيها أن يروي للأجيال الجديدة الأحداث كما هي بعيدا عن التأثيرات السياسية والقبلية، فالتاريخ حق للأجيال القادمة، كتابته كما هو واجب أخلاقي على الجيل الحاضر.
والتحية للشباب الليبي الذين كسروا حاجز الصمت وأحيوا ذكرى الجلاء بكل شجاعة وبدون تردد، فذلك يعكس روحا وطنية عالية ستقود لا شك إلى إعادة بناء الدولة الوطنية كما يريدها الليبيون وليس كما صممها الأعداء المستعمرون، وتحية للرجال الشجعان الذين جعلوا الجلاء حقيقة رغم قوة الدول التي تمتلك القواعد، وضعف إمكانات الضغط لديهم.
مصطفى الزايدي