“الناتو” على حدود تونس والجزائر و”الوطية” المرتكز، هذه هى المخاطر الجيواستراتيجية والسياسية لوجود أردوغان العسكري
وسط الخطورة التي يمثلها المحتل التركي في ليبيا على الليبيين أنفسهم في المقام الأول، ونهب مقدرات البلاد والتخطيط سياسيًا واستراتيجيًا للمرحلة القادمة على حساب الشعب الليبي، فإن هناك، وفق محللون وخبراء استراتيجيون، أبعاد أكثر خطورة للتواجد العسكري التركي في ليبيا.
ويرى المحللون، أن قفزة أردوغان الاستراتيجية لاحتلال ليبيا، بالتواطؤ مع حكومة ميليشيات الوفاق السابقة، برئاسة فايز السراج، ونسج علاقات متينة مع كل ميليشيات الغرب الليبي، من بركان الغضب للنواصي لميليشيات مصراتة وطرابلس وغيرهم، كانت مغامرة عسكرية محسوبة تمامًا من جانب أردوغان في بدايات 2020.
وإذا كان بتدفق قواته، ونحو 20 ألف مرتزق سوري، أكثر من نصفهم من الدواعش والجهاديين قد اقلق الاتحاد الأوروبي، حتى اعتبر جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، أن التواجد التركي في ليبيا يشكل خطرًا جسيمًا على الاتحاد الأوروبي وحدوده الجنوبية، كما أنه عطّل مشروع فرنسا في أفريقيا والجنوب الليبي أو على الأقل، وفق خبراء (أصبح يزاحمه بقوة وينغص عليه).
فإن أهدافًا استراتيجية أخرى، كانت وراء قرار أردوغان “احتلال ليبيا” في مغامرة عسكرية تواطؤت فيها الولايات المتحدة الأمريكية ولم تتصدى لها، لتخلق قفازًا لها لمواجهة الوجود الروسي في المتوسط.
وفيما يتعلق بتونس، فإن التواجد العسكري التركي المكثف والنوعي، في ليبيا له علاقة بتأمين “إخوان تونس” وحزب النهضة برئاسة الغنوشي، من موجة ثورة تونسية شعبية عاتية تشبه 30 يونيو في مصر تقتلع جذور الإخوان.
فـ “تركيا أردوغان” يهمها إبقاء “التوليفة الإخوانية” التونسية في الحكم، وهى على علاقة وثيقة معها، وبعدما وصلت الأزمة المالية والاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، في تونس إلى ذروة الانسداد، وهدد الرئيس قيس سعيد، بورقة الجيش، فإن أردوغان وأعوانه التونسيين، كانوا يتحسبون لهذه اللحظة، فجاء الوجود العسكري التركي في ليبيا وبالخصوص في “قاعدة الوطية الجوية” ليؤمن لإخوان تونس بقاءًا أطول في المشهد والتدخل إن لزم الأمر.
فأنقرة، تتخوف بشدة، من “30 يونيو تونسي”، في حال تحرك الجيش التونسي لوضع حد للتأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة، بفعل سياسات حزب النهضة الإخواني، والذي تمكن من مفاصل عديدة في الدولة التونسية، فـ “قاعدة الوطية” الجوية الليبية، وهى تحت السيطرة التركية، يمكن أن توفر الدعم للإرهابيين المتحصنين في “جبال الشعانبي”، والذي يحاصره الجيش التونسي منذ سنوات، وبخاصة أن أعداد كبيرة من “التوانسة” وبأرقام كبيرة يندرجون في صفوف داعش والقاعدة في ليبيا وسوريا والعراق.
الجزائر أيضا في “عين العاصفة”، ووفق محللون وخبراء، فالجزائر واحدة من قلاع الصمود العربي، والنظام الجزائري وبسبب بعضا من موقفه المشرفة مع النظام الجماهيري وإعلان الجزائر رفضها قصف حلف الناتو ليبيا، ورفضها في الأمم المتحدة وفق مضابط الاتحاد الأفريقي القرار 1973 تحت “الفصل العسكري، وتأكيدها أنه مدخل غربي وخطة خبيثة لتغيير نظام القذافي في ليبيا، فهذا الموقف حتى اللحظة يجعل من النظام الجزائري ومن الجيش الجزائري، هدفا لقوى إخوانية وتركية عدة ، قادت من قبل ما سمي بـ موجة الربيع العربي.
ويأتي تمركز قوات تركية في ليبيا، تقدر بنحو 15 ألف جندي وفق بعض التقديرات منهم 7 آلاف في “قاعدة الوطية الجوية”، وحدها وهو حجم استيعابها ليهدد الجيش الجزائري ويهدد أمن الجزائر، خصوصًا وأن هناك مشاريع مشبوهة تستهدف الجيش الجزائري اليوم عبر تشويهه.
وكما اطلقوا في السابق من قبل على الجيش المصري مسميات دنيئة، مثل جيش النكسة، كما عمدوا إلى تشويه الجيش السوري، وأطلقوا عليه “الشبيحة”، هاهم اليوم يتعمدون الإساءة للجزائر وموقفها القوي الصلب الرافض لميليشيات ليبيا ومشاريع تقسيمها والمؤامرة عليها من قبل.
ويرى خبراء عسكريون، إن أنقرة لم يكن في إمكانها، رسم مثل هذه “السياسات الخبيثة”، لمساندة إخوان تونس والترتيب للنيل من الجيش الجزائرى مستقبلا، ما لم تضع أيديها، على قاعدة “الوطية” الجوية الليبية.
كما أن التموضع التركي الاستراتيجي في قاعدة “الوطية”، يشكل كذلك تموضعًا لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، باعتبار أن تركيا عضو أساسي في هذا الحلف، وما لتركيا هو للناتو، فإذا القواعد العسكرية في تركيا في متناول حلف شمال الأطلسي، “الناتو”، فإن قواعد تركيا التي خارجها ستبقى صالحة لاستخدام حلف الناتو، خاصة من جانب القوات الأمريكية (الأفريكوم ) ، كونها جزء لا يتجزأ من الجيش الأمريكي، الذي يشكل القوة العسكرية الأولى لحلف “الناتو”.
وبذلك تصبح المنطقة بأسرها في قبضة الحلف ومصدر تهديد لأي دولة تشق عصا الطاعة.
*فما هى قاعدة الوطية الجوية التي تحتل هذه الأهمية الاستراتيجية الفائقة؟
قاعد الوطية الجوية، أو قاعد عقبة بن نافع، هى أهم قاعدة عسكرية جوية في غرب ليبيا، وفي شمال أفريقيا برمتها، فلا علاقة للطيران المدني بها مثل باقي القواعد الجوية في ليبيا، ولكنها ذات تأسيس عسكري في الأصل .
تقع “قاعدة الوطية” الجوية جنوب مدينة العجيلات، ولا تبعد سوى 27 كيلو مترًا عن تونس، كما لا تبعد أكثر من 75 كيلو مترًا عن مطار طرابلس الدولي، وتمتد القاعدة على مساحة تقدر بنحو 40 كيلو متر، وكانت مركزًا رئيسيًا للقوات الجوية للجيش العربي الليبي، قبل سقوط ليبيا 2011، فيما لا تبعد عن العاصمة طرابلس أكثر من 140 كيلو متر بينما لا تبعد عن حدود الجزائر اكثر من 150 كيلو متر!
تعتبر السيطرة على قاعدة الوطية الجوية، مصدر تفوق كبير للقوات التركية المحتلة، فهى تغطي كافة المنطقة الغربية، ما يتيح لمن يسيطر عليها تنفيذ عمليات قتالية جوية، ضد أهداف عسكرية في الداخل وفي دول الجوار كذلك.
كما تمتاز “قاعدة الوطية”، ببنيتها التحتية العسكرية التي تستخدم لتخزين السلاح وتزويد الطائرات الحربية بالوقود، وباستطاعة القاعدة، استيعاب نحو 7 آلاف عسكري، وتأمين مأكلهم ومعيشتهم لفترات طويلة.
علاوة على أن قاعدة الوطية الجوية، تتمتع بتحصين طبيعي، يمنحها مجالاً جويًا يمكنها من مراقبة أي عملية تسلل جوي محتمل، بالاضافة إلى أن مساحتها الشاسعة تجعل من الزحف اليها أمرا مستعصيا، كما تقع في منطقة مفتوحة وغير مأهولة.
وارتفاع عن سطح الأرض، بنحو 223 قدم، بحيث ترى ليبيا كلها تقريبًا، كما يمكن للقوات المتواجدة فيها تنفيذ طلعات جوية منها على محاور “الاشتباكات”، حيث توفر غطاءاً جويًا للقوات المتواجدة على الأرض، وكذلك امكانية تنفيذ عمليات قتالية جوية ضد أهداف عسكرية بمحيط دولة ليبيا وليس في العاصمة طرابلس فقط.
أنشئت قاعدة الوطية الجوية، قبل قرابة 80 عامً وبالتحديد عام 1942، عقب الوصاية الدولية الثلاثية على ليبيا بين بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وتم بناءها على أساس تحصينات “التضاريس الجغرافية”، بالإضافة إلى إنشاء تحصينات خارجية، ولذلك كانت تركيا تستميت للسيطرة عليها، حتى سقطت في 18 مايو 2020.
وبعدها بشهور قليلة، تعرضت قاعدة الوطية الجوية لقصف من قبل طائرات مجهولة، قيل إنها طائرات فرنسية، لكن في أغسطس 2020 من العام الماضي، انتهت تركيا من ترميم قاعدة “الوطية الجوية”، وأعادتها إلى حالتها العسكرية الأولى.
ووفق مصادر عسكرية، فقد أصبحت كل “مهابط “قاعدة الوطية الجوية، جاهزة لأي اقلاع جوي، بالإضافة إلى أن قوات الاحتلال التركي، أدخلت منظومة دفاع جوي متطورة للخدمة مدعومة برادارات عسكرية طويلة المدى.
ومن المعروف أن ضباطاً كبار من الاستخبارات التركية كانوا يشرفون يوميًا على العمل بالوطية ويراقبونها حتى عادت إلى مستواها العسكري السابق.
ووفق الخبير العسكري، عبد الرحمن البوسيفي، فإن قاعدة الوطية الجوية، التي أعاد تجهيزها أردوغان تهدف لارتكاز التمدد العسكري التركي في بلاد المغرب العربي، الذي سيأتي لاحقًا.
وأضاف البوسيفي، وفق ما نقلته عنه “العين”، أن دعم القاعدة بردارات حديثة الصنع، ومنظومات دفاع جوي جديدة دليل على تجهيزات لمعارك تقليدية قد يقودها الجيش التركي خارج ليبيا.
وقبل اعوام قليلة، كان المجرم الفرنسي – الرئيس السابق- ساركوزي قد هاجم الجزائر بشدة، وتساءل علنًا خلال زيارة لتونس، .. ما مستقبل الجزائر الاقتصادي والاجتماعي؟ وزاد في بذاءاته بأنه يجب مناقشة ذلك في إطار الاتحاد من أجل المتوسط؟!
وهو ما ردت عليه الصحافة الجزائري في وقتها، بأن تصريحات ساركوزي المعادي للإسلام، والمسؤول الأول عن الدمار في ليبيا ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد، وانتقدوا أدواره ورئاسته المشبوهة لفرنسا بقوة.
وفي عام 2019، دخل الصهيوني برنار ليفي، عرّاب الدمار والخراب في ليبيا، على خط الحراك الجزائري السابق، محرضًا لإسقاط النظام وبعث الفوضى في البلاد.
وقال في حسابه على تويتر، أدعوالجزائريين إلى المزيد من الاحتجاج لإسقاط بوتفليقة والنظام، واردف حاقدًا أنذاك: إنه رغم تخلي بوتفليقة عن ترشحه لفترة رئاسية خامسة، فإن “الثورة” في منتصف الطريق، فقد كان ليفي يريدها خرابا مثلما فعل في ليبيا، بمساعدة عملاء أمثال مصطفى عبد الجليل ومحمود جبريل وغيرهما.
وتشعر الجزائر بعظم المخاطر التي تتهددها، وهو ما دعا الرئيس عبد المجيد تبون، خلال ترؤسه لاجتماع للمجلس الأعلى للأمن، إلى الدعوة لتعزيز اليقظة لمواجهة التطورات المسجلة في “جوار الجزائر”.
في السياق ذاته، كثف الجيش الجزائري، منذ بداية العام الحالي 2021، مناوراته العسكرية في مختلف مناطق البلاد الحدودية، كان آخرها مناورات “رعد” والتي تعد ثالث أضخم مناورات عسكرية تجريها الجزائر خلال الشهور الماضية.
وعلق خبراء، بأن هذه المناورات العسكرية رسالة، “للشبكات الإرهابية” المحيطة بمعظم حدود البلاد، وبالخصوص مع ليبيا من جهة الشرق ومالي والنيجر من جهة الجنوب.
ويُسجل لقاعدة الوطية الجوية، الاستراتيجية، أن الجيش العربي الليبي وقت القائد الشهيد معمر القذافي، وجه منها ضربات مميتة نافذة لجماعات الإسلام السياسي الإرهابية التي حاولت اقتحام الحدود الليبية من الجهة الغربية.
وفيما حذر الباحث السياسي عزالدين عقيل، من استمرار سيطرة تركيا على قاعدة الوطية الجوية، كونها تكشف المغرب العربي والمتوسط. يبدو جليًا وفق خبراء، أن النظام التركي انتقل إلى خطوة جديدة، ويرتب لأن يكون لاعبًا أساسيًا في المغرب العربي.
والخلاصة.. فالاحتلال التركي لليبيا ليس الهدف منه، إخضاع طرابلس فقط، وإن كانت تمثل مكسبًا استراتيجيًا كبيرًا لأردوغان وأحلامه التوسعية في “إمبراطورية عثمانية” من جديد، ولكنها تجعل منه، وبالخصوص بعدما سيطر على “قاعدة الوطيّة” هذا المكان الاستراتيجي في غرب ليبيا، فأصبح لاعبًا هامًا فيما سيجري لمستقبل تونس والجزائر.
وعليه تعد مهمة إخراج هذه “القوات المحتلة” من ليبيا، قرار وطني ليبي لن يقدر عليه، إلا قيادة حقيقية ينتخبها الشعب الليبي ويراهن على قدراتها لتطهير الوطن وإجهاض “مخططات عثمانية مكشوفة” تُنفذ على حساب ليبيا.