يعود تاريخ الإساءة في الفضاء السمعي البصري إلى ظهور المواقع الألكترونية ذات التوجه السياسي الأيديولوجي. فقد أحرزت "الراية" وأخواتها قصب السبق في الإساءة إلى العلماء والشخصيات العامة المنتمية للأغلبية الرئاسية ساعتها، وبذلك تم الالتفاف على المادة 11 من قانون النشر. وتخصص كتاب، ثم قادة حزبيون في الإساءة ليتكون سياج سميك من البذاءة يحمي الحزب، وشخصياته العامة من أي نقد لأدبياته ومواقفه. ثم اتسع الاستثمار في الإساءة حين انتشرت المواقع الألكترونية لتصبح وسيلة ابتزاز مالي، بعد أن كانت أداة ردع سياسي، واستفحل الأمر مع ثورة الفيسبوك الذي أتاح لكل شخص حرية السب، والقذف، والتشهير... فهناك مواقع، وصفحات ألكترونية متخصصة في ترويج الشائعات واستهداف الشخصيات العامة بأسمائها وصفاتها لابتزازها. وغالبا ما تنجح عملية الابتزاز لأن الشكوى من المسيء سيترتب عليها اتساع نشر الإساءة، وحملة واسعة من الضامن مع المسيء لحماية نشاط الإساءة المدر للدخل. ثم تأتي الضغوط الاجتماعية لسحب الشكوى... لهذه الأسباب قلما يرفع الضحايا قضايا على المسيئين، وربما لجأ بعضهم إلى حل أكثر نجاعة كما فعل أحد الوزراء مع البشمرغي الذي فوجئ به باكرا أمام مكتبه يريد قبض ثمن إساءته! لقد تلقى "قبضة" كانت القاضية على أحلامه، والنقطة النهائية لإساءاته في حق الوزير.
إن الذين يعارضون قانون حماية الرموز الوطنية بدعوى تقويضه حرية التعبير يتناسون أن الإساءة هي أكبر تهديد لحرية التعبير. فحين تكون على يقين من أنك إذا كتبت رأيا في الشأن العام، سواء مع النظام أو ضد النظام، ستتعرض لسيل من الإساءة، والتشهير والقذف، فستفكر كثيرا قبل الاقدام على ذلك. والأمثلة أكثر من أن تحصى.. فقد اضطر معالي الوزير محمد فال ولد بلال إلى تعطيل حسابه مرات بسبب ما تعرض له من إساءة وتنمر بمناسبة نشره رأيا لم يعجب ذباب المسيئين. ويحجم كثير من قادة الرأي والمثقفون عن النشر في بيئة موبوءة بالإساءة. وبالتالي فإن ما يهدد حرية الرأي حقا هو الإساءة، وقانون حماية الرموز الوطنية هو حماية لحرية التعبير وترشيد لها لتخدم الأهداف الوطنية بدل أن تكون مختطفة من أحزاب تستخدمها لأهدافها الخاصة، وتسيج رموزها وأدبياتها ومواقفها بكتائب من المسيئين تتصدى لكل قول رشيد يبين تهافت فتاوى الفتن، والتنكر للأدبيات، وتناقض المواقف...
لقد اتسع نطاق الاستثمار في الإساءة حتى شمل كافة أشكال القول الثقافي و السياسي والحقوقي لدق الاسفين بين مكونات الشعب، وبين الشعب ونخبه، فأفرزت الإساءة ظواهر صوتية يتداول العامة والخاصة بذاءاتها الهادمة لقيم المجتمع، والمسيئة لكل رمز وقدوة، حتى تسقط كل هيبة في النفوس، وأولها هيبة الدولة ورموزها الوطنية. وحين يصبح كل شيء مبتذلا (ألاهُ أكبر من قدّ) يسود "نظام التفاهة" في المجتمع مقدمة للفوضى التي يعرف الموريتانيون من المستفيد منها، ومن حاول نشرها فاستثمر إعلامه فيها... حماية الرموز، حماية للوطن، وتجريم الإساءة أكبر إسهام في حرية التعبير وصون الأعراض...
د. محمد اسحاق الكنتي