في أول مقابلة له مع صحفي، بعد اختفاء دام عشر سنوات، يصف سيف الإسلام القذافي سنواته المأساوية في الأسر ويلمّح الى احتمال الترشح للانتخابات ليصبح الرئيس القادم للبلد.
قبل عشر سنوات وبالقرب من مدينة “أوباري” الليبية الصحراوية، اعترضت مجموعة من المتمرّدين المسلّحين موكبًا صغيرًا أثناء محاولة الفرار جنوبًا باتجاه النيجر. استوقف المسلّحون السيارات ليجدوا رجلًا أصلع صغير السنّ تغطي الضماداتُ يدَه اليمنى. رأوا وجهًا كان دائم الظهور على شاشات التلفزيون الليبي. إنه سيف الإسلام القذافي، الابن الثاني لديكتاتور ليبيا سيء السّمعة وأحد الأهداف الرئيسية للمتمرّدين.
قبل اندلاع الانتفاضة الليبية في فبراير عام 2011، كان الغرب يعقد الآمال على سيف الإسلام لإحداث إصلاح تدريجي في البلاد. فمظهره المهندم ونظّارته الطبية وطلاقته في الحديث باللغة الإنجليزية جعلته يبدو مختلفًا تمامًا عن أبيه الذي عُرف بمظهره المبهرج وطباعه الغريبة. درس سيف الإسلام في “كلية لندن للاقتصاد” وتحدّث لغة الديمقراطية وحقوق الإنسان. وكوّن صداقات مع علماء سياسة مرموقين، وحاضَرَ الشباب الليبي عن التربية المدنية، حتى إن بعض أصدقائه في الغرب اعتبروه المُنقِذ المنتَظر لليبيا.
لكن عندما قامت الثورة، سارع سيف الإسلام بالانضمام إلى حملة القمع الغاشمة التي أطلقها نظام القذافي. كان من السهل على الثوار الذين انتصروا بعد تسعة أشهر أن يكافئوه بالإعدام دون محاكمة مثلما فعلوا مع أبيه وعدد من كبار المسئولين بالدولة، لكنه، ولحسن حظه، وقع أسيرًا لدى كتيبة ذات توجّه مستقل حمته من الفصائل المتمردة الأخرى ونقلته جوًّا إلى مدينة “الزنتان”، موطنها في الجبال جنوب غربي العاصمة. ولأنه كان مطلوبًا أيضًا للمحكمة الجنائية الدولية، فقد اعتُبر رهينةً غالية. وظل أسيرًا لدى الزنتانيين حتى بعد انتخابات ليبيا عام 2012.
وفي السنوات التالية، انقسمت ليبيا إلى ميليشيات متناحرة، ونهب الإرهابيون مخازن الأسلحة مما أدى إلى تأجيج حركات التمرّد والحروب في أنحاء شمال أفريقيا والشرق الأوسط. وتفاقم الاتّجار بالبشر، مما تسبب في إرسال عدد كبير من المهاجرين إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. وأسّس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” خلافةً مصغّرة على الساحل الليبي. وشيئًا فشيئًا، بدأ الليبيون يغيّرون نظرتهم إلى سيف الإسلام الذي سبق أن تنبأ بانقسام ليبيا في الأيام الأولى من الثورة عام 2011. وأفادت التقارير بأن خاطفيه أطلقوا سراحه، بل وأنه ينوي الترشّح للرئاسة، غير أن مكانه لم يكن معروفًا لأحد.
في صباح يوم عاصف حارٍّ في مايو الماضي، غادرتُ فندقي في طرابلس وجلستُ في المقعد الخلفي لسيارة سيدان رمادية متهالكة. كان سائق السيارة يُدعى سالم وكنتُ قد تحدثتُ معه من قبل دون أن ألتقيه قط. انتابني كثيرٌ من التوتر، فقد قضيتُ عامين ونصف أرتّب لهذه المقابلة مع سيف الإسلام، وخلال هذه الفترة تحدثتُ معه عدة مرات عبر الهاتف. لكنني الآن أتساءل عن الصوت الذي كنت أسمعه على الطرف الآخر من الهاتف. فلم يحدث أن التقاه أي صحافي أجنبي منذ عشر سنوات. وقد أخبرتني منظمة “هيومان رايتس ووتش” أنه لا يوجد دليل على أن سيف الإسلام حيٌّ منذ عام 2014. ومعظم الأشخاص الذين قابلتُهم في ليبيا قالوا إنهم لا يعرفون إن كان حيًّا أم ميّتًا.
كنا في شهر رمضان، وكادت شوارع العاصمة تخلو من الناس والسيارات. لم نمرّ على أي من نقاط التفتيش التي توقعتُ المرور بها ونحن نغادر المدينة باتجاه الجنوب الغربي نحو جبل “نفوسة”. وبعد ساعتين تقريبًا، صعدنا ببطء وسط قمم بنية داكنة حتى وصلنا إلى هضبة “الزنتان”. وعلى أطراف إحدى القرى، أوقف سالم السيارة وطلب مني أنا والمصوّر الذي يرافقني، جهاد نجا، الانتظار.
لم يمض وقتٌ طويل حتى توقفت خلفنا سيارةٌ بيضاء من طراز تويوتا لاند كروزر، وخرج منها رجل يرتدي ثوبًا ناصع البياض. طَلب منا أن نترك هواتفنا في سيارة سالم. كانت سيارة لاند كروزر مصفّحة ذات أبواب ثقيلة جدًّا حتى إنها حجبت جميع الأصوات من الخارج. عرّف السائق نفسه بأنه محمد، ثم قاد السيارة دون أن ينبس بكلمة لمدة عشرين دقيقة تقريبًا، إلى أن دخل مجمّعًا سكنيًّا محاطًا بالبوابات وأوقف السيارة أمام فيلّا من طابقين تبدو عليها مظاهر الترف. فتح محمد الباب الأمامي، ودلفتُ عبر مدخلٍ خافت الإضاءة.
تقدّم نحوي رجل ومدّ يده قائلًا: “مرحبا!”
لم يكن لديّ شكٌ في أنه سيف الإسلام، مع أن ملامحه بدت أكبر سنًّا وكست وجهه لحيةٌ طويلةٌ غزاها الشيب. كان إبهامُ يده اليمنى وسبّابتها مبتورين – نتيجة إصابته بشظية في إحدى الغارات الجوية عام 2011 على حدّ قوله. كان يرتدي عباءة سوداء خليجية الطراز تزيّنها أهدابٌ ذهبية، كأنه رئيس دولة، ووشاحًا ملفوفًا بشكلٍ مهندمٍ حول رأسه. لو أن سيف الإسلام ورث شيئًا واحدًا فقط عن أبيه، فهو أسلوبه المتكلّف. قادنا إلى قاعةٍ جلسنا فيها على أرائك جديدة بلونٍ مائلٍ إلى الخُضرة. وغلبت مظاهر الترف والبهرجة على أثاث القاعة، بسجّادها السميك وثريّاتها الكريستالية وستائرها الأرجوانية. وفي تنافر واضح مع هذه الأجواء، عُلّقت على الجدار لوحةٌ بها صورة جبال وإحدى بحيرات الألب. لم يكن في المنزل أحدٌ غيرنا.
مرت فترةٌ من الصمت المشوب بالارتباك قبل أن أسأله إن كان لا يزال سجينًا، فقال إنه رجلٌ حرٌّ وإنه يرتّب لعودته إلى الساحة السياسية. أوضح أن المقاتلين الذين اعتقلوه قبل عشر سنوات قد تحرّروا من وهْم الثورة وأدركوا في نهاية المطاف أنه قد يكون حليفًا قويًّا لهم. ارتسمت على وجهه ابتسامة وهو يصف تحوّله من أسير إلى أمير منتظر، فقال: “هل لك أن تتخيل؟ الرجال الذين كانوا حرّاسي هم الآن أصدقائي.”
استغلّ سيف الإسلام غيابه عن الساحة في مراقبة الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط والعمل بهدوء على إعادة تنظيم القوة السياسية التابعة لأبيه والمعروفة باسم “الحركة الخضراء”. ورغم تحفّظه بشأن الحديث عن احتمالية ترشّحه للرئاسة، فهو يعتقد أن الحركة التي يقودها بإمكانها أن تعيد للبلاد وحدتها المفقودة. والحقيقة أن الشعار الذي اختاره لحملته نجح في العديد من الدول، بما فيها دولتنا، وهو: السياسيون لم يقدّموا لكم شيئًا سوى المعاناة. حان وقت العودة إلى الماضي. قال سيف الإسلام: “لقد اغتصبوا بلادنا وأذلّوها. ليس لدينا مالٌ ولا أمنٌ ولا حياة. إذا ذهبتَ إلى محطة الوقود، فلن تجد وقودًا. نحن نصدّر النفط والغاز إلى إيطاليا – نحن نضيء نصف إيطاليا ونعاني نحن من انقطاع الكهرباء. ما يحدث تخطّى حدود الفشل. إنه مهزلة.”
بعد مرور عشر سنوات على حالة النشوة التي صاحبت الثورة، يتفق معظم الليبيين مع هذه الرؤية. ففي طرابلس، تحتل أسراب النورس “الفندق الكبير” الذي لم يكتمل بناؤه، والذي يتخذ شكل كتلة رمادية عملاقة من الطوب الإسمنتي والرافعات المطلّة على المحيط. وهذا المشروع واحدٌ من عدة مشاريع دعمها سيف الإسلام، لكنه لم يُستكمَل بناؤه منذ عام 2011. وهناك العديد من المباني الخاوية الأخرى التي تشوّه سماء ليبيا بعد عزوف الممولين الأجانب عن المخاطرة بأموالهم في ظل هذه الأوضاع المتردية. كدّس بعض أمراء الحرب في ليبيا ثروات طائلة - تضخّ ليبيا نحو مليون برميل من النفط يوميًّا - في حين يعاني أغلب الناس من انقطاع الكهرباء لمدة ساعات في اليوم، إلى جانب معاناتهم للحصول على مياه الشرب. وتقف آثار ثقوب الرصاص في طرابلس وغيرها من المدن الكبرى شاهدًا على حرب دارت رحاها على نحو متقطع.
تنعم ليبيا في الوقت الحالي بحالة من السلام. وخلال الأسابيع الثلاثة التي قضيتُها هناك، كنتُ أتجولُ بالسيارة في غرب البلاد دون خوف من مواجهة جبهة قتال هنا أو هناك. بل إنني رأيتُ بعض مظاهر النظام، مع انتشار الشرطة بملابسهم الرسمية في الشوارع وحدوث انخفاض ملحوظ في حوادث الاختطاف والاغتيالات. ويعود الفضل في ذلك إلى حد كبير للجهود الحثيثة لدبلوماسيي الأمم المتحدة الذين توسّطوا في شهر أكتوبر لوقف إطلاق النيران بين أكبر فصيلين في ليبيا، ثم أقنعوهما بحضور سلسلة لقاءات أسفرت عن تشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة. ومن المقرر أن تُعقد انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة في شهر ديسمبر.
يخشى كثيرٌ من الليبيين من أن هذا السلام لن يستمر. فخلف ستار الوحدة الوطنية، لا تزال ليبيا منقسمة إلى جزأين يخضع أحدهما، وهو الجزء الشرقي، لسيطرة القائد العسكري المتسلط خليفة حفتر. أما زعماء الجزء الغربي، فليس لديهم “ولو مثقال ذرة من الثقة” في حفتر، حسبما أخبرني خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا. ومن غير المرجح أن تنجح الانتخابات في رأب هذا الصدع، بل إنها قد تعيد البلاد إلى حالة الحرب إذا فاز فيها شخص مثير للخلافات، وليس هناك من هو أكثر إثارةً للخلافات من سيف الإسلام.
رغم اختفاء سيف الإسلام عن الساحة، فإن تطلعاته للرئاسة تؤخذ على محمل الجدّ. فخلال المحادثات التي أسفرت عن تشكيل الحكومة الليبية الحالية، سُمح لمؤيديه بالمشاركة، ونجحوا بمهارة إلى الآن في إلغاء شروط للانتخابات كانت ستحول بينه وبين الترشّح. وتشير بيانات استطلاعات الرأي المحدودة في ليبيا إلى أن قطاعًا عريضًا من الليبيين – بنسبة 57 بالمائة في منطقة واحدة – قد عبّروا عن “ثقتهم” بسيف الإسلام. وقبل عامين، قيل إن أحد منافسيه دفع 30 مليون دولار لقتله (في محاولة ليست الأولى لاغتياله)، فيما اعتُبر دليلًا تقليديًّا على مكانته السياسية.
تُستمَد شعبية سيف الإسلام من مشاعر الحنين إلى ديكتاتورية أبيه، وهو شعور يزداد انتشارًا في ليبيا وفي المنطقة كلها. فحتى في تونس، التي انطلقت منها شرارة انتفاضات الربيع العربي أواخر عام 2010 وكانت ثورتها قصة النجاح الوحيدة، يتألف الحزب السياسي الأكثر شعبية فيها الآن من جماعة متشددة يهاجم قائدها باستمرار ثورة الياسمين في تونس واصفًا إياها بالكارثة. لم يكن قد مرّ على وصولي إلى ليبيا سوى بضعة أيام عندما دخلتُ استراحةً على أحد الطرق السريعة ووجدتُني أمام خطاب للعقيد معمر القذافي من فترة الثمانينات يذاع على قناة الحركة الخضراء التلفزيونية في القاهرة. وخلال إفطار أحد الأيام في شهر رمضان، سألتُ أربعة ليبيين في أوائل العشرينات من العمر عمن سيختارونه لرئاسة ليبيا، فذكر ثلاثة منهم اسم سيف الإسلام. كذلك أخبرتني محامية ليبية أن عملها غير الرسمي لقياس الرأي العام يشير إلى أن ثمانية أو تسعة من كل عشرة ليبيين سيصوّتون لسيف الإسلام.
لا شكّ أن فوز سيف الإسلام في الانتخابات سيمثل انتصارًا رمزيًّا للحكّام العرب المستبدين الذين يشاركونه كراهية الربيع العربي. وسيحظى هذا الفوز بالترحيب أيضًا من الكرملين الذي دعم من قبل أصحاب النفوذ في منطقة الشرق الأوسط والذي يظل طرفًا عسكريًّا مؤثرًا في ليبيا بجنوده ونحو 2000 مرتزق في الميدان. وقد أخبرني دبلوماسي أوروبي ذو خبرة طويلة في الشأن الليبي: “يعتقد الروس أن سيف الإسلام قد يفوز”. ومن الواضح أن أطرافًا خارجية أخرى تدعم سيف الإسلام، لكنه تكتَّم حول الحديث عن هذه النقطة. ففي السنوات الأخيرة، كانت ليبيا ساحة حرب بالوكالة لعدد من القوى الخارجية من بينها مصر وروسيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة. ولكن يظل من الصعب تحديد مدى تأثير تلك الدول على الانتخابات. أما في حالة الولايات المتحدة، التي قادت حملة حلف شمال الأطلسي “الناتو” التي أطاحت بمعمر القذافي، ستسبب عودة أسرة القذافي إلى الحكم حرجًا لها على أقل تقدير.
يواجه سيف الإسلام أيضًا عقبة كبرى خارج ليبيا، فهو مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية على خلفية ارتكابه جرائم ضد الإنسانية، بسبب دوره في قمع المعارضين عام 2011. وقد حُوكم في دعوى قضائية أخرى في طرابلس عام 2015، حيث ظهر على شاشة فيديو خلف القضبان في بلدة “الزنتان”، وانتهت المحاكمة بإدانته والحكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص. (يحق له استئناف الحكم بموجب القانون الليبي). أخبرني سيف الإسلام أنه واثق من قدرته على تخطي تلك المسائل القانونية إذا اختارته أغلبية الشعب الليبي ليكون قائدًا لهم.
يستمد سيف الإسلام ميزة سياسية من اسمه، وميزة أخرى من الواقع الغريب بأن عددًا كبيرًا من الليبيين الآن يعتبرون أن ابن معمر القذافي – نفس الابن الذي توعّدهم في خطابه عام 2011 بسيل “أنهار من الدماء” – هو أطهر مرشّحي الرئاسة يدًا. فجميع المتنافسين السياسيين الآخرين وضعوا أنفسهم موضع الشبهات في الآونة الأخيرة، باستغلال نفوذهم لتحقيق مكاسب شخصية أو بعلاقاتهم مع البلطجية حملة السلاح الذين اعتُبروا ذات يوم أبطال الثورة.
يَعتبر كثيرٌ من الليبيين أن عودة سيف الإسلام هي السبيل إلى إغلاق الباب على عقد ضاع هدرًا، مع أنهم لا يعرفون على وجه التحديد شكل المستقبل الذي قد يحمله لهم. ولطالما كان سيف الإسلام لغزًا محيّرًا. علّق الناس في الداخل والخارج آمالهم عليه لأنه كان يُعتبر وريث القذافي، وهي فكرة عزّزها بنفسه عندما أسّس مجموعة إعلامية أطلق عليها اسم “ليبيا الغد” لتطوير مشاريعه المفضّلة. ومع أنه لم يكن يشغل منصبًا رسميًّا ضمن نظام القذافي، فقد دلّل والده على أهميته بتفويضه للتوسط في نزاعات دبلوماسية رفيعة المستوى، من بينها قضية التعويضات التي دفعتها ليبيا عن تفجير رحلة “بان آم 103” فوق مدينة “لوكربي” في اسكتلندا عام 1988. وربما كان لسيف الإسلام دورٌ أيضًا في قرار أبيه بالتخلّص من أسلحة الدمار الشامل في ليبيا.
أما في كلية لندن للاقتصاد، فقد تقرّب سيف الإسلام من المفكّرين الذين اعتبروه صادقًا في رغبته بتحقيق إصلاح ليبرالي. وفي عام 2005، دعا منظمة “هيومان رايتس ووتش” إلى ليبيا لزيارة المكان الذي شهد مذبحة في أحد السجون. ولاحقًا، أقنع والده بإطلاق سراح السجناء السياسيين، ودعا علنًا إلى إصلاح السجون وإلى نظام حكم دستوري. وفي مأدبة عَشاء بالقرب من لندن عام 2003، طلب سيف الإسلام الجلوس إلى جوار موظف كونغرس يهودي من الولايات المتحدة كان رئيسُه من أشد المدافعين عن إسرائيل. عندما سأله موظف الكونغرس عن أكثر شيء تحتاجه ليبيا، أجاب: “الديمقراطية”.
كان موظف الكونغرس يدرك أن النظام الليبي يروّج لنفسه على أنه نظام ديمقراطي، فظنّ أنه أخطأ السمع.
سأله مجددًا: “ليبيا تحتاج مزيدًا من الديمقراطية؟”
أجاب سيف الإسلام: “كلا؛ مزيد من الديمقراطية يوحي بأن لدينا بعضًا منها.”
في ليبيا، أطاح المتشددون المحيطون بأبيه بأفكاره الديمقراطية، ودأب منتقدوه على تسميته “سيف الأحلام”. وكان الانغماس في الملذات أحد طباعه؛ فكان يقتني زوجًا من النمور البيضاء، وتواترت الأنباء عن احتفالاته المترفة بأعياد ميلاده في سان تروبيه وموناكو، وعن رحلات الصيد التي يقوم بها في أوروبا ونيوزيلندا. كان يتصارع على السلطة مع أشقائه الخمسة، وتحديدًا شقيقه المعتصم الذي كان قائدًا عسكريًّا. وكان يبدو، في بعض الأحيان، ضائعًا ومشتتًا بين الشرق والغرب لا يعرف كيف يفي بتوقعات أبيه.
رغم ذلك، لم يكن هناك من هو أفضل من سيف الإسلام للتوسط من أجل الوصول إلى تسوية بين نظام أبيه والمتمردين عام 2011، إذ كانت تربطه صلات وثيقة بشخصيات بارزة في حركة المعارضة حيث سبق وأن ضمّ اثنين منهم إلى نظام القذافي لدفع حركة الإصلاح قدمًا. وحتى الإسلاميين الذين شاركوا في احتجاجات 2011 كانوا مدينين له على دوره في إصدار العفو الذي خرج قادتهم بموجبه من السجون قبل بدء الانتفاضة.
عندما اندلعت أولى احتجاجات الربيع العربي في تونس أواخر عام 2010، رحّب بها سيف الإسلام. كان يشعر بخيبة الأمل والإحباط إزاء بطء وتيرة التغيير في نظام أبيه، فانسحب إلى منزله المترف في لندن مترددًا بشأن العودة إلى ليبيا. وعندما عاد إلى طرابلس، عقب الاحتجاجات الأولى هناك في فبراير 2011، شرع وقتها في كتابة خطاب مصالحة تطرق فيه إلى مطالب المتظاهرين ووعد بإحداث تغييرات جذرية، حسبما أفاد أحد أصدقائه المقربين.
أخبرني سيف عن شعوره بالخوف على ليبيا في الأيام الأولى بعد عودته، فقال: “حذّرتُ الجميع ‘أسرعوا الخطى في مشاريع الإسكان وفي الإصلاحات الاقتصادية، لأنكم لا تعرفون ما الذي سيحدث في المستقبل.’ لإجهاض أي مؤامرة ضد ليبيا، جئتُ إلى بنغازي وقلت: ‘علينا أن نُسرع الخطى.’ غير أن عناصر عدّة داخل الحكومة كانت تعمل جاهدةً ضدي.”
وفي 20 فبراير2011، أعلنت وسائل الإعلام الحكومية الليبية أن سيف الإسلام سيلقي خطابًا تلفزيونيًّا. رأى بعض الليبيين الذين أعرفهم أن هذا الخطاب سيكون لحظة انتصار للمعارضة. توقّعوا أن يعلن سيف الإسلام تنحي أبيه إيذانًا ببدء عهد جديد من الإصلاحات الليبرالية.
لكن بدلًا من ذلك، أدار الليبيون أجهزة التلفاز ليروا سيف الإسلام جالسًا في وضعية متهدّلة أمام طاولة، تطلّ من ورائه خريطة ضخمة للعالم باللونين الأخضر والأبيض، وتظهر قارة أفريقيا خلف رأسه كأنها خيط من الدخان. كان يرتدي بدلة وربطة عنق باللون الأسود. بدا منزعجًا تمامًا، يتدلى ذقنه حتى كاد يلمس صدره. استهل كلامه بوصف الانتفاضات التي اجتاحت العالم العربي بأنها “عاصفة ديمقراطية” كان يتوقعها. لكنه انتقل إلى وصف الاحتجاجات في ليبيا، التي كانت قد بدأت قبل ثلاثة أيام بمظاهرة في مدينة “بنغازي”، بأنها صنيعةُ المجرمين ومتعاطي المخدرات. اتهم سيف الإسلام الليبيين في الخارج باستغلال الأحداث وتأجيج العنف، وحذّر من أن ليبيا ليست تونس ومصر، لأن طبيعتها القبلية قد تفككها بسهولة إلى دويلات وإمارات. تنبّأ بحدوث حرب أهلية، واختراق حدود البلاد، وحدوث هجرة جماعية، وبأن ليبيا ستصبح معقلًا للجماعات الإرهابية.
استطرد سيف الإسلام في خطابه: “سيتم حرق وتدمير كل شيء في ليبيا، وسنحتاج إلى 40 سنة أخرى حتى نتفق على إدارة هذه البلاد، لأن كلّ واحد منا سينصّب نفسه رئيسًا، وسينصّب نفسه أميرًا، وكل واحد سيجعل من منطقته دولة.”
سرعان ما أصبح هذا الخطاب الكارثي نقطة تحول في مسار الانتفاضة، إذ غيّر انطباع الليبيين عن سيف الإسلام إلى الأبد. كنتُ في بنغازي بعد إلقاء الخطاب مباشرةً، ووصف المعارضون الليبيون الذين أعرفهم الخطاب بأنه سقوط الأقنعة، وأن هذا هو الوجه الحقيقي لسيف الإسلام. ورأى الكثيرون أنه كان يتحدث باسم النظام وأنه أطلق تهديدًا حقيقيًّا بشن الحرب. أما معارفه القدامى في الغرب، فقد نأوا بأنفسهم عنه أو افترضوا أنه ألقى هذا الخطاب تحت تهديد مسدس مصوّب إلى رأسه. ودفع آخرون، ممن تحصّلوا على أموال من مؤسساته، الثمن، من بينهم رئيس “كلية لندن للاقتصاد” الذي استقال من منصبه في شهر مارس من العام نفسه.
يمكن قراءة الخطاب قراءةً مختلفة اليوم. فسيف الإسلام، الذي كان على خلاف طويل مع المتشددين، لم يكن في موقف يؤهله للتهديد بالحرب. ربما كان يدرك أكثر من غيره طبيعة نظام القذافي وأنه نظام هشّ ووحشي. فعندما التقيته في مايو، أخبرني أنه ألقى الخطاب بعد وقت قصير من زيارة أبيه، وفي رأيي أن الخطاب كان العامل الأساسي لتحوّله السياسي. ظل سيف فخورًا بخطابه وقال إن أغلب ما تنبّأ به قد تحقق بالفعل.
يرى سيف الإسلام أن إدارة الرئيس باراك أوباما، وليس معمر القذافي، هي من يتحمل مسئولية الدمار الذي حلّ بليبيا. وربما يكون محقًّا في ذلك. فعندما اندلعت الانتفاضة الليبية، واجه الأمريكيون نفس السؤال الذي واجهوه لاحقًا مع سوريا: هل يجدر بك تدمير دولة إذا كنت لا ترغب بتحمل عبء إعادة بنائها؟ في حالة سوريا، كانت الإجابة بالنفي. أما في ليبيا، فقد اتُّخذ قرار بدعم حملة الناتو العسكرية تحت ضغوط هائلة في الوقت الذي حذر فيه دعاة حقوق الإنسان من مذبحة وشيكة (استنادًا إلى أدلة مختلف على صحتها). دمّرت ضربة الناتو الجوية عام 2011 بعض المناطق في ليبيا، وفي العالم التالي تخلّت الولايات المتحدة عن ليبيا بعد اغتيال الجهاديين لسفيرها جون كريستوفر ستيفنز وثلاثة أمريكيين في بنغازي. وفي السنة الأخيرة من رئاسة أوباما، أقرّ بأن أكبر خطأ ارتكبه أثناء توليه الرئاسة كان غياب التخطيط لمرحلة ما بعد القذافي في ليبيا.
لا يزال الخلاف قائمًا حول قرار أوباما الأوّلي بالتدخل في ليبيا. فبعد القصف الجوي لقوات الناتو على ليبيا، بدأت مساعي وقف إطلاق النيران، لكن المتمردين أصروا على رفض أي هدنة قبل تنحّي القذافي. لم يتنحَ القذافي، ولم يكن سيف الإسلام مستعدًا لخيانته.
قال سيف عن المتمردين: “كان العالم بأسره يقف معهم.” لم يكونوا بحاجة للتوصل إلى تسوية. استشعرتُ حسرةً في صوته عندما سألتُه عن زملائه القدامى مثل محمود جبريل، الذي ضمّه سيف الإسلام إلى الحكومة عام 2007 بوصفه إصلاحيًّا والذي أصبح لاحقًا رئيس الوزراء في المجلس الانتقالي عام 2011. تحدّث حديثًا مبهمًا عن النفاق، وقال إن وسائل الإعلام العربية شيطنت نظام القذافي إلى درجة جعلت من المستحيل إقامة حوار بين الجانبين. قال إن المتمردين عقدوا العزم على تدمير الدولة، وأن أي مجتمع قبلي مثل ليبيا يضيع بدون دولة. ثم أضاف: “ما حدث في ليبيا لم يكن ثورة. يمكنك أن تسميها حربًا أهلية أو أيام شؤم، لكنها لم تكن ثورة.”
وصف سيف الإسلام ربيع وصيف 2011 بمسلسل من الأزمات السريالية. في البداية، كان يزور أبيه كل يوم تقريبًا في خيمة منصوبة على الأرض في “باب العزيزية”، وهو مجمّع مترامي الأطراف تحيط به أسوار عالية كان مقرًّا للقذافي. كان يلتقي بين الحين والحين ببعض العاملين في الصحف الأجنبية ممن كانوا يحتمون في أحد الفنادق في طرابلس. يقول سيف إنه تلقى اتصالات هاتفية من زعماء أجانب كانوا يعتبرونه على الأرجح وسيطًا بينهم وبين أبيه. أخبرني أن أحد المتصلين المعتادين كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي قال عنه: “في البداية كان في صفّنا ضد التدخل الغربي، ثم بدأ يقنعني بمغادرة البلاد”. أضاف أن أردوغان وصف الانتفاضات بأنها مؤامرة خارجية تُحاك منذ زمن بعيد. أما سيف الإسلام فيرى أن حرب 2011 قد انبثقت عن التقاء توترات داخلية كانت تعتمل منذ وقت طويل مع أطراف خارجية انتهازية، من بينهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. وأضاف: “كانت عدّة أمور تحدث في آن واحد. زوبعة عارمة.”
أخبرني أنه شارك في القتال لفترة وجيزة في “باب العزيزية” عندما حاصر المتمردون طرابلس في أغسطس 2011. ويقال إن آخر ظهور له كان لتحميس المؤيدين وتوزيع الأسلحة في حي أبو سليم في طرابلس. بعدها فرّ إلى بلدة “بني وليد”، معقل النظام في المنطقة الجنوبية الشرقية، وبقي هناك حتى منتصف أكتوبر عندما أودت الضربة الجوية التي شنها الناتو بحياة 22 شخصًا من أتباعه وأصابته في يده اليمنى. فرّ أولًا إلى مدينة “سرت” ومنها إلى وادٍ صحراوي، بإصابة يده التي كانت تزداد سوءًا طوال هذا الوقت. استطاع التواصل مع عبد الله السنوسي، رئيس المخابرات في نظام أبيه، واتفقا على أن يلتقيا في المثلث الحدودي الجنوبي بين ليبيا والجزائر والنيجر. وبينما كان في طريقه إلى هناك، ألقى مقاتلو “الزنتان” القبض عليه. وصلت بعض الصور التي ظهر فيها ذليلًا إلى الصحافة؛ منها صورة يجلس فيها على كرسي ويده ملفوفة بضمادات بيضاء بينما يحيط به المقاتلون المنتصرون؛ وصورة داخل مروحية سوفيتية الصنع في طريقها إلى “الزنتان”، وبعدها اختفى تمامًا.
قال سيف الإسلام إنه لم يكن على اتصال بالعالم الخارجي خلال السنوات الأولى من اعتقاله، وأنه قضى بعض هذه الفترة في مكان أشبه بالكهف، وهي غرفة تحت الأرض شُقّت وسط الصحراء أسفل منزل في بلدة “الزنتان”. لم يكن بالغرفة أي نوافذ، ولم يكن يميّز الليل عن النهار أغلب الوقت. كان وحيدًا تمامًا، وأدرك أنه قد يموت في أي لحظة، فازداد إيمانًا. وذات يوم في مطلع عام 2014، تلقى زيارةً غيرت مجرى حياته. اندفع رجلان من كتيبة الزنتان إلى غرفته الصغيرة. بدا عليهما الغضب والانزعاج وأرادا التحدث.
شارك هذان الرجلان في حركة التمرد ضد القذافي، لكن وحدة الثوار لم يعد لها مكان الآن. كان لأحدهما ابن أصيب بطلقة في رأسه أثناء تبادل إطلاق النار مع ميليشيا منافسة من مدينة “مصراتة” على ساحل البحر المتوسط. أعرب الرجلان عن شعورهما بالحسرة، ولم يكن هذا الشعور نابعًا من خسارتهما الشخصية فحسب. وقفا محنيَّي الظهور داخل الغرفة – التي كانت تتسع بالكاد لثلاثتهم – وأخذا يسبّان الثورة ويقولان إنها كانت غلطة وإن سيف الإسلام وأباه كانا محقّين.
قال سيف إنه ظل يستمع إليهما وهو يشعر بأن شيئًا ما يتغيّر. كانت الثورة تلتهم أبناءها. في النهاية، سيشعر الليبيون بإحباط شديد لدرجة أنهم سينظرون إلى الماضي ويشعرون بالحنين إلى عهد القذافي. وهذا بدوره قد يهيئ له الفرصة ليستعيد كل ما فقده.
صَدَق حدسُ سيف الإسلام، إذ كانت ليبيا على مشارف مرحلة انتقالية حاسمة. استمرت فترة الأمل التي أعقبت الثورة حتى صيف عام 2012، عندما أجرت ليبيا انتخابات اعتُبرت حرة ونزيهة إلى حدٍّ ما. لكن في وقت لاحق من العام نفسه، تفاقمت الاغتيالات وحوادث الاختطاف، وانقلب المتمردون بعضهم على بعض، وبدأ الجهاديون الذين اغتالوا ستيفنز في ترويع أهالي بنغازي. وفي عام 2013، ساعد زعماء الفصائل في مدينة “مصراتة” – الذين نصّبوا أنفسهم حماة الثورة – في إقرار تدابير قانونية قضت بإقصاء منافسيهم خارج الحكومة. وبحلول منتصف العام التالي، عندما زار الرجلان سيف الإسلام في غرفته – كانت البلاد في طريقها نحو حرب أهلية. وسرعان ما ظهرت حكومتان متناحرتان، ثم ثلاث حكومات. وخلْف المجموعات السياسية الرسمية كانت هناك مئات الفصائل المسلحة بولاءات وعداوات دائمة التغير.
لا يزال هذا الوضع قائمًا اليوم في ليبيا. فالميليشيات المحلية هي القوة العسكرية الأكثر نفوذًا في الدولة ولديها سلطة فيتو غير معلنة. عندما كنت في طرابلس في شهر مايو، استولت جماعة من الميليشيا على فندق في وسط المدينة يتخذه عدد من كبار المسئولين الحكوميين مقرًا لهم، إثر خلاف على رئاسة جهاز المخابرات. أعقب ذلك اجتماع محتدم كان من الممكن أن يؤدي إلى تجدد أعمال القتال. فعجز الحكومة وغياب نفوذها يسببان حرجًا دائمًا لكثير من الشخصيات العامة في ليبيا. وصل الأمر أن أغلب المسئولين يتفادون استخدام كلمة ميليشيا لأن هذه الجماعات المسلحة تفضّل كلمة “كتائب”. يقول خالد المشري: “نظريًّا، تتبع الميليشيات وزارتي الداخلية والدفاع، لكنها في الواقع ليست كذلك.”
من بين السياسيين الليبيين، لفت الأنظار شخصٌ معروفٌ بمواقفه الحازمة تجاه الميليشيات وهو أحد خصوم سيف المحتملين في الانتخابات الرئاسية. إنه فتحي باشاغا، طيار حربي سابق يبلغ من العمر 58 عامًا، شغل منصب وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني من عام 2018 وحتى العام الماضي. يعتبر الكثيرون باشاغا شخصًا كفؤًا نزيهًا، وقد نال إعجاب الكثيرين أثناء رحلاته إلى واشنطن والعواصم الأوروبية عام 2019 لطلب الدعم في قطع مصادر التمويل عن قادة الميليشيات الأشد خطرًا. كما قاد الجهود لبناء جهاز شرطة جديد في إطار مبادرة تهدف إلى إنشاء مؤسسات وطنية بحقّ. وهذا العام، عندما ذاعت أنباء عدم انتخابه رئيسًا للوزراء في الحكومة الانتقالية الجديدة، أطلقت بعض الميليشيات الألعاب النارية احتفالًا بالخبر.
ذات ليلة من شهر مايو، التقيتُ باشاغا – وهو رجل طويل القامة أشيب الشعر ذو مظهر رصين – في أحد الفنادق في مسقط رأسه “مصراتة”. عندما سألتُه عن مساعيه لنزع سلاح الميليشيات، قال إن هذه المسألة تتصدر قائمة أولوياته. تحدّث عن نظام لتصنيف هذه الجماعات: أفراد الفئة الخضراء يمكن تعيينهم في الأجهزة الأمنية الحكومية، وأفراد الفئة البرتقالية يحتاجون إلى إعادة التدريب، أما أفراد الفئة الحمراء فهم مجرمون يجب القبض عليهم. من الواضح أنه ردد هذه الجملة مرات عديدة. كان يعمل على حملته الانتخابية عندما قابلتُه، وسافر إلى أوروبا بعد ذلك لحشد الدعم لترشحه للرئاسة.
لكن مواقف باشاغا – في المنصب وخارجه – أوضحت مدى صعوبة التحرّر من قبضة الميليشيات. فهو مدين سياسيًّا لجماعات مسلحة ذات نفوذ في “مصراتة”. ورغم استعداده لمواجهة ميليشيات طرابلس، يرى كثيرون أنه قد لا يتخذ نفس الموقف داخل بلدته. في العام الماضي، أوقفه فايز السرّاج، رئيس الوزراء في حكومة الوفاق الوطني، عن العمل على خلفية استخدامه العنف مع المتظاهرين. وعندما عاد باشاغا – الذي كان خارج البلاد آنذاك – إلى العاصمة، خرج في استقباله حشد كبير من مقاتلي الميليشيا في “مصراتة”. فهم رئيس الوزراء الرسالة وأعاده على الفور إلى منصبه. وهذا السلوك هو الذي جعل باشاغا لا يحظى بأي شعبية بين الليبيين في المدن الأخرى الذين طالما استهجنوا أساليب العنف التي ينتهجها في “مصراتة”.
الخصم الآخر أمام سيف الإسلام هو خليفة حفتر الذي يسيطر على معظم شرق ليبيا. شارك حفتر، وهو قائد عسكري مخضرم يبلغ من العمر 77 عامًا، عريض المنكبين ممتلئ الوجه، في انقلاب عام 1969 الذي وضع معمّر القذافي على سدّة الحكم. انفصل حفتر عن القذافي في وقت لاحق، وانتقل، بمساعدة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، إلى الولايات المتحدة حيث قضى عقدين من الزمان في شمال فرجينيا. وعاد حفتر إلى ليبيا ليشارك في الثورة عام 2011. وفي عام 2014، أطلق “عملية الكرامة” حيث قدّم نفسه على أنه وطنيّ قادرٌ على تطهير ليبيا من الميليشيات. بدأ عمله في شرق البلاد بالتركيز على الجماعات الإسلامية المتطرفة التي زاد نفوذها هناك. لكن طموحاته كانت أكبر من ذلك، وسرعان ما دبّ الخلاف بينه وبين الحكومة المنتخبة في طرابلس والميليشيات التي تدعمها. بدأ حفتر في الحصول على الأسلحة والدعم من بعض الممولين الخارجيين الذين راق لهم نهجه الحازم، ومنهم مصر وفرنسا وروسيا والإمارات، ونجح في استعادة النظام في شرق ليبيا، وإن كان نظامًا قمعيًّا أوتوقراطيًّا.
وفي ربيع 2019، اتخذ حفتر قرارًا أنزل الويل بالشعب الليبي، وشوّه سمعة حفتر نفسه، وعزّز مساعي سيف الإسلام للعودة إلى السلطة. فقد اقتحمت قواته المسلحة العربية الليبية غرب البلاد واستولت على حقول النفط والقواعد الجوية ودفعت الأموال للخصوم. يبدو أن حفتر ومؤيديه قد ظنوا أن تفوقه العسكري – بترسانة أسلحته من دبابات ومروحيات مقاتلة وطائرات مسيّرة حديثة – سيتيح له الاستيلاء على العاصمة وفرض سطوته على الدولة بالكامل، تمهيدًا لإجراء انتخابات تمنحه الشرعية (بعد إزاحة الخصوم مثل سيف الإسلام من طريقه). لكن اتضح أنه استهان كثيرًا بقوة وصمود الميليشيا في غرب ليبيا، وأنه نسي أن ميزة التفوق في حرب المدن تكمن دائمًا مع المدافعين.