في العصر الإيوسيني العظيم، منذ 60 مليون سنة، كان النيل يتفرع شرقاً عند حلوان فيجري إلى مصبه الثاني في البحر الأحمر عبر وادي دجلة، مشكلاً دلتا هائلة من الخضرة والحياة الطبيعية المتنوعة.
قبل هذا كان البحران الأبيض والأحمر يتموجان في عمق الصحراء الشرقية لمصر حيث ازدهرت الحياة البحرية المائية لملايين السنين: الحيتان والقواقع وأسماك البريهيستوري المرعبة.
ولأنني في مصر، وليس في منفايَ الباڤاري مثلاً، فإن التاريخ يفرض نفسه عليك فرضاً، فيتجاورُ الحِلوانيون مع الفاطميين والفراعنة والكائنات الأحفورية الإيوسينية في فضاءٍ جغرافي واحد.
ذهبتُ إذن فجر يوم الإربعاء 9 فبراير 2022 في رحلة على دراجة عتيقة ومؤجرة من مجموعة "يلا عجلة" الرياضية، وذلك من أول وادي دجلة عند ضفة النيل الشرقية إلى أعماقه الغائرة نحو شاطئ "العين السخنة" البعيد.
قال لي الشاب الرياضي الوسيم في محل الدراجات: العجلة (الدراجة) دي بالذات ركبتها بنت جميلة مع صاحباتها لتتجول بها في حي مصر الجديدة في الصباح الباكر قبل يومين.
فسرح خيالي بعيداً وشكرتُ للشاب هذه الطاقة الإيجابية العالية التي منحها لي.
لابد للرحّال على كل حال أن يشهدَ انبلاج الصبح في الوادي، وإلا فإن جمالاً مصرياً جيولوجياً باهراً سيفوته.
الحق أن حضور طلعة الشمس في الوادي تجربة روحية غامرة أكثر اتساعاً ودهشة من المعابد الدينية والحيطان الغالية المزخرفة.
ولكن هذا يعني أن تبدأ ترحالك فيه قبل السابعة صباحاً، أي أن تستيقظ مع الرابعة صباحاً مثلاً، وهذا ما فعلتُ.
حين تنطلقُ تمتدُّ أمامك الصخور الجيرية والحجر الرملي والكثير من الكلسيات على جانبي الوادي، وتشعر بالمياه الجوفية (المتصلة بحوض النيل) تنبثق من تحت قدميك في عدة مواضع منها ما هو موسميٌّ وآخرُ دائمٌ.
أما الأحفوريات فالألوف من ترسبات الكائنات البدائية والمتطورة تخرج عليك من ثنايا الصخور العارية، وفي متن الكتل الحجرية إن توكلتَ على الخالق وفلقتها نصفين نصفين.
ولكن الكائنات الأكثر بدائية تنتمي لوقتنا هذا حيث تركت وراءها في الوادي أكواماً من الزبالة البلاستيكية والمخلفات المعدنية في مواقع محددة للتجوال والتخييم البري أقرتها السلطات المحلية هنا.
عند المرتفعات العليا للوادي كدتُ أنهمر بالبكاء للمشهد الكوني البديع: الصحراء تمتد بحجم الأفق، والرمال تغطي الأرض، والحجر هو أبجدية الطوبوغرافيا الفصيحة.
أما في أخاديد الوادي فكنت أركنُ دراجتي، أو عجلتي كما يسميها أهل مصر الكرام، ثم أغرسُ يديّ في طين الأرض أتحسس حرارتها وأقيس نبضها وأمارس طقساً من طقوس العبادة التي يحبها الله: التأمل في الخَلق.
كان عدّاد المسافات في هاتفي المتصل بالأقمار الصناعية يشير إلى الكيلومتر 42 من الرحلة حين قفلت راجعاً إلى مبتداها.
جثتي الآن هنا في زحمة شوارع القاهرة، أما قلبي فإنه مازال هناك في تضاريس وادي دجلة لم يغادر بعد!
أيها المصريون الجميلون، أيها الزائرون لأرض النيل، أو المهجرون بها، أو اللاجئون إليها من ويلات الربيع العربي والحروب الرأسمالية الكبرى:
ارحلوا إلى وادي دجلة، وأمعنوا في تضاريسه، واذهبوا عميقاً في تخومه، واقضوا ليلة على تلاله البرية. صدقوني ستشكرون البحرين الأبيض والأحمر أنهما انسحبا بغواية لذيذة ليكشفا عن وادي دجلة الرائع، كما تسحبُ بنتٌ جميلة فستانها الصيفي لتكشف عن فتنة مصريةٍ لا تقاوم.
د. موسى ابراهيم