إعلان

تابعنا على فيسبوك

تونس والبرتغال وبريطانيا والصين في الجحيم.. لماذا يحترق العالم هذا الصيف؟

خميس, 21/07/2022 - 09:17

في يونيو/حزيران ويوليو/تموز من العام الحالي 2022، تعرَّض كوكبنا لضربات حرارية لم تحدث من قبل، ضربت الموجات الحارة أوروبا خاصة، لكنها طالت دولا في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا كذلك، ارتفعت درجات الحرارة فوق 40 درجة مئوية، وكالعادة تحطمت العديد من الأرقام القياسية القديمة. في خارطة مرعبة نشرتها وكالة الفضاء والطيران الأميركية (ناسا) في 13 يوليو/تموز، بدا معظم نصف الكرة الأرضية الشرقي وكأنّه يشتعل! (1)

 

في أوروبا الغربية، التي كانت تعاني بالفعل من الجفاف الشديد، أشعلت موجة الحر الحرائق في جميع أنحاء البرتغال وإسبانيا وأجزاء من فرنسا. في البرتغال تحديدا وصلت درجات الحرارة إلى 45 درجة مئوية في 13 يوليو/تموز في بلدة ليريا، حيث احترق أكثر من 7400 فدان من الأراضي، وكان أكثر من نصف البلاد في حالة تأهب قصوى حيث كافح رجال الإطفاء 14 حريقا نشطا.

وفي شمال أفريقيا، عانت تونس من موجة حارة وحرائق دمَّرت محصول الحبوب في البلاد. في 13 يوليو/تموز في العاصمة تونس، وصلت درجة الحرارة إلى 48 درجة مئوية، مُحطِّمة بذلك الرقم القياسي المُسجَّل منذ 40 عاما. أما في إيران، فقد ظلت درجات الحرارة مرتفعة في يوليو/تموز بعد أن وصلت إلى 52 درجة مئوية في أواخر يونيو/حزيران. (2) أما في الصين على الجانب الآخر، تسبَّب الصيف في ثلاث موجات حرارية أدَّت إلى التواء الطرق وذوبان القطران. سجَّل مرصد شنغهاي كسوجياهوي أعلى درجة حرارة له على الإطلاق وهي 40.9 درجة مئوية في 13 يوليو/تموز 2022.

موجة حارة

الموجة الحارة (Heat Wave)، بتعريفها، لا تُشير إلى درجة حرارة محددة، وإنما تعني ارتفاعا مفاجئا في درجات الحرارة عن معدلاتها في مكان ما بفارق شديد، قد تكون 35 مئوية بالنسبة لمكان ما هي المعدل الطبيعي، لكن أن تصل الحرارة في ألمانيا إلى 38 مئوية، وبولندا إلى الرقم نفسه تقريبا، وأن تتخطى في إسبانيا حاجز 40 مئوية، فإن ذلك يُعَدُّ ارتفاعا ضخما عن المعدلات المعتادة، لدرجة تؤدي عادة إلى سقوط أعداد من القتلى(3) بسبب الإجهاد الحراري تراوح عددهم على سبيل المثال بين 30-50 ألف شخص خلال موجة الحر الشديدة التي ضربت أوروبا خلال عام 2003، وكلَّفت الاتحاد الأوروبي قرابة 13 مليار دولار من الخسائر.

 

قد تتعجب من تلك الأرقام، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن الموجات الحارة هي واحدة من أكثر أدوات القتل رعبا في العالم المعاصر، بالطبع لا يمكن أن يمر حديث عنها إلا ونتذكر الموجة الحارة الهائلة التي ضربت روسيا(4) عام 2010 وتسبَّبت في مقتل نحو 60 ألف شخص، أما خلال شهرَيْ إبريل/نيسان ومايو/أيار سنة 2015 فقد اجتاحت موجة5 شديدة الحرارة أرض الهند وقتلت 1700 شخص، لم تمر أيام قليلة حتى ضربت موجة أخرى باكستان في يونيو/حزيران التالي وقتلت 1300 شخص في كراتشي بشكل رئيسي، ثم توغلت بعد ذلك في البلاد لتقتل 770 شخصا في أنحاء أخرى من البلاد.

ما الذي يحدث على كوكب الأرض؟ لا بد أن هذا السؤال يلح عليك من حين إلى آخر كلما استمتعت إلى حدث له علاقة بالتغير المناخي، لكن ربما أيضا تقول لنفسك إن الأمر يتعلق فقط بمنصات التواصل الاجتماعي وانتشارها، وهذا أمر معتاد لكن الأخبار لم تظهر عنه إلا الآن. هذا ليس صحيحا، تلقت أوروبا أعتى (5) هجمات من الموجات الحارة فقط في السنوات العشرين (6) الفائتة، تحديدا في أعوام (2018، 2010، 2003، 2016، 2002).

في الواقع، قد تتفاجأ أن السنوات العشر الأكثر حرارة في تاريخ قياساتنا لدرجة الحرارة كانت كلها في السنوات العشرين الأخيرة، أما عام 2019، فقد شهد كسر بعض الأرقام القياسية الجديدة خلال الموجة التي ضربت العالم خلال يناير/كانون الثاني(7)، بحيث كان الفارق في درجات الحرارة في مدينتين في شمال وجنوب العالم هو 100 درجة مئوية!

 

 

سبب واحد متكرر

لِمَ يحدث ذلك؟ حسنا، إنها الإجابة الوحيدة التي يعرفها الجميع، وتتحدث عنها الوكالات المختصة كل يوم تقريبا، ولكن لا يتفق عليها أحد في أروقة المباني الحكومية (غير فقط 97% من أعضاء الوسط العلمي المختص بدراسة الأمر(8))، إنه التغير المناخي الذي يتسبَّب فيه نشاط الإنسان المعاصر، لكن في تلك النقطة ربما قد تتساءل عن علاقة التغير المناخي بالموجات الحارة، ستقول مثلا إن موجة حارة كتلك كان الفارق فيها عن المعدلات هو نحو 20 درجة، بينما نعرف أن الاحترار العالمي يرفع متوسطات درجات الحرارة بدرجة أو درجة ونصف فقط، فمن أين تأتي بقية الدرجات؟

في الواقع، فإن ذلك هو أحد أسوأ الأخطاء في الفهم التي يتبادلها الناس عن التغير المناخي، لأن المناخ -ببساطة- هو منظومة متعقدة، لفهم ذلك دعنا نتخيل أننا صمَّمنا مجموعة من الأجراس الإلكترونية بحيث تُطلق صافرة ما إن تسمع أي صوت على مسافة 5 أمتار منها، ثم قمنا بتغطية قطعة أرض ضخمة بـ10 آلاف جرس، كلٌّ منها على مسافة 5 أمتار من الآخر في كل الاتجاهات، ثم قمنا بضرب جرس واحد فقط، هنا سيؤثر هذا الجرس في كل الأجراس المُحيطة به، ثم ينتشر التأثير ويتوسع ليشمل كل الأجراس.

تعتمد المنظومات المتعقدة بشدة على تغييرات بسيطة في الظروف المُحيطة، هذا هو ما نعرفه جميعا باسم "تأثير الفراشة"، الذي يقول، في صورته الأدبية، إن حدثا صغيرا كرفرفة جناح فراشة في الصين قد يتسبَّب في إعصار بالولايات المتحدة، والقصد هنا هو أن تلك الأحداث الصغيرة تنمو وتتراكم شيئا فشيئا لتؤثر في كل شيء بمحيطها ما يعطيها دفعة أكبر للنمو، وهكذا يستمر النمو حتى يصبح تأثيرها كارثيا.

 

تتبع المنظومات المناخية هذا النمط عادة، كل نقطة فيها ترتبط بأخرى، وحينما ترتفع متوسطات درجات الحرارة، ولو بقدر يسير، تصبح هناك فرصة أكبر لظهور الحالات المناخية الشاذة والمتطرفة، ونعني هنا أشياء مثل الموجات الحارة، والموجات الباردة، والعواصف الرملية، والأعاصير المميتة. لفهم تلك النقطة يمكن أن نتأمل دراسة أخيرة، صدرت قبل شهر واحد فقط من جامعة برينستون(9)، تُشير إلى أن الموجات الحارة المركبة، أي تلك التي تأتي بشكل مزدوج (موجة حارة تتبعها أخرى)، تتزايد معدلاتها ودرجات قسوتها بتزايد ارتفاع متوسطات درجات الحرارة العالمية.

لهيب لا ينقطع

 

أشارت الدراسة، عبر محاكاة حاسوبية، إلى تطور التغير المناخي للأرض، مؤكِّدة أن ذلك سيضع حتما حملا زائدا على وحدات الطوارئ وتقديم الخدمات الطبية في العموم، كما أن معدلات استهلاك الطاقة سوف تتزايد بمقادير خرافية، في الواقع فإن أحد أشهر الأمثلة هو ارتفاع درجات الحرارة في إيران(10) خلال صيف 2018، حيث سجَّلت بعض المناطق بها ما يقترب من 53 درجة مئوية، ما أثَّر ذلك مباشرة على استهلاك المياه والكهرباء بالبلاد، وأدى في النهاية إلى انقطاعهما لفترات متفاوتة، حيث يسحب ارتفاع درجات الحرارة من الكهرباء ما يقابل 150-200 ميجا وات مقابل كل درجة حرارة زائدة، وكانت إيران قد سجلت في 2 يوليو/تموز 2018 سحبا للطاقة الكهربائية قيمته 56672 ميجا وات، وهو رقم تاريخي!

في سياق متصل، ربطت دراسة مهمة في هذا النطاق نُشرت قبل نحو ثلاثة أعوام في مجلة(11) "ساينز أدفانسز" (Science Advances)، بين الارتفاع السريع بمقدار نصف درجة مئوية في متوسط درجات الحرارة بالهند خلال الفترة بين 1960-2009 وارتفاع معدلات ضرب الموجات الحارة لها بمقدار 50% في بعض المناطق، بذلك ارتفعت احتمالات حدوث حالات الوفاة المرتبطة بالموجات الحارة لتصل إلى 146%، ودخلت دول كالهند وباكستان في نطاق يُسمَّى "موجات الحر القاتلة"، ويعني ارتفاع حالات الوفاة بسبب الموجة الحارة عن 100 شخص.

 

كان فريق بحثي من جامعة كاليفورنيا قد توصل إلى النتائج نفسها في دراسة أخيرة، مُشيرا إلى أن الموجات الحارة قد ارتفعت بنسبة 50% خلال العقود القليلة الماضية، لكن الأكثر إثارة للانتباه في تلك الدراسة(12)، التي غطَّت أكثر من 200 مدينة يزيد عدد سكان كلٍّ منها على ربع مليون موطن، هو استنتاج غاية في الأهمية يقول إن المدن أكثر تأثرا بالموجات الحارة من القرى، لأن طبيعة المدن تمنع الحرارة من الهروب بسهولة، كل شيء يسخن ثم يهدأ، لكن الجدران الصخرية والمناطق المغلقة والضيقة والمباني تمنع هذا من الحدوث بسهولة في حالة المدن الكبرى.

خطابات متحمّسة

 

والأمر ليس بعيدا عنّا، في الحقيقة إننا -هنا في الوطن العربي- أكثر تعرُّضا للكوارث المناخية من غيرنا، لقد تضاعف بالفعل عدد الأيام شديدة الحرارة مقارنة بما كان الحال عليه في السبعينيات، خاصة في منطقة الخليج العربي، وبمحاولة قراءة مستقبل المنطقة خلال القرن الحالي، حسب دراسة(13،14) من معهد ماكس بلانك لكيمياء الغلاف الجوي، سنجد أنه سيأتي يوم ما لا تنخفض فيه درجات الحرارة في ليالي الصيف عن 30 مئوية، وستكون درجة 50 مئوية رقما طبيعيا نشهده معظم الصيف، من جهة أخرى تتوقع الأبحاث والنماذج الحاسوبية، التي بُنيت على دراسة مفصلة لتاريخ تطور درجات الحرارة في السنوات الثلاثين السابقة، أن معدلات الموجات الحارة، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سوف ترتفع 10 مرات أكثر من المعتاد.

لقد كانت السنوات الأربعة الأخيرة هي الأكثر حرارة في الوطن العربي، تكسَّرت الأرقام القياسية كموجات بحر على الصخور، لكن الأكثر دعوة للتأمل والاهتمام هو تلك التنبؤات التي تقول إن السنوات الخمس القادمة ستكون أكثر حرارة. حسب دراسة حديثة في دورية "نيتشر"(15) صادرة من جامعة ساوثهامبتون الإنجليزية، يُحتمل أن يحتر المناخ بصورة متزايدة لتتكسر أرقام قياسية جديدة، لا يعني ذلك بالطبع أن تتقافز درجات الحرارة حد الاحتراق، لكنه يعني لا شك أن المشكلة تتفاقم ببطء، وهو ما يُضيف حملا واضحا على قدرات الوطن العربي في جوانب عدة، تبدأ من الأمن الغذائي مرورا بالقدرة على العمل والإنتاج، وصولا إلى استهلاك الطاقة.

 

 

ما العمل؟ الإجابة عن هذا السؤال بسيطة، لكن لا أحد يريد التصديق بعد، هناك فجوة مذهلة بين ما هو ضروري لتجنُّب تطور تغير المناخ بشكل خطير وبين ما فُعِل حتى الآن، ففي دراسة أخرى بدورية "نيتشر"(16) ظهر أن أحد التأثيرات المثبطة على تمرير القوانين المناخية هو عمليات الضغط السياسي التي تمنع تمريرها، في الواقع فإن أحد أقوى العوامل في إبطاء خطوات البشرية نحو عالم أقل تأثرا بالتغير المناخي، أو على الأقل عالم يقف عن حد الكوارث الموجودة الآن، هي الضغوط السياسية.

إذا أوقفت أحد علماء المناخ في أية جامعة راقية وسألته عن المتوقع حدوثه فسوف يفتح يديه مُجيبا ما يعني "لا أعلم"، لا أحد يأخذ خطوات جدية، الكثير من الاجتماعات الدولية، الكثير من الفنادق المكدَّسة برجال السياسة الجالسين إلى جوار موائد طعام مفتوحة عامر بالملذات، الكثير من الخطابات المعبأة بالحماس، لكن الخلاصة هي لا شيء، في المقابل من ذلك فإن حالات الشذوذ المناخي تلتهم الكوكب -حرفيا- يوما بعد يوم، هذا ونحن لم نتحدث بعد عن التنوع البيولوجي وحالة الانقراض الواسعة التي تقتل تنوُّع الحياة على الأرض بعزم شديد، بينما يجلس مواطنو العالم في البيوت مكتفين بالمشاهدة.