إعلان

تابعنا على فيسبوك

عبد الله الساعدي: القذافي كان زعيماً جميلاً وأديباً.. كان رجلا موسوعة

أحد, 06/11/2022 - 14:17

عبد الله الساعدي مفكر استثنائي. إنه المثقّف الذي لا يعنيه كثيراً أن يكون بين الآخرين من خلال ما يقرؤون له، بقدر ما يعنيه تماماً أن يكون منخرطاً في إيقاع حياتهم اليومية بتفاصيلها الاعتيادية، في الموقع الذي يقول لنا «هنا تُصنع الحياة… هنا يجب أن يكون المثقف».
الساعدي لا يرى الثقافة وراء طقوس يمارسها «كهنة اللغة»، ولا يزن أثرها بما تؤدي إليه من معرفة نظرية مجرّدة، بل من خلال مشاركة المثقف بدوره كمواطن.. كإنسان. الثقافة ليست صالوناً مغلقاً – يقول لنا –  بل هي الشارع الحي، تماماً كما كان يقول غرامشي «كل الناس مثقفون».. أو كما عبّر عن ذلك في «دفاتر السجن» بقوله: «عندما نميز بين المثقفين وغير المثقفين فإننا في الحقيقة نشير فقط إلى الوظيفة الاجتماعية المباشرة التي يؤديها المثقف في المجتمع».

حاوره : مريم عبدالله
رئيس تحرير مجلة أطلس
مريم: أستاذ عبدالله لدينا العديد من الأسئلة حول الحضارة والثقافة والسياسة.. وبعض أسئلتنا قد تبدو غبيّةً نوعاً ما؟
الساعدي: ما يحفزني على الإجابة على هذه الأسئلة هو أنها في روحيتها ستكون موجّهة إلى إنسان، ليس إلى باحث أو إلى مثقف، ولذا فإن الإجابة عليها كيفما تكون الإجابة هي إجابة جميلة، cute، ولقد علّمت نفسي أنه لا توجد أبداً أسئلة غبية، بل توجد غالباً إجابات غبية، لا هذه الأسئلة سوف تؤثر في الكون، تطفئ نجمة أو ترسل شهاباً، ولا إجاباتي على صعيديّتها سوف تحلب جاموسة… هيا بنا.
مريم: «شرق وغرب، لا يلتقيان إذن».. مقولة كبلينغ التي أصبحت شائعة منذ القرن التاسع عشر، ويبدو أنها تجاوزت جميع محاولات اللقاء والتدبير القاريّ المشترك.. كيف ترى نهاية هذا المسار؟ هل على كل أمّة أن تكتفي بقدرها، فتدافع عن وجودها بكل السبل؟ أم أن في الأفق البعيد وضع إنساني، أممي، آخر ترسمه لنا الضرورة؟

الساعدي: ما دام هناك مسار مفترض وما دامت له نهاية متوقعة أو مطلوبة فلا ريب أن لهذا المسار المقرر بداية.. أين هي تلك البداية؟ ثم أن الشرق الحقيقي هو شرق آسيا وجنوب شرقها.. أما إن كنت تقصدين هؤلاء البدو العرب وهؤلاء البدو الأمازيغ فهؤلاء هم الوسط.. زيتونة لا شرقية ولا غربية.. ولئن اتخذت خط جرينيتش مقياساً وفصلاً فمعنى ذلك أنك صحّحت لنا أمراً وأتبعت سببا، نعم، عندها تكون قد صنفت المنتج اليوناني واللاتيني على أنه شرقي المولد والنشأة، وهو فعلاً ما كان.
إن محاولات التلاقي لم تتوقف بين شعوب البلدان يوما وجلال الدين الرومي وإقبال وحافظ هم مبجلون في أوربا أكثر مما هم في بلدانهم، وديكارت وروسو مهمون في ليبيا وتونس لا في بلجيكا، والهجرة الشرعية من إفريقيا إلى أوربا هي سعي دؤوب نحو هذا التلاقي، حتى لو اعتبرها أوربي متخلف عقلياً أنها هجرة غير شرعية، غير طبيعية، هجرة غير منطقية.

غداً سنكتشف إنها انسياب طبيعي وانزياح، سياحة، صياعة، مجرد تزلج.. إن قيامة الرمل حدث طبيعي.. والثورة هي المبرر المنطقي الوحيد لكل مفاجأة.. هل كان الآريون أصلاً في أوربا؟ غير أن هناك في أوربا من لا يصدق حتى الآن أن الإنسان مشى على سطح القمر كما مشية عبد الرزاق الداهش على سطح ليبيا.
إن الوضع الأممي، الذي قلت أنت عنه انه إنساني هو موجود حالياً، إنه واقع، ليس تطلعاً ولا هو مشروع صعب التحقق، بل هو حالة حاضرة، إن القوم لم يعودوا كما قبل عيسى أولئك الذين يجمعهم مكان الولادة nation بل صاروا هم أولئك الذين يجمعهم هم مشترك، مصلحة مشتركة (شظايا رؤية مشتركة، بل أغبرة رؤية مشتركة) الولايات المتحدة مثالاً.. إن الهم المشترك اليوم هو هم عالمي.. أممي.. إن همي في شمال إفريقيا هو أن أنجو وهم السويدي هناك هو تحديداً أن ينجو، وسيتأخر الطوفان لوقت، سيؤخر ثورته عمداً، حتى نتعلم كيف ننجو، فلا عاصم من مستقبل هذا الكوكب إلا أن تتحول قنواتنا الفضائية في جميع بلدان العالم إلى تعليمنا كيف ننجو مثلما تعلمنا المضيفة كيف نحيا حين تكون طائرتنا آخذة من سابع سماء في السقوط كجلمود صخر حطه السيل من عل، بمعنى آيرباص 131، سنحفظ جيدا تلك التعاليم، تعاليم المضيفة، لكننا قد لا نتقيد بتنفيذها عند اللزوم.

مريم: يبدو أن مقولة «حوار الحضارات» قد انحسرت تماماً أمام معطيات الصراع.
الساعدي: عبارة (حضارة / حضارات) هي مفهومة في أوربا بالمعنى «س»، وهو فهم ارتجالي متعجل عمداً.. التمدّن… السكنى الهمجية، التجاور اعتسافاً، ترويض على ضيق الأفق، في ما يسمى مدينة. التسكين الإجباري إعماء إجباري. وهي (تلك العبارة البائسة، حضارة) مفهومة عندنا في بلدان الوسط (التي لا جاءت شرقية ولا غربية) بالمعنى «ص» وهو مفهوم قاصر له علاقة فقط بالحضور لا بالتمدن، ذلك التمدن التعيس، فإذا حضر الماء عندنا بطل التيمم، والحاضر يعلم الغائب لأن الغائب جاهل لا يعلم.
 المتحضر عندنا هو من يهجو غراب البين. المتحضر عندنا هو من تخلى عن عادات أجداده البينيق (الفينيق). هو من أنكر إرضاء للناس أنه بين البين والبين بون. هو من تنازل عن معنى المكان وعن ذاكرة المكان وساهم في فساد الأمكنة. المتحضر عندنا هو من حضر حفل وأدهم لذاته.. متنازلاً عن المعتزلة وعن لذاته.

مريم: والحوار؟
الساعدي: الحوار هو الدوران.. اللف والدوران.. السعي إلى تكوين الحيرة وإلى تصنيع الغيتو.. الحارة.. في جلسة يحضرها متذاكون.. يعرفون جيدا إنهم على الركح ممثلون.. والمشهد لا يمكن أن نملّه حتى لو شاهدنا العرض يومياً.. لأن المشاهد يحاور هذا الحوار… بل وصلنا – نحن المتفرجون – وصلنا حتى إلى تسميته: الحوار الجاد.. بل قمنا ديماغوجيا بترصينه.. نحن نعلم علم اليقين أنه ليس جاداً.. فالجاد يقدم جديداً.. ونحن.. أهل هاذي الأرض لا نريد جديداً، الجديد مكلف، بينما نحن أطفال لا نريد إلا أن نلعب.. نلهو.. نجري في دائرة.. ما العيب في ذلك؟
إن كان لكلمة «حضارات» معنى يعول عليه.. وإن كان لـ«الحوار» معنى غير الذي يجري منذ بولس الرسول، بل منذ ذي القرنين وحتى غلغاميش، فإنه ذلك الذي ظل يجريه القراصنة من مرفأ إلى مرفأ، وظل يمارسه الصعاليك من بلدة يمارسونه في بلدة أخرى.. كذلك السياح والمطاريد وبائعات الهوى والمنبوذون والهيبيـز والطلبة والغجر، ونبي ما.. نبي لا كرامة له في وطنه..
الدياسبورا أولاً… لا حوار إلا في غمرة الشتات. التسكع هو ذاك المعهد الذي يعلمك أدبيات الحوار لا التسكن.. لا حوار مع تسكين الأشياء.. لا حوار حين تقصفنا هاء السكت.
مريم: ولكن ثقافات العالم أصبحت أكثر انفتاحاً وتتقبل مفهوم الآخر ودوره في العالم. أليس كذلك؟
الساعدي: أنت تقولين «تتقبل مفهوم الآخر».. كما لو أن «الآخر» صار مفهوماً.. ثقي أنني حين أعرفك بهذا «الآخر» فإنني إنما أتحدث عن نفسي.. أقوم بتسويق وهم أنني قد صرت «مفهوماً».. مفهوماً: أسميه «الآخر».. الحق، الحق أقول لك أنني لا أعرف معنى «حقيقياً / مجدياً من ناحية بحثية» لـ«ضمائر» مثل: أنا، أنت، هو… إن عبارة «هم» هي الكلمة التي تزعجني كثيراً حين أسمع أحداً يستعملها مشيراً إلى غيره الذين هم «في الواقع»: هو.
أقول: من أنتم؟ من أنا؟ بل من المن ذاته؟ لكن لأتكلم بشكل تقليدي، رجعي، كما يتكلم الناس (بلغة نحن/ هم): أنا لست «خائفا» من الفرد الأوربي الإنسان.. بل هو الذي يخافني.. لقد عاش الأوربي في قارة فقيرة هي بتعاقب الفصول إما ضبابية أو مظلمة، قارة يقتات فيها جهلة سذج، شبه جزيرة تزخر بالوحوش والأوبئة، إنه مطبوع على الارتعاب، الارتياب.. على الاكتئاب الاغتياب.. على الانطواء الانكفاء الانسحاب، وأنا كائن وحشي موبوء بغريزة التلمس والتحمس بنزعة الاكتشاف ونزغ التجاسر وحب الارتشاف، أدس أنفي، فكيف نريد من كندي أن يطمئن إلى غول من بني سليم؟ ليس التعامل بالعقل هو الحل، بل بالعشق.. أنا أقوم أولاً بمهمة أن أجعل الأوربي يعشقني، ثم أدعه يفهمني على مهل وهو في حضني.. إن هذا هو تماماً ما يحدث الآن، سواء كنا نراه أو أن العناق يتم في خلوة لا يكاد يرى.. فبمعنى العمران الخلدوني.. التعمير، فأنا الذي استعمره وأعمره وهو يدري ذلك تارة وتارة لا يريد أن يدري.. العمران هو تكوين مجتمع.. ونحن من يمكن أن يجعل من مجموعة أوربية مجتمعاً بالمعنى السوسيولوجي.. لقد تعودنا تاريخنا كله أن نعيش في قطعان، وأما أن يتعلموا منا ذلك فتلك مسألة وقت لا تحتاج إلا إلى تودد ومودة.. إلى فن.

مريم: الثقافة العربية ملتبسة.. إنها خليط من الأصوات، ولا يمكننا نسبتها إلى هوية واحدة محدّدة.. أهو وضع طبيعي أم أن الثقافة العربية في لحظة تشكّل وتخلّق لتنتقل إلى طور جديد؟
الساعدي: أنا رجل جاهل، لا يعرف معنى كلمة (ثقافة) وأما السهم المسنون أو الرمح المثقف فهو لا يحضر مؤتمرات ولا يقيم ندوات ولا يتباهى بشيء بل حتى أنه لا يلبس نظارات طبية.. وأما Culture فهي تعني في أوربا مجهودات خليّة نمل أو منتجات البكتيريا العصوية أو تحوّل السكر إلى كحول ثم خل.. إن ما شاهده رولفس عند سكان غاث هو «كولتشر» ورقصات الهنود الحمر الذين ليسوا حمراً هي أيضاً «كولتشر»، ولم أسمع من ألماني واحد أن ما تركه لنا جوثه Goethe هو «كولتشر».
عبارة «الثقافة العربية» هي عبارة جميلة.. كالعلكة عندي حين تكون بطعم النعناع.. لنتدلّل بها.. إنها كالعلكة الحلوة لا معنى لها.

 مريم: مالذي يميّز العرب ثقافياً إذن؟
الساعدي: من حظنا نحن من يسمون «العرب» أنه لا «ثقافة» لنا تميزنا، فنحن مع كل وارد عطشى.. نحن الظمآن في قلب النيل.. وأنت تعرفين معنى «دجلة» في لغاتنا ومعنى «الفرات» في إحساسنا.. نحن المصب.. خزان ترهات.. لو تمكنا أن نستورد من القمر نوراً لفعلنا.. نحن عشائر ذات ولع بما ترفد القوافل.. أيعني هذا عندك انه لا هوية لنا؟ إن هويتنا هي أن نستقبل.. ما يعول عليه وما لا جدوى منه، ما له معنى وما لا معنى له.. نزدان بالواردات، لا نزدريها.. نضفي عليها قيمة إن كانت بلا قيمة.. ألم نكن نحن العرب من ابتدع القيمة المضافة؟ أليست هذه هوية؟
لكي نفهم هذه الوضعية علينا أولا أن نبحث في هوية الهوية.
 مريم: انحسر الربيع العربي بأسرع مما توقعنا ليحل بعده خريف طويل.. هل أضاع العرب فرصة تاريخية للتغير أم أنها كانت مجرّد «هوجة» وانتهت؟
الساعدي: أنت تعلمين أن ما حدث لم يكن ربيعاً كما أنه لم يكن عربياً.. عبارة «الربيع العربي» هي من منتجات فريق عمل من طلبة ماجستير في جامعة كاسل في وسط المانيا.. أي أنها ليست تعبيراً عربياً أو صهيونياً.. إنما هو اختيار ورشة عمل في عام 2009. أما انه انحسر وحل بعده خريف شرس.. فذلك لم يحدث.. أولاً وعلى افتراض أنه ربيع فانه لم ينحسر تماماً، كما قد نتوهم، و ثانياً أن من تولى بعده ليس خريفاً بل ضربات ترج العقل العربي رجّاً.. إن ما حدث ليس مجرد نكبة بل هو كارثة كانت متوقعة ومستحقة وإن عواقبها (ما تسمينه أنت خريفاً) هو أن العقل صار يشك في رجاحة عقله، وتلك عملية إنعاش كانت ذات ضرورة ماسة.. نحن محظوظون إذ اكتشفنا أننا بلهاء.
لا أعرف عربياً لم يدفع شخصياً ثمن هذا الربيع، حتى من توهم أنه قد ربح منه، فالزبد يذهب جفاء. هذا عن الربيع.. أما عن الخريف الراهن فانه ليس من المتوقع أن يستفيد من جلداته كل عربي.. هذا الخريف ليس فقط عقوبة ميكانيكية.. من زرع حصد.. بل هو عملية تصنيع عقل آخر يمكن له أن يعقل بعض الأشياء.. أي أن يتحول الفرد العربي من ضفدع إلى طفل بشر مصاب بالمنغولية.. وهذا تحور كبير.. إنها معركة كانت واجبة.
لقد عاشت الأقوام العروبية في القديم نكبات كانت مماثلة.. كنا نقرأ عنها ونتوجع من ذكراها.. ما يؤلمنا هذه المرة هو فقط إننا نحن شخوص المأساة. أعرف، أعرف أنك ستقولين أن الخسائر هذه المرة كانت فادحة.. ذلك فقط لأنك لم تذوقي من الويلات ما ذاقه إسلافك آنذاك من ملاحم الدم والسيف والنار ومن وطأة الانهيار.
أعرف، أعرف أننا نحن العرب قد صرنا اليوم مجرد ديدان. لكنها ليست الكارثة الأولى ولا هي الفاجعة الأخيرة. وكما في كل نازلة.. ستكون بين النكبتين أعمال جارية. سوف نظل نمارس التفسير والتفاخر والترميم.. هكذا.. كلنا. سنظل نمارس التبرير والتكاثر والتعميم.. كلنا أو جلنا. سنظل نمارس الشعر.. ونعشق الترنيم.. سوف نبقى هنا.
مريم: لديك تحليل مختلف للنظام الجماهيري، لنتحدث عن ذلك سياسياً (بدلالة أربعة عقود من حكم معمر القذافي)، وفكرياً (بدلالة الأطروحات والمقولات التي تم العبث بها في جدل النظرية والتطبيق)!
الساعدي: في عام 1967 كنت أعمل في مطار بنغازي، أواصل دراستي الثانوية في المدرسة المسائية، وكنت ذات ليلة في الفصل اشتم الانجليز بعد الهزيمة النكراء وأشكو من فقر الناس مع وفرة البترول، في الاستراحة اقترب مني ثلاثة في الممر وطلبوا مني أن ادخل الكلية العسكرية وأنهم مكلفون بتبليغي أنني ينبغي أن أشارك في انقلاب على ملك لا أطيقه، قلت لهم أنني سأظل مدنياً ولا أصلح أن أكون عسكرياً ما حييت.. تركوني ولم يعودوا.. كان اسمي عبدالله المغربي.
في الثمانينات حاول القذافي إلغاء النسب القبلي فتغير اسمي عند الدولة إلى اسم جدي.. صرت عبدالله الساعدي.. وبعدئذ كان كلما أوردت التقارير الأمنية اسمي أمام القذافي كان يصحح لهم: «بل: عبدالله المغربي».. كان موسى كوسة قد أنعم علي بوسام (عليه قيد أمني) وهذا الوسام كان يعني في عهد القذافي أن حامله لا يموت و لا يحيا.
أنا من الخوارج.. خرجت على ابن أبي طالب لأنني أعرف قدره وأعرف ما يستحق.. ولو أنني كنت أجهل من هو الإمام علي… لكنت اليوم أنوح عليه وأجلد ظهري أربعين يوماً في السنة.. إن النواح على علي اليوم هو تماما كالهتاف له يوم أمس.. ما راق لي ما قرره علي.. لأنه كان ضد ثقافة علي.
هذه هي علاقتي بالقذافي.. أرفضه لأنني أجدر الناس بأن أفهمه.. خرجت عليه ثقافياً.. لأنني مقتنع به ثقافياً بحيث أن اقتناعي به كان أقوى كما يبدو اليوم من اقتناعه هو بما كان يدعو إليه.
رفضته، لأنني من أنصاره.. لست من أنصار شخصه، ولكني من أنصار روحيته ورؤيته ورسالته.. لست ممن صفقوا له وهتفوا حتى وقعوا مغشياً عليهم.. ولست بالتالي اليوم ممن يبكون عليه ينوحون نادمين متحسرين.
في مارس 2011 كان القذافي في اجتماع طارئ مع من تبقى له من عملائه، وكان يعاتبهم وكان مما عنّفهم به: «كيف يقوم كل هذا في بنغازي، وفيها عبدالله المغربي؟»، لكن ذلك المغربي أو الساعدي كان منذ حادثة سجن بوسليم عام 1996 قد تم إفراده إفراد البعير المعبّدِ.. لم يكن يطاع لقصير أمر.
لقد تحالف «أنصار» القذفي مع ألد أعدائه.. مع أوباش.. عاملين يومياً على إقصائي.
إن معمرا القذافي بالنسبة لي هو حالة روحية.. إنه ليس حالة سياسية.. كان أنصاره يحبونه.. أما أنا فقد كنت أفهمه.. وكان نفساً في حاجة إلى أن تحبها لا أن تفهمها.. لم أكن أنا أحبه ولم أكن اكرهه.. كنت مشغولاً منذ عام 1983 بأن أدرسه.. صار بيني وبين نفسي مجال تخصصي.. كنت أبحث في المكتبات مجتهداً لكي أعرفه.. على حقيقته.. درست علم الطباع في عشرين كتاباً أوربياً لكي أعرف طبعه.. بعد كل خطاب يلقيه كنت أقوم علمياً أكاديمياً بتحليل الخطاب.. كنت أيضاً أستعين بفرويد ويونج.
لم يكن هدفي أن يقربني أو أن يقتلني، بل كان هدفي فقط أن أفهمه كما لا يمكن أن يفهمه أحد غيري.. كان هذا المسعى غاية في حد ذاته.
لم أكن وحدي في هذه الجدية.. بل كان هناك ما يزيد على عشرين صعلوكاً مثلي أو يزيد، ولم يصلوا الثلاثين يوماً.. وما كان أحد من هؤلاء المعتزلة في ليبيا قد وصل إلى درجة التفاني في الدروس التي أرهقتني.. كنا ندّعي المجون.. نمثله تمثيلاً.. كان منهم منعم وضو وسالم وحسن وفرج وبلقاسم.. كان عملاء القذافي الهاتفون المهللون المصفقون يسموننا «الديناصورات المنقرضة». قال لهم تجار مصراتة أننا قلة قريباً من ليبيا ستنقرض… ما انقرضنا نحن ولا انقرض في ليبيا طبع الربا.. وإلى اليوم ما غلبونا ولا غلبناهم.. لكنهم اليوم في أمرهم حائرون بينما نحن لسنا حائرين في أمرنا.
لم يستولي القذافي على السلطة ولم يصبح ديكتاتوراً لكي يجلي القواعد البريطانية عن ليبيا، ولم يقم بإسقاط الملك لكي يؤمم البترول، بل قام القذافي في ليبيا بشن حرب على القمل… قامت الثورة في ليبيا لكي يكافح هذا القذافي القمل والبق والبراغيث.. كانت ثورة ضد الجدري والتراكوما والدسنتاريا والكساح والكوليرا.. لم يقم القذافي بهدم الأكواخ لكي يبني للناس أبراج دبي ولكن لكي ينقذهم من مرض السل.. كان ثرثاراً يحب الكلام لكي يخلص الناس من البلاهة التي صارت مزمنة.
إن من عوائقنا أن نعتبر الديكتاتور ترجمةً هو: الطاغية. الديكتاتور إنما هو الذي يأمر.. هو الآمر الحازم.. ليس إلا. أما الطغيان فإن المجموعة أقدر عملياً من الفرد الواحد على ممارسته. الجماعة أوفر خططاً للتركيع والإذلال من نفر واحد.
مشكلة القذافي انه أراد أن يكون ديكتاتوراً، لكن سيكولوجيته لم تمكنه من أن يصبح ديكتاتوراً ضد القمل بما يكفي لإبادة كل القمل.. ولو أنه كان حازماً حاسماً كيفما أردت أنا له، ولو نفّذ كل ما كان يتطلع إليه بكل عزم وإصرار كما شئت أنا، لكانت ليبيا اليوم هي أقوى ديكتاتورية في الوطن العربي كله.. ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً.. ولصار الشعب الليبي أعلى الشعوب العربية وعياً ورفاهاً و قيمةً…غير إن القذافي من فرط بداوته قد وصل حتى إلى أن يجعل من القمل ساعديه الأيمن والأيسر.. لقد جنا القمل على القذافي نفسه قبل أن يتفرغ لنا ويجني علينا، ينكل بنا كما ترون اليوم.. شعب بأكمله يهرش ويحك جلده آناء الليل وإطراف النهار… إن رحمة هذا الطاغية بنا أربعين سنة وتردده.. يرانا كأننا والده.. يحبنا و يخشنا.. يقول ولا يفعل ثم يفعل من فرط الحب غير ما يقول.. هذه الرحمة هي التي جعلتنا بسببه نمر بالصبا ثم الكهولة فنكبر وقد تربينا حتى أصبحنا مشهورين بأننا الشعب الذي أبهر العالم بالبلاهة.
عاش القذافي ومات فقيراً والفقراء بسبب حبهم لأولادهم يدللونهم.. على العكس من المرابين والأثرياء.. الفقراء لا يتقنون تربية أولادهم، يعوضونهم عن الرفاهية والمال بالحب والدلال، انه ليس تفسيراً ساذجاً ولا سطحياً لهذا الحال بل هو ما تفسره البيئة لا الكتب.
لم يكن القذافي زعيماً جيداً.. كان زعيماً جميلاً. كان أديباً مؤهلاً أن يكون مفكراً أو شاعراً لا أن يكون رئيساً. إنه رجل حقاً موسوعة..إنه قارئ منتبه إلى ما يقرأ، وليس سياسياً ماكراً. لم يكن سياسياً بارعاً بما يكفي لأن السياسة تعني الدناءة أيضاً. لقد راعى القذافي ما يسمى «مستوى الوعي» عند العامة وبذلك فقد تم إيذاء العامة والخاصة.
أن تكون ديكتاتوراً جيداً فذلك يعني أن تكون ديكتاتوراً لا يتفهم، أما إذا تفهمت وراعيت فأنت ديكتاتور رديء..
لقد كان القذافي طاغية لم يعرف كيف يصبح كذلك عملياً.. لا يستطيع بدوي تائه يبحث عن ناقة في ميدان الشهداء أن يصبح طاغية حتى لو شاء لأنه يظل مشغولاً بأمرين: التيه، والناقة.. لا يستطيع عبدالله الساعدي وهو يسمع ذكرى محمد فيبكي من حلاوة ما تغنيه من كلمات عذاب أن يصبح ديكتاتوراً.
ليست مشكلتنا في ليبيا أن يصبح الليبي ديمقراطياً، بل إن مشكلته هي أنه لا يستطيع أن يكون أميراً.. لا يمكن لأحد أن يتطلع إلى كرسي الأمير وسط شعب انكشاري لا يرضى فيه أحد بغير كرسي السلطان. هذه هي التعاسة الليبية.. هذا هو سر بلاهتنا.
مريم: أنت من المفكرين والأدباء غير الحريصين على إصدار مؤلفاتهم. هل تكتفي فقط بأن تقول كلمتك وتمضي، دون أن تهتم بجميع شتات كتاباتك وآرائك في مصنّفات بعينها؟
الساعدي: إنني في حياتي الشخصية رجل مهمل غير منظم.. أقوم مرتين في الأسبوع لساعة بإعادة التنظيم لكن الفوضى سرعان ما تظهر من جديد.. هذا هو حال مالي وكتبي وملابسي.. وهكذا هي داري.. اهتم بالنظافة أكثر من اهتمامي بالنظام.
كتبي تحالفت ضدها نفسي مع الإدارة… كتاب تأخر نشره 8 سنوات مع أن العقد ينص على نشره في نفس سنة التعاقد، وكتاب قالوا أنه ضاع أثناء طباعته في بيروت، وكتاب (هو رواية) قالوا أن المراجع اللغوي أضاع نسخته التي لا يملكون غيرها.. مع أنني راجعت بنفسي النسخة التجريبية لغوياً ولا حاجة لهم بمراجع ثان.

كل ما في الأمر أن «القيد الأمني» كان هو المنتصر، وكان هو السبب في تلكوء الإدارة التي كانت تحتكر النشر في ليبيا آنذاك.. ولو كنت أنا حريصاً من جهتي لذهبت بمخطوطاتي ونشرتها خارج ليبيا.. لكنني كنت أنتظر أن تظهرها دار النشر في ليبيا كما لو أنني كنت أستلذ هذا الؤأد.
أنا من محبي القراءة والكتابة لكنني معاق بسبب مفهومين: الراهنية.. والأصولية. الراهنية هي تورية عن التخلف الثقافي والتخلف العقلي وتورية عن الرجعية. هذا سيأتي شرحه وطرحه ذات يوم.
والأصولية هي تورية تخفي الارتكاس والانكفاء وتخفي المصادر التوراتية. وهذا سأفضحه أيضاً وأفسره للناس في مقام قريب.
هذه المخادعات قتلتني القتل العمد… هذا هو السبب في أنني أبدو كما لو أنني كاتب لم يكتب شيئاً.

نقلا عن مجلة أطلس