محمد المختار ولد ابّاه الموريتاني الجنسية المغربي الهوى كما عرفته

تناهى إلى مسمعي بكثير من الكرب والأسى نبأ وفاة المشمول بكرم الله محمد المختار ولد ابّاه. وحتى وإن كان القلب يعجز عن البوح بما يعتصر دواخله من كمد وحزن، واليراع يخفق في كتابة ما تمليه عليه عواطف مكلومة، لا حد لجرحها ولا نهاية، فقد أبيت إلا أن أتحدى ذلك لأكتب ما يلي:

عن قصد كتبت اسم الفقيد مجردا عن كل وصف سامق أو وسم جميل شامخ، فاسمه يختزل كل ما نضفيه على العظماء من ألقاب، ويستحق أن يعرف بما يعرف به الفقهاء الوكالة، فهي التي إذا طالت قصرت وإذا قصرت طالت.

وأنا في ريعان شبابي مع والدي وثلة من وجهاء ومشايخ الأسرة بصحبة الفقيد، كنت كثيرا ما أجالسهم وأصيخ السمع إلى ما يكون موضوعا لنقاشاتهم الثرية. وبقيت على تلك الحال كلما سنحت لي الظروف بمنزلي أو بمنزل أحد الأكابر مشاركا ومناقشا، إلى أن دعا داعي البين والفراق، بانتقال بعضهم إلى الرفيق الأعلى، وكان آخر من غادرنا فقيدنا المرحوم بكرم الله وعفوه.

أتذكر جيدا وأنا أتلمس خطواتي الأولى على درب المعرفة، ابتسامته وطيبته وسمو أخلاقه، وعدم ترفعه عن مناقشتنا والجواب عن أسئلتنا، مهما كانت هذه الأسئلة. خصال بقيت مع الرجل كامنة في دواخله إلى ما قبل وفاته بأشهر قليلة حيث كان لي لقاء معه بالرباط. وأتذكر جيدا أن من بين المواضيع التي خضتها معه قضية الشاب الشاطر وحقيقة ما قيل عنه، لم يكتف الرجل بذلك ولكنه أسر لي برأيه الخاص حول تلك الشخصية الأسطورية.

لن أترك العنان للعاطفة الجياشة أن تملي على يراعي المضطرب كتابة ما لا حصر له ولا نهاية عن الفقيد، وسأكتفي بالقول إنني ما جالسته إلا ووجدته أكثر إعجابا وأشد حنينا إلى مرابع “بوتِليمِيتْ” وما حولها، ومزارع “الرْكيزْ” وما بها، أما “أطاَرْ”، و”سان لوي” وصباحاتهما ومساءاتهما، فالحديث لا يستلذ دون ذكرهما.

وكل ذلك لا يحلو الكلام فيه، ولا يستطيب الخوض في مناحيه دون أن يعرج الفقيد على “شنقيط”، تلك الحاضرة التي تحمل – كما يقول- في فكره، رموز ثقافة عشيرته العلوية، وسمعة وطنه العلمية.

أما مدينة “تِجَكْجَه”، فلقد كانت لها في ذاكرة الفقيد ووجدانه، مكانة لا تجاريها مرتبة أخرى، وكيف لا وهي كما يقول عنها، مدينة علوية استنسخت من شنقيط في وقت قريب من التاريخ الذي نزح فيه أجداده منها، وهي التي بمرابعها الأم الحنون، التي كانت له الأب الرحيم والأم العطوف. كثيرا ما كان يحدثنا عن مكانة الأهل والعشيرة عنده، وعن علاقاته مع آل الشيخ محمد فاضل وما يربطه بآل الشيخ ماءالعينين هنا بالمغرب:
ملأ علي جدك الشيخ محمد الإمام – والكلام للفقيد – فراغا كبيرا أحسست به وأنا في المغرب، انبهرت بشخصيته منذ الوهلة الأولى التي صادفته فيها بالرباط. كان ذلك حين قمت بزيارته صحبة الإخوة الذين التحقوا معي بالمغرب، يسترسل الفقيد في القول: كانت شخصية جدك جذابة، تذكرني أحاديثه العذبة، وحلاوة طبعه، بأدباء جنوب موريتانيا.
بهرني بمكانته العلمية، والفكرية والأدبية واللغوية…وما وقفت أمامه مشدوها ومستغربا، هي خبرته الفائقة بالبلد، عامة، وجهة الترارزة وحاضرة شنقيط خاصة، وبما يعرفه عن قبيلتي وأسرتي، شعرا وفقها وعلما ولغة، حتى أنه ذكرني بما كنت قد نسيته، وقلت له متسائلا، وأنا على يقين من أن الشيخ أقام ردحا من الزمان في مرابعنا:

أيها الشيخ كم مدة مكثت في أرض “إيكيدي” ومتى عهدكم بالخيام؟
قال والابتسامة لم تفارق محياه، إنني لم أر قط ما بعد حمراء السواقي، وهو يشير هنا إلى قول الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا، حين بلغ إلى الساقية الحمراء من غير أن يحج:

أحمراءُ السواقي ما ورائي الآن غربت أيها الانتشائي
لم يطمس ذاكرته الوقادة، ولا أنساه مضارب قومه، رباطُ الفتح ومآثره التاريخية ومعالم حضارته الضاربة في أعماق التاريخ، لا ولا عاصمة الأنوار، وحضارة الغرب ورفاهية مدنه العالمية التي لا تعد ولا تحصى، ولا أغراه منصب ولا جاه ولا مال. الوطن بالنسبة له هو الهواء الذي يستنشقه صافيا، والماء الذي يشربه عذبا زلالا والغذاء الذي يمنحه صحة وعافية.

قرأت كتابه الأخير “رحلتي مع الحياة ” فوجدتني قرأت بعض فصوله واستمتعت بها قبل أن يخطه يراعه الذهبي، من شدة ما سجلته ذاكرتي عما كان يُحدِّث به والدي الشيخ سيد المصطفى وثلة من أبناء عمومته.

وما أصبح يحدثني به بعد ذلك كلما قدر لي مجالستهم في أوقات المرح والصفاء، وأوقاتهم كلها كذلك تكسوها الحميمية والإخاء والمودة بعد أن يطيب لهم إنشاد بعض مما جادت به قرائح شعرائهم وغيرهم.

ويعوج على النوادي “الأندريٍة” بكثير فخر واعتزاز، يتذكر الفقيد نوادر الملك همَّام وما علق بذاكرته الوثابة من جلسات علمية ولقاءات أدبية ومساجلات شعرية ونقاشات فكرية ولغوية ودينية فيشفي الغليل في ذلك وغيره.

من مزاحه معي ما قاله لي ذات مساء وهو ضيف شرف على مائدتي، مع ثلة من الأدباء والشعراء والمفكرين، نجول في عوالم الأدب وننشد من بدائع الشعر فصيحه وعاميه، طارفه وتليده، ما يصبح معه القوم سكارى حتى الثمالة، يا ابن بنتنا – وهذا ما كان يناديني به- أ ليس لك مع القريض قرابة حتى ننازع أهلك فيك، ونفتخر ونفاخر بك شعراءهم؟

قلت، أما القريض فلا ولكن لك ذلك خالي العزيز في النثر، قلت ذلك على سبيل الهزل لا غير. ابتسم ولم يعلق وكذلك من حضر من القوم. بعدها بأشهر أخبرني أنه قرأ لي أحد إصداراتي وأردف مبتسما، لنا الفخر في أن نبزهم بك نثرا.

ليالي من الأنس كثيرة، كانت تجمعنا مع الفقيد، نحن ثلة من أبناء الشيخ ماءالعينين، كل طرف يرى في الآخر مبتغاه ومراده، وضالته المنشودة.

فما إن يعسعس ليلنا أو يكاد، حتى تتراقص أمامنا أمهات القصائد العصماء، ويتساوق جاهليها مع ما قيل في صدر الاسلام، ويتناسق أمويها وعباسيها وأندلسيها، ويكون لشعر القبيلتين هنا وهناك الحظ، الأَعْودُ والَّنصيبُ الأْجزَلُ، وكأنني بالفريقين في سجال خفي وغير معلن لا يدرك عمقه ومغزاه إلاَّ من له دراية بشعر القبيلتين وعطائهما، وهما اللتان خلفتا لنا من القريض أجوده سبكا وأعذبه قولا وأجدره حسنا، وأنداه إبداعا، تلك الثروة الشعرية، التي تجري على لسان منشديها، كما يجري فرس الرهان. ونحط عصا التسيار عند بقية حدائق موريتانيا الغناء وبساتينها المثمرة
الفيحاء.وبها يطيب لنا المقام ويحلو
حسو المدام .وكيف أن نبتغي عن غير ذلك سبيلا. وقبل أن يتنفس صبحنا، نضرب موعدا في منزل آخر، هذا إذا سمحت لنا الظروف بذلك.

يعجبني في الفقيد إخلاصه ووفاءه لدراعته ولثامه وهو في موريتانيا، ولجلبابه وسلهامه وهو في المغرب. وفي تلك الإشارة، الكثير مما يسيل معه مداد الأقلام ويسود بياض الأوراق من معاني الوفاء والإخلاص.
فراق صعب وتنائي بين هذه الدار وتلك، لا يعلم وطأته على النفس والوجدان إلا من فرض رجوع كل نفس مطمئنة راضية مرضية إلى ربها.

هُوَ المَوتُ عَضبٌ لا تَخونُ مَضارِبُه وَحَوضٌ زُعاقٌ كُلُّ مَن عاشَ شارِبُه
خلف لنا الراحل ثروة فكرية وأدبية وعلمية، لا تقدر بثمن ولعل أجمل وأرق ما تركه في ديوان حياته الحافل بالمجد والخلود، تلك القصيدة العصماء التي ما رأيناه جالسا إلا وهو يترنم بأبياتها الرائعة والرائقة. إنه حب الوطن والإخلاص للهوى، موريتانيا بلد المنشأ والأصل والجذور، والمغرب الذي عشقه وهام به كلفا. فذاك هو العشق الأبدي السرمدي للمنبع والمحتد الذي لا يؤلف سواه ولا يُتوله بغيره، وهذا هو الشغف الأزلي بأرض تهيمه حبها واكتوى بلظى عشقها.

فرحم الله الموريتاني الجنسية، المغربي الهوى، محمد المختار ولد باه وسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا وعزاؤنا الحار إلى شعب موريتانيا العزيز وجهته وقبيلته التي تجمعني بها خؤوله أتباهى بها مدى الدهر والأحقاب وإلى أسرته الفاضلة، في شخص ولديه الأماجد، السيد احمد عبد الله والدكتور احمد سعيد، وإنا لله وإنا إليه راجعون

كتب : ماء العينين ماء العينين
كاتب وروائي