ينظر صُناع السياسات الأوربيون على نحو متزايد إلى إقليم فزان، وهو الإقليم الشاسع الذي يقطنه عدد قليل ومتناثر من السكان في الجنوب الغربي من البلاد، بوصفه أحد حدود أوروبا في مواجهة المهاجرين واللاجئين من أفريقيا جنوب الصحراء الذين يقطعون الجزء الأوسط من حوض المتوسط في طريقهم إلى أوروبا. في العام 2016، سلك هذا الممر أكثر من 160,000 شخص من ليبيا على قوارب صغيرة؛ وكان معظمهم قد دخل من خلال هذه المنطقة، التي تربط الحدود الجنوبية للبلاد بساحلها. يأمل عدد من البلدان الأوروبية، وإيطاليا بشكل أساسي، بأن يساعد تحقيق الاستقرار في فزان وإعادة إحياء اقتصاده على وضع حد لتدفقات اللاجئين هذه. للفكرة جوانبها الإيجابية، إلا أن هذه لن تكون بالمهمة السهلة ولا يمكن أن تنجح دون أن تتم أيضاً معالجة الأزمات الأوسع التي تحدق بالبلاد. ينبغي لكل جهد أوروبي لمعالجة مسألة الحوكمة، والمشاكل الاقتصادية والأمنية في فزان أن يتم تنسيقه مع الحكومة المعترف بها دولياً وأن يرتبط بالمبادرات الوطنية لمعالجة القضايا التي تعاني منها البلاد بمجملها.
يقع إقليم فزان على مفترق طرق إقليمي، حيث يربط جنوب ليبيا بمنطقة الساحل وبطرق المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء إلى شمال ليبيا ومن ثم إلى أوروبا.
يعاني إقليم فزان من مشاكل متعددة، معظمها ليس من صنعه. يعاني الاقتصاد القانوني للإقليم من الركود، لكن المؤسسات الاقتصادية والمالية الوطنية التي يمكن أن تساعد في إنعاشه مشلولة إلى حد بعيد. على النقيض من ذلك، فإن الاقتصاد غير القانوني يزدهر. يقع إقليم فزان على مفترق طرق إقليمي، حيث يربط جنوب ليبيا بمنطقة الساحل وبطرق المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء إلى شمال ليبيا ومن ثم إلى أوروبا.
في حين أن الإقليم غني بالموارد الطبيعية، فإنه يعاني من غياب سلطة مركزية قادرة على فرض النظام؛ كما أن حوافز التهريب من جميع الأشكال – الأشخاص، والنفط، والذهب، والأسلحة، والمخدرات – تتفوق بكثير على حوافز كسب المال من خلال الوسائل القانونية. وقد جرى استغلال التوترات الإثنية والقبلية، التي فاقم منها الفراغ السياسي والمنافسة الاقتصادية بين الفصائل المتناحرة المتنافسة على السيطرة على البلاد. كما تدخلت قوى خارجية – قوى إقليمية، ومرتزقة أجانب وتنظيمات جهادية عابرة للدول – وانضمت إلى الصراعات المحلية أو استخدمت الجنوب كمنطقة للعبور. سيكون تحقيق الاستقرار في فزان صعباً وسط مثل هذه العاصفة، لكن الإقليم أُهمل لفترة أطول مما ينبغي، ما عاد بالضرر البالغ على سكانه وجيرانه وأوروبا على حد سواء.
وقد يشكل القتال الجاري حالياً بين التحالفات العسكرية المتنافسة أكبر التحديات. المجلس الرئاسي المدعوم من الأمم المتحدة وحكومته، حكومة الوفاق الوطني، التي يرأسها رئيس الوزراء فايز السراج في طرابلس، لا تتمتع بمكانة تذكر وليس لها سوى حلفاء قلائل في فزان. على النقيض من ذلك، فإن الفصائل المتحالفة مع الجيش الوطني الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر والحكومة الشرقية التي تتخذ من البيضاء مقراً لها تتمتع بنفوذ أكبر، وكذلك الفصائل التي تعارض حفتر والسراج على حد سواء. لقد ازدادت حدة القتال المميت بين هذه القوى المختلفة منذ مطلع العام 2017، ويبدو أن الدعم العسكري الأجنبي السري لها سيزداد. وقد سرّع من امتداد هذه الخصومات الوطنية إلى الجنوب التوترات الواقعة بين القبائل، التي قاتلت في خمسة حروب محلية متتالية منذ العام 2011. رغم اتفاقات وقف إطلاق النار، فإن مخاطر حدوث المزيد من التصعيد تبقى مرتفعة، جزئياً بسبب عدم تقديم التعويضات المادية التي وُعد بها خلال المفاوضات السابقة، وأيضاً بسبب التأخير في تنفيذ خطط إعادة الإعمار.
يشكل تحقيق الاستقرار في فزان حاجة ملحة، وليس لضبط وتقييد الهجرة وحسب. دون معالجة قضايا الحوكمة، والقضايا الاقتصادية والأمنية في الجنوب، فإن عودة الأوضاع السياسية والعسكرية الأوسع إلى طبيعتها ستكون مستحيلة. وفي حين أن هذا يتطلب استثمارات بعيدة المدى، فإن بوسع السلطات الليبية والحكومات الأوروبية اتخاذ خطوات فورية لتحسين العلاقات بين القبائل الجنوبية وتحسين الأحوال المعيشية – وهي إجراءات من شأنها، بمرور الوقت، أن تقلص الحوافز الدافعة إلى تهريب الأشخاص. على سبيل المثال، يمكن للمانحين الأجانب العمل مع الحكومة الليبية المعترف بها لإحياء المشاريع الزراعية في الجنوب التي تداعت وانهارت. كما أن لشركات النفط العاملة في فزان وللمؤسسة الوطنية للنفط نصيبها من المسؤولية؛ إذ ينبغي أن تسعى إلى زيادة التوظيف على المستوى المحلي وتعزيز الاستثمار في مشاريع التنمية الاجتماعية المحلية.
ثمة حاجة لحوار أكثر شمولاً يركز على القضايا الأمنية
لقد شملت الجهود الرامية إلى جمع ممثلين عن مختلف المجتمعات المحلية حول طاولة المفاوضات حتى الآن بشكل رئيسي الزعماء القبليين ونشطاء المجتمع المدني. هذا لا يكفي. ينبغي أن تشمل المحادثات القادة العسكريين وقادة المجموعات المسلحة المحلية كخطوة أولى نحو حوار أمني على مستوى البلاد. كما في أماكن أخرى في ليبيا، فإن المسألة المتعلقة بكيفية بناء قوات أمن وطنية حقيقية وتعيين العاملين فيها، من الجيش إلى الشرطة إلى حرس الحدود، تبقى مسألة مركزية.
قد تشعر بعض القوى الخارجية، خصوصاً بعض الدول الأوربية، بإغراء الالتفاف على مثل هذا الحوار بحثاً عن حل عسكري أسرع. لن يكون هذا خياراً حكيماً؛ حيث إن أي محاولة لفرض حل من خلال القوة العسكرية وحدها من المرجح أن يغذي المزيد من عدم الاستقرار. على وجه الخصوص، فإن تجنيد رجال محليين يتمتعون بالقوة أو عقد تحالفات مع ميليشيات محددة يخاطر بمفاقمة الصراعات القائمة أصلاً. علاوة على ذلك، فمن شبه المؤكد أن الأرباح الهائلة التي يتم الحصول عليها من السوق السوداء ستفوق أية مبالغ نقدية يمكن أن تدفعها الجهات الخارجية من أجل شراء الولاء.
أخيراً، فإن أياً من هذه الخطوات لن يكون له أثر دائم ما لم يتم التوصل إلى درجة أكبر من التوافق بين الجهات الدولية المعنية. داخل أوروبا، يتطلب هذا درجة أكبر من التعاون بين فرنسا وإيطاليا، الدولتان العضوان في الاتحاد الأوروبي اللتان تركزان، كل منهما لأسبابها الخاصة، على إقليم فزان. وعلى نحو مماثل، فإن الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة والبلدان الأخرى ينبغي أن تسعى إلى تخفيف حدة التوترات بين دول الخليج العربية أو على الأقل الحد من أثر هذه التوترات على ليبيا، في وقت تدعم فيه مصر والإمارات العربية المتحدة حفتر، بينما تقدم قطر وتركيا الدعم لخصومه.
على وجه الإجمال، ينبغي على جيران ليبيا، والقادة الإقليميين الأبعد والقوى الدولية أن تبذل جهوداً أكبر للتوافق على مجموعة مشتركة من المبادئ لمعالجة عملية سلام ليبية تزداد تشتتاً، بدلاً من منح الأولوية لمصالحهم المباشرة الضيقة. في فزان، كما في مناطق أخرى من ليبيا، سيساعد هذا على الأقل على تجنب مفاقمة وضع سيء أصلاً وتقديم مبادئ عامة توجيهية لاستعادة شكل من أشكال الدولة – وهو هدف ينبغي أن يعتبره الجميع في المحصلة في مصلحة البلاد وأيضاً في مصلحة المنطقة.
I.مقدمة
لقد أصبح جنوب غرب ليبيا، وهو إقليم يعرف باسم فزان، محور تركيز صُناع السياسات المتلهفين لوضع حد لتدفق المهاجرين إلى أوروبا. أكثر من 160,000 مهاجر ولاجئ، بشكل أساسي من أفريقيا جنوب الصحراء، غادروا ليبيا ووصلوا إلى إيطاليا في العام 2016، وهو رقم يتوقع أن يرتفع بنسبة 20% في العام 2017. معظم هؤلاء يدخلون ليبيا عبر حدودها الجنوبية ومن ثم يستخدمون شبكات التهريب المحلية للوصول إلى الساحل، حيث ينتقلون على متن قوارب صغيرة وقديمة إلى أوروبا. بعد محاولات غير ناجحة لاعتراض هذه القوارب وهي تعبر المتوسط، يسعى صناع السياسات الأوروبيون الآن إلى التدخل مباشرة في فزان من خلال برامج الاستثمار الاقتصادي والتعاون الأمني مع القوى المحلية.
هذه المقاربة مهمة لكنها لا تقل صعوبة؛ ففزان، التي تعاني من عدم استقرار مزمن، منطقة مجهولة المعالم بالنسبة للذين يعيشون خارجها، باستثناء قلة قليلة من الأشخاص. لقد ركز مسؤولو الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي معظم مواردهم واهتمامهم على الصراع الوطني الليبي أو على التطورات السياسية والعسكرية في شمال غرب البلاد وشرقها. ودون فهم واضح لفزان، فإن من شبه المؤكد أن محاولات التدخل هناك ستبوء بالفشل. يشكل هذا التقرير، الذي يدرس النزاعات القبلية والإثنية، والصراعات الجارية والمصاعب الاقتصادية في فزان، مساهمة في هذا الجهد. يستند التقرير إلى العمل الميداني في جنوب غرب ليبيا في آذار/مارس ونيسان/أبريل 2017.
II.فزان
لقد كان جنوب غرب ليبيا تاريخياً منطقة للعبور بين أفريقيا جنوب الصحراء وساحل البحر المتوسط. ولا تزال التجارة عبر الحدود سمة بارزة اليوم، رغم أن التهريب تجاوز الآن التجارة القانونية مع تآكل الجزء الضئيل مما كان موجوداً سابقاً من سلطة الدولة. الإقليم، الذي ظل تحت سيطرة القوات الموالية للقذافي حتى وقت متأخر نسبياً، لم يشهد قدراً كبيراً من العنف خلال حرب العام 2011. بمرور الوقت، أسهم التنافس على طرق التهريب، والاستياء من الوصول غير المتساوي إلى حقوق المواطنة وسهولة الوصول إلى المخزونات الهائلة من الأسلحة التي تركت في مستودعات الأسلحة من حقبة القذافي في الفورات المفاجئة من القتال بين المجموعات المحلية. ولا يزال التنافس على المواقع الاستراتيجية والثروات في الإقليم يغذي الصراع.
A.الجغرافيا
إقليم فزان في معظمه صحراء تتخللها مجموعة صغيرة من الوديان المزروعة والواحات الصغيرة المتناثرة وسط كيلومترات من الرمال. المنطقة غنية بالنفط الخام، وتوفر نحو 400,000 برميل يومياً، أو ربع إنتاج ليبيا، وغنية أيضاً بالغاز الطبيعي. منذ العام 2014، والمنقبون الحرفيون يستخرجون الذهب في المنطقة دون إشراف أو رقابة الحكومة.
سبها، التي يقطنها 200,000 نسمة، هي العاصمة الإدارية للإقليم والمركز الرئيسي للاتجار. أما ما تبقى من السكان (نحو 300,000 نسمة) فيعيشون في البلدات الموجودة في الواحات. المدن في منطقة الجفرة (ودّان، وسوكنة وهون) تشكل المدخل الشمالي لفزان، وتربط الإقليم بسرت ومصراتة في شمال غرب ليبيا وراس لانوف والبريقة في الشمال الشرقي. إلى الجنوب قليلاً، تقع براك الشاطئ والوادي المتصل بها (وادي الشاطئ) على مفرق طرق مهم آخر يربط فزان بالجبال الواقعة إلى الجنوب من طرابلس. وقد تقاتلت الفصائل العسكرية المتنافسة منذ العام 2015 على السيطرة على منطقتي الجفرة وبراك، التي يجعل منها موقعها بوابة إلى جنوب ليبيا.
جنوب غرب سبها، ثمة سهل صخري يعرف بمساك يحاذي وادي الحياة، الذي يشكل أحد المناطق القليلة المزروعة في الإقليم. لقد أغلقت معظم الممرات التجارية في المنطقة إلى الجنوب الغربي منذ أغلقت السلطات الجزائرية حدودها في أعقاب هجوم كانون الثاني/يناير 2014 على مجمع غاز عين أميناس، الذي نفذه جهاديون عبروا الحدود من ليبيا. في كانون الثاني/يناير 2017، أغلقت السلطات التشادية أيضاً حدودها مع ليبيا لكنها سمحت منذ ذلك الحين بقدر محدود من التجارة بضغوط من سكان شمال تشاد.
على الجانب الليبي من الحدود قلة هم أولئك الذين لهم مصلحة في وقف المهربين – أو يجرؤون على فعل ذلك.
لا توجد قيود مماثلة على الحدود مع النيجر. وتظل هذه هي الحدود الأكثر نفوذية لليبيا، والتي تزخر بالتهريب والاتجار بالبشر. معظم المهاجرين يدخلون ليبيا من طريق صحراوي يصل ماداما في النيجر (حيث تتمركز القوات الفرنسية) إلى تومو (في ليبيا) إلى الويغ، وقطرون وسبها. التجارة بالمواد غير القانونية، مثل الأسلحة والمخدرات، تمر عبر ممر سلفادور، الذي يربط النيجر، والجزائر وليبيا. أحد السكان المحليين شرح قائلاً: “المخدرات وغيرها من المواد الممنوعة تمر عبر سلفادور، لكن ليس الاتجار بالبشر لأنه بالنسبة للمتجرين بالبشر من الأسهل العبور من أغاديز إلى ماداما [وكلاهما في النيجر] ومن ثم إلى تومو لأن قوات الأمن في النيجر لا توقفهم. لكنهم يوقفون تجار المخدرات“. على الجانب الليبي من الحدود قلة هم أولئك الذين لهم مصلحة في وقف المهربين – أو يجرؤون على فعل ذلك. ويعود السبب إما إلى أن قوات الأمن المحلية ضالعة في الاتجار بالبشر أو لأن المهربين يفوقونها تسليحاً.
B.البشر
يقطن فزان أقل من 10% من سكان ليبيا (نحو 500,000 نسمة)، إلا أن سكانها متنوعون إثنياً ومنقسمون سياسياً. هناك قبائل عربية: بعضها كبير وقوي، مثل أولاد سليمان (الموجودة أيضاً في النيجر) والقذاذفة (الغنية، والتي كانت تتمتع بامتيازات سياسية في الماضي بصفتها قبيلة القذافي)؛ وبعضها أصغر، رغم أنها تتمتع بنفوذ فكري وديني، مثل الحضيري، وغيرها من القبائل التي تدعي أنها من نسل النبي محمد (أشراف).
كما أن هناك أقليات من مجموعات إثنية غير عربية، مثل التبو، والطوارق والفزازنة (الأهالي). التبو مجموعة إثنية تضم قبائل مختلفة موجودة في شمال تشاد، وأجزاء من النيجر وجنوب ليبيا. الطوارق تاريخياً شعب بدوي أمازيغي (بربر) يعيشون في المناطق الواقعة على جانبي الحدود في الصحراء الغربية من ليبيا إلى جنوب الجزائر ومالي. معظم الطوارق لديهم جنسية ليبية، لكن هناك نحو 20,000 أسرة وصلت إلى ليبيا في أواخر الثمانينيات. العديد منهم انضموا إلى قوات أمن القذافي، رغم أنهم لم يحصلوا على كامل حقوق المواطنة. الفزازنة مجتمع محلي معرّب بالكامل. كل هذه المجموعات الثلاث مسلمة سنية. منذ العام 2011، انتقل آلاف الأشخاص الآخرين من البلدان المجاورة إلى جنوب ليبيا (وفي كثير من الأحيان يزعمون أنهم ليبيين)، مما يضيف تعقيداً للمشهد الاجتماعي.
لقد تمكن الفزازنة وبعض القبائل الأصغر من البقاء على الحياد، جزئياً لأنها غير ضالعة في الاتجار عبر الحدود. لكن بين القبائل الأخرى، أسهمت الخلافات السياسية والتنافس على السيطرة على طرق التهريب في التوترات.
III.انتصار الاقتصاد غير المشروع
فزان غنية بالموارد الطبيعية، إذ تمتلك احتياطات هائلة من النفط الخام والغاز الطبيعي، وبعض فلزات الذهب وأحواض مياه جوفية كبيرة. لكن التهريب، الذي ازداد بدرجة هائلة منذ العام 2011، يهيمن على الاقتصاد المحلي. “التهريب هنا عمل ووظيفة، وليس جريمة“، على حد تعبير محاضر جامعي. الركود العميق في الاقتصاد الليبي، الذي تسبب في نقص السيولة، والتضخم الحاد والارتفاع الكبير في سعر الصرف في السوق السوداء، شجع النشاط غير المشروع، بما في ذلك في أوساط موظفي القطاع العام الذين يشكلون معظم القوى العاملة الرسمية سواء في فزان أو في ليبيا بشكل عام. ينتشر الاتجار بالأشخاص، والوقود والذهب على نطاق واسع وبشكل واضح تماماً، رغم أن المخدرات والأسلحة تمر أيضاً عبر المنطقة بشكل سري.
A.تهريب البشر
أغلبية المهاجرين غير الشرعيين يدخلون ليبيا من النيجر أو تشاد؛ وتعبر أعداد أصغر من الجزائر. وبصرف النظر عن كيفية دخولهم إلى البلاد، فإن معظم المهاجرين (على الأقل على مدى العام الماضي) يمرون عبر سبها. يولّد تهريب البشر عبر ليبيا عائدات سنوية تقدر بما بين 1-1.5 مليار دولار. تنقسم ممرات التهريب إلى أجزاء تسيطر عليها مجموعات مختلفة. التبو يسيطرون على الجزء الواقع إلى أقصى الجنوب، الذي يستخدمه العدد الأكبر من المهاجرين، من الحدود مع النيجر إلى سبها. ويسيطر الطوارق على الطريق الواصل بين الحدود الجزائرية وسبها. المرحلة الثانية من الرحلة، من سبها إلى الشويرف، يسيطر عليها مهربو المقارحة. ما بعد ذلك، تسيطر على الطرق قبائل أخرى.
صحفي من التبو شرح أن تهريب البشر يمكن أن يكون مربحاً للغاية ولا يتطلب سوى رأسمال محدود للانطلاق به:
إذا كنت شاباً ولا تملك شيئاً، يمكنك أن تعمل سائقاً وأن تحصل على نحو 1,000-1,500 دينار ليبي (125-190 دولار بسعر الصرف في السوق السوداء) مقابل كل رحلة من الحدود إلى سبها. تقوم بذلك مرة أسبوعياً، وها أنت ثري، خلال شهر تجني أكثر من 4,000 دينار ليبي (500 دولار)، وهو مبلغ يفوق بأربع مرات الراتب الشهري لرجل الشرطة. هذا ليس سيئاً. لكن بعد فترة، تريد أن تقوم بالاتجار بشكل مستقل وليس فقط كسائق. ذلك لأنك إذا كنت تملك سيارتك الخاصة وتقودها فإنك تحصل خلال رحلة واحدة على 30,000 دينار ليبي (3,750 دولار). آخذين بالاعتبار أن السيارة تكلفك نحو 80,000 دينار ليبي (10,000 دولار) ترى أن من السهل جداً أن تؤسس عملك الخاص وهذا يوفر لك عائداً سريعاً على استثماراتك.
إن الوعد بقبض النقود فوراً مغري جداً بحيث أن العديد من شباب التبو تخلوا عن دراستهم. المنظمات غير الحكومية من التبو تدق أجراس الإنذار منذ مدة حول الآثار بعيدة المدى:
أخشى أننا وصلنا إلى نقطة اللاعودة بالنسبة لشباب التبو؛ حيث إن العديد من طلاب المرحلة الثانوية يتعاطون المخدرات مثل الترامادول [وهو عقار أفيوني مسكن للألم شائع الاستعمال في أوساط رجال الميليشيات]، وهو رخيص. عدد قليل منهم يكمل دراسته في الجامعة. كثيرون سعداء بعملهم في تهريب البشر.
لأن هذه التجارة تولد مثل هذه الأرباح المرتفعة وتعيل عدداً كبيراً من الناس، فإن القبائل الضالعة فيها من غير المرجح أن تتخلى عنها، حتى لو قدمت لها مصادر بديلة للعمل.
B.تهريب الوقود
تهريب الوقود، الذي كان أيضاً أحد الدعامات الرئيسة لاقتصاد الجنوب في حقبة القذافي، توسع بشكل كبير جداً منذ العام 2011. على مستوى البلاد، يولد تهريب الوقود عائدات سنوية تقدر بنحو 2 مليار دولار. في حين لا تتوافر أرقام جهوية، من المنطقي تقدير أن حوالي خمس هذه المبيعات غير المشروعة تتم في الجنوب.
يحظى الوقود بدعم كبير في ليبيا، حيث يكلف الليتر 0.15 دينار ليبي – أي 0.12 دولار بسعر الصرف الرسمي، وأقل من 0.02 بسعر صرف السوق السوداء الذي يستخدم من قبل المهربين. وبما أن جيران ليبيا الجنوبيين يدفعون نحو دولار لليتر، فإن هناك أرباح كبيرة تجمع من تهريب وإعادة بيع الوقود. أصحاب محطات الوقود يسيطرون على هذه التجارة. طبقاً لأحد سكان سبها، فإنهم “يأخذون صهاريج مليئة بالوقود من الخزانات في سبها، لكن بدلاً من أخذها إلى محطة الوقود وتوزيعها على السكان، فإنهم يأخذونها مباشرة إلى ممرات التهريب“. كما أن هناك عمليات تهريب للوقود على نطاق أصغر، من خلال سيارات وشاحنات المسافرين.
C.تنقيب الحرفيين عن الذهب
لقد أصبح تنقيب الحرفيين عن الذهب صناعة مزدهرة منذ العام 2013 عندما اكتشفت فلزات في السهل الصخري في الصحراء الليبية المحاذية لتشاد. يصعب تحديد مواقع المستوطنات المؤقتة للتنقيب، لكن الضالعين في هذه التجارة قالوا إن مدينة مرزق هي المركز الرئيسي لهذه الصناعة غير الرسمية، حيث توفر الخدمات والسلع للمناطق الغنية بالذهب على طول الحدود مع تشاد والنيجر. يقدر بأن نحو 70% من سكان مرزق يعملون في هذا المجال (مباشرة أو في أدوار وتجارات داعمة). في فترة معينة، كان يتم استخراج نحو 15 كغ من الذهب (ما قيمته محلياً نحو 400,000 دولار) يومياً.
بشكل عام، يسيطر التبو (الليبيون والتشاديون) على هذه الصناعة لأنهم “أحضروا عمال سودانيين رخيصين، لديهم أصلاً خبرة في استخراج الذهب“. إن دخول تجارة الذهب يتطلب رأسمالاً أولياً، لكن مصادر في مرزق قالت إن ذلك متاح للتبو، الأشخاص الوحيدين القادرين على التنقل في الصحراء في هذه المنطقة. يشارك بعض الطوارق أيضاً في هذا، لكنهم بحاجة لشريك من التبو للعبور إلى المنطقة القريبة من الحدود بين النيجر وتشاد.
يجري التنقيب هناك تحت السيطرة الكاملة للمنقبين والمشرفين المحليين. لا تمارس الحكومة الليبية المعترف بها دولياً أي إشراف أو رقابة على منح الامتيازات، ولا تستمد من ذلك أية عائدات. ولم تحاول أي من حكومات ليبيا الثلاث أبداً منع التنقيب، رغم أن السلطات في تشاد، والنيجر والجزائر حاولت فعل ذلك في المناطق الغنية بالذهب في بلدانها.
D.تلاشي الاقتصاد المشروع
لقد كان للقتال المهلك في السنوات الأخيرة، والانهيار التدريجي لسلطة الحكومة وازدهار التهريب على نطاق شامل أثراً مدمراً على ما تبقى من الاقتصاد المشروع في الجنوب، الذي يقوم بشكل رئيسي على الزراعة والنفط.
1.الزراعة
تدهورت معظم المشاريع الزراعية التي تملكها الدولة جنوب سبها ووصلت إلى حالة بالغة السوء. حتى تلك الواقعة في الشمال أو الشرق باتت تنتج جزءاً صغيراً فقط من المحاصيل التي كانت تنتجها. حتى العام 2011، كان هناك آلاف الهكتارات من المزارع التي تملكها الدولة في فزان، تم تطويرها في ثمانينيات القرن العشرين بالتوازي مع مشروع النهر الصناعي العظيم الذي أطلقه القذافي. كانت هذه المزارع تستخدم المياه الجوفية العذبة وتقنيات ري مركزية أمريكية لزراعة الحبوب وتربية المواشي، كجزء من سياسة الحكومة في ضمان الاكتفاء الذاتي من الغذاء. بالنظر إليها من أعلى، بدت الأراضي المروية دوائر داكنة تماماً، كل واحدة منها بقطر 1 كم، وسط صحراء باللون الأصفر الكهرماني. أما اليوم فمعظم هذه الدوائر جافة.
المدير السابق لإحدى أكبر المزارع التي تملكها الدولة في منطقة أوباري، مشروع مكنوسة الزراعي، شرح قائلاً:
في العام 2010، كانت مكنوسة تولّد 30 مليون دينار ليبي [25 مليون حسب سعر الصرف الرسمي في العام 2010] سنوياً. حينذاك، كان لدينا 250 موظفاً؛ و120 دائرة من المحاصيل؛ و6,000 هكتار من الأراضي المزروعة؛ و15,000 رأس غنم؛ و500 بقرة و300 جمل. الآن – في العام 2017 – لدينا فقط 300 هكتار من الأراضي المزروعة و1,000 رأس غنم.
المزارع الأخرى في المنطقة في حالة أسوأ. الموظفون قالوا إن غياب الأمن كان المشكلة الرئيسية؛ إذ سرقت معظم المعدات، وكذلك مولدات الكهرباء التي كانت تستخدم للري خلال انقطاع الكهرباء. انعدام الأمن وأحداث العنف المتقطعة منعت الموظفين من العمل ليلاً. مشكلة أخرى تمثلت في توقف التمويل من طرابلس؛ حيث إن هذه المزارع التي تملكها الدولة تقع تحت الإشراف الإداري لوزارة الزراعة وتتطلب منتجات مدعومة من الدولة مثل الأسمدة، لكن الاختناقات في الموازنة أوقفت الأموال اللازمة. لقد تقدمت هيئة تنمية منطقة فزان بطلب للتمويل بقيمة أكثر من 400 مليون دينار ليبي (290 مليون دولار بسعر الصرف الرسمي، 50 مليون بسعر صرف السوق السوداء) من الحكومة المعترف بها دولياً لإعادة إطلاق المشاريع الزراعية في الجنوب. كثيرون يشكّون بإمكانية الحصول على الأموال بالنظر إلى القيود المفروضة على الموازنة من قبل مصرف ليبيا المركزي.
هناك دعم واسع النطاق لفكرة إعادة إطلاق الإنتاج الزراعي في الجنوب؛ بالنظر إلى أن ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية حالياً (المستوردة غالباً بأسعار مرتفعة بسبب تدهور سعر الصرف) يجعل الزراعة مربحة جداً. لكن ليس هناك إجماع حول كيفية فعل ذلك. البعض يرى في المزارع التي تملكها الدولة نموذجاً غير جذاب، ويدعم الخصخصة. يبدو أن المزارع المملوكة للقطاع الخاص في المنطقة، والتي ازدهرت في السنوات الأخيرة، أقل تأثراً بعمليات النهب من المزارع التي تملكها الدولة، ربما لأن مُلاكها، الذين يعيشون في الجوار، يبذلون جهداً أكبر في الدفاع عنها. لكن هناك آخرين يعارضون تقسيم الأرض إلى ملكيات صغيرة لتصبح ملكية خاصة؛ ويقولون إن ذلك سيحدث عدم كفاءة في التكاليف. ويقترحون التركيز بدلاً من ذلك على الزراعة الصناعية واسعة النطاق والتي تمتلك قدرات كبيرة من حيث معالجة المنتجات الزراعية.
أمر واحد مؤكد هو أن السلطات الليبية ووكالات التنمية الدولية الحريصة على مساعدة فزان ينبغي أن تستثمر قدراً أكبر من الأفكار والموارد في القطاع الزراعي، الذي لا ينبغي تركه في هذه الحالة من السوء. وهذا يعني أن توفر السلطات، إضافة إلى الائتمان المالي، درجة أكبر من الأمن ودراسات الجدوى حول قنوات التوزيع والتسويق.
2.صناعة النفط
تمتلك فزان إمكانات كامنة لضخ أكثر من 400,000 برميل من النفط الخام يومياً، إضافة إلى احتياطات هائلة من الغاز الطبيعي (يصدر معظمها إلى إيطاليا من خلال أنبوب السيل الأخضر الذي يمر تحت الماء إلى صقلية)، ما يجعل صناعة النفط محورية في إنعاش جنوب غرب ليبيا بمجمله. لقد انقطع معظم هذا الإنتاج على مدى العامين الماضيين لأن المجموعات المسلحة في الشمال أغلقت أنبوب النفط الخام الذي يربط الحقول بمحطات التصدير. حتى بعد أن أعيد فتح الأنبوب في مطلع العام 2017، فإن الحراس التبو في الموقع في حقل الفيل استمروا بوقف الإنتاج لبضعة أشهر. سمحوا بإعادة فتحه فقط عندما بدأت المؤسسة الوطنية للنفط بنقاشات حول مشاريع التنمية المحلية مع سكان المنطقة. لكن حتى عندما تكون الحقول في حالة إنتاج كامل، فإن العائدات المتولدة لا تعود بالفائدة على السكان المحليين مباشرة. العديد منهم مستاؤون من تصورهم بأن “ثرواتنا تغذي الشماليين“.
لا توظف حقول النفط سوى عدد قليل من السكان المحليين؛ حيث تعمل معظم القوى العاملة بموجب ورديات دوارة تأتي وتذهب على رحلة جوية خاصة من الشمال ترتبها شركات النفط العاملة. تشكو المجتمعات المحلية التي تعيش بالقرب من حقول نفط الشرارة والفيل من عدم وجود تفاعل يذكر مع السكان المحليين. أحد السكان الطوارق من أوباري قال: “ليس هناك أي تنمية في المدينة القريبة من الحقول، ولا فرص تعليم بالنسبة لنا. حتى الشخص المسؤول عن ري النباتات في حقل نفط الشرارة يتم نقله جواً من الشمال“. بموجب القانون الليبي، يفترض أن تستثمر شركات النفط في المشاريع التنموية الاجتماعية المحلية، لكنها نادراً ما تلتزم بهذا البند سواء في الجنوب أو في أماكن أخرى. للمساعدة في تحقيق الاستقرار في الاقتصاد المحلي وتخفيف التوترات المحلية، على شركات النفط، بالتعاون مع المؤسسة الوطنية للنفط، فعل المزيد لإشراك وتوظيف العمال المحليين والاستثمار في التنمية المحلية.
IV.بيئة أمنية غير مستقرة
منذ العام 2011، تدهور الوضع الأمني في جنوب ليبيا وترسخت مكانة العصابات الإجرامية وشبكات التهريب. وسط تصاعد النشاط الإجرامي، والاقتتال بين القبائل وسهولة الوصول إلى الأسلحة، فإن قوات الشرطة المحلية باتت لا تعمل فعلياً. ليس هناك سجن يعمل ولا مركز احتجاز للمهاجرين غير الشرعيين في سبها. الأمر نفسه ينطبق على أوباري وغات. حتى قوات الجيش البالغ عددها 18,000 والتي دربت خلال حقبة القذافي فهي غير نشطة بشكل عام. معظمهم يخشون النزاعات في المنطقة وقد رفضوا استئناف الخدمة الفعلية إلى أن “يصبح الوضع أكثر وضوحاً“.
يسود انعدام القانون هذا رغم نشر وحدات عسكرية مختلفة، مهمتها الرسمية استعادة السلم والنظام في الجنوب وفي أجزاء أخرى من البلاد. وكان المنطق وراء نشر هذه القوات، بما في ذلك، وفي أوقات مختلفة، قوات من غرب ليبيا، ومصراتة والشرق، أنه بدونها “سيستعر القتال بين المجموعات المحلية وبين القبائل“. غير أن الأحوال الأمنية استمرت في التدهور مع استمرار الحروب المحلية.
A.صراعات محلية لا تزال مستمرة
منذ سقوط نظام القذافي في العام 2011، تسببت خمسة صراعات محلية، كل منها مدفوع بعوامل فريدة، بمقتل المئات. هناك ثلاثة محاور رئيسية للخصومات:
صراع التبو ضد أولاد سليمان: وقد اندلع هذا الصراع بعنف شديد في العام 2012 ومرة أخرى في العام 2014. خرجت كلا القبيلتين منتصرتين في أعقاب انهيار النظام في العام 2011 لكنهما تحولتا ضد بعضهما بعضاً عندما بدأتا بالتنافس على الوصول إلى أموال الدولة والسلع المدعومة من الدولة. كما كانتا ضالعتين في التهريب إلى البلدان المجاورة.
صراع القذاذفة ضد أولاد سليمان: دار القتال في سبها في العام 2014 ومرة أخرى في العام 2016 بين الخاسرين ضد الرابحين في حرب العام 2011. لا تزال مثل هذه التوترات مستمرة بين قبائل أخرى (ولا يزال علم النظام السابق الأخضر يرفرف في وادي الحياة وغات)، لكن بشكل عام، فإن الانقسام بين المؤيدين والمعارضين للقذافي في العام 2011 حلت محله الولاءات المؤيدة أو المعادية للجيش الوطني الليبي (الذي يقوده حفتر).
صراع التبو ضد الطوارق: اندلع العنف في أوباري وسبها في عامي 2014 و2015 حول الانقسامات السياسية والعسكرية على مستوى البلاد، والتمويل الخارجي وتدفق المقاتلين الأجانب. بعد ما لا يتجاوز الشهر من نشوء حكومتين وبرلمانين متنافسين في آب/أغسطس 2014، تحول التبو والطوارق من كونهما حليفين وثيقين (متحدين في عامي 2012 و2013 في مسعاهما للحصول على حقوق الأقليات والحقوق اللغوية ضد ما كان كلاهما يتصوران أنه إقصاء يمارسه العرب المهيمنون) إلى خصوم. حكومة شرق ليبيا دعمت التبو وحثتهم على إحكام سيطرتهم على أوباري، المدينة الجنوبية التي ادعى كلاهما أنها أصبحت مرتعاً للجهاديين. على النقيض من ذلك، فإن الحكومة التي تتخذ من طرابلس مقراً لها والقوات العسكرية المصراتية المتحالفة معها في الجنوب دعمت الطوارق، الذين يعتبرون أوباري لهم تاريخياً. امتد القتال بشكل متقطع إلى سبها، واستمر في أوباري حتى مطلع العام 2016. كما كان للصراع بعد اقتصادي حيث إن أفراد القبيلتين كانوا يتنافسون على السيطرة على طرق التهريب إلى النيجر.
معظم هذه الصراعات انتهت دون رابح واضح. مع حلول تموز/يوليو 2017، ليس هناك صراع نشط بين هذه المجموعات، ويجادل البعض بأن “التوترات لم تعد في مقدمة الأحداث وأن قبائل الجنوب لم تعد تريد الحرب“. هذا ليس موضع إجماع؛ حيث قال البعض إن اتفاقات وقف إطلاق النار لا تزال هشة وأن الفرص لاستئناف القتال لا تزال كبيرة. يتمثل أحد الأسباب في أن معظم أطراف هذه الصراعات يتوقعون تعويضات نقدية (ديات) لأسر أفراد القبائل الذين قتلوا. لم توزع قطر بعد هذه الأموال للتبو والطوارق، وهو ما كانت قد وافقت عليه في أواخر العام 2015 من أجل الضغط على الفصيلين كي يوقفا الحرب في أوباري. أحد الطوارق النافذين في أوباري قال:
السلام موجود على الورق وحسب. الاتفاق في أحلامكم فقط. الحقيقة هي أنه ما من صلح حقيقي. لقد دمر 70 منزلاً لأسر من الطوارق هنا ولا تزال مدمرة. إذا لم تدفع التعويضات، سيكون هناك عودة إلى الحرب. لا يزال الجميع هنا يملكون الأسلحة.
الإيقاع البطيء لإعادة إعمار المدينة التي مزقتها الحرب، حيث الجامعة المحلية مغلقة منذ ثلاث سنوات ولا تزال بضعة مدارس تظهر عليها آثار الحرب، تفاقم هذه المشاكل.
ديناميكيات مشابهة أطلقت العنان لتوقعات بالحصول على تعويضات نقدية تؤثر أيضاً في جهود المصالحة بين أولاد سليمان والتبو. اجتمع ممثلو الطرفين في روما في آذار/مارس 2017 برعاية وزارة الداخلية الإيطالية والمجلس الرئاسي (الذي مثله في المحادثات عبد السلام كجمان من منطقة براك الشاطئ). المشاركون الليبيون افترضوا أن إيطاليا ستقدم تعويضات نقدية عن القتلى في صراع التبو ضد أولاد سليمان، كما وعدت قطر بفعل ذلك في المفاوضات بين التبو والطوارق، وكما كانت حكومة رئيس الوزراء السابق علي زيدان قد فعلت في العام 2014 بعد أول صراع بين التبو وأولاد سليمان في العام 2012. لكن في روما، فإن قضية من سيدفع (وما إذا كان أحد سيدفع) تسببت في المشاكل منذ البداية ولا تزال تسبب استياءً وسوء فهم، بشكل رئيسي في أوساط التبو.
هذا لا يعني القول إن السلام يتطلب تعويضات نقدية. في الواقع، فإن بعض زعماء القبائل يشيرون إلى أنه سيكون من الأفضل لجميع المجموعات أن تتخلى عن هذه الحقوق بالنسبة لقتلاها“. يقول آخرون إن المشاكل تكمن في مكان آخر وأن اتفاقات وقف إطلاق النار لا يمكنها أن تصمد لأنه تم التفاوض بشأنها من قبل وجهاء القبائل الذين لا يستطيعون السيطرة على شبابها. العديد من رجال القبائل الأجانب من تشاد أو النيجر المجاورتين الذين يقاتلون في جنوب ليبيا يشعرون أيضاً بأنهم غير ملزمين بالاتفاقات التي تم التفاوض عليها من قبل الوجهاء القبليين الليبيين. على المجتمع الدولي ألا يبالغ في تقدير استدامة اتفاقات وقف إطلاق النار وألا يقلل من شأن التوترات التي لا تزال موجودة وتلك التي يغذيها لاعبون خارجيون.
B.جبهة المعارك في الجنوب
منذ الأزمة السياسية التي قسمت البلاد في العام 2014، أصبح الجنوب جبهة معركة للخصومات على مستوى البلاد، حيث قوات مصراتة المتحالفة مع المؤتمر الوطني العام من جانب والجيش الوطني الليبي الموالي للحكومة الشرقية من جانب آخر.
وحدة عسكرية مصراتية (تسمى القوة الثالثة، وصلت إلى سبها في شباط/فبراير 2014 بطلب من الأعيان المحليين وبتفويض رسمي من الحكومة (الموحدة حينذاك) في طرابلس. أرسلت لوقف الحرب بين أولاد سليمان والتبو، وبشكل أوسع، للمساعدة في تأمين الجنوب. هذه القوة جيدة التسليح أصبحت الوحدة العسكرية الرئيسية في سبها من 2014 وحتى أواسط 2017. القوة الثالثة التي تضم أكثر من 4,000 رجل، سيطرت على القاعدة الجوية العسكرية الرئيسية في المدينة في تمنهنت وجمعت بعض المجموعات المسلحة المحلية العاملة في القوة الثامنة تحت سيطرتها. لبعض الوقت، تمركز بعض رجال القوة الثالثة في جرمة وفي حقل نفط الشرارة في الغرب.
لكن بعد ثلاث سنوات وتدهور الوضع الأمني في سبها، أصبح العديد من السكان المحليين غير مرتاحين لوجود المصراتيين. أحد ضباط الجيش الحياديين في سبها قال:
أتت مصراتة في العام 2014 للمساعدة وقبل الناس هنا بذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن مصراتة ستوقف القتال، وتحد من الجريمة وتخفض الهجرة غير الشرعية. لكنهم لم يفعلوا شيئاً من هذا. في الواقع فإنهم جعلوا العلاقات بين المجموعات المختلفة أسوأ لأنهم زرعوا بذور الانقسام بين الناس والقبائل – بعضهم كان مع مصراتة، وآخرون ضدها. وهكذا بدأ الناس بالتفكير بأنهم أفضل حالاً دون المصراتيين.
تنامي الاستياء المحلي من مصراتة كان لصالح حفتر، خصوصاً وأنه فرض نفسه الخصم الأقوى لحكومة الوفاق الوطني بحلول العام 2016. قواته الجنوبية شملت وحدة الجيش الوطني الليبي الموجودة في براك الشاطئ تحت قيادة محمد بن نايل وغرفة عمليات سرت الكبرى، وهي وحدة تابعة للجيش الوطني الليبي تعمل إلى الشمال، في راس لانوف وزلة.
بعد تعاونها لفترة وجيزة مع المصراتيين في أواسط العام 2016، أصبحت وحدة براك الشاطئ أكثر الأصوات مطالبة للمصراتيين بمغادرة سبها، وبشكل أكثر تحديداً قاعدة تمنهنت. بقيامهم بذلك، اكتسبوا دعم أعيان سبها الذين بدأوا أيضاً بالمطالبة بانسحاب مصراتة. في مطلع العام 2017، بدأ رجال بن نايل بمهاجمة القوة الثالثة في تمنهنت بالمدفعية الثقيلة.
كان هدف غرفة عمليات سرت الكبرى السيطرة على قاعدة الجفرة الجوية الاستراتيجية، التي كانت واقعة تحت سيطرة مصراتة وقوات أخرى متحالفة مع حكومة طرابلس. وضمت هذه المجموعة المناهضة لحفتر المعروفة بسرايا الدفاع عن بنغازي، التي تتكون بشكل أساسي من مقاتلين من بنغازي أخرجهم منها الجيش الوطني الليبي. منذ العام 2016، وسرايا الدفاع عن بنغازي تستخدم الجفرة، الواقعة على مفترق طرق بين جنوب وشمال ليبيا، كقاعدة لوجستية لمهاجمة مواقع الجيش الوطني الليبي في الشرق.
بعد تصاعد سريع في العنف في أيار/مايو – حزيران/يونيو 2017، بسبب هجوم على قاعدة براك الشاطئ الجوية من قبل سرايا الدفاع عن بنغازي والقوات الموالية لمصراتة، استولت القوات المتحالفة مع الجيش الوطني الليبي على تمنهنت وقاعدة الجفرة الجوية؛ وبحلول حزيران/يونيو 2017، انسحبت القوة الثالثة التابعة لمصراتة بشكل كامل من الجنوب. منذ انسحاب مصراتة، كان هناك حادث واحد من القتال في سبها تم قمعه بسرعة. جمال التريكي، قائد القوة الثالثة، وآخرون حذروا من احتمال نشوب المعارك من جديد في الجنوب وحتى من هجمات لتنظيم الدولة الإسلامية إذا انسحبت قوات مصراتة.
رغم أن الهجمات من قبل المجموعات المرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية ازدادت بين سرت وسبها في الأشهر الأخيرة، فإن أكثر ما يخشاه السكان المحليون هو ارتفاع معدلات الجريمة. على حد تعبير أحد سكان سبها:
لا وجود للشرطة هنا، ولا وحدات تحارب ضد الجريمة. سبها مليئة بالمجرمين وتدخلها كميات كبيرة من المخدرات. إذا لم تتحسن الأحوال، فإنها بالتأكيد ستسوء. [...] يمكن لأحدهم مهاجمتك كي يسرق هاتفك المحمول وحسب. أنا لست خائفاً من تصعيد القتال بين القبائل لأنه في النهاية يمكن للأعيان أن يوقفوه. لكنهم لا يتمتعون بأي سيطرة على الجريمة. وهذا أكثر خطراً. قضايا أخرى تثير المخاوف تتمثل في التحالفات المتغيرة بسرعة بين وداخل القبائل. كلا الأمرين يشكلان مصادر لعدم الاستقرار في الجنوب ويمكن أن يظلا كذلك حتى بعد التغييرات الدراماتيكية الأخيرة في ميزان القوى على الأرض.
C.ولاءات مجزأة ومتغيرة
القبائل والمجموعات الإثنية في فزان ليست كيانات ذات تركيب أحادي. الطوارق، على سبيل المثال منقسمون داخلياً على أساس عسكري. في أية لحظة معينة، يمكن لبعض أفراد الطوارق القتال باسم القوات المتحالفة مع حكومة طرابلس، وأن يقاتل آخرون لصالح حفتر وأن يكون آخرون حياديين. نمط مماثل حدث مع التبو، الذين يقاتل قادتهم على طرفي النزاع العسكري، وكذلك بالنسبة للقبائل العربية. بين الطوارق، كانت هذه الانقسامات نتيجة التهديدات التي أطلقتها حكومات طرابلس المختلفة بقطع رواتب العسكريين الذين ليس لديهم رقم وطني. في حين أن الأرقام الوطنية استؤنفت في ليبيا في العام 2013 للسيطرة على رواتب الموظفين في القطاع العام، فإن العديد من الطوارق – بما في ذلك بعض أولئك العاملين كعسكريين محترفين في ظل حكم القذافي – لم يكن لديهم أرقام وطنية ولا إمكانية الحصول عليها بالنظر إلى أنهم لا يحققون متطلبات المواطنة الليبية الكاملة. أحد الناشطين قال:
بدأ ذلك في العام 2013 عندما كان أسامة الجويلي من الزنتان وزيراً للدفاع. كانت الطريقة الوحيدة للحصول على راتب هو الانضمام إلى قوات الزنتان. في تلك الحالة، يمكن لشخص من الطوارق أن يعطى رقماً وطنياً وراتباً. فجر ليبيا، التحالف العسكري الذي قادته مصراتة واصطدم مع قوات الزنتان في طرابلس في تموز/يوليو – آب/أغسطس، وأدى إلى انقسام بين الحكومتين والبرلمانين المتنافسين فعل الشيء نفسه: منحوا رقماً وطنياً وراتباً لكل من انضم إليهم. منذ بداية حملة الكرامة [العملية التي قادها حفتر للسيطرة على بنغازي، والتي أطلقت في أيار/مايو 2014]، أعطى حفتر 3,000 دينار ليبي شهرياً [2,170 دولاراً طبقاً لسعر الصرف الرسمي، لكن حوالي 375 دولاراً بسعر صرف السوق السوداء في العام 2017] لكل من وافق على القتال مع قوات الكرامة في بنغازي.
بعض الطوارق يقولون إنهم يجدون الصراعات على السلطة داخل العاصمة غير مفهومة؛ ويشعرون بأنه يتم استغلالهم من قبل الفصائل العسكرية المختلفة في البلاد. أحد الطوارق كان يعمل دليلاً سياحياً في الصحراء قبل العام 2011 ومنذ بداية الحرب عمل مع قوات عسكرية مختلفة عاملة في منطقة أوباري، اعترف عندما تحدث في نيسان/أبريل 2017 قائلاً:
إننا لا نفهم حقيقة ما يحدث أو ما سيحدث. في العام 2011 عندما بدأت الثورة، انضممت إلى قوة من الثوار معادية للقذافي. ثم أتى جماعة الزنتان وقالوا إن القوة التي أقاتل فيها كانت تعمل مع القاعدة. وهكذا تركتها وانضممت إلى الزنتان كجزء من حرس المنشآت النفطية. ثم غادر جماعة الزنتان دون تحذيرنا [في تشرين الثاني/نوفمبر 2014] ودخلت مصراتة. وهكذا انضممت إلى قوات مصراتة. الآن نحن مع القوة الثالثة. لكن الناس يقولون إن حفتر أصبح قوياً ويقول لجماعته إن مصراتة غير شرعية. كما ترى، إننا لا نعرف حقيقة ماذا ينبغي أن نفعل.
وسط هذا التشوش والاختلاط، تظهر قوة أخرى من الطوارق في الجنوب تحت قيادة الفريق من حقبة القذافي، علي كنه، الذي يقول إنه حيادي في الصراع الوطني ويتطلع إلى جيش موحد. لكن في مطلع العام 2017، مال كنه نحو المصراتيين، وترك السؤال مفتوحاً حول كيفية تموضعه على المدى الطويل إذا ارتفعت مكانة الجيش الوطني الليبي في الجنوب أكثر.
التبو أيضاً عانوا من الولاءات المتقلبة والانقسامات الداخلية. في العام 2012، وخلال الحرب الأولى بين التبو وأولاد سليمان، تحالفوا مع مصراتة بينما عارضها أولاد سليمان. في العام 2014، انعكست التحالفات: تعاونت المجموعات المسلحة الثلاث الرئيسية من أولاد سليمان في سبها (كتيبة الردع، أحرار فزان، وشهداء سبها) مع مصراتة في حين تلقى التبو الدعم من الجيش الوطني الليبي، والمجموعات المسلحة الزنتانية وفصائل مقربة من النظام السابق. طوال الأزمة السياسية والعسكرية في عامي 2014 و2015 والصراع بين التبو والطوارق، ظل التبو بشكل عام في معسكر الجيش الوطني الليبي. مع نهاية العام 2016، ومع نضوج محادثات المصالحة مع الطوارق وتدهور العلاقات مع الزنتان، انهار التحالف بين التبو والجيش الوطني الليبي. نأى عدد من قادة التبو بأنفسهم عن الجيش الوطني الليبي بسبب التصور السائد بانحياز حفتر إلى العرب. في العام 2017، انقسم التبو: بعض الوحدات ظلت متحالفة مع الجيش الوطني الليبي، ووحدات أخرى دعمت مصراتة. وانطبق الأمر ذاته على أولاد سليمان. انسحاب مصراتة الأخير من الجنوب يؤشر على تغير رئيسي في ميزان القوى ومن المرجح أن يتسبب في إعادة خلط التحالفات في الجنوب.
ورقة أخرى تتمثل في وجود المقاتلين الأجانب الذين جندهم التحالف الذي تدعمه مصراتة من جهة والجيش الوطني الليبي من جهة أخرى، إضافة إلى الحلفاء المحليين لكل منهم. تبقى أصول المقاتلين الأجانب وعددهم الدقيق أمور غير واضحة رغم أنه يبدو أن معظمهم تشاديون وسودانيون؛ وتقدم المصادر المحلية روايات مختلفة فيما يتعلق فيمن يحارب لصالح من، حيث إن بعض المجموعات تغير ولاءاتها. في أواسط العام 2017، بدا أن مقاتلين مع مجموعات المعارضة المسلحة من شمال تشاد – بشكل أساسي من جبهة التغيير والوفاق في تشاد – يقاتلون مع التحالف الموالي لمصراتة بينما كانت المجموعات السودانية والدارفورية (مثل حركة العدل والمساواة) و(جيش تحرير السودان – ميني ميناوي) إلى جانب الجيش الوطني الليبي. كما كان هناك اتهامات بوجود مقاتلي الجنجويد في ليبيا، رغم أنه لم يكن من الواضح إلى جانب من يقاتلون.
تقرير نشر مؤخراً ناقش أسباب تجنيد التحالف الذي تقوده مصراتة للمقاتلين التشاديين، قدموا التفسير الآتي:
كان الهدف الأول لمضيفيهم الليبيين منع هذه القوات التشادية من أن تجند كمرتزقة من قبل خصومهم في طبرق. هدف آخر كان تشجيع المجندين التشاديين الذين يقاتلون لصالح حفتر على تغيير ولائهم، ثم استخدامهم كمرتزقة ضد حفتر أو تنظيم الدولة الإسلامية. وكان هدف ′القوة الثالثة′ أيضاً استخدام هذه القوات للضغط على [رئيس تشاد إدريس] ديبي وإبعاده عن حفتر.
في الجنوب، لا وجود لحكومة الوفاق الوطني، ووجود محدود للجهات الدولية
تبقى الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس غير منخرطة وتفتقر إلى النفوذ في فزان. الاتحاد الأوروبي، ومعظم دوله، والمنظمات الدولية لها وجود محدود في أحسن الأحوال على الأرض. وحدها إيطاليا تحاول تنفيذ خطة تعزيز الاستقرار في الجنوب.
A.ا دولة مركزية
لقد تمتعت سلطات الدولة في طرابلس تاريخياً بقدر أقل من النفوذ المباشر في فزان مما في أجزاء أخرى من البلاد. إلا أن وجودها لم يكن هامشياً في وقت من الأوقات كما هو اليوم. أحد رجال القبائل العرب من وادي الحياة قال: “لا يتمتع السراج بأي نفوذ هنا. حوالي 60% من السكان المحليين يدعمون حفتر“.
الخصمان الرئيسيان لحكومة الوفاق الوطني وضعهما أفضل قليلاً. منذ العام 2014، تواصلت حكومة طرابلس غير المعترف بها برئاسة خليفة الغويل وقوات الجيش الوطني الليبي الذي يعترف بالحكومة الشرقية كحكومة شرعية، تواصلا مع المجتمعات المحلية وحصلا على دعمها. شخص من التبو قال: “أتى موفدو حفتر والجيش الوطني الليبي إلى هنا ووزعوا السيارات وتحدثوا إلى المجموعات العسكرية المحلية. وفعل الغويل الشيء ذاته“، وهي رواية أكدها أفراد قبائل عربية. مؤخراً، في نيسان/أبريل 2017، كان ممثلو الغويل وحفتر– لكن ليس السراج – في مدينة مرزق، على سبيل المثال. أحد السكان المحليين شرح قائلا ً:
في مرزق قائدان للشرطة، أحدهما معين من قبل حكومة الغويل (وهو من التبو) والآخر معين من قبل حفتر والحكومة الشرقية (وهو من فزان). وكلاهما يعملان في المديرية، ولديهما مكاتب جنباً إلى جنب. لا يتصادم الاثنان. كل منهما يعطي أوامره لقوات الشرطة لكن قوات الشرطة هي نفسها في الواقع – وبالتالي فإن هؤلاء الرجال يتلقون الأوامر من قائدين للشرطة. ليس هناك أحد معين من المجلس الرئاسي هنا، في كل مدينة مرزق.
يقر أنصار حكومة الوفاق الوطني بافتقارهم إلى النفوذ في الجنوب، ما يعزوه المجلس الرئاسي إلى عدم قدرة الحكومة على الوصول إلى الأموال وتوزيعها على المؤسسات الجنوبية.
كما أن المجلس الرئاسي خسر عسكرياً على الأرض. حليفه الرئيسي في فزان، القوة الثالثة المصراتية، انسحبت من قاعدة تمنهنت العسكرية في سبها في أواخر أيار/مايو 2017؛ فأضعفت الحلفاء المحليين للمجلس. القوات المتقدمة للجيش الوطني الليبي طردت سرايا الدفاع عن بنغازي، وهي تحالف عسكري غير رسمي موجود في الجفرة ويدعمها المهدي البرغثي، وزير الدفاع المعين من قبل السراج، في حزيران/يوليو 2017. منح هذا المجموعات العسكرية المتحالفة مع الجيش الوطني الليبي اليد العليا، على الأقل في الوقت الحالي.
B.المجتمع الدولي في الجنوب
وعياً منه لهشاشة الحكومة التي تتخذ من طرابلس مقراً لها ولافتقارها للقدرات التشغيلية في سائر منطقة فزان والمنطقة الحدودية، فإن الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه تجاهلت حتى وقت قريب جنوب ليبيا بوصفه “منطقة لا نمتلك فيها شريكاً مؤسساتياً، وبالتالي لا نستطيع العمل فيه“. ونتيجة لذلك، فإن الجهود الأوروبية للحد من تدفقات المهاجرين كانت قد تركزت حتى وقت قريب بشكل أساسي على وقف المهربين في المياه الدولية قرب الساحل الشمالي الغربي لليبيا وفي النيجر.
القوة البحرية المتوسطية التابعة للاتحاد الأوروبي، التي تأسست في أواخر العام 2014 والتي تعرف أيضاً بعملية صوفيا، حاولت وقف تهريب البشر وشبكات الاتجار بهم بين ليبيا وأوروبا والمحافظة على حياة الناس في البحر. رغم هذه الجهود وغيرها – مثل تدريب حرس السواحل، وتسيير رحلات العودة الطوعية إلى الأوطان وتعزيز أنشطة وكالات الأمم المتحدة المتعلقة بالمهاجرين – فإن تدفقات المهاجرين من ليبيا إلى أوروبا استمرت بالتزايد. كما لم تحقق الجهود الرامية لمنع الأشخاص من دخول ليبيا عبر النيجر المتوقع منها. رغم دعم الاتحاد الأوروبي لسلطات النيجر وللعمليات التي تقودها الحكومة لملاحقة المهربين في أغاديز في 2016، التي قلصت عمليات الدخول لفترة وجيزة، فإنه بحلول أواسط العام 2017 كان عدد المهاجرين الذين دخلوا ليبيا عبر الحدود مع النيجر قد ارتفع مرة أخرى.
في مطلع العام 2017، ومع ترنح المحاولات لوقف الهجرة على الساحل الليبي أو من شمال النيجر، حوّل صناع السياسات الأوروبيون اهتمامهم وقرروا معالجة المشكلة أيضاً في جنوب ليبيا. بعض الداعمين الدوليين للسراج – خصوصاً إيطاليا، البلد الأوروبي المتأثر مباشرة بتدفقات الهجرة من ليبيا، وألمانيا – يبدو أنهم حريصون على الاضطلاع بدور قيادي.
على مدى السنوات القليلة الماضية، تجنبت معظم المنظمات الدولية والبلدان الغربية العمل في جنوب ليبيا.
لكنهم لا يعرفون من أين يبدؤون. على مدى السنوات القليلة الماضية، تجنبت معظم المنظمات الدولية والبلدان الغربية العمل في جنوب ليبيا. فريق بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ووفد الاتحاد الأوروبي إلى ليبيا ومعظم السفارات (وجميعها انتقلت من طرابلس إلى تونس العاصمة في مطلع العام 2015) اعترفت بأنها بالكاد تابعت الديناميكيات في الجنوب، وركزت بدلاً من ذلك على الأزمة السياسية الوطنية والانقسام العسكري بين الشرق والغرب. تتمثل الاستثناءات في الجيش الفرنسي (الذي كان مهتماً بجنوب ليبيا كجزء من عملية بارخان) والدول المجاورة – مصر، والسودان، وتشاد، والنيجر، والجزائر وتونس – التي تحتاج لتأمين حدودها ومراقبة تدفق البشر والمقاتلين. كما ذكر أعلاه، فإن قطر انخرطت أيضاً في الوساطة في محادثات السلام في صراع أوباري.
في نيسان/أبريل 2017، خصص الاتحاد الأوروبي 90 مليون يورو (105 مليون دولار) للمساعدات التنموية لليبيا كجزء من نافذة شمال أفريقيا في صندوق أمانة طوارئ الاتحاد الأوروبي لأفريقيا، التي من المعتزم أن ينفق بعضها على مشاريع في الجنوب. مسؤولو الاتحاد الأوروبي قالوا إنه يمكن تخصيص أموال إضافية لمثل تلك المشاريع، رغم أن الليبيين يشكون في ذلك. كثيرون شككوا بما إذا كانت وكالات الأمم المتحدة التي ستتلقى هذه الأموال يمكنها أن تفعل الكثير في الجنوب. دبلوماسي ليبي قال:
لقد خصصوا هذه الأموال دون أن يسألوا أنفسهم عما يمكنها أن تفعله. هناك مشكلة بسيطة تتمثل في الوصول: كيف ستتمكن هذه المنظمات من تنفيذ مشاريعها في الجنوب إذا كانت تفتقر إلى القدرة على التنفيذ والقدرة على الوصول؟
ستستمر صعوبات العمل في فزان بتشكيل عقبة رئيسية. لدى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي موظفين محليين في أوباري وسبها، يعملون على إعادة تأهيل المستشفيات والمدارس المحلية وشبكات الصرف الصحي، لكن يبدو هذا استثناءً وليس القاعدة. عدة منظمات غير حكومية دولية تنخرط في مشاريع المصالحة في الجنوب، لكن هذه المبادرات تحدث خارج ليبيا. عدد من وكالات الأمم المتحدة تحاول تنفيذ مشاريع تنموية في جنوب ليبيا، لكنها تعمل بشكل رئيسي من خلال شركاء محليين أو من خلال الهلال الأحمر الليبي. معظم المنظمات غير الحكومية الأجنبية التي تفكر بإطلاق عملياتها في سبها تخلت عن ذلك بسبب المخاوف الأمنية. حتى المنظمة الدولية للهجرة، التي لديها وجود في سبها، واجهت مشاكل في العمل حيث شبهت التعامل مع المهاجرين بتجارة الرقيق.
رغم هذه القيود، فإن إيطاليا، المتلهفة لأن تصبح نشطة في فزان، تروج لمشروعها لتعزيز الاستقرار. منذ مطلع العام 2017، عقدت منظمة غير حكومية تمولها الحكومة اجتماعات مع شركاء معنيين من جنوب ليبيا لإطلاق مشروع طموح بعنوان “خطة من أجل السلام، والاستقرار والأمن في جنوب ليبيا“. يهدف المشروع إلى مواجهة “الهجرة غير الشرعية، والاتجار غير القانوني والإرهاب” وتشمل برنامجاً للمصالحة القبلية؛ ومراكز ثقافية وطبية؛ ومشروعاً اقتصادياً لإنشاء مراكز صناعية؛ ووحدات شرطة لمحاربة التهريب غير الشرعي يتم تجنيد أعضاؤها من المجموعات الضالعة حالياً في تهريب البشر.
تقدر التكاليف الأولية بـ 90 مليون يورو تسعى إيطاليا للحصول على تمويل لها من الاتحاد الأوروبي. الفكرة، على حد تعبير مسؤول في الاتحاد الأوروبي مطلع على المشروع هي أنه: “إذا أردت أن تبعد الناس عن العمل في الاتجار بالبشر عليك أن تستميلهم، وكي تفعل ذلك عليك أن تشتريهم“.
غير أن الكثيرين عبروا عن شكوكهم حيال المشروع. بعض الزعماء القبليين الذين حضروا محادثات روما شككوا بـ “المراكز الثقافية“، وأخبروا مضيفيهم أنهم ليسوا بحاجة للأسياد الاستعماريين السابقين “لمساعدة القبائل في المحافظة على هوياتها الثقافية“. بعض المحللين الإيطاليين يخشون من أن محاولة استمالة القبائل المحلية وإدماجها في وحدات شرطة محلية لمكافحة التهريب دون جهود موازية لمعالجة المشاكل الاقتصادية الكلية لليبيا لن يقلص عدد المهاجرين، بل سيزيد من الثمن الذي ينبغي أن يدفعوه للمهربين. كما أحاطت الأسئلة بالمشاريع الاقتصادية الصناعية المقترحة، التي تشمل معامل زجاج ورخام، والتي سيكون من الصعب تسويق منتجاتها في الجنوب الذي تقطنه مجموعات سكانية متفرقة والتي يصعب إيصالها إلى الأسواق الأوسع في الشمال بسبب انعدام الأمن على الطرق.
VI.الخلاصة والمضامين بشأن السياسات
يمكن للسلطات الليبية، والاتحاد الأوروبي والحكومات الأوروبية اتخاذ خطوات لتحسين الظروف في المنطقة، والتي يمكن بمرور الوقت أن تمنع تهريب البشر، وهو الشاغل الرئيسي لأوروبا.
A.الأمن
لقد أخفقت المبادرات الرامية إلى إنهاء الحروب القبلية التي قتل فيها الآلاف في فزان على مدى السنوات الخمس الماضية حتى الآن في بناء سلام متماسك. رغم ترتيبات وقف إطلاق النار القائمة والحوار بين المجموعات التي كانت في حالة حرب، فإن التوترات القائمة لا تزال موجودة، وبعضها تعمق بسبب نفس هذه الجهود الرامية إلى وقف القتال. على سبيل المثال، فإن عدم تقديم قطر للتعويضات النقدية التي وعدت بها خلال جهود الوساطة، أصبح سبباً محتملاً لتجدد العنف. بالنظر إلى انعدام اليقين حول ما ستفعله قطر – خصوصاً بالنظر إلى عزلتها عن القوى الساعية إلى ممارسة نفوذها في ليبيا، خصوصاً مصر والإمارات العربية المتحدة – ينبغي تعديل التوقعات في المفاوضات التالية. ينبغي أن تتجنب الجهود التي لا تزال مستمرة، مثل المفاوضات بين التبو وأولاد سليمان، إطلاق الوعود الفارغة. قد لا تكون التعويضات النقدية الطريقة الأكثر فعالية للتوصل إلى تسوية؛ وقد يكون من الحكمة أكثر التركيز على قضايا ملموسة – مثل الأمن، وحرية الحركة والوصول إلى الخدمات مثل المستشفيات والجامعات – التي تؤثر في حياة الناس اليومية.
الأكثر أهمية، ينبغي إعادة التفكير في كيفية معالجة التحديات الأمنية في ليبيا، مع أخذ الجنوب بعين الاعتبار. المحادثات المحلية الضيقة بين ممثلي القبائل ونشطاء المجتمع المدني لا تكفي. ينبغي أن تكون مصحوبة بمفاوضات تستهدف تحديداً في المقام الأول جمع القادة العسكريين للمجموعات المسلحة العاملة في الجنوب ومن ثم إشراكهم في حوار أمني أوسع على المستوى الوطني. سيعتمد تحقيق الاستقرار في الجنوب بشكل كبير على حصيلة التنافس بين المجموعات المسلحة المتحالفة رسمياً مع الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس وتلك التابعة للتحالف العسكري الذي يقوده المشير حفتر. كانت مجموعة الأزمات قد حثت في الماضي على إجراء حوار وطني لمعالجة هذا الانقسام، إلا أن هذا الحوار لم يحدث حتى الآن. بدلاً من ذلك، ركزت الأحاديث حول الأمن حتى الآن على إنشاء منطقة آمنة في طرابلس وحولها. هذا أمر حيوي لكنه غير كافٍ؛ لأنه لن يكون له أثر يذكر في باقي أنحاء البلاد، بما في ذلك الجنوب.
إن استعادة جيش وطني مندمج وفعال له سلسلة قيادة واضحة أمر محوري، سواء على المستوى الوطني أو في الجنوب، حيث يطمح الضباط العرب والتبو والطوارق جميعاً إلى الوصول إلى مناصب تمكنهم من ممارسة النفوذ. في هذه الأثناء فإن المواطنين العاديين يتوقون إلى قوات مسلحة شرعية يمكنها فرض درجة من النظام.
إضافة إلى الجيش، ينبغي أن تتم معالجة الوظائف الأمنية الأخرى – الشرطة العادية، وتأمين منشآت الغاز، وحرس الحدود، إلخ – في أي استراتيجية جنوبية وكذلك في الحوار الأمني الوطني الأوسع الذي لا يزال حتى الآن دون هيكلية واضحة. ينبغي على بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وبموجب تفويضها، أن تضطلع بدور قيادي في بناء وإجراء حوار أمني وضمان أن يشمل الجنوب والقضايا المتعلقة به. كخطوة أولية، ومع تحضيرها للعودة إلى وجود دائم في ليبيا بعد غياب طويل، على البعثة أن تنتشر في المنطقة. كما أن الأجندات السياسية والاستراتيجية المختلفة التي تدفع مختلف الدول الأوروبية بحاجة إلى درجة أكبر من التنسيق.
يمكن للتوترات بين روما وباريس حول خريطة طريق كل منهما لتحقيق الاستقرار في ليبيا أن تمتد إلى الجنوب وأن تقوض جهود تحقيق الاستقرار هناك.
اليوم، اتخذت فرنسا وإيطاليا المقاربة الأكثر نشاطاً حيال الجنوب، تدفع كل منهما أولويات منفصلة وفي بعض الأحيان متعارضة. باريس يشغلها الاستقرار الاستراتيجي للساحل ليس فقط لأن قواتها منتشرة هناك، بل أيضاً لأنها منطقة نفوذ فرنسية في أفريقيا. لروما مصالح تتعلق بالطاقة في ليبيا (بما في ذلك في الغاز الطبيعي المستخرج في الجنوب) وهي مهتمة بشكل رئيسي بتدفق المهاجرين الذين يحطون رحالهم على شواطئها. لقد قدم البلدان دعماً سياسياً وفي بعض الأحيان عسكرياً لأطراف متنافسة في الصراع الليبي (حيث قدمت فرنسا لقوات الجيش الوطني الليبي دعماً عسكرياً سرياً في العام 2016) رغم أن كلاهما يؤيدان علناً العملية الدبلوماسية التي تقودها الأمم المتحدة. يمكن للتوترات بين روما وباريس حول خريطة طريق كل منهما لتحقيق الاستقرار في ليبيا أن تمتد إلى الجنوب وأن تقوض جهود تحقيق الاستقرار هناك.
تتمثل الدوافع بالنسبة لأوروبا بأكملها في مسألة الهجرة. ويبدو أنها في كثير من الأحيان تسعى إلى ذلك النوع من الشراكة الذي نفذته مع دول مثل تركيا، أي شراكة مصممة لمنع اللاجئين والمهاجرين من الوصول إلى القارة الأوروبية. في ليبيا، هذا غير قابل للتحقيق؛ فالحكومة المعترف بها دولياً لا تمتلك قدرات تذكر على التنفيذ، وخصوصاً في فزان، حيث القوى المعارضة لحكومة طرابلس لها اليد العليا. بدلاً من ذلك، فإن الإجراء الأكثر حكمة هو فرض المزيد من الضغوط الدبلوماسية على جيران ليبيا الذين يتدخلون في شؤونها (خصوصاً مصر والإمارات العربية المتحدة، اللذان كانت أفعالهما وإجراءاتهما العسكرية الداعمة لحفتر معطِّلة بشكل كبير)، وفي الوقت نفسه تجنب إغراء اختيار رابحين في الصراعات المحلية أو الوطنية. كما ينبغي على أوروبا، في الآن ذاته، تقديم دعم أكبر لجهود الأمم المتحدة لتسوية الصراع الليبي، وتحقيق الاستقرار في الاقتصاد الوطني وتأسيس مسار تفاوضي للاعبين العسكريين يهدف إلى بناء قطاع أمني أكثر اندماجاً وتكاملاً.
B.البدائل الاقتصادية
دون الأمن، سيكون من الصعب بناء الاقتصاد؛ ودون بدائل اقتصادية، سيكون من الصعب وضع حد للتهريب، بما في ذلك تهريب المهاجرين؛ وطالما استمر التهريب، فإن سكان فزان ستكون لديهم الحوافز لمقاومة الجهود الرامية لفرض الأمن. لقد تركت هذه الحلقة المفرغة المسؤولين الأوروبيين عالقين في مواجهة الحاجة الملحة لتقليص تدفقات المهاجرين على المسار الأوسط لحوض المتوسط ومتشائمين للغاية من أن أي شيء ذا معنى يمكن فعله لوقف ذلك.
ذلك التشاؤم عطل حتى الخطوات الأولية المتواضعة لكن المفيدة. على المدى البعيد، فإن وضع حد للصراع الليبي سيوفر فرصاً ستغري كثيرين بالعودة إلى الاقتصاد الشرعي وامتصاص العمالة المهاجرة من أفريقيا جنوب الصحراء وأماكن أخرى، كما كان الحال قبل العام 2011. في ليبيا ثروات كامنة هائلة وبحاجة لقائمة طويلة من مشاريع البنية التحتية الرئيسية وإعادة الإعمار. على المدى القصير والمتوسط حتى مع استمرار الصراع، فإن بعض الإجراءات ممكنة ومحبذة.
أولاً، فإن مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية تتطلب دراسات جدوى توضع بعناية، خصوصاً بالنظر إلى افتقار الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه إلى التجربة في فزان أو الاتصالات مع الإقليم. القطاع الزراعي بشكل خاص يستحق الاستكشاف؛ حيث إن الزراعة لا تعتمد بشكل كبير على المعدات ذات التقنية العالية التي تصعب صيانتها وتأمينها، كما يمكنها توفير الغذاء والعمالة بسرعة للسكان المحليين. كما لاحظت مجموعة الأزمات في الجنوب، فإن المزارع الخاصة والمؤمنة استمرت بالعمل، حتى في ظل الفوضى الراهنة، لأن المالكين حريصون على حمايتها. على النقيض من ذلك، فإن الموظفين ذوي الدخول المتدنية هربوا من المزارع التي تملكها الدولة والتي توقف العمل فيها عندما تدهورت الأوضاع. من الضروري إجراء المزيد من الدراسات لتحديد ما إذا كان الحل الأفضل يتمثل في الخصخصة، أو في وضع هيكليات ملكية تعاونية أو شكل آخر من التنظيم الجماعي. في هذه الأثناء، على الاتحاد الأوروبي والجهات الأخرى تشجيع، وإذا كان ضرورياً، مساعدة الحكومة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة لتحسين قطاعها الزراعي، الذي سيعزز أيضاً مكانتها لدى الشعب الليبي.
ثانياً، على وكالات الأمم المتحدة، بالتنسيق مع الحكومة المعترف بها دولياً والسلطات البلدية المحلية أن تسعى إلى إعادة فتح مطار سبها، وتيسير المفاوضات بين الفصائل الأمنية المحلية لتأمينه وإجراء أعمال بنية تحتية محدودة لكن ضرورية لتمكين وصول الرحلات التجارية إلى أوباري. هذا سيساعد في تقليص شعور فزان بالعزلة.
ثالثاً، على شركات النفط الدولية – خصوصاً حول مرزق وأوباري، الموقعان اللذان تمتلك فيهما الشركات منشآت – تنفيذ مشاريع تنموية صغيرة بالتعاون مع المجتمع المدني المحلي. بموجب القانون الليبي، يفترض أن تستثمر شركات النفط في المجتمعات المحلية وأن تدعم مشاريع التنمية الاجتماعية، لكنها لا تفعل ذلك. بصرف النظر عن الاعتبارات القانونية، سيكون من الذكاء المفيد للأعمال تقليص حدة استياء المجتمعات المحلية. في نيسان/أبريل 2017، أقنعت وعود مدراء المؤسسة الوطنية للنفط بالاستثمار في مرزق أقنعت الحراس المحليين في حقل الفيل، وهو حقل نفطي تشغله شركة أي إن آي ENI الإيطالية، للتوقف عن منعهم للإنتاج في الحقل. على المؤسسة الوطنية للنفط تنفيذ وعودها لتجنب مشاكل جديدة، كما ينبغي أن تتواصل مع مجتمعات محلية أخرى في المناطق الغنية بالنفط. الحفاظ على علاقات جيدة مع منظمات المجتمع المدني مهمة للغاية في المناخ الراهن من انعدام الأمن، حيث يمكن لزعيم ميليشيا واحد أن يوقف الإنتاج على أمل أن يحصل على مبالغ مالية. عندما يكون للمجتمع المحلي مصلحة في ضمان ألا يحدث ذلك، يمكنه أن يضغط على الميليشيات المحلية للتراجع.
ستشكل هذه بدايات متواضعة، لكن أمام المجتمع الدولي مجال واسع للعمل والتعويض في جنوب ليبيا.
بروكسل/طرابلس/سبها، 31 تموز/يوليو 2017