لا يحرك الشارع من يقف فيه، والغوغاء مجرد بيادق. خراب البلدان جاء على أيدي نخبها التي تضحي بأوطانها من أجل مصالحها الذاتية أو الفئوية. المحرضون باسم العدالة، والحقوق، والحرية والديمقراطية، يظهرون فجأة أمام الكاميرات ينظرون للفوضى باسم حق التظاهر، يفسرون الوقائع بما يثير المشاعر.. حتى إذا اشتعل الشارع بفعل تحريضهم خرجوا منه إلى الغرف المكيفة يديرون منها معركتهم ضد الوطن وأهله…
ألم تكن النقابات والأحزاب رأس الحربة في دمار تونس؟ ألم يكن المحامي تربل رأس الخراب في ليبيا؟ ألم تحصل توكل كرمان على جائزة نوبل عن دورها في تدمير اليمن؟
ألم يكن مثقفو سوريا، في الداخل والخارج، خنجر الخاصرة في الحرب الأهلية السورية؟
كل هؤلاء أطلقوا الرصاصة الأولى في شكل جمل مليئة بالحماس والانحياز إلى المظلومين، تماما مثل جمل المحامي ولد العيد، والسياسي ولد مولود، والحقوقي ولد الوديعة… نشاط هؤلاء وأمثالهم هو الذي يغذي هيجان الغوغاء؛ هم الذين يدمرون الممتلكات، ويعتدون على المارة. هم الذين يشعلون إطارات السيارات. هم الذين يحركون الكتل البشرية من شارع لآخر. الغوغاء مجرد أدوات يحركونها بكلام مشحون، ومعاني متفجرة.. حين يصرح العيد، في اللحظات الأولى للحدث، بأن آثار التعذيب بادية.. فهو يشعل الإطارات في الشوارع، ويوجه غضب فئة ضد أخرى. فكلامه، وغيره من النخبة، هو الذي يوجه بوصلة العنف…
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
حين ينتشر العنف ستدرك النخبة المحرضة عليه أنها ليست في مأمن منه، لأنه عنف أعمى. ولا ينبئك مثل خبير. ستكون الفئات الهشة، التي يدعي هؤلاء الدفاع عنها، أول المتضررين.. لن يخرج صاحب التاكسي لكسب قوت عياله، خوفا على سيارته. لن يذهب عامل البناء إلى ورشته، لانعدام النقل. لن تفرش (انجاي) على الرصيف الذي احتله المتظاهرون السلميون! ستتناقص المواد الأساسية ثم تختفي. الطوابير على المخابز مد البصر، حليب الأطفال اختفى من الصيدليات، أدوية الأمراض المزمنة تباع تحت المعطف، محطات البنزين تغلق الواحدة تلو الأخرى. توقفت رحلات الطيران، اختفى عمال المنازل، بدأ الأجانب النزوح، تزايد انقطاع الكهرباء، وشحت المياه، عم العبوس وجوه المواطنين وكثرت الخناقات لأتفه الأسباب…
حدث كل هذا في لمح البصر في بلد كان مزدهرا قبل شهور، بسبب نخبة الحقوقيين والثوريين والديمقراطيين… بسبب الذين لا يقيمون لأوطانهم وزنا. الذين يبحثون عن الشهرة والمال بأي ثمن مهما كان باهظا… في حالات الفوضى ليست الغوغاء سوى وقود تتحكم فيه “الأيدي الناعمة”.