يتمحور النقاش حاليًا في الإعلام الغربي حول مشروعية الحديث عن الإبادة الجماعية بخصوص الشعب الفلسطيني على يد سلطات الاحتلال الإسرائيلية، باعتبار أنّ هذا المفهوم يُعتبر في العصر الحاضر حكرًا على المحرقة اليهودية.
لنتحدث عن التعريف القانوني الدولي للإبادة الجماعية، بالرجوع إلى التحديد الذي قننته معاهدة روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية وهو “التدمير الكثيف والإرادي للسكان المدنيين”. قال المدافعون عن العدوان الإسرائيلي على غزّة إنّ إسرائيل لم تستهدف عن قصد المدنيين، بل كانوا ضحايا جانبيين، ولذا لا يمكن أن تُتّهم بجرائم الإبادة الجماعية.
وعلى الرغم من صعوبة تحديد النيات وتكييفها قانونيًا، ولذا لم تراعها المدونة القانونية الحديثة واكتفت بالآثار العملية الفعلية للانتهاكات المدانة شرعيًا، فإنّ العديد من المؤشرات الواضحة تدل على وجود نيات معلنة لاستهداف المدنيين الفلسطينيين.
فضلًا عن إجراءات العزل الكلّي من إغلاق شامل ومنع الغذاء والدواء وتدمير المساكن وهي بدون شك صادرة عن إرادة إبادة جماعية، فإنّ تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين تثبت وجودة هذه النية الجلية.
وزير الدفاع الإسرائيلي قال بصراحة إن بلاده تحارب “حيوانات بشرية” وتوعّد أنها “ستقضي على كل شيء في غزّة”، وزير المالية الإسرائيلي نفى وجود شعب فلسطيني، أما وزير التراث في الحكومة نفسها فدعا إلى إطلاق قنبلة نووية على سكان غزّة لابادتهم بالكامل.
في مقال هام بصحيفة “لو موند” الفرنسية، بيـّن عالم الاجتماع والانتربولوجيا “ديديه فاسين” أنّ أول إبادة جماعية عرفها القرن العشرين كانت في أفريقيا الجنوبية، عندما دمّرت سلطات الاحتلال الألمانية ما لا يقل عن مائة ألف من شعب الهريرو بتعريضهم للجوع والعطش والعنف، قبل أحداث المحرقة اليهودية، ومن بعدها مأساة التوتسو في رواندا وبوروندي. في كل هذه الأحداث، كانت البداية هي نزع الطابع الإنساني عن الشعوب التي تتعرّض للإبادة وهو ما يحدث اليوم في فلسطين.
في سنة ٢٠٠٥ صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار يُلزم المجتمع الدولي بحماية الشعوب والمجموعات المعرّضة للإبادة وجرائم الحروب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية. وقد استندت السياسات الغربية إلى هذا القرار للتدخل الإنساني في بلدان كثيرة، أغلبها في أفريقيا ورفضت دومًا تمديد هذا الحق على الشعب الفلسطيني.
وهكذا ولّدت هذه الازدواجية في تطبيق القانون الدولي الإنساني شعورًا عارمًا بعدم المساواة في حق الحياة والعيش الآمن بين البشر.
ليس من المجدي في هذا الباب التذكير بحل الدولتين، بعد أن أصبح من الواضح أنّ خيار الدولة الفلسطينية المستقلة غدا مستحيلًا، نتيجة لحركة الاستيطان الكثيفة التي قوضت وحدة واتصال الأرض الفلسطينية إلى حد أنّ ما لا يقل عن ٧٠٠ ألف مستوطن صاروا اليوم يعيشون داخل مستعمرات أقيمت في القدس الشرقية والضفة الغربية. وبالإضافة إلى هذا العامل الجغرافي لم يعد قادة إسرائيل يخفون رفضهم القطعي التنازل عن أي قطعة من الأرض الفلسطينية المحتلّة. ففضلًا عن خطة الوزير المتطرّف سموتريش المعروفة بخطة الحسم الشامل التي تقوم على إقامة دولة يهودية ممتدة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط من خلال التهجير القسري للفلسطينيين، فإنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو في خطابة الأخير في الأمم المتحدة (دورة سبتمبر ٢٠٢٣) أظهر خريطة لإسرائيل تضمّ كل المناطق المحتلّة بما يعني التنازل الصريح والمعلن عن مشروع التفاوض حول الدولة الفلسطينية المستقلة.
ماذا تدل عليه هذه المؤشرات والحقائق الساطعة؟
إنه أمر واحد هو الانتقال من منطق الاحتلال والاستيطان الاستعماري إلى منطق الفصل العنصري والإبادة الجماعية الذي هو الأفق الجديد للمشروع الصهيوني. ومن هنا فإنّ المعركة القادمة هي كشف هذا التوجّه في أبعاده القانونية والإنسانية، وهي المعركة الكبرى التي لا بد من خوضها في معترك الرأي العام الدولي.