مقدمة :
المتابع للأزمة السياسية في السينغال و ما مرت به التجربة الديمقراطية من هزات في السنوات الأخيرة ، يدرك جيدا أن هذه التجربة تمر بأزمة تستفحل مع الوقت ، و أن الحلول الناجعة لم تتخذ من طرف النخبة السينغالية حتى الآن ، و أن كرة الثلج ما زالت تتدحرج مستقطبة الكثير من المشاكل ، متجهة إلى مركز الأزمة و مقتربة من مرحلة التصعيد . استطاعت الحكومة السينغالية و بمساعدة من مؤسسات المجتمع المدني و شيوخ الطرق الصوفية احتواء الهزات التي تعرضت لها السينغال في 2021 و كذلك 2023 ، و كلها أزمات ناتجة عن تسيير الحكومة لملفات المعارضة و خصوصا المعارض عثمان صونكو ، و قد تفادت السينغال الانجرار للفوضى العارمة في مدن كبيرة مثل دكار و تييس و زيكنشور ، إلا أن الحلول المقترحة لتلك الأزمة ، تجسد في مهدئات ، تخفف الألم لكنها لا تقتلعه من الجذور، فظلت العقبات تعترض مسيرة الانتخابات التي كانت مقررة في 25 من هذا الشهر ، قبل أن يلجأ الرئيس ماكي صال لتأخيرها ، و يوافقه البرلمان على ذلك و يحدد تاريخا جديدا بعد 10 أشهر.
الأسباب المعلنة لتأخير الانتخابات و مدى قناعتها للشارع السياسي:
بدأت تمفصلات المشكلة الجديدة عندما تم رفض ترشح المعارض كريم واد زعيم الحزب الديمقراطي السينغالي و ابن الرئيس السابق عبد الله واد ، و الذي يتوفر على كتلة برلمانية من 25 نائبا ، بحجة أنه يتوفر على جنسية فرنسية ، و الدستور يشترط أحادية الجنسية في المرشح للرئاسيات ، في حين ظهرت في اللائحة التي تم قبول ترشحها مرشحه مزدوجة الجنسية و هي زور ورديني ، ما أدى إلى اتهام فريق كريم واد لقاضيين في المجلس الدستوري بقبول رشوة من أجل إبعاد المرشح كريم واد ، و تقدمت المجموعة البرلمانية للحزب الديمقراطي بمقترح تكوين لجنة برلمانية للتحقيق في الموضوع و تأجيل الانتخابات 6 أشهر ، و هو الاقتراح الذي دعمه نواب الأغلبية و صادقوا عليه ، عندها رفض قضاة المجلس الدستوري للتعاون مع هذه اللجنة باعتبار البرلمان سلطة تشريعية و ليست قضائية و المجلس غير تابع لها و غير مكلف بالتعاون معها ، كانت السلطات كذلك قد احتجزت المرشحة مزدوجة الجنسية و بدأت التحقيق معها ، هنا بدأت أزمة جديدة بين البرلمان و المجلس الدستوري نتج عنها شك في مصداقية انتخابات يديرها مجلس بعض أعضائه متهم بالرشوة ، التقط الرئيس و الأغلبية الخيط ، فاعتبر الرئيس أن هذه الأزمة تعرض المسار كله للخطر ، و تحول دون إتمامه ، فأعلن تأخير الانتخابات.
كانت هذه هي الأسباب التي ذكر الرئيس صال في خطابه مذكرا أن السينغال لن ينجر لأزمة جديدة و أنه شخصيا لن يعدل عن قرار عدم الترشح ، إلا أن ذلك لم يكن مقنعا للطبقة السياسية و خصوصا تآلف المعارضة الذي رأى فيه خروجا على مواد الدستور بل انقلابا عليها ، خصوصا أن خطاب الرئيس كان قبل ساعات من افتتاح الحملة الرئاسية ، و التي رشح فيها رئيس وزرائه أمادو با و الذي لم يستقطب الشعبية المنتظرة ، بل لم يستطع توحيد الأغلبية إلى جانبه ، و رأت بعض استطلاعات الرأي أنه يفتح المجال لفوز المعارضة في الشوط الأول ، ما جعل الرئيس يحتاج إلى فترة لإعادة تنظيم الأغلبية ، و ربما تغيير المرشح ، خصوصا أن الرئيس وعد بتنظيم حوار وطني جديد ، تتفق فيه جميع الأطراف على تصحيح المسار ، و تتأكد من توفر مؤسسات جديرة بالثقة في تنظيم الانتخابات.
خطة أمنية استباقية : خففت من وقع المظاهرات
كان يوم الجمعة 2 فبراير يوم ترقب و انتظار لخطاب الرئيس الذي لم تتضح المعالم الرئيسية له ، و لذلك كانت الاستعدادات على قدم و ساق في مجمع المعارضة ، استعدادا لانطلاق الحملة بعد ساعات ، و كذلك ترقبا لكلمة الرئيس ، و فور الإعلان عن التأخير بادر أقطاب المعارضة إلى رفض الأمر ومطالبة الجماهير بالخروج رفضا لهذا الانقلاب الدستوري كما وصفه البعض ، فبدأت الحشود الجماهيرية في النزول للشوارع الرئيسية في دكار و في تييس ، إلا أن الخطة الأمنية كانت جاهزة ، فعمدت السلطات إلى قطع الأنترنت عن الهواتف و حظرت دخول الدراجات النارية لوسط المدينة ، و كذلك بيع البنزين بكميات قليلة ، قد تساعد في إحراق الإطارات أو الممتلكات ، و تفاديا لما وقع في حالات سابقة أوقفت شركة النقل حركة الباصات في مركز المدينة ، كل هذا رافقه نزول الدرك الوطني بأعداد كبيرة و سيطرته على الأماكن الحساسة ، ما ساعد في تخفيف التوتر ، خصوصا أنه عمد إلى اعتقال بعض المرشحين و النواب ، قبل أن يطلق سراحهم بعد ساعات.
العالم يقلق على التجربة الديمقراطية في السينغال و يحترمها
كانت الردود العالمية حول قرار التأخير في مجملها قلقة على التجربة الديمقراطية ، و حذرة من كل تغيير للمسار ، و مطالبة كذلك بتحديد تاريخ جديد للانتخابات ، تجلى ذلك في موقف الاتحاد الأوروبي و وزارة الخارجية الأمريكية و الفرنسية ، و تماثل مع ذلك موقف المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ، و الذي أثنى على الديمقراطية السينغالية و على الجهد الذي يقوم به الرئيس ماكي صال ، و طالب بتحديد تاريخ جديد للانتخابات يكون توافقيا و ملائما للجميع ، و لعل من أغرب المواقف هو موقف تحالف دول الساحل الذي يضم مالي و النيجر و بوركينا فاسو ، و التي تحكمها كلها حكومات انقلابية ، فقد نددت هذه الدول بالانقلاب على الدستور و رأت فيه تنكرا لخيارات الشعب ، و تزويرا لإدارته ، فطالب الرئيس ماكي صال بالتراجع عن قراره ، و طالبت المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا بالتنديد بالانقلاب الدستوري كما نددت بالانقلابات العسكرية و اتخاذ موقف حازم ضد السينغال.
مثلت الأحداث بالفعل هزة عنيفة للتجربة السينغالية و تشويها لصورتها الناصعة ، خصوصا عندما بدت قوات الدرك و هي تجبر نواب المعارضة أمس على الخروج من البرلمان قبل التصويت على قرار التأجيل ، و إن كان بعض النواب المعارضون حاولوا إفشال الجلسة و الحيلولة دون التوصيت ، إلا أن صورة التجربة السينغالية تضررت كثيرا ، بجملة من الخطوات لا يتفق الجميع على دستوريتها و لا على شرعيتها ، و لعل ذلك ما أكدت عليه رسالة 150 أستاذا جامعيا أغلبهم من التخصصات القانونية و التي حذرت الرئيس و الطبقة السياسية من الوقع في مزالق ليست آمنة العواقب ، و رأت أن الخلاف البسيط بين البرلمان و المجلس الدستوري كان يمكن حله دون تأخير الانتخابات الذي لم يقع في السينغال منذ بداية تجربته الديمقراطية 1963 م.
الأزمة و تأثيراتها على الجوار
تلعب السينغال دورا مهما في الحياة السياسية و الاقتصادية في غرب إفريقيا و لها امتدادات مختلفة مع دول الجوار ، و لعل من أهمها العلاقات التي تربطها مع موريتانيا ، فزيادة على الجوار و الامتدادات العرقية على الضفتين ، تقوم علاقات تاريخية و دينية و اجتماعية و اقتصادية مهمة جدا ، تلعب دورا أساسيا في ربط الشعبين و البلدين بمصير مشترك ، فرغم ما عرفته العلاقات السياسية من تشنجات و عدم استقرار فقد ظل الشعبان مرتبطين بعلاقة قوية و بمصير مشترك ، فكلنا نعرف العلاقات الصوفية بين البلدين و كذلك العلاقات التجارية ، و ما يمثله أصحاب الحوانيت في بلادنا و ما يمثله كذلك العمال اليدويون السينغاليون و الذين يعدون بالآلاف في كلا الجانبين ، إضافة إلى الطلاب و المرضى الموريتانيين في السينغال ، مقابل الملفات البينية الكبرى المعروفة ، مثل اتفاق شراء الذبائح في العيد الكبير ، و اتفاق الصيد الذي بلغ هذا العام 500 رخصة لصيادي سينلوي في المياه الموريتانية ، و لعل أكبر تلك الملفات هو ملف تقاسم الغاز و الذي ربط مصير البلدين أكثر و جعلهم في حاجة ماسة للتنسيق و التكاتف من أجل المصلحة المشتركة.
كل ما ذكر يجعل النخبة الموريتانية مطالبة يمتابعة ما يجري في السينغال ، و معرفة مدى تأثيره على العلاقات الثنائية ، و المصالح البينية ، أما الجهات الرسمية فلا شك أنها تتابع الأمر بحذر و هي مستعدة لمد يد العون متى ما احتاج لها الجار الشقيق ، فقد وصلت العلاقة الموريتانية السينغالية في المرحلة الماضية درجة مثالية من التنسيق و التشاور و العمل المشترك في أكثر من ملف ، الأمر الذي يجعل السلطات معنية بمواصلة تلك العلاقة ، و تنمية ذلك الجهد ، و لعل أهم ما في ذلك هو استقرار و سلامة الجار الجنوبي ، فالمثل يقول إن من تشترك معه وجبة ، لا تتركه يفسدها إن أراد ذلك .
خاتمة : هل تكون الأزمة لمصلحة الجميع ؟
وعد الرئيس السينغالي بتنظيم حوار وطني مفتوح حول الانتخابات و طريقة تسييرها ، و لعل ذلك ما يمثل جزرة للمعارضة التي لم تستطع أن توحد صفوفها حتى الآن ، فقد تتفادى التشرذم خصوصا مع دخول كريم واد الذي تنازل عن جنسيته الفرنسية ، و ربما أفضى الحوار لتبسيط شروط الترشح ما يسمح لعثمان سونكو بالعودة للساحة السياسية أو ربما يحصل على عفو من الرئيس كما حصل عليه عدة مرشحين للرئاسة من ضمنهم كريم واد و آخرون ، فقليل من المرشحين الذين تم قبول ترشيحاتهم من سلم من السجن أو لم يحصل على العفو الرئاسي. الأغلبية كذلك ستعمل على توحيد شعبيتها خلف المرشح المعلن أو ربما تغييره بشخص آخر أكثر شعبية و له المقدرة على استنهاض همم الشباب الباحث عن مستقبل أفضل و طريقة حكامة أكثر تطورا و نضجا من الماضية.
رغم كل تلك الوعود و التطمينات ما زالت الساحة السياسية متوجسة و مستعدة للفوران ، ما يعمل الساسة في السينغال على تفاديه ، و تعمل الأطراف الأخرى على مساعدتهم في ذلك خصوصا هيئات المجتمع المدني و المشيخات الصوفية و أئمة المساجد ، فهل سينجحون هذه المرة و يقومون بنفس الدور الذي قاموا به 2023 إبان أحداث داكار ؟؟