جمهورية تركيا التي تخرج من شرنقة النظام الكمالي نحو عهد أردوغان تخوض اليوم صراع البحث عن مكانتها في الخارطة الجديدة وروسيا وإيران وإسرائيل والاتحاد الأوروبي وفاعلون إقليميون ودوليون آخرون يتحسسون وجودهم في هذا النظام العالمي الجديد الذي دشنه ترامب في قلب بلاد العرب.
تبحث الولايات المتحدة عن تعزيز صدارتها للاقتصاد الدولي بهجومها الكاسح على خصومها وأصدقائها، وفي وسط حمأة هذا الصراع لا يبدو أن إسرائيل قد اقتنعت تماماً بفشل صفقة القرن، كما يرى الكثير من المحللين العرب.
يقول الخبير الإسرائيلي جيورا أيلاند في مقاله الإستشرافي الأخير: "يجب أن يتم اختيار سياستنا على أساس المصالح فقط. ليس لدى إسرائيل مصلحة إقليمية أو اقتصادية أو سياسية في غزة. كل ما لدينا هو مصلحة أمنية - نحن لا نريدهم أن يطلقوا علينا النار لفترة طويلة من الزمن، ونريد أن نحد من تطور قدراتهم العسكرية الجديدة في المستقبل قدر الإمكان"[1].
تبحث تقارير استشرافية عديدة اليوم في إسرائيل عن بناء علاقات برغماتية مع حركة حماس[2]، والاعتراف بوضعها الواقعي في قطاع غزة كتحصيل حاصل Etat de facto، ويسهب الخبير جيورا في تحليله الجديد لعلاقات إسرائيل مع حماس من خلال تحليل الوضع الذي تعيشه فلسطين من خلال السياقات التالية:
- ضعف السلطة الفلسطينية بقيادة عباس أبو مازن الرخوة، وعدم قدرته على إثبات فعاليته السياسية في ضبط المجال الأمني الخاص بالسلطة بله ذلك الذي يوجد تحت يد حماس في قطاع غزة.
- أصبحت حركة حماس اليوم "حسب التقرير" مقتنعة بعدم قدرتها على تدمير إسرائيل بسبب "افتقارها للقدرة على تنفيذ ذلك.
- حماس ليست القاعدة ولا داعش، بل هي "حركة سياسية" حظيت بأصوات سكان غزة ويجب التعامل معها إسرائيليا من خلال هذا المنظور.
- عدم وجود إرادة حقيقية لدى مصر أو السلطة الفلسطينية في إعمار غزة، "فإن إسرائيل في الأساس تسمح لثعلبتين بحراسة حظيرة الدجاج".
من خلال هذه القراءة يدعو الخبير اليهودي إلى أنه قد "حان الوقت لبناء الاستراتيجية تجاه غزة على أساس 3 مبادئ:
- أولاً، حان الوقت للاعتراف بأنها دولة مستقلة. نحن لسنا من خلق الانقسام الفلسطيني الداخلي، لذا لسنا نحن الذين يجب أن ندفع الثمن (المتصل الأمن) لإنهاء هذا الانشقاق.
- ثانياً، ستدعم إسرائيل أي نشاط يهدف إلى إعادة بناء شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي والمنازل في غزة، ولن تعترض على القيام بهذا النشاط بشكل علني ومباشر مع حكومة حماس. قبل نحو عامين، اقترحت تركيا حلاً سريعاً وفعالاً لجزء من مشكلة الكهرباء: وضع سفينة بها مولد ضخم قبالة ساحل غزة، والتي ستكون مرتبطة بنظام الكهرباء في غزة وتضاعف إنتاج الكهرباء تقريباً. عارضت إسرائيل الخطة لأسباب سياسية. لماذا؟
- ثالثاً، أي مساعدة مالية لغزة ستكون مرتبطة بمشاريع محددة، وعلى حكومة حماس أن تمتثل لمطالب الإشراف الصارمة".[3]
يبدو أن إسرائيل تعول اليوم على المرونة السياسية للحركة الإسلامية الذي أثبت فعاليته في تركيا وتونس والمغرب والعديد من دول الربيع العربي، التي رضي فيها الإسلاميون المعارضون بالحلول الممكنة بدل الحلول الجذرية. برغماتية أردوغان في علاقته بالكثير من القضايا، وارتباط حركة حماس بقطر ومصر ومجموعة من حلفاء إسرائيل، يفتح الباب واسعاً في ظل الضغط الأميركي على إيران أمام هدنة حقيقية وطويلة الأمد مع إسرائيل.
من جهة أخرى، يتزايد الضغط الداخلي على حماس في ظل الحكم العسكري بمصر المتحالف مع السعودية ودولة الإمارات الحلفاء الموثوقين حاليا مع الكيان الصهيوني. إن الوضع اليوم يتجه نحو نوع من "التفاوض التجاري" الذي أصبحت أميركا تفرضه على الساحة العالمية في أكثر القضايا الدولية أهمية وحساسية. منطق التفاوض يعني الضغط من خلال الحلفاء والخصوم وممارسة جميع أشكال الابتزاز السياسي للوصول إلى أفضل الصيغ التفاوضية، وفيما كانت مفاوضات أوسلو تجري في الغرف المغلقة، تعلن اليوم أميركا ومن ورائها إسرائيل عن شروطها المجحفة على الملأ ضد حماس وإيران وتركيا.
أمام حركة حماس خيارات متعددة ومدروسة إلى حد كبير من طرف إسرائيل:
- الانصياع لرغبة السعودية والإمارات في الاعتراف بدحلان وسيطاً للعلاقات مع الحركة، وقائداً جديداً للسلطة الفلسطينية بعد أبو مازن، مع اعتراف إسرائيلي واضح بحركة حماس كحكومة واقع في غزة.
- البحث عن شروط هدنة تحفظ ماء الوجه بوساطة قطرية مصرية تركية، يحظى فيها التفاوض حول شروط اتفاق البقاء على قيد الحياة لأهل غزة، مع تأجيل الحسم في القضايا المصيرية قدر الإمكان.
- البحث عن مواقف أكثر راديكالية من خلال توطيد علاقات حماس مع أعداء أميركا وإسرائيل والتعويل على خيار المقاومة والمقاطعة وعدم الإعتراف بإسرائيل كحجر أساس لكل عملية تفاوضية حول "هدنة ممكنة مع عدو" لا "اتفاقية سلام حتمية مع عدو".
احمد فال السباعي الميادين نت