تتميز انتخابات الفاتح من سبتمبر، 2018 بكونها أكثر انتخابات في البلاد شهدت مستويات من "الهندسة"، والتوجيه والتحكم غير المسبوق، من النافذين في السلطة والقوى المؤثرة، ولذلك فإن كسب رهان هذه الانتخابات يعتبر، من الأهداف العصية، بالنسبة لقوى المعارضة، عموما وحزب تواصل خصوصا.
إن المعارضة حققت نجاحات مقدرة، طبقا للسقف المتاح، الذي يتيحه ميزان القوة السياسي في اللحظة الراهنة وهي لحظة سيئة بالنسبة للمعارضة مع ذلك تمكنت المعارضة من تحقيق نتائج أفضل من المقاطعة السلبية التي انتهجتها 2013، بل إنها استعادت حضورها بشكل لافت في المدن الكبرى لأول مرة منذ 2008.
اصلاح الحزب
فقد نظمت هذه الانتخابات، وسط عملية اصلاح الحزب الحاكم التي عرفت وصول منتسبيه لعتبة المليون في بلد لا يتجاوز أربعة ملايين شخص منها فقط مليون وأربعة مائة ناخب، كما تجاهلت الحكومة كافة الاعتبارات الموضوعية ونظمت هذه الانتخابات في ظرف بالغ الصعوبة، بالنسبة للسكان في نقطة تحول من وضعية الصيف وجفافه لوضعية الخريف وسيوله وأمطاره، فضلا عن انشغال الناس بالعطلة الصيفية الدراسية وأداء مناسك الحج بالنسبة للآلاف من الموريتانيين.
ظواهر غير مسبوقة
شهدت هذه الانتخابات تحكم الآلاف من الفاعلين السياسيين الميدانيين في العملية الانتخابية التي جاءت أشهرا محدودة، بعد اكتمال انتساب الحزب الحاكم الذي يعتبر منذ الستينات أداة الحشد السلطوي، التي يعتمد عليها النظام وأدواته البيروقراطية، ومساندوه من طبقة "المركنتيلية التجارية" المتحالفة مع رجال الأنظمة لاستحواذها على احتكار السوق في الإيراد والتصدير، لذلك نلاحظ أن هذا التحالف هو الذي يكسب باستمرار رهان الانتخابات مهما كان الثمن.
الحزب وهندسة الانتخابات
يبدوا أن ارتباط، مشروع الإصلاح الحزبي، بالانتخابات ولجنته الحكومية التي شكلت، ليست، مقتصرة على مجرد اصلاح هيكلي في الحزب، فقط كما يظن كثيرون، وإنما كانت أحد أدوات هندسة هذه الانتخابات، والتحكم فيها وتوجيهها لصالح النظام وتوجهاته، الراهنة وما تبتغيه السلطة، وفعلا يعتبر هذا العمل، من التدبير الذي سيشكل نقطة تحول في تاريخ النظام وحزبه، يتحول به من حزب بيروقراطي، إلى وضعية حزب أكثر قدرة على خدمة النظام على نمط الأحزاب الشمولية التي بنتها بعض التجارب الديكتاتورية بلدان أوربا الشرقية وفي أكثر من مكان، وهذا بالمناسبة طبعا هو نوع من تطويع كل ما في البلاد لخدمة طرف واحد ويلمح إلى أن كل الحراك السياسي من الآن فصاعدا سيكون مؤسسا على ضمان تصدر الحزب في كل شأن سياسي أو اقتصادي أو اداري.
التهجير الانتخابي
شكل التحكم في الانتخابات وفي دوائر معينة، آلية جديدة، للتحكم في رجال الأعمال، والضغط عليهم وتخويفهم، وتسليطهم على صنع التغيير الحتمي، في دوائر محددة لصالح الحزب الحاكم، هذا فضلا عن توجه الحزب بشكل مبكر للتلاعب، باللائحة الانتخابية التي تحولت بفعل فاعل إلى أعضاء نشطين في الحزب الحاكم، وعبر هذا الاستنفار استفاد الحزب من عملية القولبة والخض الذي تمت ممارسته على المستوى الوطني، فعلا عانى الحزب من تشرذم ناتج عن ردة الفعل على الترشيحات وظهر كم كبير من المغاضبين للحزب، وهي ظاهرة صاحبت ميلاد الاتحاد من أجل الجمهورية، لأنه كسر قواعد كانت سائدة لدى غريمه فهو الحزب الذي يستخدم ثنائية الخوف والطمع بشكل مختل لصالح التخويف وصناعة الأمل الخادع لدى كم كبير من قاعدته بينما كان الحزب الجمهوري في السابق يعوض أي منطقة عن خسارتها في الترشيحات بمناصب أخرى أو تحريك، وعود أو منح لصالحها وبذلك كان يتغلب على التذمر والتنمر المرتقب من أي مجموعة مرشحة لرفض الخيار، ويرجع ذلك إلى أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز تعمد في مأموريته الأولى تجاوز الأساليب القديمة للحزب الجمهوري، ولكنه بدأ يعود إليها الآن، تماما كما حصل له في قضية الفساد ومحاربته، والإمساك عن تعيين المفسدين، فقد تحفظ في البداية على تعينات المفسدين، ولكنه منذ العام 2011 اعتمد عليهم وأعاد أغلبهم لوظائفهم الكبيرة، وتوقف عن متابعتهم.
تصويت الجيش
استخدم تصويت الجيش والأمن كآلية، من آليات صناعة الأغلبية المطلقة، واستخدمت تقنيات، معالجة التذمر، في صفوف الجنود عبر توفير الملابس الجديدة، وصرف مبالغ مساعدات لصالح منسوبي الجيش والأسلاك الأمنية، ورغم المعلومات الشحيحة عن تصويت الجيش وفرز توجهاته من خلال قراءة نسب التصويت بشكل دقيق إلا أنه من المؤكد أن نتائجه هذه المرة جاءت لصالح الحزب الحاكم بشكل قوي جدا بخلاف انتخابات 2013 التي كانت نتائج الجيش فيها موزعة بشكل أفضل لصالح مختلف الأحزاب، لاشك أن نسبة كبيرة آن ذاك صوتت للحزب الحاكم ولكن أيضا ظهرت ميول تصويت العسكريين للمعارضة بارزة، مما يعكس أن تلك الانتخابات سلمت من الهندسة ولكنها شكلت عبرة للحزب الحاكم في انتخابات 2018.
القطاعات الحكومية
وعلى مستوى بقية القطعات الحكومية، تم تحريك أسلاك محددة، كالجمارك مثلا لنقاط معينة من العاصمة نواكشوط، لمنازلة المعارضة خصوصا في مقاطعة عرفات، وربما تكون العلاقات السياسية لأطراف النظام لعبت دورا في تحويل المئات وأحيانا الآلاف من المصوتين لدوائر محددة لضمان فوز مرشحي النظام وللحصول على الحظوة، لدى هؤلاء المنتخبين النافذين، وفعلا حصل شيئ من هذا القبيل في دوائر متعددة.
التنافس المحلي
أدى التنافس المحلي، بين مختلف الفاعلين، إلى تحريك كتل من الناخبين، من مدن معينة، إلى مدن أخرى، لحسم الصراع فيها لصالح الأطراف القبلية المتنافسة.
زيادة اللائحة
من دون شك فإن الإحصاء الإداري الجديد حقق زيادة معتبرة في اللائحة الانتخابية بما يزيد على مائتي ألف ناخب وأن هذه المائتي ألف أغلبها من الشباب وهي التي ساهمت إلى حد كبير في ادخال متغير، جديد استفادت منه بعض الأطراف ولكنه لم يحدث تأثيرا كبيرا على الحزب الحاكم الذي كان، قد تحكم في هذه العملية يمكنه من الفوز والبقاء لا بالفعالية والنجاح المؤسسي، وإنما بأدوات سهلة، وميسورة لمن يوظف الإدارة والدولة، بما فيها رئيس الجمهورية ومقامه السامي الذي حدده الدستور على نحو يمنعه من الدخول في هذه التفاصيل اليومية للحياة السياسية، لإفسادها والعجيب أن هذا المنع جاء في تعديلات دستور 2006 على خلفية، تجربة ولد الطائع التي تماهت فيها الدولة وأجهزتها مع الحزب وهو أفسد الحياة السياسية بشكل غير مسبوق وضار بأمن البلاد الوطني والقومي، وكان من الطبيعي أن يكون ولد عبد العزيز أكثر الرؤساء وعيا به لأنه كان شاهدا على حالة الترنح الخطر للكيان الموريتاني الهش 2003/2004/2005.
محمد الحافظ الغابد