إعلان

تابعنا على فيسبوك

من أوج القوة إلى الاندثار ... من هم الإنكشارية؟

جمعة, 14/09/2018 - 13:06

قوات النخبة ليست وليدة العصر الحديث. إمبراطوريات وممالك سابقة عرفت هذا النوع من التشكيلات العسكرية على مر التاريخ، ومن بينها الإمبراطورية العثمانية التي أسّست قوات عسكرية تميّزت بأن مكوّنها الأساسي هم من أسرى الحروب.

هم رجال أشداء يشهد تاريخ آل عثمان أنهم كانوا عماد جيشهم وقوامه، ونخبة المقاتلين في صفوفهم. كانت حياتهم سلسلة من التدريبات العسكرية. مُنعوا من الزواج وممارسة أية مهنة غير القتال. عزلوا عن بقية معسكرات الجيش واستخدموا في حسم الصراعات على العرش. ويعود لهم الفضل في أغلب "الفتوحات" العثمانية والانتصارات. إنهم الإنكشاريون. قوات النخبة في الجيش العثماني.

النشأة والتأسيس: من "يايا" إلى "يني تشيري"

في عهد مؤسّس الدولة العثمانية، عثمان بن أرطغرل تشكّلت نواة الجيش من وحدات شبه عسكرية قبلية، فكان يُجنّد الفلاحون من سكان المناطق الخاضعة للسلطنة، وكانوا يتقاضون مقابل خدماتهم العسكرية أجوراً معفية من الضرائب. ثم بعد انتهاء الحرب كان يُسمح لهم بالعودة إلى أوطانهم لمزوالة مهنهم. بقي الأمر على هذا النحو إلى أن تربّع أورخان غازي بن عثمان ثاني سلاطين الدولة العثمانية على العرش، فواصل نهج والده الاستعماري مؤسّساً ما عُرِف بجيش المشاة "يايا" المستقل عن القوات القبلية.

لم تزاحم الإنكشارية جيش "يايا" في بادئ الأمر، بل كانت تتطوّر بموازاته. يجمع المؤرّخون أن "يايا" ساهم في تدعيم الركيزة العسكرية للدولة العثمانية، لكن عندما بدأت حال من العصيان والتململ تسود صفوفه سمح أورخان لأبناء الفلاحين بالانضمام إلى جيش المشاة بعد اعتناقهم الإسلام وخصّص لهم أجوراً ثابتة، فمثل هؤلاء نواة الإنكشارية أو يني تشيري. وتعني كلمة انكشاري أو "يني تشيري" باللغة التركية الجيش الجديد أو الجنود الجُدُد.

الإنكشارية وقانون "الدويشرمة"

من أسرى الحروب تكوّنت الإنكشارية لضمان الولاء التام للسلطان. فلجأ مراد الأول بن أورخان إلى ضمّ الأسرى من الصبية والشباب المسيحيين في البلاد التي غزاها الجيش العثماني إلى صفوف الإنكشارية، وكان من بينهم أسرى البلغاريين والصرب واليونانيين.

وبعد أن نظّم أمر الإنشكارية وحملت صفة عسكرية دائمة، تطوّرت أساليب جمع أفرادها واعتمد السلاطين على "الدويشرمة" من أجل مزيد من القوات الإنكشاريين.

أما "الدويشرمة" فهو قانون نظّم عملية جمع عناصر الإنكشارية وإعدادهم، فبعد أسرهم كانت الدولة العثمانية تقطع اتصالهم بذويهم وأقربائهم وبيئتهم الثقافية، ثم تخضعهم لدروس في اللغة والعادات والتقاليد التركية.

كما كانت تفرض عليهم في وقت السلم البقاء في الثكنات. نشأ الإنكشاريون في أجواء عسكرية خالصة لا مكان فيها لمتع الحياة، فكل ملتحق بالجيش الجديد كان يخضع لتدريبات مكثّفة وفق معايير قتالية صارمة مركزها مدينة أدرنة.

الإنكشاريون.. والراية الحمراء

تأثّرت الإنكشارية بالطريقة الصوفية البكداشية وارتبطت بها. فأنشأت أفرادها على حب الشهادة واسترخاص الحياة، وألزمتهم بالإحجام عن الزواج. كما التحق كبار مشايخ البكداشية بألوية الإنكشارية وتقدّموا العروض العسكرية للفرقة بأزيائهم الخضراء المميّزة عن باقي أفراد الفرقة، مردّدين ابتهالات صوفية.

ترجع بعض المصادر التاريخية أصل هذا الارتباط إلى مؤسّس الطريقة محمّد بكداش ولي الذي حطّ رحاله في تركيا في وقت تزامن مع بدايات تأسيس الإنكشارية، وسرعان ما وصلت أصداء سمعته الطيبة إلى السلطان أورخان فقصده ليبارك له قواته الجديدة.

لم يتردّد بكداش في ذلك، وقدّم للسلطان راية حمراء يتوسّطها هلال وسيف، لتصبح من بعدها العلَم الرسمي للإنكشارية.

الإنكشاريون.. القوّة الضارِبة

تفانت الإنكشارية في الذّود عن السلطنة العثمانية وتوسيع رقعة سيطرتها طيلة القرنين الخامس عشر والسادس عشر ميلادي. فقد مثّلت عماد مؤسّستها العسكرية والقوّة الضارِبة للجيش بعدما شكل أفرادها فئة عسكرية مُنضبطة منيعة الجانب. ولا تغيب عن أذهان المؤرّخين تلك المعارك التي شاركت فيها الإنكشارية وغيّرت مجرى تاريخ الإمبراطورية.

فقد امتاز الإنكشاريون بالشجاعة الفائقة وبالصبر في القتال، وكان لنشأتهم العسكرية وتربيتهم الجهادية أثر في اندفاعهم في ساحات الحرب، فتصدروا طليعة القوات وكان السلطان خلال الحروب يقف بأركان جيشه خلفهم. شارك الإنكشاريون بقوّة مع مراد الأول في حروبه، كما في الحملات على الممالك التركية، كما أظهروا شجاعة قلّ نظيرها في معركة أنقرة ضدّ جيش القائد التتري تيمورلنك.

يسجّل للإنكشاريين أنهم كانوا أول من دخل القسطنطينية أكبر المدن الأوروبية وأغناها في ذلك الوقت، وأنهم شاركوا ذلك مع محمّد الفاتح من خلال مهمتهم في حفر الأنفاق، وبعد "فتح" القسطنطينية كان لهم دور كبير في كل حروب العثمانيين في أوروبا وآسيا الصغرى، وبرعوا في ذلك فنالوا امتيازات كثيرة، وكذلك استبسلوا في معركة القضاء على دولة المماليك.

تمرّد الإنكشارية و"الغرق في متاع الدنيا"

بداية، لم يكن للإنكشارية أي نفوذ سياسي في الامبراطورية ولم يطمح أفرادها للعب هذا الدور، بل كان نفوذها يرتكز على شهرتها ببأس عناصرها في القتال وبتبعيّتها المباشرة للسلطان.

لكن مع توالي الإنتصارات واعتماد العثمانيين عليها بشكل أساسي في الحروب، أدرك أفرادها أهميتهم الاستراتيجية في توطيد أركان الحُكم. بدأ المسار العام للفرقة ينحرف بعدما أقحمهم السلاطين في حسم صراعاتهم على العرش، كما فعل مراد الأول في نزاعه مع أخوته، وكما فعل أبناء بايزيد، إضافة إلى لجوء السلطان سليم الأول إليهم ليساعدوه في انقلابه على أبيه بايزيد الثاني، فكافأهم مقابل ذلك بالسماح لهم بالزواج بعدما كان محرّماً عليهم ذلك وفقاً للطريقة البكداشية.

تفاقم شعور الإنكشارية بالعَظمة بعد نجاحهم في تثبيت حُكم مراد الثاني ضد محاولات سلبه العرش بعد وفاة والده، ومشاركتهم لمحمّد الفاتح في إخضاع الممالك المتمرّدة، الأمر الذي دفعهم إلى التمرّد للمطالبة بمزيد من المزايا المالية.

كان هذا التمرد البداية لتكرّ بعده سبحة تمرّدات هدفها مادي، كما أنهم أعاقوا وصول السلطان سليم الثاني إلى العرش بعد وفاة والده سليمان، ولم يمكّنوه منه إلا بعدما قطع لهم وعداً بزيادة أجورهم. لم يكن الحسم الإنكشاري لمسألة الملك السبب الوحيد في جرأتهم على التمرّد، بل ساهم الفرمان الذي أصدره سليمان القانوني بإلغاء تبعيتهم إلى السلطان وجعل قيادتهم منهم بزيادة استقلالهم عن إدارة الدولة، ودفعهم إلى العصيان والتهرّب من الخدمة والتنمّر على عامة الشعب، ورفض الامتثال لأوامر السلطان.

هذه الأسباب مجتمعة انعكست على الأداء العسكري للجيش، فتراجعت قدراته القتالية ومُنيَ بهزائم عدّة، وبعدما كان يلجأ السلاطين إليهم للتدخّل في حسم الصراع السياسي، بادر الإنكشاريون إلى التدخّل في شؤون الحُكم، فعجزت السلطة العليا عن كبح جماحهم ليغدو الجيش في أواخر القرن السادس عشر القوّة السياسية الحاسِمة في السلطنة.

بموازة انغماسهم في شؤون السياسة انجذب الإنكشاريون منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر إلى ممارسة أعمال تتعارض مع مهامهم العسكرية، فتدفّقوا إلى مجالات الصناعة والتجارة والمُضارَبة، وأصبح كل إنكشاري يمتهن حِرفة ما، وهذا التجاوز شكل ضربة للمبادئ القانونية التي تأسّست عليها الإنكشارية. فعوضاً عن توظيف طاقاتهم في التدريبات العسكرية أصبح الشغل الشاغل لهم تحقيق المكاسب المادية وزيادة امتيازاتهم.

طغيان الإنكشارية ومحاولات إصلاح الفيالق

التدخّل الإنكشاري في شؤون الحُكم بدأ منذ عهد مُبكر. لكن لم يكن له أيّ تأثير في عهد سلاطين الدولة العِظام، لأن هيبتهم وقوّة تأثيرهم كانت تقف حاجزاً منيعاً أمام تطلّعات الإنكشاريين.

إلا أن الأمور انقلبت لصالح عناصر الفرقة بعدما دخلت السلطنة في مرحلة الإنكماش ومُنيت بالهزائم وخسرت مساحات واسعة من الأراضي التي كانت قد سيطرت عليها.

هذه العوامل دفعت بالسلطان عثمان الثاني إلى محاولة إصلاح الفيالق وشدّ عصب الجيش وإدخال نُظم قتالية جديدة، ولهذا قرّر استبدال القوات الإنكشارية الضعيفة بفِرَق عسكرية جديدة، بعدما عجز عن إقناعهم في الانضمام إليها، فاقتحموا قصره وداروا به في المدينة على ظهر فرس، وكالوا له الشتائم أمام العامة، وخلعوه عن العرش انتقاماً منه على محاولته الإصلاح.

هذه الطريقة التي خلع بها الإنكشاريين السلطان كانت دليلاً قاطعاً على أن الفرقة التي كانت سنداً للعثمانيين باتت تمثل خطراً على مستقبل السلطنة وبقائها، فكان لابدّ من التخلّص منها.

فقد اعتلى السلطان محمود الثاني العرش في فترةٍ حساسةٍ من تاريخ الإمبراطورية. كان السلطان الجديد ذو عزيمة شديدة، فحاول أن يلزم الإنكشاريين بالنظام والانضباط العسكري، وملازمة ثكناتهم في أوقات السلم، فعهد إلى صدره الأعظم مصطفى باشا البيرقدار بتتفيذ أوامره، غير أن هذه المحاولة لم تنجح وتمرّد الإنكشاريون عليها وقاموا بثورة جامِحة انتهت بموت الصدر الأعظم.

مذبحة الإنكشاريين ... واقعة خيرية؟

طال صبر السلطان محمود الثاني على الإنكشاريين 18 عاماً، لكنه لم يفقد رغبته في إصلاح فيالق الفرقة، فعقد من أجل ذلك اجتماعاً في دار شيخ الإسلام (المفتي)، حضره قادة الجيش بمن فيهم كبار الضباط الإنكشاريين، واتفق الجميع خلاله على ضرورة الأخذ بالنظم العسكرية الحديثة في الفيالق الإنكشارية.

كما أصدر شيخ الإسلام فتوى بوجوب تنفيذ التعديلات الجديدة، ومعاقبة كل مخالف لها. رفض الإنكشاريون الالتزام بما اتفق عليه فأعلنوا تمرّدهم وأضرموا النار في مباني إسطنبول وهاجموا المنازل وحطّموا المتاجر، ولما وصل خبر تمرّدهم إلى السلطان عزم على وأده بأيّ ثمن والقضاء على فيالقهم، فدعا الشعب إلى قتالهم. ثم في صباح التاسع من حزيران/يونيو من العام 1886، خرجت قوات السلطان إلى ميدان الخيل في إسطنبول حيث كان يحتشد المتمرّدون الإنكشاريون، فأحاطهم رجال المدفعية من كل الجوانب، وسلّطوا مدافعهم عليهم، فحصدتهم حصداً، بعدما عجزوا عن المقاومة، وسقط منهم ستة آلاف جندي إنكشاري.

أما صبيحة اليوم الثاني للمعركة التي عُرِفت بــ "الواقعة الخيرية" أصدر السلطان محمود الثاني قراراً باقتلاع جذور فيالق الإنكشارية من أرض السلطنة، لينتهي بذلك تاريخ فرقة كانت شوكة في حلق أعداء الإمبراطورية العثمانية قبل أن تتحوّل إلى خنجر مزروع في ظهرها.

زهراء ديراني- الميادين نت