أدخله السائق إلى الغرفة وانصرف... بدت له كئيبة؛ الإضاءة خافتة، والجدران عارية إلا من ساعة بشعار الجزيرة تدق عقاربها برتابة الزمن في زنزانة باردة.. الأثاث مقتصد حد التقتير، طاولة مستطيلة وثلاثة كراسي.. انهار على أقربها إليه. تطلع في الزاوية البعيدة فاكتشف وجهه في مرآة لم ينتبه إليها.. أصلح ياقة قميصه، وعدل وضع نظاراته وانتظر... بدا له الانتظار طويلا، وعززت هذا الشعور دقات عقارب الساعة.. كان الجو في الغرفة غريبا؛ لا هو بالبارد المنعش، ولا بالساخن المزعج.. جو يوتر الأعصاب، خاصة مع شعور ضاغط بأنه تحت المراقبة... تشاغل بمراجعة أوراقه، ففتح الباب فجأة...
- نعم. نعم.. واضح، حاضر، سأتدبر الأمر.. لم نتوقع ذلك، لكن الذي حصل حصل... حاولت مع آخرين لكنهم رفضوا كلهم... أعرف كيف أتعامل مع هذه الألاعيب.. ثق بي، سأتصرف... مع السلامة...
رمى الهاتف على الطاولة، وسحب أحد الكراسي إليه.. أمسك رأسه بين يديه برهة، تنفس عميقا، ثم ألقى التحية على الضيف دون أن ينظر إليه... تمتم..
- نحن في ورطة!
تطلع في ضيفه..
- قهوة؟ ثم استدرك
- آه! نسيت.. أنتم لا تشربون القهوة، ونحن لا نقدم الشاي... صاح..
- قهوة ساده! ثم التفت إلى ضيفه من جديد..
- ماذا تشرب؟ ودون أن ينتظر الإجابة.. كأس ماء بارد.. أنتم أهل الصحراء لا تملون شرب الماء.
دخل النادل، وضع القهوة وكأس الماء وانصرف.
أخذ رشفة خفيفة ثم لف ضيفه بنظره..
- لماذا لم تعتذر أنت أيضا!، ويا دار ما دخلك شر! لا تكترث! أنا أمزح... لكنني لا أخفيك أنني في ورطة... سينكشف الأمر.. منذ سنوات ونحن نسجل ونبث على المباشر... كنت أردد مع بداية الحلقة، أثناء الفواصل، وعند الختام..."نحن على الهواء مباشرة"، وأنظر بازدراء إلى ضيوفي الكرام... أحيانا، في صحوة ما بقي معي من ضمير، بعد تدمير ليبيا، وخراب اليمن... أشعر بالخزي في قرارة نفسي.. لماذا أتلاعب بملايين المشاهدين!! سكت طويلا ثم ابتسم...
- أجد العزاء في أن العدد يتناقص باستمرار، وأن مستويات الضيوف مثل سعر البترول، وقاماتهم أصبحت تنافس قامتي الفارعة... حرر ضحكة ساخرة ظل يكبتها... ثم وجه الكلام إلى ضيفه...
- لا تسئ فهمي... في مهنة المتاعب هذه نحتاج الخروج على النص، حين لا نكون "على الهواء مباشرة"... لحنها مقلدا طريقته في "البث المباشر"... ضحك ضحكة خفيفة ساخرة... خاطب ضيفه..
- أنت أيضا كنت من "الملايين المغفلة" تحسب البرنامج مباشرا؟
هز الضيف رأسه موافقا...
دخل النادل يحمل ظرفا، وسجلا وقلما.. وضع الجميع أمام الضيف.. ظل الضيف منتصبا مثل تماثيل بوذا.
احتسى فيصل صبابة قهوته المرة، تنحنح، واعتدل في جلسته، وخاطب ضيفه بنبرة جادة هذه المرة...
- هذه هي اللحظة الحاسمة.. اللحظة التي أسيطر فيها على ضيوفي.. الآن يبدأ البرنامج "على الهواء مباشرة".. ضحك ضحكة خفيفة.. تأمل ضيفه..
- ما اسمك؟ ثم أردف، مشيرا بيده، لا يهم.. كلكم متشابهون "كتشابه الأوراق في الغابات"... ستقبض نقودك، وتوقع وصل الاستلام، بعدها تصبح مثل كتابي.. "لا شيء"، وعليك أن تطبق، قبل أن ندخل أستوديو "البث المباشر" ما ورد في كتابي.. "احفظ واخرس"... أخذ الضيف القلم، فتح السجل، وقرأ الوصل بتمعن.. وقع، أقفل السجل ووضع القلم...
- همس فيصل.. افتح الظرف وعد نقودك! السيد الكبير يريد أن يراك تعدها.. تأكد من المبلغ، ثم خذه بيمينك وضعه في جيب بدلتك الداخلي مما يلي القلب لتحس بالدفء وبالأمان.. أعتقد أن المبلغ جيد.. واحد وسبعون دولارا في الدقيقة.. لن تجد من يدفع لك بمثل هذا السخاء مقابل كلام، مجرد كلام "يذهب مع الهواء مباشرة"... أعتقد أنك تستحق... مبروك عليك... اختلس نظرة إلى الضيف وهو يعد النقود.. كان يلحس أصبعه في كل مرة... اشمأز فيصل.. قال متهكما...
- ألم تتدرب في إحدى صرافات الحزب!!!
هز الضيف رأسه بطريقة لم يتبين منها طبيعة إجابته. وضع الضيف نقوده في جيبه، واسترخى...
اتكأ فيصل على مسند الكرسي وحملق في سقف الغرفة، ثم تنهد بعمق...
- كم حل هذا المبلغ الزهيد من مشاكل صغيرة، وسبب من مآسي كبيرة!!! اشترينا به مواقف، وبيعت مقابله أوطان ومبادئ... سكت. ثم قال كأنما يخاطب نفسه...
- بعضهم أسر إلي أنه استلف نصف قيمة المبلغ ليصلح بها من حاله قبل الرحلة إلينا.. لف ضيفه بنظرة ماكرة...
- من الواضح أنك لم ترتكب هذا الخطأ؟ لم ينتظر جوابا، وإنما أردف..
- كم سعر الدولار عندكم؟ آسف! أسحب السؤال هذا تدخل في شأن داخلي.. آسف حقا... ما يزال لدينا بعض الوقت قبل أن نبدأ التسجيل المباشر... ما هي اهتماماتك؟ أنا أحب السينما، وروائع الأدب العالمي... سكت، ينتظر جوابا... كان الضيف غارقا في استرجاع ما عكف على حفظه منذ أن حمله الحزب هذه المسؤولية الجسيمة.. قال، كأنما يستيقظ من سبات..
- ماذا قلتم؟
كتم فيصل غيظه.. ثم قال بصوت محايد...
- أحرص دائما، قبل دفع الرشوة، على مشاهدة فيلم "من أجل حفنة من الدولار".. هل شاهدت الفيلم، أم أنك جئت من أجلها فقط؟ ودون أن ينتظر جوابا أردف.. كان ذلك الكوبوي محقا.. "عشرة آلاف دولار كفيلة بقطع جميع الروابط العائلية."، لكننا في الوسترن القطري قلصنا المبلغ إلى ثلاثة آلاف فقط وقطعنا به روابط قومية وأواصر دينية... عندما يأتي الضيف للمرة الثانية أشاهد الجزء الثاني.. "من أجل دولارات أخرى"، وأفكر أننا اشترينا صمت كلينت إيستوود بالدفعة الأولى فلم يفضح "المسجل المباشر"، ولكثرة ما أعجبت بهذا الفيلم كنت أتقمص دور "الشرس" الذي يناسبني كثيرا... دقت الساعة الجدارية فنهض، ونهض الضيف خلفه... قال وهو يتنهد بحسرة...
- سارت الأمور دائما على أحسن ما يرام... كنا نجلس ثلاثتنا حول الطاولة، كما في الفيلم تماما.. الشرس، والقبيح، والطيب... هذا المساء أفسد الطيب كل شيء حين "هرب" من مسرح التمثيل... فلنقل مع أرنست همنغوي.. "وداعا للسلاح"..."وداعا للمباشر"...
د. محمد اسحاق الكنتي