مع كلّ صباح جديد في عالمنا العربي، نتساءل ما هي أكثر قصّة درامية مُثيرة للحزنِ أو البؤس؟ فالمواطن العربي ليس بحاجةٍ لمتابعةِ أفلام هوليوود كي يعيش قصصاً مُستعارة غريبة وطريفة تثير الحزن أو تحفّز البكاء من أجل الإثارة في عالمٍ من الرتابة القاتِلة.
واقعنا اليومي بتفصيلاته المُملّة كفيل بأن يقوم بهذا الدور. والبحث عن البسمةِ الحقيقيةِ النابعةِ من أعماقنا هي النادر حقاً في عالمنا.
كم هو مسكين الإنسان العربي! بل كم هي مسكينة الصحافة العربية! فهي لم تعد مهنة المتاعب فقط، بل مهنة التصفيات الجسدية والمعنوية، المهنة التي لا تكتفي بتهديد صاحبها وحسب بل بتهديد عائلته وكل معارفه.
أضحى الصمت ريبة، وثمن إبداء الرأي الحرّ الموت، والقانون هو الغائب دوماً في تحديد المُذنب وفي محاكمته.
نقول هذا من واقعِ المأساة التي تحفّ باختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي.
قد يكون جمال مطلوباً للمحاكمة في بلده. قد يكون مُذنباً أو مُخطئاً بحق جهةٍ ما. لكن أيّاً من تلك التّهم لا تبيح شرعيّة إخفائه القسري.
لم يقل الرجل يوماً عن نفسه أنه معارض لنظام الحُكم في بلاده، بل كان مدافعاً شرِساً عن سياسات السعودية في كل شيء تقريباً، ولم يرتفع منسوب النصح عنده إلاّ في السّنتين الأخيرتين.
كان فعله كلّه نصحاً أكثر ممّا كان نقداً سياسياً حقيقياَ لشخصيّة سياسية مُعارضة. فجلّ ما كان يقدّمه هو نصائح عبر الصحافة الغربية للحاكم الفعليّ في السعودية الأمير محمّد بن سلمان، حيث تمحورت نصائحه حول ضرورة التخفيف من التضييق على أصحاب الرأي والعلماء في الشأن الداخلي وإعادة النظر في العلاقات الخارجية والتحالفات الاقليمية للدولة السعودية.
السعودية تنفي تورّطها في هذا الفعل رغم اعترافها بدخول جمال خاشقجي إلى قنصليتها في اسطنبول. بعض من أتباعها حمل على قطر والأخوان وتركيا واعتبرهم متآمرين في قتله بهدف تشويه سمعة السعودية عالمياً.
الأتراك يقدّمون للصّحافة كلّ يوم مُعطيات جديدة كادت أن تجزم بسيناريو مقتل الرجل في القنصلية لولا تناول الرئيس التركي للمسألة في خطابه الأخير.
تصريحات أردوغان أثارت الجدل أكثر مما حدّت منه. فعادت الشائعات والسيناريوهات الإفتراضية للتداول حول غياب الرجل بين مَن يجزم بمقتله ومَن يراهن على بقائه حيّاً.
إردوغان أعاد النقاش إلى مربّعه الأول، وطرحت تصريحاته علامات استفهام حول الهدف الذي يسعى إليه من القضية.
في ظاهر الأمر، ترك الحُكم في القضية للمدّعي العام التركي. وهذا وجه قانوني وسلوك سياسي مُعتبر. لكنّ من ناحيةٍ أخرى، كثرة التصريحات من جهاتٍ تركيةٍ مسؤولةٍ للصحافة الغربية حول الحادثة قبل خطاب إردوغان وبعده، اشتمّ منها البعض رائحة صفقة سياسية ما، تُطبخ على نارٍ حامية، كباشها سعودي تركي بين الترغيب والتهديد لنَيْلِ امتيازات وتقديم تنازلات سعودية تصبّ في دائرة المصالح التركية.
كان يمكن للرجل تغيبه قسرياً في الولايات المتحدة حيث يقيم. أو في أيّ بلد أوروبي، فالرجل سبق له قبل وصوله إلى اسطنبول أن تجوّل في عددٍ من العواصم الأوروبية وشارك في مؤتمرات وندوات معروفة، لمَن يتابع تحرّكاته.
الفاعِل لم يتجرّأ على هذا الفعل إلاّ في تركيا لاعتباراتٍ مُحدّدة طبعاً. فتركيا في نهاية المطاف بلد شرقيّ، وإمكانية عقد الصفقات معها، أو الاعتقاد أنهم لن يتمكّنوا من كشف المتورّطين أو الرِهان على سكوتها وفي أسوء الأحوال اللامُبالاة بمستقبل العلاقات معها، جميعها سيناريوهات منطقية عند الجهة المُخطِّطة للعملية.
الملابسات المُصاحِبة لاختفائه كثيرة. من الرواية السعودية المثقوبة في أكثر من مكان إلى الرواية التركية غير المُكتمِلة والمُتدرّجة والمُتضارِبة أحياناً في تقديم المعلومات وتسريبها. فقد تحوَّل اختفاء الرجل إلى مادّة للاستثمار السياسي والاستخباراتي عبر تصفية الحسابات ونشر الشائعات والغمْز واللمْز من حركة مضطهدة أو امرأة محصّنة، أو نظام غير محبّب للنمط السائد عربياً.
لا يهمّنا هنا الانتصار لرواية من دون أخرى.. المؤكّد أن الرجل اختفى في ظروفٍ غامضةٍ وغريبةٍ. وسيناريو اختفائه القسري يدلّل أن الجهة التي تقف خلف الأمر هي أقرب إلى المافيا منها إلى دولةٍ أو جهاز أمني محترف.
والثابت في كلّ هذا الفعل هو غياب المنطق في الحُكم. غياب المنطق في التعامُل مع الأخطاء. غياب القانون.
ربما قد يكون مفيداً في مناسبة هذا الفعل المُحزِن أن نقول: كفى، بصوتٍ عالٍ.
فنحن في واقعنا العربي لا نحتاج إلى التذكير بأهمية ثقافة الاختلاف، وأهميّة نشرها. ما نحتاجه ليس ثقافة التفاهُم والتسامُح والانفتاح على الآخر والقبول به. فالعرب قد ينظّرون لساعاتٍ حول غنى موروثنا الدينيّ والأدبيّ والفكريّ بثقافة الصفح وتقبّل النقد.
ما ينقصنا في حقيقة الأمر هو الإيمان بهذه الثقافة، وليس التنظير بها وحولها..
ما ينقصنا هو أن نعيش ثقافة التسامُح والنقد، وتقبّل الاختلاف سلوكاً في منازلنا وبين عائلاتنا وفي الفضاء الإجتماعي العام.
إنّ أمّة لا ترقى إلى مستوى الصراحة في تقبّل النقد لذاتها وممارسته هي أمّة ضائِعة مهما زَخرَفت لنفسها الواقع الذي تعيشه.
محمد علوش- الميادين نت