لا تكفّ أمّ المدن وأولى العواصم المأهولة في التاريخ عن تقديم إبداعاتها ومفاجآتها الصاعقة لمن ناصبها العداء أو تخيّل وتوهّم أنّه قادرٌ على إسقاطها والعبث بعمرانها وقيمتها الأبدية.. دمشق تستقبل السودان بشخص رئيسها بحفاوة عودة الأبناء الضالّين، فقد صمدت وكسرت كل الهجمات وخاضت أعنف حروب التاريخ، وتسطّر نصراً عزيزاً ثميناً مغيّراً في أحوال العالم والعرب وإقليمهم الإسلامي… صعقت الزيارة الكثيرين، وأرخت صمت القبور في العواصم والوسائط، وأربكت الأمريكي كما أذهلت الاوروبيّ، وصار السؤال الشاغل: لماذا؟ ما الدوافع؟ من أرسله؟ وأيّة رسائل حملها؟؟
الأسد وضيفه قالا الكلمة واضحةً: سورية دولة مواجهة ولهذا استُهدفت، وهي بيت العرب القديم الجديد والأبديّ، وبدونها لا عرب ولا مكانة للاقليم، ومن يعود إليها باكراً يكسب فقد ركب المركب المبحر بعزيمة… فعلها البشير، لأسبابٍ لا تحصى ولا تعدّ، وفي أوّلها أنّه على ذكاء السودان، وقد يكون قفز من المراكب المعطوبة والمعرّضة للغرق، وحجز للسودان مقعداً في الصدارة..
فعلها لأنّه أدرك أنّ مشروع الاخوان معطوب وإلى الافلاس التامّ، كما تجري أمور تركيا وتونس وقطر، ولأنّه جرّب وعرف أنّ تحالفات السعودية إلى هزائم وربما تضرب العاصفة ديارهم جميعا، وفعلها لأنّه أدرك أنّ سورية المنتصرة ستكتب التاريخ وتقود العرب والاقليم، فقرّر بذكاءٍ أن يكون أوّل الساعين إليها…
ربما فعلها لأنّ السعودية وحلفها غدرت به وبلعت وعودها بتعويم السودان مالياً فيما تضربه أزمة اجتماعية عاصفة، وأدرك أنّ الحلّ يكون بالعودة إلى الشام والتفاهمات مع ايران، فحلف المقاومة هو الصاعد.. وعلى الاغلب فعلها لانه فوّض من التشكيل الجديد المسمى “دول البحر الاحمر” وقد قرروا أن لا مفرّ من الشام، فكل التحالفات وأقدرها سقطت على أبوابها وبدونها لن تكون صيغٌ وتحالفات…
ومن المؤكد أنّه لم يكن ليفعلها لولا تفويض من مصر “السيسي” وبالتفاهمات العميقة مع روسيا بوتين والصين، لتصير فعلته خطوة تطبيعية وطبيعية ومن بعده سيتوافد الزوار العرب رؤساء وملوك وأمراء ووزراء… فعلته صادمةٌ لاردوغان الذي عبّر عن أزمته بلسانٍ تأكله المرارة، لكن الزمن والمصالح وحقائق الواقع لا تقف على خواطر الواهمين والمهزومين، فذكاء العقلاء يقتضي الفرار من المراكب المتكسرة…
من سيأتي بعده؟؟ كلّهم سيأتون مهرولين، وتسابقهم ادارات الغرب، والكلّ يطلب الصفح والغفران، وجميعهم مرتهبون مما سيكون من ردود سورية! خسر نتنياهو فباتت أوهامه بزيارة السودان مجرد أحلام صبيان، وتسقط فوائد التطبيع التي توهّمها…
وأمّا الصغار من المعارضات السورية، فالكلام فيها صار عبثاً ومضيعة وقتٍ وحبرٍ ومضغ هواء… يصير السؤال الأحقّ: ماذا سيفعل اللبنانيون وطبقتهم السياسية ورئيس حكومتهم المكلف وقد صلب لبنان ومصالحه ومستقبله على مشجب العداء لسورية… وكذا فريق 14 اذار مجتمعا، ولن يكون السؤال ظالماً لمن سارع منذ أيام لاستعداء سورية واستفزازها بوضع لوحته على باب “الكلب”، ورفض أن يكون لبنان أول العائدين الى منصة اخراجهم من ازماتهم، وأصرّ على ألّا يكون لبنان الأكثر وعياً ومعرفةً بالحقائق والمبادر عندما رفض أن يذهب الى دمشق لدعوتها إلى قمة العرب الاقتصادية، ولن يكون عرب أو اقتصاد أو قمم بدون الشام.. الشام تنتصر، فهل تغفر لمن تآمر عليها وبصق في بئرها الذي رواه…