كلما لاحت استحقاقات انتخابية في الأفق انشغل الإخوان بالمناورات السياسية بهدف احتلال مكانة مرموقة في التغطية الإعلامية لخلق انطباع لدى المتلقي والمراقب بأن العملية السياسية في موريتانيا تدار من قبل حزبين رئيسين؛ الاتحاد من أجل الجمهورية وتواصل، وفي فلكيهما تدور مجموعة أحزاب هامشية... فقد برع الإخوان، منذ تأسيس الجماعة في استغلال الإعلام لترويج صورة تخدمهم وغالبا ما تكون خلاف الواقع.. فلا وجه للمقارنة من حيث الشعبية والانتشار على التراب الوطني، والتمثيل الجهوي والبلدي والنيابي بين حزب الاتحاد من أجل الجمهورية وحزب تواصل؛ وإذا كان الانسجام سائدا بين أحزاب الأغلبية و حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، فإن الخصومة قائمة بين تواصل وجل أحزاب المعارضة التي علمتها التجربة ألا تثق في تواصل لتقلب مواقفه بين النصح والنطح، وخرق إجماع المعارضة في أكثر من موقف...
غير أن العارفين بالحزب الإخواني يدركون دوافع سلوكه في الاستحقاقات الانتخابية؛ فيافطته الأيديولوجية تفرض عليه المشاركة في كل الاستحقاقات الانتخابية لما تجلب له من تمويل خارجي لا يستطيع المطالبة به في حال مقاطعته للانتخابات، وليسوق لدى التنظيم الدولي أنه الحزب المعارض الوحيد الممثل في البرلمان والبلديات، وليكون قادرا على إبرام الصفقات مع الحزب الحاكم على حساب أحزاب المعارضة الأخرى...
لكن الإشكال يظهر عند تموقع الحزب في الخريطة السياسية أثناء الاستحقاقات الانتخابية.. ذلك أن الغالبية العظمى من أطره وناخبيه يخضعون للتأثيرات الجهوية والقبلية، كما هي الحال في بقية الأحزاب، وقد لا يدركون، أو لا يقبلون، مسوغات مناورات حزبهم وتقلب مواقفه. ففي الانتخابات التي أعقبت الفترة الانتقالية صوت شورى الحزب مرتين لصالح دعم المرشح أحمد ولد داداه، لكن قيادة الحزب، التي تنظّر لإلزامية الشورى، قررت دعم المرشح صالح ولد حننه!!! وهو تكتيك مفهوم؛ فلا بد لتواصل من الاحتفاظ بمسافة أمان مع التكتل لاشتراكهما في الحاضنة الانتخابية؛ فقد صوت الإخوان في تلك الانتخابات بكثافة لمرشح التكتل خلافا للتوجه العلني لقيادة الحزب...
واليوم، ونحن على أبواب استحقاقات انتخابية جديدة يهرع الحزب إلى نفس التكتيك محاولا التغطية على صراعاته الداخلية المحتدمة بين أطر الشرق وأطر الجنوب. فالتداول على قيادة الحزب، الذي يروج له كثيرا، ليس سوى تغيير محسوب للواجهة احتفظت فيه القيادة الحقيقية بسلطاتها كاملة، وظلت تحت الأضواء؛ فالسيد جميل منصور، الذي ترك رئاسة الحزب، وخرج من المكتب التنفيذي، لا يزال يتصدر الفعل والقول التواصلي دون أن تخوله عضويته في مجلس الشورى كل هذه السلطة والصدارة!!! ولا بد أن الاستحقاقات الجديدة ستزيد حدة الانقسام داخل قيادة الحزب، وفي صفوف أنصاره. ولعل التغييرات الأخيرة في المكتب التنفيذي جاءت استباقا لمواقف قد يتخذها الحزب خلافا لتوجه بعض فئات ناخبيه؛ وهي تغييرات ذات طابع استعجالي أطاحت برموز حزبية جددت فيه الثقة في المكتب التنفيذي الذي أعلن عنه بعد المؤتمر الوطني للحزب!
تظهر التشكلة الجديدة للمكتب التنفيذي إرادة واضحة لتقليص دور رئيس الحزب. فقد استحدثت مؤسسة للرئاسة مكونة من رئيس وسبعة نواب. وصيغة المؤسسة تدل بوضوح على أن نواب الرئيس شركاء له في القرار شراكة مباشرة؛ ففي المكتب التنفيذي الذي رأسه جميل منصور، لم تكن هناك مؤسسة للرئاسة، وإنما رئيس يعاونه ثلاثة نواب، دون أن يشاركوه في سلطته الرئاسية. أضف إلى ذلك أن مكتب جميل منصور تألف من 21 عضوا فقط، بينما بلغت أعداد المكتب التنفيذي الجديد 45 عضوا، أي ضعف مكتب جميل منصور التنفيذي!!! واستحدث "أعضاء بدون حقائب" بلغ عددهم 11 عضوا.
لو جاءت هذه التغييرات مصاحبة لمؤتمر الحزب لكان لها ما يبررها، لكن إجراءها بهذه الطريقة المفاجئة يطرح أكثر من سؤال، خاصة أن هذه التغييرات جاءت بالعديد من قيادات التنظيم إلى المكتب التنفيذي للحزب، خلافا للتقليد الذي اتبعته جماعة الإخوان المسلمين عند إنشاء أحزابها السياسية، وهو تقليد يقضي بامتناع القيادات التاريخية للحركة عن تصدر العمل السياسي، والتزامها بالعمل الدعوي والخيري. فما الذي دفع تواصل إلى الزج بناشطين معروفين في العمل الخيري والدعوي، في قيادة الحزب السياسي!!! وما المقصود من توسعة المكتب التنفيذي حتى وصل 45 عضوا؟ هل هي محاولة لتمثيل كافة الحساسيات في قيادة الحزب، أم هي مناورة سياسية الغرض منها شل المكتب التنفيذي حتى يصبح عاجزا عن اتخاذ القرارات، لتحال صلاحياته إلى القيادة السرية للتنظيم فيرضخ الجميع لما يصدر عنها؟
كان التحدي الذي واجه تواصل في الاستحقاقات الانتخابية السابقة هو موقفه من المشاركة بصفته حزبا معارضا، أما في هذه الاستحقاقات فإن التحدي أخطر وأعمق، إذ على تواصل إعادة تحديد موقعه في المعارضة، أم في الموالاة؟ وهو ما يعني احتدام الصراع القائم بين أطر الشرق وأطر الجنوب داخل الحزب؛ فسينزع أطر الشرق في اتجاه الموالاة ومرشحها (التحق العديد منهم بحزب الاتحاد من أجل الجمهورية)، بينما يجمح أطر الجنوب نحو المعارضة. وفي حال الانقسام هذه ربما تلجأ قيادة التنظيم إلى الحل الذي ابتكرته في انتخابات 2007؛ تبني مرشح معارض علنا، والتعبئة سرا لمرشح الأغلبية الرئاسية... وربما كان اختيار أحد "المهاجرين" من التحالف الشعبي لزعامة المعارضة إشارة من تواصل إلى زهده في تلك الزعامة، مؤثرا بها المؤلفة قلوبهم.. ليتقمص الحزب دوره الجديد في "الموالاة المعارِضة"، بعد أن جرب في استحقاقات 2009 دور "المعارَضة الموالية".
د. اسحاق الكنتي
العنوان الأصلي للمقال " الإخوان.. إلى أين؟"