تبدو التصريحات المتعلقة بالحرب بين إيران والولايات المتحدة الأميركية بهلوانية إلى حد أنها تتيح الجزم بوقوع الحرب واليقين بعدم وقوعها. أميركا تقول لا نريد حرباً في المنطقة وتقول في الوقت نفسه سنردُّ على "العدوان الإيراني" إنْ وقع، بطريقة غير مسبوقة. وإيران تقول نحن لم نشنّ عدواناً على أحد طيلة تاريخنا، لكن إن وقع اعتداءٌ علينا فلربما يندم الأميركيون على خطأهم، عندما يكتشفون حجم الرد ونوعيّته. ويضيفُ ترامب: نريد أن تتصرّف إيران كدولة طبيعية. يردّ روحاني: الساسة في الولايات المتحدة غير مُجرّبين، ويتصرفون بسذاجة، لكنهم سيدركون معنى وأثر أفعالهم لاحقاً. إيران لا تحتاج إلى حرب وتعرف معنى الحروب، لكنها ستدافع عن نفسها بقوّة. ويزيد محللون في الغرب وبخاصة في واشنطن: ترامب لا يرغب في الحرب وهو انتخب من أجل سَحْبِ قوات بلاده من الشرق الأوسط، وبالتالي لا يمكنه أن ينجح في ولاية جديدة إن هو حشر أميركا في حرب ضد إيران تحتاج إلى عشرات الألوف من الجنود الأميركيين، ليس لاحتلال إيران وإنما فقط لحماية الدول المجاورة للجمهورية الإسلامية.
والسؤال المطروح على الطرفين في هذه الحال هو: ما دامت الحرب ليست هدف طهران وواشنطن فلماذا التهديد بإشعالها والحشد العسكري غير المسبوق لها منذ الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003؟ فمن يمكنه أن يرتدع بكلام حرب من دون حرب؟ والجواب يمكن تجميعه عبر متابعة الإجراءات التي يعتمدها الطرفان.
في الجانب الأميركي باتت ملامح الاستراتيجية المناهضة لإيران واضحة أكثر من ذي قبل. ترامب يحشد أساطيل وطائرات حربية حول الجمهورية الإسلامية لاحتواء ردود فعلها على الحرب الاقتصادية التي تشنّها واشنطن من خلال الحصار والتهديد بمعاقبة كل دول العالم التي تخرق العقوبات الأميركية. ويأمل ترامب أن يؤدّي حصار إيران إقتصادياً إلى إشعال ثورة ضد الجمهورية الإسلامية، وبالتالي يمكن للمُنتفضين الإيرانيين الإفتراضيين أن يحصلوا على معونة القوات الأميركية. ويمكن للعقوبات في حسابات ترامب أن تضعِف الدور الإيراني في سوريا وفي لبنان والعراق، وتعزّز ثقة حلفاء واشنطن بتصميمه على قهر الإيرانيين إن لم يكن فوراً فعلى المدى المتوسّط أقلّه في ولايته الثانية المُفترضة.
في هذا الوقت تسعى واشنطن أيضاً إلى تهدئة محور المقاومة عبر تلبية مطالب بعض أطرافه، من قبيل حل مشكلة الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بما يتناسب مع الشروط اللبنانية. وفي الحساب الأميركي إن تصدير النفط اللبناني من شأنه أن يُغري اللبنانيين بوضع حدٍ للمقاومة الإسلامية بزعامة حزب الله. ويمكن أن يُغري الشيعة اللبنانيين بخاصة، وهم الذين عانوا طويلاً من الحرمان الناجم عن سياسات النظام. بالمقابل تمارس واشنطن ضغوطاً مباشرة أو عبر مؤسّسات دولية لوضع النظام المصرفي اللبناني تحت الضغط لسدّ المنافذ المُتاحة لتمويل حزب الله.
في سياق التهدئة نفسه قرّرت إسرائيل التفاوض مع الفلسطينيين في غزّة على هدنة لمدة ستة أشهر والسماح للصياديين الغزّاويين بالصيد البحري لمسافة تقارب ال 15 ميلاً بحرياً.
أما في العراق فالأنباء تفيد بأن الولايات المتحدة استثنت بغداد من العقوبات، وسمحت لها بمواصلة استيراد النفط الإيراني .
في هذا الوقت تعمل المملكة العربية السعودية على توفير التغطية لعدوان أميركي مُحتَمل على طهران وذلك عبر الدعوة لقمم خليجية وعربية وإسلامية في مكّة المكرّمة للقول أن إيران معزولة في محيطها ، وأن العرب والمسلمين يؤيّدون ترامب في حال اندلعت مُجابهة إيرانية أميركية. لكن هذه المحاولة على أهميتها لم تكن فعّالة في تغطية الحرب السعودية ضد فقراء اليمن ، وهي قد لا تكون ذات جدوى كبيرة في تبرير الحرب على طهران أو حتى في تغطية الأثر السلبي للعقوبات الإقتصادية على الشعب الإيراني.
يبقى الصمت الإسرائيلي إزاء أجواء الحرب التي تخيِّم على المنطقة ويمكن تفسيره بإتجاهين : الأول هو عدم تصدّر إسرائيل حملات العداء على إيران حتى لا تبدو المسألة برمّتها بوصفها عملية إسرائيلية بأدوات أميركية وخليجية ، والثاني هو نتنياهو من ردّ فعل إيراني غير معروف النتائج.
من جهتها تعمل طهران وفقاً لحسابات مرسومة إستناداً إلى موقع الطرف الأميركي وليس إلى تصريحاته المُضلّلة ومناوراته التكتيكية، فهي تدرك أن ترامب ضعيفٌ داخل بلاده ويتعرّض لحملة إقالة من منصبه من طرف الديمقراطيين، وأن أغلبية الرأي العام الأميركي لا تريد حرباً، ناهيك عن القسم الأكبر من ممثّلي الإدارة الأميركية بما في ذلك شخصيات مؤثّرة في الحزب الجمهوري. وفي السياق لا تريد أوروبا الحرب ما خلا بريطانيا المُضطرة للتضامن مع الولايات المتحدة عشيّة خروجها من الإتحاد الأوروبي والحريصة أيضاً على مصالح أصدقائها الخليجيين.
ولا تخشى طهران من الشعب الإيراني الذي يقف خلف حكومته في مثل هذه الحالات ، وبالتالي فإن رهان واشنطن على تمرّد داخلي، ينمّ في الغالب عن رغبة أميركية جامِحة، أكثر من استناده إلى معطيات داخلية قوية. هذا لا يعني استبعاد التحرّكات الداخلية، لكنها قد لا تتلاءم إنْ وقعت مع حجم الرِهان الأميركي، وقد رأينا من قبل كيف انتهتْ مشكلة التمرّد الشعبي الإيراني في ظل حُكم أحمدي نجاد إلى اعتقال قادة التمرّد ومحاكمتهم وبعضهم ما زال في السجن حتى اللحظة.
إن الاستعدادات العسكرية الإيرانية المتواصلة لرد عدوان أميركي مُحتَمل، تساهم أيضاً في حمل الولايات المتحدة على التخلّي عن خيار الحرب أو على الأقل التفكير ملياً قبل الإقدام عليها. أضف إلى ذلك تجرؤ إيران على توجيه إنذار لأوروبا مدته ستين يوماً كي تُفَعِّلَ آلية التجارة مع إيران أو الخروج من الإتفاق حول البرنامج النووي الإيراني. وترى طهران أن على الإتحاد الأوروبي أن يُبَرهِنَ أنه يتمتّع بسيادة إقتصادية على تجارته وأنه ليس خاضعاً للإملاءات الأميركية. خصوصاً أن امتناع أوروبا عن الاستجابة لهذا الإنذار يحرّر طهران من القَيْد الأوروبي ويعطيها هامشاً أكبر للمناورة في العودة إلى البرنامج النووي الإيراني.
لا يمكن لكلام الحرب في الخليج أن يبقى إلى الأبد حبراً على ورق. الوقت محسوب بدقّة بالنسبة للطرفين. هو بالنسبة للأميركي يمكن أن ينفد بسرعة جرّاء الاضطراب الداخلي والضغوط التي يتعرّض لها البيت الأبيض وآخرها حملة الإقالة المُستجدّة وهو بالنسبة للإيراني الوسيلة المضمونة لإثارة اليأس لدى الأميركي وإقناعه بلا جدوى الحرب.
في هذا الوقت يبقى خطر اندلاع الحرب قائماً حتى لو لم يرغب الطرفان بخوضها. قد ترتكب إسرائيل هذا الخطأ أو حلفاء أميركا أو تحمله الصدفة البحتة.
فيصل جلول
الميادين نت