التفجير عن بعد، زرع الألغام، إرسال الطرود المفخخة، إطلاق النار في الظلام من سلاح مجهز بكاتم صوت، التخلص من أداة الجريمة والذوبان في جموع المتفرجين لمعرفة حقيقة الأضرار، ثم توزيع مناشير في الليلة التالية تتبنى العملية وتشيد بأهدافها.. تلكم هي أساليب المنظمات السرية العنيفة التي غالبا ما يؤسسها مثقف يوظف مغفلين... تأسست عصابة (بادر ماينهوف) على هذا المبدأ؛ وحدة العقل والعضلات. فكانت الصحفية، ودارسة الفلسفة، أولريك ماينهوف العقل المحرك لعضلات آندرياس بادر المتشرد العنيف، بينما وظف أستاذ الفلسفة أبيمايل غوزمان أكثر من ثلاثة وعشرين ألف عضلة في عصابته "الدرب المضيء"...
كان القاسم المشترك بين العصابتين العنف المبرر بأهداف سياسية غير مؤسسة، والانتماء إلى زعيم مقدس تستمد منه الشرعية ويحول اسمه إلى "ماركة معرفية".. يختزل الزعيم كل شيء، وينسب إليه كل شيء... تنتظم جماعة الرأي السياسي، أو تيار ولد ابريد الليل في هذا المسار غير أنها تكتفي بالعنف اللفظي حتى الآن، وسلاحها نشرة تزرع على الشبكة "ألغاما"، وتبث في الفضاء الأزرق "مواد متفجرة" بهدف "اغتيال" الاتفاق على حملة نظيفة تركز على النقد السياسي البناء بدل توزيع الاتهامات المجانية والتحامل على الأشخاص بلغة أصابها إعصار فيه نار فاحترقت معانيها لتحاكي كلماتها أعجاز نخل منقعر... فحين تستخدم الحروف بالطريقة التي تستخدمها بها جماعة الرأي السياسي ينقلب "الرسم بالكلمات" إلى "تفجير بالحروف" في سبيل بعث حروب العصابات ونشر الارهاب الفكري في المجتمع السياسي الطامح إلى انتخابات شفافة وحملة نظيفة.
ولما كانت حروب الجماعات المتطرفة تتغذى على الإعلام كانت عمليات جماعة الرأي السياسي موجهة ضد الأشخاص والمؤسسات التي تحظى بقسط وافر من التغطية الإعلامية. ولأن الصحافة الصفراء لا تهتم إلا بالحوادث، مارست الجماعة القيادة المتهورة في كل الاتجاهات، واستخدمت كل ما توفر لها من أسلحة معتمدة التصنيع المحلي حين تضيق ذات اليد عن الاستيراد. لكن الأسلحة البسيطة، مثل الأشياء الرخيصة، قد تنفجر بين يدي مصنّعها، كما حدث مع الجماعة حين أرادت استخدام القول المأثور.. "للسابق أجر ولقمة" لغرض السخرية في شهر يتسابق فيه المسلمون إلى الإمساك عن الشهوات. تعودت الجماعة "النصب" فزادت ألفا أفسدت الخلطة كما يحدث مع صانعي المتفجرات الهواة... غير أن ذلك لم يردع الجماعة عن الاعتماد على إعادة تدوير مواد أولية تجهل خصائصها.. فليس في العُقد التي نظرت لها مدرسة التحليل النفسي "عقدة الأبوية" وإنما اختلطت المواد الأولية على الجماعة فمزجت الرصاص بالشمع؛ ف"عقدة الأب" قنبلة عنقودية، بينما "عقدة الأبوية" ألعاب نارية، وإن تضخمت...
وقس على ذلك استخدام بعض المصطلحات "رهاب" مثل استخدام سلاح كيماوي في جو عاصف ودون أقنعة.. فقناصو الجماعة فئة مصابة ب"رهاب الخلاء" لكثرة ما ألفوا التخفي والانزواء والأماكن المظلمة. لذلك تأتي افتتاحيات النشرة بلا توقيع، مثل رصاصات قناص لا يعرف مصدرها، أو مثل المناشير المسحوبة على آلة رديئة في مكان سري تحت غطاء ضجيج مطحنة، توزعها أشباح في الهزيع الأخير...
تنتهي العملية النوعية "رهاب الخروج من السلطة" التي خططت لها الجماعة طويلا ومولتها من "رحلات التيه اليائسة" بين الموالاة والمعارضة، وتردد "حزين ومرتبك" بين بيرام وسيدي محمد.. ب"قشة تفخيخ".. لتظهر الجماعة "بقايا عصابة مصدومة، مهمشة، ومفككة..."
انتهت ماينهوف معلقة في سقف زنزانتها، وقبض على غوزمان في بيت راقصة.. وبسقوط "العقول المتآمرة" ترهلت العضلات... فهل يحظى "المفكر" ب"نهاية رجل شجاع"... ويكتشف المستثمرون في حملة سيدي محمد أن "عصابة يحظيه" ليست سوى كاميرا خفية...
د. محمد اسحاق الكنتي