استطاعت ثورة 23 يوليو أن تؤسس لقوى الصراع وأطرافه على المستوى العربي، حركة تحرر عربية قادت نضال الأمة من أجل الحرية والوحدة، واستطاعت أيضًا أن تؤسس وتقود حركة تحرر عالمية مع قوى التحرر الناهضة فى العالم الثالث، ابتداءً من المؤتمر الآسيوى الأفريقى فى باندونج (إندونيسيا 1955)، ثم مؤتمر بريونى (يوغسلافيا– يوليو 1956)، وبعده مؤتمر بلجراد 1961، وما تلاها من مؤتمرات وضعت حركة التحرر فى العالم وجهًا لوجه ضد قوى الهيمنة والاستعمار.
ركزت ثورة 23 يوليو 1925 فى سياستها الخارجية منذ انطلاقها على ثلاثة محاور طموحة، هى: «العالم العربى والإسلامى والقارة الأفريقية والدائرة الأفرو آسيوية»، فعلى صعيد الدائرة العربية قدمت الثورة الدعم لحركات التحرر الوطنى فى الجزائر وتونس واليمن والمغرب والعراق والسودان وليبيا، والتفت الحركات الوطنية فى العالم العربى حول الثورة المصرية وتجاوبت مع أفكارها.
كما تبنت الثورة فكرة القومية العربية وحلم تحقيق الوحدة بين شعوب الوطن العربى، حيث صارت الصهيونية والاستعمار يمثلان التحدى الأخطر على الأمن القومى العربى، وقد سعت على الجانب الآخر القوى الاستعمارية نحو تقويض وفك ارتباط ذلك المشروع الناصرى الوطنى القومى.
إذا كانت وحدة مصر وسوريا انتهت إلى الانفصال؛ فإن أهم إنجازاتها أنها جعلت الوحدة العربية تخرج إلى حيز التنفيذ، وأنها هدف قابل للتحقيق، ثم، وهذا هو الأهم، أنها ربطت وبقوة وعن تجربة بين هدف الوحدة وهدف التحرير والاستقلال الوطنى والقومى بمعناه الواسع والشامل، سواء كان تحرير القرار الوطنى داخل كل قطر عربى أو تحرير الإرادة الوطنية والقومية فى مواجهة القوى الخارجية المعادية لوحدة الأمة واستغلالها. وجاءت نكسة يونيو ١٩٦٧ لتؤكد عمق هذا الارتباط، فالقوى التى تآمرت على الوحدة هى نفسها القوى التى دبرت لعدوان يونيو ١٩٦٧ من أجل كسر إرادة الأمة نهائيًا وحرمانها من الحرية والوحدة، ومن هنا جاء الارتباط بين الحرية والوحدة فى المشروع القومى لثورة ٢٣ يوليو.
لقد ارتبط المشروع الوحدوى لثورة ٢٣ يوليو الناصرية بمشروعها التحرري، ذلك لأن النضال من أجل تحرير الأقطار العربية من الاستعمار كان يتم تحت راية العروبة والنضال من أجل عزتها وكرامتها، وكان يستمد قوته من الطموح نحو الوحدة انطلاقًا من وحدة النضال ووحدة المصير ووحدة الأمل فى غدٍ عربى أفضل، وهنا بالتحديد نجد أن فلسطين وقضيتها قد فرضت نفسها وبقوة على جوهر ومحتوى هذا المشروع وهى التى جسدت تلك العلاقة الجدلية بين التحرير والوحدة.
ساعدت فى إنشاء حركة «فتح» ثم «منظمة التحرير الفلسطينية» عام 1964.
اهتمت الثورة بالقضية الفلسطينية التى كانت فى مقدمة قضايا التحرر الوطنى، ولعبت دورا بارزا فى عرض القضية أمام المحافل الدولية، وأيدت حقوق الشعب الفلسطينى وحث المجتمع الدولى على القيام بدوره فى حل القضية، وساعدت فى إنشاء حركة «فتح» ثم «منظمة التحرير الفلسطينية» عام ١٩٦٤.
لقد انحازت طلائع ثورة يوليو للقضية الفلسطينية قبل بدئها بخمس سنوات، ففى سبتمبر ١٩٤٧ قررت لجنة الضباط الأحرار مساندة حركة المقاومة العربية فى فلسطين، وأرسلت بعض أعضائها كمتطوعين، وانضم بعض هؤلاء من دمشق إلى جيش الإنقاذ العربى بقيادة فوزى القاوقجي، وقال جمال عبدالناصر لزملائه: «لو فرض القتال فى فلسطين؛ فإن ذلك لن يكون مجرد حرب فى أرض عربية، بل سيكون واجبا مقدسا للدفاع عن النفس»، وهكذا أدخل جمال عبدالناصر مبكرا قضية فلسطين إلى عمق قلب وروح مصر، ليصبح الدفاع عن فلسطين دفاعا عن النفس.
وعندما وصل الجيش المصرى إلى فلسطين فى مايو ١٩٤٨، كان من بين مقاتليه كثيرون من الضباط الأحرار الذين تأثروا باستهانة الحكومة المصرية فى الإعداد لهذه الحرب وبسوء العتاد والذخائر، وكانت مأساة هذه الحرب هى الشرارة التى عجلت بانطلاق الثورة فى مصر يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢.
ولقد أدرك الضباط الأحرار أن قضية فلسطين هى حائل دون تحقيق وحدة الوطن العربى بين شطريه فى المشرق والمغرب، ففلسطين بعد احتلالها من جانب العصابات الصهيونية تحولت إلى خنجر مغروس فى ظهر الوطن العربى يستحيل معه تحقيق الوحدة إلا بعد استرداد الأرض السليبة.
على الجانب الآخر، وعى قادة الكيان الصهيونى هذه العلاقة مبكرا بين تحرير فلسطين والمشروع الثورى الناصري، لذلك صمم ديفيد بن جوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل، على غزو مصر فى سنة ١٩٥٥ لتوسيع رقعة إسرائيل من ناحية، وتحجيم عبدالناصر من ناحية أخرى.
وقال بن جوريون فيما بعد أمام الكنيست: «كنت أخشى دائما قيام شخصية كتلك التى قامت من بين الحكام العرب فى القرن السابع أو مثل (كمال أتاتورك) الذى قام فى تركيا بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولي. فقد رفع معنوياتها وحولها إلى أمة مقاتلة».
التقارب مع الاتحاد السوفيتى ومحاربة الوجود الأمريكى
كانت العلاقة بين الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والاتحاد السوفيتى عقب ثورة ٢٣ من يوليو، متدهورة بسبب دعم الاتحاد للحزب الشيوعى المصري، الذى كان يحاربه عبدالناصر فى تلك الفترة، إلا أن الخلاف الذى وقع بين عبدالناصر والاتحاد السوفيتى فى عام ١٩٥٥، بسبب الغارة الإسرائيلية على قطاع غزة ورفض الولايات المتحدة منح مصر السلاح اللازم.
وبوساطة من الرئيس الصينى آنذاك، شواين لاي، وقعت مصر على أول صفقة أسلحة سوفيتية عام ١٩٥٥، استمرت العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتى طوال السنوات التى تلت عام ١٩٥٥، إلى أن قررت الولايات المتحدة سحب عرضها بالمساهمة فى بناء السد العالي، حتى إعلان عبدالناصر تأميم قناة السويس.
عادت التوترات مرة أخرى فى عام ١٩٥٩، عقب الخلاف الذى وقع بين عبدالناصر والقائد السوفيتى خروتشوف، بسبب دعم الأخير للأحزاب الشيوعية فى العراق وسوريا، وبسبب اعتقالات الشيوعيين فى مصر وسوريا، إلى أن بدأ خروتشوف فى الهجوم على عبدالناصر.
الشرارة الأولى لحركات التحرر الأفريقى
«كيف يمكن تجاهل وجود قارة أفريقيا؟.. لقد شاء القدر لمصر أن يكون لها نصيب فيها.. وأن الصراع بشأنها سوف يؤثر فى مصر سواء أرادت أم لم ترد»، بهذه المقولة الشهيرة افتتح الرئيس الراجل جمال عبدالناصر عهدا جديدا من العلاقات المصرية- الأفريقية فى أعقاب ثورة ٢٣ يوليو، التى لم تكتف فقط بتحرير مصر، وإنما انعكست أصداؤها على كافة دول القارة السمراء.
فلم تكن الدائرة الأفريقية أقل أهمية من سابقتها العربية؛ حيث اعتبرها عبدالناصر عمقا استراتيجيا وأمنيا وثقافيا وحضاريا لمصر والوطن العربى، ولعبت مصر دورا حيويا فى تحرير دول القارة من القوى الاستعمارية؛ حيث كانت جميعها خاضعة للاستعمار ما عدا دولتين هما: ليبيريا فى الغرب، وإثيوبيا فى الشرق.
وساندت الثورة المصرية فى منتصف الخمسينيات ثورة «الماو ماو» فى كينيا ودعمت زعيمها جومو كينياتا، كما أرسلت مصر قوات لدعم الكونغو، وأسهمت فى القضاء على العنصرية فى القارة، كما حدث بدعم الرئيس عبدالناصر فى دعم المؤتمر الوطنى الأفريقى بزعامة نيلسون مانديلا، الذى كان يثمن دور مصر وعبدالناصر فى تحرير جنوب أفريقيا من نظام الفصل العنصري.
وأشاد الزعيم الأفريقى نكروما بالدور المصرى فى دعم حركات التحرر الأفريقى بقوله: «إنه بعد معركة السويس ١٩٥٦، بدأنا نتحرك لتحرير أفريقيا بمساندة ودعم كبيرين من جانب مصر عبدالناصر».
كما نجحت مصر بقيادة عبدالناصر فى إجهاض المؤامرة التى دبرها الاستعمار فى ذلك الوقت، لخلق انقسام داخل القارة، بإقامة كتلة من الدول المرتبطة به سميت بكتلة «مونروفيا»، إذ قام عبدالناصر بإقناع الدول أنه ليس فى مصلحة القارة أن تنقسم إلى تكتلات ولا بد من إنشاء منظمة قارية واحدة تمثلت فى «منظمة الوحدة الأفريقية» فى ٢٥ مايو عام ١٩٦٣.
وعقدت المنظمة قمتها الأولى فى القاهرة برئاسة جمال عبدالناصر اعترافا منها بدوره، ثم قرر عبدالناصر، فيما بعد إنشاء لجنة لتحرير دول أفريقيا التى لم تحصل على استقلالها بعد، ولم يتخلف خلال عهده كله عن قمة أفريقية واحدة لمنظمة الوحدة الأفريقية.
كما لعبت منظمة الوحدة الأفريقية دورا فعالا فى استكمال تحرر باقى دول القارة، كما استضافت مصر الثوار الأفارقة فى مقر دائم لهم بالزمالك والموجود إلى الآن والذى يطلق عليه الجمعية الأفريقية، وتحمل لافتات المنظمة إلى الآن، هذا الموقع الذى شهد وفودا عديدة جاءت إلى مصر لكى تتزود بالقوى المعنوية والمادية.
ومرت «منظمة الوحدة الأفريقية» بعدد من المحطات حتى تحولت إلى «الاتحاد الأفريقي»، الذى تم التصديق على قانونه التأسيسى فى ١١ يوليو عام ٢٠٠٠ بعد القمة الاستثنائية التى عقدت فى (سرت) فى ٩ سبتمبر ١٩٩٩.
فى الوقت نفسه، لم تتجاهل الثورة البعد الدولى للأمن القومى المصرى، حيث أسهمت فى تأسيس التضامن بين قارتى آسيا وأفريقيا؛ حيث عقد مؤتمر «باندونج» عام ١٩٥٥، ومن مؤتمر باندونج شاركت فى تأسيس حركة «عدم الانحياز» عام ١٩٦٢.
توحيد الجهود العربية وحشد الطاقات العربية لصالح حركات التحرر العربية، أكدت للأمة من الخليج إلى المحيط أن قوة العرب فى توحدهم، وتحكمها أسس أولها تاريخي، وثانيها اللغة المشتركة لعقلية جماعية، وثالثها نفسى واجتماعى لوجدان واحد مشترك. أقامت الثورة تجربة عربية فى الوحدة بين مصر وسوريا فى فبراير ١٩٥٨، قامت الثورة بعقد اتفاق ثلاثى بين مصر والسعودية وسوريا، ثم انضمام اليمن، والدفاع عن حق الصومال فى تقرير مصيره، ساهمت الثورة فى استقلال الكويت، وقامت الثورة بدعم الثورة العراقية، وأصبحت مصر قطب القوة فى العالم العربى، مما فرض عليها مسئولية الحماية والدفاع لنفسها ولمن حولها، ساعدت مصر اليمن الجنوبى فى ثورته ضد المحتل حتى النصر وإعلان الجمهورية، كما ساندت الثورة الشعب الليبى فى ثورته ضد الاحتلال، ودعمت الثورة حركة التحرر فى تونس والجزائر والمغرب حتى الاستقلال، دعمت الشعب العربى فى دولة الأحواز المحتلة فى نضاله من أجل الحرية والاستقلال. كان هدف تحرير مصر هو الهدف الأهم والأكثر حيوية بالنسبة لقادة ثورة ٢٣ يوليو، فتحرير مصر مفتاح تحرير فلسطين وكل الدول العربية، وإطلاق ثورة التحرر الوطنى العربية لتحقيق الاستقلال وبناء حلم الوحدة، ولذلك فإن هدف تحرير مصر الأرض والإرادة والإنسان كان محورًا لكل الأهداف الستة التى قامت الثورة من أجلها، ولكن الوعى القومى بالعروبة والوحدة كان مستحكمًا فى عقل قائد الثورة. لقد كانت الهوية العربية لمصر، هى الحقيقة الأهم التى حرص عبدالناصر على إبرازها فى كتابه الأول المبكر «فلسفة الثورة»، الذى أشار فيه إلى ثلاث دوائر يجب على مصر أن تتحرك بسياستها فيها، هي: الدائرة العربية، والدائرة الأفريقية، والدائرة الإسلامية.
دعم ثورة الجزائر
تبنت مصر خلال الخمسينيات والستينيات قضية الجزائر وعملت على تدعيمها؛ حيث أكد كريستيان بينو، وزير خارجية فرنسا وقتئذ، أن التمرد فى الجزائر لا تحركه سوى المساعدات المصرية، فإذا توقفت هذه المساعدات فإن الأمور كلها سوف تهدأ؛ لوجود مليون مستوطن فرنسى فى الجزائر، ولأن فرنسا اعتبرت الجزائر جزءًا لا يتجزأ من فرنسا، مما ترتب عليه اشتراك فرنسا فى العدوان الثلاثى على مصر. ولهذا أصدرت جبهة التحرير الوطنى الجزائرية بيانًا قالت فيه، لا ينسى أى جزائرى أن مصر الشقيقة تعرّضت لعدوان شنيع كانت فيه ضحية تأييدها للشعب الجزائرى المناضل. ولا ينسى أى جزائرى أن انتصار الشعب المصرى فى معركة بورسعيد التاريخية، ليس إلا انتصارا لواجهة من واجهات القتال العديدة التى تجرى فى الجزائر منذ ثمانية وثلاثين شهرًا، وأن الشعب الجزائرى المنهمك فى معركته التحريرية الكبرى ليبعث إلى الشعب المصرى الشقيق وبطله الخالد جمال عبدالناصر بأصدق عواطف الأخوة والتضامن كما دعمت ثورتى اليمن والمغرب.
البوابة نيوز