إعلان

تابعنا على فيسبوك

أحمد الوديعة: سيليبابي التي ودعت

أربعاء, 28/08/2019 - 18:40

كانت ولاية گيدي ماغا حتى فجر الاثنين الماضي من بين ولايتين من ولايات الوطن الحبيب لم تتح لي قط فرصة زيارتهما،وهو ما ظل يمثل بالنسبة لي مصدر شعور بالتقصير(سيظل هذا الشعور مستمرا إلى أن أجد الفرصة لزيارة الولاية الأخيرة)
حين وصلت المدينة كانت تدخل يومها الثاني من أيامها الممطرات، وكانت التوقعات أن الأسبوع سيكون ممطرا كله ،لكن أحدا لم يتوقع أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه ضحوة الاثنين فقد حولت الأمطار الغزيرة والسيول المنهمرة من أعالي الجبال المدينة إلى نهر، لقد وصلنا بالفعل إلى حافة الغرق في حالة لم نشهد لها مثيلا قط يقول موظف إداري متقاعد تقول تجاعيد وجهه أنه قارب الثمانين حولا.
مع اقتراب ساعات الظهيرة كانت جموع من النسوة تتدافع من حي أدباي اسعيد لا يلوين على شيئ فقد وصلت الحي الفقير الموجود غير بعيد من الحي الإداري أنباء عن غرق ثلاث شبان من أبناء الحي؛ كلهم دون العشرين ثلاثتهم حراطين، جميعهم متدينون ويعيلون أسرا فقيرة.. لاحول ولاقوة إلا بالله..
لم تعد السماء وحدها التي تنهمر فاهي دموع الثكالي تنهمر أيضا ليلتقي الماء على أمر قد قدر.
وحدهن النسوة المفجوعات كسرن حالة حظر التجوالالتي فرضها المطر قبل أن تلحق بهن جموع حركتها دموعهن السخينة فكان ما يشبه انتفاضة قيضها الله لساكنة أحياء أخرى كانت على شفا الغرق .
التويميرت والحدائق والعدالة أحياء أطبقت عليها سيول الأودية من كل الجهات والسماء تمطر ومستوى ارتفاع المياه في بعض المناطق قارب المتر وربما زاد.
كانت النجدة الأسرع للساكنة من وسائط التواصل الاجتماعي فقد كانت الصور والفيديوهات القصيرة التي تم تداولها هي من حرك بعض المتطوعين الذين كان لهم دور في إنقاذ أسر كانت على وشك الغرق بشكل كلي.
...
ما يحز في النفس أن تأتي النجدة من الأبعدين جغرافيا وتتأخر من القواعد والثكنات العسكرية العديدة الموجودة بحمد الله في المدينة وأطرافها؛ لقد كدت أن أنشدكم
يبكي عليه غريب ليس يعرفه.. وذو قرابته في الحي مسرور
لكني عدلت عن ذلك فالصورة غير منطبقة بالمرة؛ أعرف أن الذين لم يتدخلوا غير مسرورين بالمرة ولكنها سياسات وعقليات حكامنا المبنية على احتقارنا والتهاون في حمايتنا مع أن ذاك هو جوهر العقد الذي بيننا وبينهم.. نحن نتمنى أن يكون عقدا أما هم فيعتبرون حكمهم استحقاقا وتبعيتنا قدرا.

..
ما إن انحسرت المياه عن كرفور الاسم المحلي للجسر الذي وقع عليه الشبان الثلاثة حتى كانت الجموع تتدافع عليه في حالة من الذهول والاندفاع وكانت مجموعات تدلف إلى الوديان المحيطة رغم ما في ذلك من مخاطر حقيقية بحثا عن الشبان المفقودين.
الوجوم هو سيد الموقف فالناس " هائمون على وجوههم" يتبادلون نظرات الحزن والإحباط والحسرة كان من التعليقات التي كسرت حالة الصمت تعليق لرجل خمسيني استغرب فيه عدم إغلاق الشرطة وقوات الأماكن الخطرة في وجه الشباب ومنعهم من الوصول إليها ولو تطلب الأمر استخدام مسيلات الدموع تلك التي يسرعون في استخدامها كلما خرجنا من وجهة نظرهم عن النظام العام.
...
مشهد الغروب بطبيعته من المشاهد التي تفعل بي الأفاعيل لكن مشهد غروب يوم الكارثة والجموع تسابق الظلام عساه تظفر بالشاب السغير ولد نشينو المشهود له بحسن الأخلاق قطع نياط القلب، ليس للبعد الإنساني العادي المرتبط برهبة الموت بل لبعد انساني سياسي وطني فقد مرت ساعات على صرخات الثكالي وهاشتاكات مواقع التواصل الاجتماعي دون أن يحرك الأمر شعرة من سكون منظومة أسست على الرتابة واحتقار المواطنين من أول أمضى ساكنة المدينة يوم الاثنين وليل الثلاثاء بدون كهرباءولا ماء، وبالطبع كان الطريق الوحيد الذي يربط المدينة ببقية مدن الوطن قد قطع، لعل التلفزيون الحكومي أسس غلى هذه الانقطاعات تجاهل أي أخبار عن الكارثة في نشراته الرئيسة فقد شغلته عنها غابات الأمازون!!
في اليوم التالي للكارثة أتيحت لي فرصة تقديم واجب العزاء لعائلات الضحايا رفقة وفد من مكتب تواصل على مستوى الولاية فوجدت ناسا مؤمنين صابرين محتسبين قنوعين،تجدد إحساسي وأنا أجلس بينهم بفداحة الخطيئة التي اقترفت والتي ما زالت تقترف بحق ناس كرماء بسطاء شرفاء متسامحين.
يومان مرا كساعات تعرفت فيهما على مدينة جميلة تحس أنها من المدن التي لها روح، وليست كل المدن لها أرواح بل إن بعضها وإن أخذ زخرفه وازين يظل كورد المكاتب لأعرف له كما عبر المبدع التقي ولد الشيخ
أسرني في سيليبابي رغم أجواء الحزن المخيمة أنها مدينة ترى وتسمع فيها موريتانيا كلها ترى فيها الحراطين بسحناتهم الجميلة التي تحكي تاريخ ما يسميه صديقنا المبدع محمد سالم ولد محمدو الحزن النبيل، وترى الصوننكي بأناقتهم وابتسامتهم التي تحاول اخفاء مزاج التحفظ الغالب ويلاقيك الفلاني بملامحه الأصيلة التي تخبرك قبل أن تسأل عن مدى الاعتزاز بالهوية والإصرار على مسارالكفاح والعناد، ولن يطول بك المسير حتى يستقبلك بيظاني بشوش يسألك عن حالك وبرنامجك ويعرض عليك بتلقائية ولطف تناول كأس شاي في البوتيگ أو الصيدلية.
الأجمل في المشهد السيليبابي أن تجاور ساكنتها ليس " تامشيفارت الصدر" بل هي تامشيفارت تمازج وحب تسمعه تداخل لغات وتراه تحاور عيون.
صباح اليوم كانت الساكنة مبتهجة بفتح الطريق وكنت مثلهم لأنه لايمكنني الا أن افرح لفرحهم ولكنني كنت أغالب شعورا بن زريقيا عاتيا؛.
فقد أجهز فتح الطريق على اعذار البقاء وجعلني أواجه لحظة وداع مدينة وقعت في شراكها منذ اللحظة الأولى فقد جمع الله لها ثلاثي " جلي الأحزان" وأشياء أخرى أجملت الحديث عنها بالروح ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
أودع سيلبابي الآن ضحوة الأربعاء وبودي أن لا أودعها.. 
وكم تشبث بي وقت الرحيل ضحى.. وأدمعي مستهلات وأدمعه.
في أمان الله.

أحمد ولد الوديعة