مُعظم التطوّرات السياسيّة، إن لم يكن كلها، تسير وفق ما تشتهي إيران، فالسيّد حسن روحاني كان نجم الدورة الحاليّة للجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، ودونالد ترامب، الرئيس الأمريكي الذي يُشهر سيف العداء لطِهران، ويفرِض عليها عُقوبات خانقة، باتَ مُنشغلًا بفضائحه الانتخابيّة، ويقِف على أعتاب تحقيقاتٍ من مجلس النواب الأمريكي قد تؤدّي إلى عزله، أو تقليص فرص فوزه بولاية ثانية كأضعف الاحتمالات، وها هي الصين تنزل إلى الحلبة وترصُد 450 مليارًا لدعم الاقتصاد الإيراني.
الدبلوماسيّة الإيرانيّة كانت الرابحة على المَسرح الدولي، وميدان الأمم المتحدة ودهاليزها خاصّةً، فمُعظم الزعماء الغربيين كانوا يقِفون في طابور طويل للقاء الرئيس روحاني، وبذَل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جُهودًا كبيرةً لتحقيق اختراق بجمعه مع الرئيس ترامب الذي يتحرّق شوقًا لمِثل هذا اللقاء، ويستجدي الوسطاء لترتيبه، أو حتى مُصافحة عابرة أمام عدسات التلفزة، ولكن هذا الاختراق لم يتم، بل بدأ يعطي نتائج عكسيّة، بالنسبة إلى ماكرون وأوروبا، فالإيرانيّون لا يقعون في المصيدة الأوروبيّة بسهولةٍ، وليسوا مُغرمين بالصور والمُصافحات والابتسامات المُصطنعة، فالصّور مثلما قال الرئيس روحاني تتّخذ في المرحلة الأخيرة من المُفاوضات وبعد التوصّل إلى اتّفاق وليس في بدايتها.
السيّد علي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإيرانيّة أكّد مجددًا أنّه هو الذي يمسك بكُل خُطوط اللعبة الدبلوماسيّة، وهو الذي يحدّد قواعدها، فعندما يؤكّد في موقعه الرسمي الخاص على “أنّ إيران تستطيع التفاوض مع العالم أجمع باستثناء أمريكا والكيان الصهيوني”، ويشُن هجومًا شرسًا على الأوروبيين الذي قال إنّهم لا يختلفون أبدًا عن أمريكا، وما زالوا مُلتزمين بالحِصار الأمريكي، “ولا ينفّذون وعودهم باتّخاذ أيّ إجراء ضدّه” فهذا يعني أن انتظار الرئيس ترامب للقاء روحاني على مائدة المُفاوضات سيطول، وربّما لن يتم مُطلقًا، لأنّ أيّام ترامب باتت معدودةً في ظل الأزمات التي تُحيط به من كُل جانب وروحاني استنفذ سنواته في السلطة تقريبًا، بعد فوزه بولايةٍ ثانية، والرئيس الإيراني المُقبل ربّما يكون من جناح المُتشدّدين، حسين سلامي أو قاسم سليماني مثلًا.
***
الإيرانيّون، مثلما أثبتت الأحداث وتجارب السنوات، بل العُقود الماضية، يتمتّعون بنَفَسٍ طويل، ويتمسّكون بكُل شُروطهم، وغير مهووسين بالغرب، ولا يخشونه أو يهابون قوّته، مِثل نُظرائهم العرب، ولهذا من المُستحيل أن يذهبوا إلى مائدة المُفاوضات، وسيف العُقوبات مُسلّطًا على أعناق ثمانين مِليون إيراني.
نتّفق كُلِّيًّا مع المرشد في تصنيفه للأوروبيين كأتباع للولايات المتحدة لا يرفضون لها طلبًا، لأنّهم شاركوا، وسيُشاركون في جميع حُروبها، في أفغانستان والعِراق وسورية وليبيا، وربّما قريبًا في إيران، والرّهان عليهم رهان كحليف، أو كقُوّة مُوازية لأمريكا يُمكن الاعتماد عليها رِهانٌ خاسِرٌ.
الأوروبيّون، وبريطانيا وفرنسا على وجه التّحديد، انخرطوا في حربين دون مُوافقة أمريكا، والأولى الحرب العالميّة الثانية، ولولا التدخّل العسكري الأمريكي لخسروها، والثانية حرب السويس، أو العُدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي عام 1956 وخسروها بسبب المُعارضة الأمريكيّة، والأكثر من ذلك خسروا مُستعمراتهم وانهارت امبراطوريّاتهم في مُختلف أنحاء العالم، ومُنذ ذلك التاريخ تراجع الأوروبيون إلى المقاعد الخلفيّة وقرّروا عدم الإقدام على أيّ حرب بدون مُوافقة أمريكا، وخوض جميع حُروبها في الوقت نفسه.
الرئيس ترامب يعيش أسوأ أيّامه، ويقبع حاليًّا في غرفة إنعاش مجلس النواب التي تُشرِف عليها المرأة الحديديّة نانسي بيلوسي، ولا نعتقد أنه في موقع يؤهّله خوض حروب ضِد إيران، ولمصلحة حماية حُلفائه في الخليج، وخاصّةً السعوديّة والإمارات في الوقت نفسه، ممّا يعني أنّ إيران “ستجول وتصفر” مثلما تريد بعد أن خلا لها الجو، ولو في المرحلة الحاليّة على الأقل، ولا يُمكن أن نتجاهل في هذه العُجالة حالة الفوضى السياسيّة التي تعيشها الدولة العبريّة المُحرّض الأكبر على هذه الحرب.
المُبادرة التي طرحها السيّد روحاني في خطابه أمام الأمم المتحدة وتضمّنت دعوةَ دول منطقة الخليج إلى المُشاركة في تحالفٍ أسماه “تحالف الأمل” أهم بُنوده “عدم الاعتداء وعدم التدخّل في الشؤون الداخليّة للدول الأخرى الأعضاء فيه”، تستحق الدراسة، ولعلّها تكون المخرج من حالة التوتّر الحاليّة، خاصّةً في ظِل انعدام البدائل للأطراف العربيّة المعنيّة، فهل ستنتظر دول الخليج حتى تتفاوض أمريكا سِرًّا مع إيران، وتوقّع صفقةً معها وبشُروطها ومن وراء ظهرها، مثلما حصل بالاتّفاق النووي عام 2015، وتكون مِثل الزّوج المَخدوع آخر من يعلم؟
ترامب لن يُحارب إيران لحماية دول الخليج، وهو الذي عارض الحرب على العِراق، وأفغانستان، وجعل من سحب القوّات الأمريكيّة منهما العُنوان الأبرز لحملته الانتخابيّة الرئاسيّة السابقة، وكُل من يقول بغير ذلك وأهم، ولا نقول أكثر من ذلك.
إيران تقول وتفعل، خصّبت اليورانيوم بأجهزة طرد مركزي حديثة ومُتطوّرة، وبمُعدّلات عالية، وأسقطت طائرة مسيّرة أمريكيّة، واحتجزت ناقلة بريطانيّة أعطبت ست ناقلات أخرى، وقدّمت لأذرعها العسكريّة في لبنان وغزّة واليمن والعِراق أحدث الصّواريخ والطائرات المُسيّرة، والتّكنولوجيا اللّازمة لإنتاجها محلِّيًّا، وما العَيب أن تستخدم حركة “أنصار الله” الحوثيّة صواريخ وطائرات مُسيّرة إيرانيّة، فهل تُحارب السعوديّة والإمارات ومِصر والأردن وإسرائيل بأسلحةٍ من إنتاجِ مصانعها الحربيّة؟ أرجوكم احترموا عُقولنا؟
***
نكتُب هنا بكُل موضوعيّة، ونعتز بعرُوبتنا التي تخلّى عنها الكثيرون أثناء لهاثهم خلف أمريكا، وانخِراطهم في جميع حُروبها ضِد كُل المشاريع النهضويّة العربيّة، والاستغلال بالحماية الإسرائيليّة وفتح أبوابهم لوزرائها ورياضيها، وإغلاقها في وجه الأشقّاء، نحنُ لم نتغيّر، وهم الذين لم يتعلّموا مُطلقًا من أخطائهم، وما زالوا يُراهنون على أمريكا وأسلحتها التي فقدت هيبتها وأثبَتَت فشَلها؟
نحنُ مع المُبادرة الإيرانيّة في الحِوار وعدم الاعتداء ورفض أيّ تدخّل في الشؤون الخارجيّة، ولتكُن هُدنةً تُفسِح المجال لعودة “المُرتدين” إلى الثّوابت العربيّة، وتوجيه بوصلتهم نحو العدو الحقيقي الذي يُهدّد الأمّة، أيّ دولة الاحتلال الإسرائيلي، والبِدء في بناء مشروع نهضويّ عربيّ في الصّعد كافّة، وفي مُقدّمتها الصّعيد العسكريّ، أمّا الاكتفاء بالاعتماد على الآخرين مُقابل المِليارات فلن يقود إلا إلى الغَرق أكثر في مُستنقعات الضّعف والخُذلان والمَهانة، وإهدار ثَرَوات الأُمّة وأجيالها الحاليّة والقادمة.
عبد الباري عطوان- رأي اليوم