تنهض المفاهيم بدور رئيس في بنية الخطاب؛ فهي الهيكل الذي تنسج حوله العلاقات المنتجة للمعنى. وتختلف أهمية المفاهيم التي يتمحور حولها الخطاب؛ فمنها ما هو مركزي مثل مفهوم "المخزن" بالنسبة لموضوعنا. وغالبا ما تكون المفاهيم المركزية ذات طابع إشكالي بفعل تنازع التعريف والتوظيف. فإذا كان التعريف يقوم على "الحد"، ويميل إلى المعنى الأولي، فإن التوظيف يعمل على تجاوز "الحد" ليفتح "المعنى الأولي" على دلالات جديدة تغني المفهوم بتحريره من حده اللغوي، من صفحات المعاجم، إلى الفضاء الاجتماعي الواسع...
لقد مر مفهوم المخزن من هذا الطريق. فقد دل معناه اللغوي على "اسم مكان من خزن يرجع به بعض المؤرخين إلى القرن الثاني، حين استعمل في إفريقيا (تونس) اسما للصندوق الحديدي الذي كان أمير تونس يخزن فيه أموال الخراج والجزية." لكن المفهوم ما لبث أن اغتنى بمعنى مختلف تماما في المغرب الأقصى حين استعمل للدلالة على "مجموع هياكل الدولة المغربية خلال القرن التاسع عشر..."(يحيى بولحية: المخزن في مغرب القرن التاسع عشر، ناظرا ومنظورا إليه، موقع عُمران). يميل بعض الباحثين إلى إرجاع مفهوم المخزن الدال على هياكل الدولة إلى عهد الدولة الموحدية "التي أصبح فيها مصطلح المخزن متداولا في الكتابات الرسمية..."، فقد استخدم البيدق عبارة "عبيد المخزن في كتابه "أخبار المهدي بن تومرت وبداية الدولة الموحدية"، وكذلك خالد الناصري في كتاب "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"(أنوار الوالي: مفهوم المخزن السياق والدلالات). وذهب الباحث الفرنسي ميشو بيلير "إلى أن الدولة المرابطية كانت أول من وظف مصطلح “المخزن” في التاريخ المغربي."(البشير أبرزاق: في مفهوم المخزن المغربي: الأصول والاتجاهات).
لم يكن المخزن مجرد جهاز إداري وإنما اضطلع بوظائف اجتماعية مثلت ظهيرا لا غنى عنه لتأدية وظائفه الادارية بنجاعة، وإكسابه الشرعية التي تضمن خضوع الرعايا لسلطانه.. " كانت هذه الكلمة “المخزن” تطلق في مجموع أرض المغرب على هيئة إدارية وتراتيب اجتماعية، وعلى سلوك ومراسيم، أو بعبارة جامعة كان المخزن سيفا وقلما نما وتطور في كل دولة وإمارة،.."(ن.م.)
ولعل أبلغ تعريف للمخزن هو ذلك الذي اعتمده أحد أركانه الحاجب الوزير باحماد(حكم من 1890-1900)، في لحظة واجه فيها "المخزن" خطر التفكك حين مات المولى الحسن الأول (1873-1894)، فخطب الحاجب في أركان المخزن.. "فلتسمعوني جيدا أيها القواد، ماذا نقصد بالمخزن؟ إنه خيمة كبيرة، تشبه هذه التي نجتمع داخلها اليوم، وتحتاج لبقائها قائمة ومقاومة للعواصف، لكل دعاماتها الرئيسة: فالسلطان هو ساريتها المركزية، أو الجذع الضخم لشجرة الأرز، الذي يرفع هذه الخيمة عاليا. لكن مجموع الأوتاد المبثوثة في الجنبات، التي تشد الحافات الممدودة وتمنع الرياح من رفعها هم أنتم أيها القواد."(يحي بولحية). من هذا التعريف تظهر مركزية السلطان في مؤسسة المخزن التي تلتف حوله فتثبت شرعيته، ويستخدمها لممارسة سلطانه، وبذلك ارتبط المخزن بالسلطان.. " ويعني مخزن-السلطان شيئين متكاملين: من جهة مؤسسة سياسية يمارس عبرها الحكم، ومن جهة ثانية نظام اجتماعي وسياسي له ميكانيزماته وتشعباته وجميع دواليبه (السلطان، الجيش، الموظفون)، وكل ما يرتبط بالسلطان أو يضع نفسه في خدمته، ومدافعا عن شرعيته سعيا وراء الاعتراف له بصفة الانتماء."(أبرزاق، م. س.) يرجع أبرزاق استقرار مفهوم "المخزن" على هذا المعنى إلى نهاية القرن التاسع عشر " وهي الفترة التي احتك فيها المغرب بالآخر الأوربي بشكل واضح."(ن. م.)، وفيها وظف المستكشفون الأوربيون مفهوم "المخزن" تمهيدا لوضع المغرب تحت الوصاية.
قررت فرنسا، بعد سلسلة من التفاهمات مع الانجليز والاسبان وضع المغرب تحت وصايتها فباشرت "التغلغل السلمي" عن طريق مستكشفين ورحالة ما لبثت أعمالهم أن خضعت لمؤسسات "علمية" تنظم وتستثمر المادة الخام المتراكمة؛ فأسس لوشاتيلي "البعثة العلمية" في طنجة 1903، وصدر العدد الأول من "مجلة العالم الإسلامي" 1906، وأسس "معهد الدراسات العليا المغربية" 1920 في الرباط، ومجلة "أرشيفات بربرية"...(محمد مزيان: المغرب في الأدبيات الكولونيالية الفرنسية ومشروعية الغزو والالحاق، موقع عُمران).
كان الهم الشاغل لكل هذه المؤسسات "العلمية" وغيرها "تبيان أن التاريخ المغربي هو تاريخ "الاخفاقات المتتالية" في تكوين الدولة الوطنية،..."(ن. م.) والهدف من ذلك هو الاعداد للتدخل "الاستعماري، لتنفيذ سياسة الغزو والالحاق وتبريرها."(ن. م.) في هذا السياق سيتم توظيف مفهوم المخزن ليظهر "عدوا رئيسا للقبائل البربرية"، وتحصر مهامه ووظائفه في "استخلاص الضرائب وكسر شوكة المتمردين." ويتم الالحاح على التعارض "بين المخزن ومناطق السيبة"، ضمن ثنائيات متنافرة؛ العرب والبربر، الشرع والعرف، السهل والجبل، المدينة والريف... ليُخلص إلى أن "الدولة المغربية ليست سوى دولة فوضى سخرت جهاز المخزن لفرض الطاعة."(ن. م.).
ينتهي توظيف مفهوم "المخزن" في الأدبيات الاستعمارية إلى ربطه بمفهوم "السيبة" باعتبارهما مأزقا تتردى فيه الدولة المغربية، قلا سبيل إلى حل تناقضهما إلا بفعل خارجي.. "من خلال نعتيْ "بلاد المخزن" و"بلاد السيبة" تتشكل صورة نظام ممزق بين اتجاهين متناقضين؛ يميل الأول نحو نظام مركزي، ويميل الآخر نحو الفوضى،... ولا يستطيع أي من النظامين أن يحقق الغلبة."(ن. م.). تلكم لمحة وجيزة عن تعريف وتوظيف مفهوم "المخزن" لا تكتمل إلا بجلاء مفهوم "السيبة"، في الفضاء الاجتماعي والسياسي الذي نجم فيه.
د. محمد اسحاق الكنتي