البارِحة اغتيل الخليفة أبو بكر البغدادي في عملية أمنيّة تعاونت فيها الاستخبارات التركية والعراقيّة مع القوات الأميركية. يبدو أنّ رأس هذا القائد الهُمام جاء في ترتيبات سياسيّة معيّنة. ففي الأيام الأخيرة اتفقت الأطراف الإقليميّة التقليديّة: تركيا وإيران وسوريا، وطبعاً روسيا وأميركا على إعادة طرح الوضع في سوريا تمّ من خلالِه ضرب كلٍّ من الأكراد والدواعِش. بعد أنْ لعِبوا دورَهم فلي القضاء على دُويلة داعِش، جاء دور الأكراد ليكونوا أكبَر الخاسرين بعد داعِش. حدَث هذا بتعاون إقليمي. الأميركيون الذين ضمنوا توازناً استراتيجياً انسحبوا فيما يبدو صفقة مجهولة. الأتراك قاموا بملء الفراغ. كانوا قد سمحوا بتشكّل الدولة الأسلاميّة في سوريا من خلال السماح بتسلّل المحاربين الأصوليين، بالتعاون مع السعودية وقطر وأميركا في 2011-2016، وصاروا في الأثناء أيضاً حماةً ومُدرِّبين للميليشيات السوريّة الثائرة فأطلقوهُم على الأكراد في محاولة لتغيير الوضع الديمغرافي في الحدود التركيّة السوريّة وخلخلة الوضع الديمغرافي فيه بإسكان مليون لاجئ سوري من العرب غالباً فيه.
انتقامات السلطان أردوغان من الأكراد أخذت منحى تصعيدياً منذ 2015 عندما خسِر الصوت الكردي ودخل في حربٍ مفتوحة مع الأكراد؛ هذا علاوة على أنّها معركة تقليدية للشوفينيّة التركية منذ العهد الأتاتوركي. لكنّ هذه العمليّة التركية كانت أيضاً هديّة لبشّار الأسد لأنّها أعطته ثُلثَ سوريا الخارِج عن سيطرتِه بدون طلقة واحِدة. فقد هرَع إليه الأكراد، مستأجِرين من النار التركيّة، ووقّعوا معه اتفاقاً تنازلوا فيه عن نواياهم الاستقلالية وتخلّوا فيه عن الحُكم الأهلي مقابل وعود بتعيينِهم في هيئات الحكم المحلي على امتداد التراب السوري، هذا ناهيك عن تسليم الأسرى الدواعش والأسلِحة إلى النظام السوري وحلّ جيشِهم وكتائبِهم وانضوائهم في الجيش السوري. هذا الاتفاق كان أيضاً هدية لإيران التي أعاق الاستقلال الكُردي تمدّدها الاستراتيجي من إيران إلى لبنان. وهكذا بالتفاوض مع روسيا اتفقت الأطراف على تقويّة الدولة السوريّة والقضاء على الكيانات السياديّة للأكراد. من الأرجَح أنّ هذا مرحلة أخرى من اعتراف الأتراك بشرعيّة القامِ‘ الدومي، بشّار الأسد، وخفضِهم لنوايا زعزتِه. وسيكون الآن طريقُه مسبولاً لقضم المقاومة السورية لفي إدلِب. بالنسبة للوضع الدولي تمّ تتويج روسيا سيّدة جديدة للشرق الأوساط. أما ترامب فقد أعطِيَ عظمة يمضغُها اسمُها أبوبكر البغدادي. إنّه سعيد بهذه العظْمة ويلوكُها بتلذّذ إذ أنّه يعتقِد أنّها بطاقتُه للولاية الثانيّة (أغلب الظنّ أنّه واهِم).
أمّا بالنسبة للدولة الإسلاميّة فإنّ المأساة مأساة الباقين: فالمقاتِلون الأجانب الذين موّلتهم المخابرات السعودية والقطريّة والتركيّة قد تقطّعت بهم الأسباب. أوَلاً شكّلوا دولة كبيرة ثمّ تفكّك مانِحوهم منذ 2016، بالانسحابيْن القطري والسعودي. والآن يعيش هؤلاء العوائل والأسرى، الذين يُعدّون بالآلاف، مأساةً إنسانيّة فدُولُهم التي سهّلت هجرتُهم الحربيّة ترفُض عودتَهم والمجتمع الدولي يرفُض إقامة محكمة لهم (لأنّ نورمبرغ تحاكِم ضباط الحرب، لا العوائل وصغار الجند). معظمُهم بقي في السجون الكردية (بعضُهم حرّرته تركيا في عملية "نبع السلام" وتركته شوكة في خاصِرة الدولة السورية). ومعظمُهم زوجات وأطفال تقطّعت بهم السبل. أغلب الظنّ أنّه لن يُعادَ تأهيلُهم وأنّهم سيبقون علفاً للحروب البسوسيّة المتوقِدة ولحالة الحرب والبؤس. إنّهم دليلٌ على لا إنسانيّة الاستراتيجيات الامبرياليّة والطائفية، التي تخلق الحروب ثمّ تبيع ضحاياها بدون شفقة. أمّا المركّبات الإعلاميّة التي توقِد الحروب فإنّها سرعان ما تدير وجهها إلى جهة أخرى عندما لا تكون هنالك قيمة سياسيّة للوضع على الميدان، مهما كان درامياً.
عباس برهام