كعادتها وبطبيعتها الإكلاسيكية تبدو موريتانيا رمزا لإنعدام السيادة بمفهومها الحقيقي المجرد من الضبابية لعل هذه الرؤية حقيقة واضحة للموضوعيين الإستثنائيين الذين يقفون على مسافة واحدة للتمعن في باطن الأشياء .
فلا يخفى على أحد أن طبيعة الحكم السياسي عبر مراحل موريتانيا التاريخية كان مجرد ظل لمظلات أجنبية متعاقبة يتبعها في نفس الخطوات مع الحفاظ على مسار الإتجاه .
كان ذلك منذو نشأة الدولة الحديثة إلى يومنا هذا طبعا مع إختلاف تفاوت هذه السيادة التي تختلف بحسب تفاوت ديبلوماسية وقوة الأنظمة السياسية المتعاقبة أنذاك , ففي حكم الأب والمؤسس الرئيس المختار ولد داداه أي مع بزوغ كيان الدولة كان هنالك شبه عصيان لتلك المظلات المعبرة عن الرغبة الصادقة في السيادة رغم الظروف الزمنية الصعبة والقاهرة ورغم الإحتياج والضرورة الملحة التي تصب في مصلحة موريتانيا على أن تبقى تحت جناح المظلة الفرنسية بإعتبارها الراعي الرسمي والمرشد الفعلي للنظام السياسي الوليد العاجز في تلك الأوقات عن حكم نفسه بنفسه نظرا لوجود مجموعة من الأسباب الفعلية من أهمها قلة توفرالنخبة السياسية المحنكة التي لها تجارب وخبرات ميدانية هذا إلى جانب عدم وجود علاقات وإرتباطات خارجية إقليمية ودولية لهذه النخبة حتى تستطيع أن تقدم لموريتانيا دفعا دبلوماسيا سياديا يؤسس لنظام سياسي قوي ومستقل .
ولكن الإستثنائي إذا أمعن النظر في حكم الرئيس المختار سيلاحظ بلا شك ملامح القيادة الواعدة والحكم الرشيد غير المتخبط الذي لاتطبعه عشوائية وفوضوية القرارات تلك التي كانت ومازالت هي السمة البارزة لمن قادوا موريتانيا الوطن خلافا للدولة بمفهومها الحقيقي , فحين يغيب إحدى العناصر الأساسية المكونة له والتي تتمثل في السلطة السياسية فإن كلمة الدولة تصبح في غير محلها ولاغية يكذبها الواقع لأنها تفتقد للجوهر المكون للمفهوم .
إن نظام الحكم السياسي إبان عهد المؤسس كان نظاما سياسيا يعي ضرورة تجسيد السيادة الوطنية وتكثيف الجهود لممارستها على الميدان بحرية مطلقة دون أي قيود أو تدخل من الأيادي الأجنبية التي لاتكاد تسلم منها صغيرة ولاكبيرة وذلك بهدف البقاء على علم وإطلاع مستمر للأحداث سواءا كانت محلية أوإقليمية أوحتى دولية .
لذا كانت طبيعة الحكم السياسي تدرك ذلك التدخل وتعمل على إثبات وجودها وثبات وإستقلالية قراراتها السيادية في شؤونها الداخلية رغم العقبات والضغوطات الممارسة عليها من قبل أسيادها الإستعمارية التي لاتزال تحاول الإمساك بمقود القيادة بأساليب مغايرة لسابقيها رغم ميلاد الدولة الحديثة الذي جاء من فراغ دون حاجة ماسة إليه لأن المجتمع الموريتانيي مجتمعا بدويا قبليا متسامحا يعيش في سلام لايعرف الدولة قط ولا النظام السياسي , وهو في غنى عنه فلكل مجتمع قبلي سلطة وحيز جغرافي ويمثل دولة محلية يجهل أن لها نفس مواصفات الدولة بمفهوم إفلاطون .
لقد أعطى ذلك النظام دفعا للدبلوماسية المويتانية ذات الطابع السيادي ممهدا بذلك الطريق لصناعة سياسات قوية أكثر شمولا وحنكة تتأقلم وتنسجم مع متغيرات الواقع التي تتباين من حين لآخر .
إن تاريخ أنظمة موريتانيا السياسية الهشة والضعيفة لم تحدث تطورا بل عجزت وفشلت عن قيادة نفسها عبر أكثر من خمسة عقود بعد تهيئة الطريق لها من أول نظام سياسي للدولة الموريتانية بإستثناء بعض الإستثنائيين القلائل ممن كانت لهم مؤهلات القيادة الصلبة تدعمها نوايا وطنية جياشة والشعور بدولة مستقلة ذات سيادة مطلقة مستوحاة من نظام الحكم السياسي المتماسك لعل من رواد هؤلاء الرئيس محمد خونه ولد هيدالة الذي تميز حكمه بإستقلالية تامة على المستوى الخارجي والداخلي كما أنه احدث نقلة نوعية في سياسة نظام الحكم مجسدا السيادة المبنية على العدالة الحيادية المستقلة لاتتدخل فيها القبيلة ولا العشيرة ولاتلعب فيها المحسوبية ولا الجهوية دور في قرارات الأحكام المعبرة عن وجود دولة مستقلة ذات حكم سيادي يقف على خطوط متساوية لنفس مسافة كل المواطنين .
وللموضوعية نجح الرئيس إبان حكمه في توطيد إستقلالية السلطة على الصعيدين الداخلي والخارجي فالأول في فرض هيمنة الدولة وجبروتها وكانت هذه الهيمنة لها تداعيات إيجابية في إخماد سطوة القبيلة الطافحة التي لم تظهر قوتها ووزنها السياسي إلا في عهد الرئيس معاوية الرجل القومي الوطني صاحب الدبلوماسية الهادئة الذي خانته بطانته السيئة المواطنون الأجانب حين يتم وصفهم بدقة غير أن أخطاء هذا النظام تتمثل في إشراك رموز القبائل ودمجهم في الحياة السياسية مما زاد وكرس وجسد القبلية حتى إستشرت ونمت وطغت وأصبحت هي المسير الفعلي لشؤون الدولة الداخلية تتحكم في كل شيئ في التعيينات والمراكز الحيوية وفي المؤسسة العسكرية وفي العدالة القضائية وبفعل هذه العوامل يغيب القانون الذي هو ميزان الدولة ويبقى حبيس الأدراج ليحل محله القانون البديل حسب العرف القبلي المشهور والمتعارف عليه ولكن الرجل بسياسته الخارجية الرزينة رغم أنه إنجر كثيرا تحت المظلات الأجنبية إلا أنه كانت له إستثناءات وطنية وقومية لامساومة عليها .
أما في أيامنا هذه فإن فرضية الإجابة عن السؤال الآتي :
كيف يكون إنطباعك عن نظامك السياسي؟ في أغلب الأحيان تكون الإجابة شبه ترجمة فعلية للواقع الذي تروج له من تنطبق عليهم الآية الكريمة "إن المنافقين لكاذبون" ولكن "الغبي" لايشعر بالغباء لشدة التعود عليه كونه يتقاسم نفس صفات الحاشية الخائنة تلك الوجوه نفسها التي كانت "تدندن وتطبل وتزمر" للرئيس معاوية قبل أن يفتك به وهاهي الآن تمارس عملها المتقن لشريكها القديم في الخدمة حين كانوا جميعا دون إستثناء موظفين خونة بلا ضمائر لدى صانعهم ولكن صانع ألعاب القرارات الدونية الوافد لم يتعظ ولم يدرك أن من يوجد من حوله وفي صفوفه هم فعلا أسلاف الأمس وأحفادهم تجمعهم عوامل مشتركة شتى ''كالخيانة والنفاق والتبعية'' أسماء لنفس المسمى ومترادفات لنفس المفاهيم ووجوها لنفس العملة .
وفي النهاية تغيب السيادة التي لم تسطع يوما وإن قل ذلك وتبقى موريتانيا رهينة حكم سياسي متقاسم تسيطر عليه قوى خارجية متمكنة ومجتمع قبلي يعبث بالمصالح العامة لأجل تحقيق الخاصة وخونة يقنعون زعيمهم أنه الأجدر بالحكم يرددون نفس العبارات التي كانوا يرددونها لكل وافد إلى السلطة وجنرالات مرتزقة لتظل موريتانيا في دائرة اللاسيادة التي تعمق مبدأ أزمة الإستقلال الذي يضعف تجسيده في ظل التبعية السياسية والإقتصادية وسيادة المفاهيم القبلية والجهوية كل ذلك أسهم بشكل مباشر في خلق أزمة إستقلال عجزت الأنظمة السياسية عن حلها إلى يومنا هذا .
لبات ولد الفاظل